موسوعة التفسير

سورةُ ص
الآيات (1-3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ

غريب الكلمات:

عِزَّةٍ: العِزَّةُ: المُغالَبةُ والمُمانَعةُ، مِن قَولِهم: أرضٌ عَزازٌ، أي: صُلْبةٌ، وأصلُ (عزز): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ [4] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 346)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/38)، ((المفردات)) للراغب (ص: 563)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 357). .
وَشِقَاقٍ: أي: عَداوةٍ ومُبايَنةٍ ومُخالَفةٍ، وأصلُ الشِّقاقِ: الانصِداعُ، ومنه الشِّقاقُ؛ لأنَّه يُؤدِّي إلى انصِداعِ الجماعَةِ وتفَرُّقِها، وقيل: الشِّقاقُ: المخالفةُ، وكونُك فى شِقٍّ غيرِ شِقِّ صاحبِك، أو مِن: شَقِّ العصا بينَك وبينَه [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 64، 376)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 292)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/170)، ((المفردات)) للراغب (ص: 460)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/331)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96). .
قَرْنٍ: القرنُ: القَومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المُقترنونَ في زمنٍ واحدٍ، غير مُقَدَّرٍ بمُدَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مُدَّةُ القرنِ مِئةُ سَنةٍ، وقيل: ثَمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِنَ الاقتِرانِ، وهو اجتِماعُ شَيئَينِ أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جمْعِ شيءٍ إلى شيءٍ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150)، ((معاني القرآن)) للنحاس (2/400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76، 77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 155)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 729). .
وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ: أي: ليس الحِينُ حينَ فِرارٍ ولا مَهرَبٍ، وأصلُ (نوص): يدُلُّ على ترَدُّدٍ ومَجيءٍ وذَهابٍ [7] يُنظر: ((العين)) للخليل (7/160)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 376)، ((تفسير ابن جرير)) (20/12)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/369)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 325)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 357). و(لات) حرفُ نفيٍ، أصلُه (لا)، وزِيدتْ عليها التاءُ، كما زِيدت في (ثُمَّتَ). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 334)، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان (4/ 287). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ
وَالْقُرْآَنِ (الواو) واوُ القَسَمِ حَرفُ جَرٍّ. (القُرآنِ) مجرورٌ بـ (الواو)، والجارُّ والمجرورُ مُتعلِّقانِ بفعلٍ مَحذوفٍ تقديرُه: أُقسِمُ. (ذي) نعتٌ للقُرآنِ مجرورٌ. الذِّكْرِ مضافٌ إليه مجرورٌ.
وجوابُ القَسَمِ فيه أقوالٌ كثيرةٌ؛ أحدُها: أنَّه قَولُه: كَمْ أَهْلَكْنَا، والأصلُ: لَكَمْ أهلَكْنا، فحَذَف اللَّامَ. الثَّاني: أنَّه قولُه: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ [ص: 14] . الثَّالِثُ: أنَّه مَحذوفٌ، واختَلَفوا في تقديرِه [8] ويُنظر ما سيأتي (ص: 12). وقد استبعَد ابنُ القيِّمِ القولَ الأوَّلَ والثانيَ في جوابِ القسمِ. يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 11). .
قَولُه: وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ الواوُ: واوُ الحالِ. (لاتَ) حرفُ نفيٍ يَعمَلُ عمَلَ (ليس)، واسمُه محذوفٌ تقديرُه: الِحينُ. حِينَ خبَرُ (لاتَ) مَنصوبٌ، والجُملةُ حاليَّةٌ مِن فاعِلِ (نادَوْا) في مَحلِّ نَصبٍ، أي: استغاثوا والحالُ أنَّه لا مَهرَبَ ولا مَنجَى [9] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1096)، ((الدر المصون)) للسمين (9/344-347)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (23/101). .

المعنى الإجمالي:

افتُتِحَت هذه السُّورةُ الكَريمةُ بحرفِ (ص)، وهو مِن الحُروفِ المُقَطَّعةِ الَّتي افتُتِحَتْ بها بعضُ سُوَرِ القُرآنِ؛ للإشارةِ إلى إعجازِه، ثمَّ أقسَمَ اللهُ تعالى بالقُرآنِ ذي الشَّرَفِ والتَّذكيرِ على أنَّه ما كان الأمرُ كما يَقولُ هؤلاءِ الكُفَّارُ، وأنَّهم إنَّما لم يَنتَفِعوا بالقُرآنِ؛ لأنَّهم في استِكبارٍ عنه، وأنَفةٍ مِن قَبولِه والإيمانِ به.
ثمَّ يُحذِّرُهم الله تعالى مِن أنْ يُصيبَهم ما أصاب الأُمَمَ مِن قَبْلِهم بسببِ مُخالَفَتِهم للرُّسلِ وتكذيبِهم الكتبَ المُنزلةَ، فيقولُ: وما أكثَرَ ما أهلَكَ اللهُ قَبْلَ كُفَّارِ قُرَيشٍ مِن الأُمَمِ المُكَذِّبةِ بسَبَبِ كُفرِهم وتَكذيبِهم! فنادَى أولئك الكُفَّارُ مُستَغيثينَ برَبِّهم حينَ نَزَل بهم العَذابُ، وليس ذلك الوَقتُ وَقتَ خَلاصٍ وفِرارٍ مِن الهلاكِ بالتَّوبةِ.

تفسير الآيات:

ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1).
ص.
هذا الحرفُ مِن الحروفِ المُقطَّعةِ الَّتي افتُتِحَتْ بها بعضُ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ، يأتي لبيانِ إعجازِ هذا القرآنِ؛ حيثُ تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضَتِه بمِثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ الَّتي يَتحدَّثونَ بها [10] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/206)، ((تفسير ابن عُثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/24). .
وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ.
أي: أُقسِمُ بالقُرآنِ ذي الشَّرَفِ، العَظيمِ القَدْرِ، المُذَكِّرِ للعبادِ بما هم عنه غافِلونَ [11] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/97)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 10، 11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/51)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/323)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/203). قيل: المرادُ بالذِّكرِ: الشَّرفُ. وممَّن اختاره: السمرقندي، والواحدي، والسمعاني، والنسفي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/157)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 918)، ((تفسير السمعاني)) (4/423)، ((تفسير النسفي)) (3/143). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وأبو حَصينٍ، وأبو صالحٍ، وإسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ، والسُّدِّيُّ، وابنُ عُيَيْنةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/8)، ((تفسير ابن كثير)) (7/51). وقيل: ذِي الذِّكْرِ أي: ذي التَّذكيرِ لكم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والشربيني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/9)، ((تفسير الشربيني)) (3/399)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/203). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: الضَّحَّاكُ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/9)، ((تفسير ابن كثير)) (7/51). قال ابنُ كثيرٍ: (ولا مُنافاةَ بيْنَ القَولَينِ؛ فإنَّه كتابٌ شريفٌ مُشتَمِلٌ على التَّذكيرِ والإعذارِ والإنذارِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/51). وممَّن جمَع بينَ المعنيينِ السابقينِ: أي أنَّ الذكرَ معناه الشَّرَفُ والتَّذكيرُ: ابنُ القيِّم، والبِقاعي، والسعدي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 10، 11)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/323)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 14). وقال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن يُرادَ بالذِّكرِ ذِكرُ اللِّسانِ، وهو على معنى: الَّذي يُذكَرُ، بالبناءِ للنَّائبِ، أي: والقُرآنِ المذكورِ، أي: المَمدوحِ المُستَحِقِّ الثَّناءَ، على أحدِ التَّفسيرَينِ في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: 10] ، أي: شَرَفُكم). ((تفسير ابن عاشور)) (23/203). واختلف المُفسِّرونَ في جوابِ هذا القَسَمِ على عِدَّةِ أقوالٍ؛ منها: أنَّه مَحذوفٌ دَلَّ عليه قَولُه تعالى بعدَها: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص: 2] ، وتقديرُه: «ما الأمرُ كما يقولُ هؤلاء الكافِرونَ، بل هم في عِزَّةٍ وشِقاقٍ». وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، وابن عطية، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/11)، ((تفسير ابن عطية)) (4/492)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/327). وذكر الشِّنقيطيُّ أنَّ المُقْسَمَ على نَفْيِه يَشملُ ثلاثةَ أشياءَ مُتلازمةٍ: الأوَّلُ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُرسَلٌ مِن الله حَقًّا، وأنَّ الأمرَ ليس كما يقولُ الكُفَّارُ. والثَّاني: أنَّ الإلهَ المعبودَ جَلَّ وعلا واحِدٌ، لا كما يَقولُه الكُفَّارُ. والثَّالثُ: أنَّ اللهَ جلَّ وعلا يَبعَثُ مَن يموتُ، وأنَّ الأمرَ ليس كما يقولُه الكُفَّارُ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/327). وقيل: لم يُذكَرْ جوابُ القَسَمِ؛ لأنَّ في المُقسَمِ به ما يدُلُّ عليه؛ فما في المُقسَمِ به مِن تعظيمِ القُرآنِ ووَصفِه بأنَّه ذو الذِّكرِ، المُتضَمِّن لتذكيرِ العبادِ ما يحتاجونَ إليه؛ وللشَّرَفِ والقَدْرِ، وكَونِه حَقًّا مِن عندِ اللهِ غيرَ مُفترًى كما يقولُه الكافِرونَ: ما يدُلُّ على جوابِ القَسَمِ المحذوفِ، فيكونُ تقديرُه: إنَّ القُرآنَ لَحَقٌّ. وممَّن ذهب إلى هذا التَّقديرِ: ابنُ القيِّم. وذكر أنَّه معنَى قَولِ كثيرٍ مِن المفَسِّرينَ. يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 10، 11). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 709). .
كما قال تعالى: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [إبراهيم: 52] .
وقال سُبحانَه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] .
وقال تبارك وتعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: 10] .
وقال عزَّ وجلَّ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2).
أي: إنَّما لم يَنتَفِعِ الكافِرونَ بالقُرآنِ؛ لأنَّهم في استِكبارٍ عنه، وأَنَفةٍ وامتِناعٍ مِن قَبولِه والإيمانِ به، ومُشاقَّةٍ ومُعانَدةٍ وخِلافٍ ومُخاصَمةٍ في رَدِّه وإبطالِه، أو في القَدحِ بمَنْ جاء به [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/11)، ((تفسير القرطبي)) (15/145)، ((تفسير ابن كثير)) (7/51)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/323)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/327، 328)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 17). .
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وَصَف المُشرِكينَ بالعِزَّةِ والشِّقاقِ؛ خَوَّفَهم، فقال [13] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/366). :
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ.
أي: ما أكثَرَ ما أهلَكْنا مِنَ الأُمَمِ المُكَذِّبةِ قَبْلَ كُفَّارِ قُرَيشٍ؛ بسَبَبِ كُفرِهم وتَكذيبِهم برَسولِهم، ومُخالَفتِهم كِتابَ رَبِّهم [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/12)، ((تفسير ابن كثير)) (7/51، 52)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/330، 331). !
كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف: 4، 5].
فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ.
أي: فنادَى كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ رَبَّهم، واستغاثوا بالتَّوبةِ إليه حينَ نَزَل بهم العَذابُ، وليس ذلك الوَقتُ وَقتَ خلاصٍ وفِرارٍ مِن الهلاكِ بالتَّوبةِ، والتَّضَرُّعِ إلى اللهِ تعالى وَحْدَه، والإنابةِ إليه؛ فلا يَنفَعُهم ذلك حينَئذٍ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/12)، ((تفسير ابن كثير)) (7/52، 53)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/207، 208)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/331، 332). !
كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11 - 15].
وقال سُبحانَه: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: 84، 85].

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ فيه أنَّ التَّوبةَ لا تَنفَعُ إلَّا عندَ التَّمَكُّنِ والاختيارِ، لا عندَ الغَلَبةِ والاضْطِرارِ [16] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/326). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- تأمَّلِ السُّورَ الَّتي اشتَمَلتْ على الحروفِ المُفرَدةِ، كيف تَجِدُ السُّورةَ مَبنيَّةً على كَلِمةِ ذلك الحرفِ؛ فتأمَّلْ ما اشتمَلَتْ عليه سُورةُ «ص» مِن الخُصوماتِ المُتعدِّدةِ؛ فأوَّلُها خُصومةُ الكُفَّارِ مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص: 5] إلى آخِرِ كلامِهم، ثمَّ اختِصامُ الخَصْمَينِ عندَ داودَ عليه السَّلامُ، ثمَّ تَخاصُمُ أهلِ النَّارِ، ثمَّ اختِصامُ المَلأِ الأعلى في العِلْمِ -وهو الدَّرَجاتُ والكَفَّاراتُ-، ثمَّ مُخاصَمةُ إبليسَ واعتِراضُه على ربِّه في أمرِه بالسُّجودِ لآدمَ، ثمَّ خِصامُه ثانيًا في شأنِ بَنيه، وحَلِفُه لَيُغْويَنَّهم أجمعينَ إلَّا أهلَ الإخلاصِ منهم؛ فلْيتأمَّلِ اللَّبيبُ الفَطِنُ: هل يَليقُ بهذه السُّورةِ غيرُ «ص» [17] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/173). ؟!
2- في قَولِه تعالى: ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ سُبحانَه وتعالى بحَرفٍ، تكلَّمَ به بالحُروفِ العربيَّةِ الَّتي يَتكلَّمُ النَّاسُ بها ويَتركَّبُ منها كَلامُهم [18] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 17). .
3- في قَولِه تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ أنَّ الكُفَّارَ لا يَسكُتونَ على كُفرِهم، ويَستَمِرُّونَ في طُغيانِهم وأنَفَتِهم، بل يُحاوِلونَ أنْ يَصُدُّوا عِبادَ اللهِ عن دينِ اللهِ؛ لأنَّهم في شِقاقٍ دائمٍ؛ يُشَاقُّون اللهَ ورَسولَه [19] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 18). .
4- في قَولِه تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ أنَّ الكُفَّارَ في عِزَّةٍ وشِقاقٍ مع الحَقِّ دائمًا؛ سواءٌ مع الله، أو مع الرَّسولِ، أو مع وَرَثةِ الرَّسولِ -وهم العُلَماءُ-، أو مع أتْباعِ الرَّسولِ عُمومًا -وهم المؤمِنونَ-؛ فهم في شِقاقٍ دائمٍ مع الحَقِّ [20] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 18). .
5- في قَولِه تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ الزَّجرُ عن الأنَفةِ مِنِ اتِّباعِ الحقِّ، وبيانُ أنَّ ذلك مِن خِصالِ الَّذين كفروا، والأنَفةُ مِن مُتابَعةِ الحقِّ وسيلةٌ إلى تركِه، والأنَفةُ مِن الحقِّ قبيحةٌ، كما أنَّ الأنَفةَ مِنَ الباطلِ حسَنةٌ [21] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 100). .
6- في قَولِه تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ تحذيرُ هؤلاء المُكذِّبِين، وأنَّهم لن يُعجِزوا اللهَ في شَيءٍ كما لم يُعجِزْه مَن سَبَقَهم ممَّن كان قَبْلَهم مِن الأُمَمِ الَّتي أُهلِكَت [22] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 22). .
7- في قَولِه تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أنَّ التَّكذيبَ للرُّسُلِ كان كثيرًا؛ لأنَّ إهلاكَ القرونِ إنَّما كان بسببِ تكذيبِهم؛ فإذا كَثُرَت القُرونُ المُهْلَكةُ فلازِمُ ذلك أنْ يَكْثُرَ التَّكذيبُ [23] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 22). .
8- في قَولِه تعالى: فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ أنَّ الأُممَ المُهْلَكةَ إذا نَزَل بهمُ العذابُ فليس هناك فِرارٌ مِن هذا العَذابِ الَّذي نَزَل بهم، ولا تَنفَعُهم استِغاثةٌ [24] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 22). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ جاءتْ فاتحةُ السُّورةِ مُناسِبةً لجَميعِ أغراضِها؛ إذِ ابتُدِئتْ بالقَسَمِ بالقُرآنِ الَّذي كذَّبَ به المُشرِكونَ، وجاء المُقسَمُ عليه أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وكلُّ ما ذُكِر فيها مِن أحوالِ المُكذِّبينَ سبَبُه اعتِزازُهم وشِقاقُهم، ومِن أحوالِ المؤمِنينَ سبَبُه ضِدُّ ذلك، مع ما في الافتِتاحِ بالقَسَمِ مِنَ التَّشويقِ إلى ما بعْدَه؛ فكانتْ فاتِحتُها مُستكمِلةً خصائصَ حُسنِ الابتِداءِ [25] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/203). .
- والواوُ في قَولِه: وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ للقَسَمِ، وأقسَمَ اللهُ سُبحانَه بالقُرآنِ قَسَمَ تَنويهٍ به. ووصَفَ القُرآنَ بـ ذِي الذِّكْرِ؛ لأنَّ (ذي) تُضافُ إلى الأشياءِ الرَّفيعةِ، فتَجري على مُتَّصِفٍ مَقصودٍ التَّنويهُ به [26] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/213)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/203). .
- وجوابُ القسَمِ في قَولِه: ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ إمَّا مَحذوفٌ، وهو ما يُنْبئُ عنه التَّحدِّي والأمرُ والإقسامُ به؛ مِن كَونِ المُتحدَّى به مُعجِزًا، وكَونِ المأمورِ به واجبًا، وكَونِ المُقسَمِ به حقيقًا بالإعظامِ، أي: أُقسِمُ بالقرآنِ إنَّه لَمُعجِزٌ، أو لَواجِبٌ العمَلُ به، أو لَحقيقٌ بالإعظامِ. والغرَضُ مِن حذفِ جوابِ القسَمِ هنا، قيل: هو الإعراضُ عنه إلى ما هو أجْدَرُ بالذِّكرِ، وهو صِفةُ الَّذينَ كفَروا وكذَّبوا القُرآنَ؛ عِنادًا أو شِقاقًا منهم، ومعنَى ذلك أنَّ الكَلامَ أخَذَ في الثَّناءِ على القرآنِ ثمَّ انقطَعَ عن ذلك إلى ما هو أهَمُّ، وهو بيانُ سببِ إعراضِ المُعرِضينَ عنه؛ لاعتِزازِهم بأنفُسِهم وشِقاقِهم؛ فوقَعَ العُدولُ عن جوابِ القسَمِ استِغناءً بما يُفيدُ مُفادَ ذلك الجوابِ. وإمَّا هو الكلامُ المَرموزُ إليه ونفْسُ الجُملةِ المذكورةِ قبْلَ القَسَمِ؛ فإنَّ التَّسميةَ تَنويهٌ بشأنِ المُسمَّى، وتَنبيهٌ على عِظَمِ خَطَرِه، أي: إنَّه لَصادقٌ. وقيل: الجوابُ ما دَلَّ عليه الجُملةُ الإضرابيَّةُ، أي: ما كفَرَ به مَن كفَرَ لِخلَلٍ وجَدَه فيه، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ... إلخ [27] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/213، 214)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/203- 305). .
- قَولُه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ حرفُ (بَلْ) للإضرابِ الإبطاليِّ؛ لإبطالِ تَوهُّمٍ يَنشأُ عن الكَلامِ الَّذي قبْلَه؛ إذْ دَلَّ وصْفُ القرآنِ بـ ذِي الذِّكْرِ أنَّ القرآنَ مُذَكِّرٌ سامعيهِ تذكيرًا ناجِعًا، فعقَّبَ بإزالةِ تَوهُّمِ مَن يَتَوهَّمُ أنَّ عدَمِ تذَكُّرِ الكفَّارِ ليس لِضَعفٍ في تَذكيرِ القرآنِ، ولكنْ لأنَّهم مُتعَزِّزونَ مُشاقُّونَ؛ فحرفُ (بَلْ) في مِثلِ هذا بمَنزلةِ حرفِ الاستِدراكِ، والمقصودُ منه تحقيقُ أنَّه ذو ذِكرٍ، وإزالةُ الشُّبهةِ الَّتي قد تَعرِضُ في ذلك؛ فليس امتِناعُهم مِنَ الإيمانِ بالقرآنِ لنَقصٍ في عُلُوِّه ومَجدِه، ولكنْ لأنَّهم عَجِبوا أنْ جاءَهم به رجُلٌ منهم.
ويُمكِنُ أنْ نَجعَلَ (بَلْ) إضرابَ انتِقالٍ مِنَ الشُّروعِ في التَّنويهِ بالقرآنِ إلى بيانِ سببِ إعراضِ المُعرِضينَ عنه؛ لأنَّ في بيانِ ذلك السببِ تحقيقًا للتَّنويهِ بالقرآنِ [28] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/204، 205). . أو للانتِقالِ مِن هذا القَسَمِ والمُقسَمِ عليه إلى حالةِ تَعزُّزِ الكفَّارِ ومُشاقَّتِهم في قَبولِ رسالتِكَ وامتِثالِ ما جِئتَ به والاعترافِ بالحقِّ [29] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/136)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/326، 327). .
- وقيل: إنَّ فائدةَ بَلِ هاهنا في قَولِه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ تصحيحُ ما قبْلَه، وإبطالُ ما بعْدَه؛ فإنَّه دَلَّ بقَولِه: وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ أنَّ القرآنَ مَقَرٌّ للتَّذكيرِ، وأنَّ امتِناعَ الكفَّارِ مِنَ الإصغاءِ إليه أنْ ليس مَوضعًا للذِّكرِ، بلْ لتَعزُّزِهم ومُشاقَّتِهم [30] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 141، 142)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/229). .
- وأيضًا لَمَّا كانت الأجوبةُ مُنبِئةً عنِ انتِفاءِ الرَّيبِ عن مَضمونِ القرآنِ بالكُلِّيَّةِ إنباءً بَيِّنًا؛ كان قولُه تعالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ إضرابًا عن ذلك، كأنَّه قيل: لا رَيْبَ فيه قَطعًا، وليس عدَمُ إذعانِ الكَفَرةِ له لشائبةِ رَيبٍ ما فيه، بلْ هُم في استِكبارٍ وحَمِيَّةٍ شديدةٍ، وشِقاقٍ بعيدٍ للهِ تعالى ولرسولِه؛ ولذلك لا يُذْعِنونَ له [31] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/213، 214). .
- قَولُه: ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ انتِظامُه وبلاغتُه تَظهَرُ مِن وجهَينِ:
 أحدُهما: أنْ يَكونَ قد ذكَرَ اسمَ هذا الحَرْفِ مِن حروفِ المُعجَمِ على سبيلِ التَّحدِّي والتَّنبيهِ على الإعجازِ، ثمَّ أتْبَعَه القَسَمَ مَحذوفَ الجَوابِ؛ لدَلالةِ التَّحدِّي عليه، كأنَّه قال: وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ إنَّه لَكلامٌ مُعجِزٌ.
 والثَّاني: أنْ يَكونَ ص خبرَ مُبتدأٍ مَحذوفٍ على أنَّها اسمٌ للسُّورةِ، كأنَّه قال: هذه (ص)، يعنى: هذه السُّورةُ الَّتي أعجزَتِ العرَبَ وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ، كما تقولُ: هذا حاتمٌ واللهِ، تُريدُ: هذا هو المشهورُ بالسَّخاءِ واللهِ، وكذلك إذا أقسَمَ بها، كأنَّه قال: أقسَمْتُ بـ ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ إنَّه لَمُعجِزٌ، ثمَّ قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ واستِكبارٍ عن الإذعانِ لذلك والاعتِرافِ بالحقِّ وَشِقَاقٍ للهِ ورسولِه. وإذا جعَلْتَها مُقْسَمًا بها وعطَفْتَ عليها وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ جاز لك أنْ تُريدَ بالقُرآنِ التَّنزيلَ كلَّه، وأنْ تُريدَ السُّورةَ بعَيْنِها، ومعناهُ: أُقسِمُ بالسُّورةِ الشَّريفةِ وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ، كما تقولُ: مرَرْتُ بالرَّجُلِ الكريمِ وبالنَّسَمةِ المُبارَكةِ، ولا تُريدُ بالنَّسَمةِ غيْرَ الرَّجُلِ. والذِّكرُ: الشَّرفُ والشُّهرةُ، مِن قَولِكَ: فُلانٌ مَذكورٌ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] . أو: الذِّكرى والمَوعظةُ. أو: ذِكرُ ما يُحتاجُ إليه في الدِّينِ مِنَ الشَّرائعِ وغَيرِها؛ كأَقاصيصِ الأنبياءِ، والوعدِ والوعيدِ [32] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/70)، ((تفسير البيضاوي)) (5/23)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/228))، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 485)، ((تفسير أبي السعود)) (7/213). .
- قَولُه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ قيل: الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ (الكافِرونَ)؛ لِما في صِلَةِ المَوصولِ مِنَ الإيماءِ إلى الإخبارِ عنهم بأنَّهم في عِزَّةٍ وشِقاقٍ، والعِزَّةُ تَحومُ إطلاقاتُها في الكَلامِ حَوْلَ معاني المَنَعةِ والغَلَبةِ والتَّكبُّرِ، فإنْ كان ذلك جاريًا على أسبابٍ واقعةٍ فهي العِزَّةُ الحقيقيَّةُ، وإنْ كان عن غُرورٍ وإعجابٍ بالنَّفْسِ فهي عِزَّةٌ مُزَوَّرةٌ، وهي هنا عِزَّةٌ باطلةٌ أيضًا؛ لأنَّها إباءٌ مِنَ الحقِّ، وإعجابٌ بالنَّفْسِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/205). .
- وفي قَولِه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ جاء التَّعبيرُ بـ (في) المُعبِّرةِ عن معنَى الظَّرفيَّةِ المُعبِّرةِ عن قُوَّةٍ التَّلبُّسِ بالعِزَّةِ، واستِغراقِهم فيها، والمعنَى: مُتلبِّسونَ بعِزَّةٍ على الحقِّ [34] يُنظر: ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (7/295)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/206). .
- والتَّنكيرُ في عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ؛ للدَّلالةِ على شِدَّتِهما وتَفاقُمِهما [35] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/71)، ((تفسير البيضاوي)) (5/23). .
2- قولُه تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ العِزَّةَ عنِ الحقِّ والشِّقاقَ للهِ ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ممَّا يُثيرُ في خاطرِ السَّامِعِ أنْ يَسألَ عن جزاءِ ذلك؛ فوقَعَ هذا بيانًا له، وكان هذا البيانُ إخبارًا مُرفَقًا بحُجَّةٍ -مِن قَبيلِ قِياسِ التَّمثيلِ [36] قياس التَّمثيلِ: هو: حمْلُ جُزئيٍّ على جُزئيٍّ آخَرَ في حُكمِه؛ لاشتراكِهما في عِلَّة الحُكمِ؛ لأنَّ ذلك الحُكمَ يلزمُ المشتركَ الكُلِّيَّ، أو: إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكمٍ؛ لِعِلَّةٍ جامعةٍ بيْنَهما، مِثلُ: النَّبيذُ حرامٌ؛ قياسًا على الخَمرِ، بجامعِ الإسكارِ في كلٍّ منهما. وقياسُ التَّمثيلِ هو القياسُ الأصوليُّ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/120)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 716)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (2/291، 292). ؛ لأنَّ قَولَه: مِنْ قَبْلِهِمْ يُؤْذِنُ بأنَّهم مِثلُهم في العِزَّةِ والشِّقاقِ-، ومُتضَمِّنًا تحذيرًا مِنَ التَّريُّثِ عن إجابةِ دَعوةِ الحقِّ، أي: يَنزِلُ بهمُ العَذابُ فلا يَنفَعُهم ندَمٌ ولا مَتابٌ، كما لم يَنفَعِ القُرونَ مِن قَبْلِهم [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/206). .
- قَولُه: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ كَمْ اسمٌ دالٌّ على عَددٍ كثيرٍ، وقَرْنٍ تَمييزٌ لإبهامِ العَددِ، أي: عددًا كثيرًا مِنَ القرونِ [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/206). .
- وقَولُه: مِنْ قَبْلِهِمْ يَجوزُ أنْ يَكونَ ظَرفًا مُستقَرًّا [39] الظَّرْف المُستقَرُّ -بفتح القاف-: سُمِّي بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذين الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّي ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). ، جُعِل صِفةً لـ قَرْنٍ مُقدَّمةً عليه؛ فوقعَتْ حالًا، وإنَّما قُدِّمَ للاهتِمامِ بمَضمونِه؛ ليُفيدَ الاهتمامُ إيماءً إلى أنَّهم أُسْوةٌ لهم في العِزَّةِ والشِّقاقِ، وأنَّ ذلك سببُ إهلاكِهم. ويَجوزُ أنْ يَكونَ مُتعلِّقًا بـ أَهْلَكْنَا على أنَّه ظَرفٌ لَغْوٌ، وقُدِّم على مَفعولِ فِعلِه مع أنَّ المَفعولَ أَوْلى بالسَّبقِ مِن بَقيَّةِ مَعمولاتِ الفِعلِ؛ لِيَكونَ تَقديمُه اهتِمامًا به إيماءً إلى الإهلاكِ كما في الوَجهِ الأوَّلِ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/206، 207). .
- وفي قَولِه: فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ فَرَّع على الإهلاكِ أنَّهم نادَوْا فلمْ يَنفَعْهم نِداؤُهم؛ تحذيرًا مِن أنْ يقَعَ هؤلاء في مِثلِ ما وقعَتْ فيه القُرونُ مِن قَبْلِهم؛ إذْ أضاعوا الفُرصةَ فنادَوْا بعْدَ فَواتِها، فلمْ يُفِدْهم نِداؤُهم ولا دُعاؤُهم. والمرادُ بالنِّداءِ في فَنَادَوْا: نِداؤهمُ اللهَ تعالى تَضَرُّعًا [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/207). .
- وأيضًا في قَولِه: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ وعيدٌ لِذَوي العِزَّةِ والشِّقاقِ، على كُفرِهم واستِكبارِهم، ببَيانِ ما أصاب مَن قَبْلَهم مِنَ المُستكبِرينَ [42] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/71)، ((تفسير أبي السعود)) (7/214). .