موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (40-45)

ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ

المعنى الإجمالي:

يوجِّهُ الله تعالى الخِطابَ لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم مُسِّليًا له ومثِّبتًا؛ فيقولُ تعالى: أفأنت -يا مُحمَّدُ- تَستطيعُ أن تُسمِعَ الكُفَّارَ سَماعًا يَنتَفِعونَ به منك، أو تَستَطيعُ أن تُرشِدَ إلى طَريقِ الحَقِّ مَن عَمِيَ عنه، وضَلَّ ضَلالًا مُبينًا؟! إنَّما ذلك إلينا، فعليك البَلاغُ، وعلينا الِحسابُ. فإنْ نُخرِجْك -يا مُحمَّدُ- مِن بَينِ أظهُرِ أولئك المُشرِكينَ -بمَوتٍ أو غَيرِه- دونَ أن ترى عَذابَهم، فنحن مُنتَقِمونَ منهم، وإنْ أرَيْناك ما وعَدْناهم مِنَ العذابِ فإنَّا قادِرونَ عليهم؛ فتمَسَّكْ -يا مُحمَّدُ- بالقُرآنِ الَّذي أوحَيْناه إليك؛ إنَّك على طريقٍ مُستقيمٍ.
وإنَّ هذا القُرآنَ لَشَرفٌ لك -يا مُحمَّدُ- ولِقَومِك، وعِظَةٌ وتَذكيرٌ لكم، وسوف يَسألُكم اللهُ عن هذا القُرآنِ والعَمَلِ بما فيه.
ثمَّ يقولُ تعالى: واسأَلْ -يا مُحمَّدُ- الرُّسُلَ الَّذين أرسَلْناهم إلى أقوامِهم مِن قَبْلِك، أجَعَلْنا آلهةً مِن دُونِ الرَّحمنِ سُبحانَه يُعبَدونَ؟!

تفسير الآيات:

أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وَصَف المُشرِكينَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ بالعَشَا، وصَفَهم في هذه الآيةِ بالصَّمَمِ والعَمى [466] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/634). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى حالَ الكُفَّارِ وما يُقالُ لهم، وكانت قُرَيشٌ تَسمَعُ ذلك فلا تَزدادُ إلَّا عُتُوًّا واعتِراضًا، وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَجتَهِدُ في تحصيلِ الإيمانِ لهم- خاطَبَه تعالى تَسليةً له باستِفهامِ تَعجيبٍ، أي: إنَّ هؤلاء صُمٌّ فلا يُمكِنُك إسماعُهم، عُمْيٌ حَيارَى فلا يُمكِنُك أن تَهدِيَهم، وإنَّما ذلك راجِعٌ إليه تعالى [467] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/376). .
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ.
أي: لا تَستطيعُ -يا مُحمَّدُ- أن تجعَلَ الكُفَّارَ يَنتَفِعونَ بالسَّماعِ منك؛ فليس ذلك إليك [468] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/600)، ((تفسير القرطبي)) (16/92)، ((تفسير أبي حيان)) (9/376)، ((تفسير ابن كثير)) (7/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766). .
كما قال الله تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 21 - 23] .
أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ.
أي: ولا تَستطيعُ -يا مُحمَّدُ- أن تُرشِدَ إلى طَريقِ الحَقِّ مَن أعمَى اللهُ قَلْبَه عن رُؤيةِ هذا الحَقِّ [469] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/600)، ((تفسير ابن عطية)) (5/56)، ((تفسير القرطبي)) (16/92)، ((تفسير أبي حيان)) (9/376)، ((تفسير ابن كثير)) (7/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766). .
كما قال تعالى: وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ [النمل: 81] .
وقال سُبحانَه: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
أي: ولا تَستطيعُ أن تَهديَ مَن هو في ضَلالٍ ظاهرٍ عن طَريقِ الهُدى [470] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/600)، ((تفسير القرطبي)) (16/92)، ((تفسير ابن كثير)) (7/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/216). .
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ دعوةَ نبيِّه لا تؤثِّرُ في قلوبِهم؛ قال [471] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/634). :
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41).
أي: فإنْ نُخرِجْك -يا مُحمَّدُ- مِن بَينِ أظهُرِ مُشرِكي قَومِك -بمَوتٍ أو غَيرِه- دونَ أن ترَى عذابَهم، فنحن مُنتَقِمونَ منهم بعدَ فِراقِك لا مَحالةَ [472] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/601)، ((تفسير ابن كثير)) (7/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766). قيل: المرادُ بالإذهابِ هنا: تَوَفِّيه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وممَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/796)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 975)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/217). وممَّن قال بهذا المعنى مِن السَّلفِ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وأنسُ بنُ مالكٍ، والحسَنُ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/600)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/379). وقيل: المرادُ به: إخراجُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن بيْنِ أظهُرِ مُشرِكي قَومِه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/601). وقال البِقاعي: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي: مِن بيْنِ أظهُرِهم، بمَوتٍ أو غَيرِه). ((نظم الدرر)) (17/434). .
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42).
أي: وإنْ أرَيْناك ما وعَدْناهم مِنَ العَذابِ فإنَّا قادِرونَ عليهم، فلن يُعجِزونا، أو يُفلِتوا مِنَّا [473] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/601)، ((تفسير ابن كثير)) (7/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/218، 219). قال القرطبي: (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ وهو الانتقامُ منهم في حياتِك، فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قال ابنُ عبَّاسٍ: قد أراه الله ذلك يومَ بدرٍ، وهو قولُ أكثرِ المفسِّرينَ). ((تفسير القرطبي)) (16/92). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّنا مُنتَقِمونَ منهم في الدُّنيا، سواءٌ كنتَ حَيًّا أو بعدَ مَوتِك، أي: فالانتِقامُ منهم مِن شأنِنا وليس مِن شأنِك؛ لأنَّه مِن أجْلِ إعراضِهم عن أمْرِنا ودينِنا، ولعَلَّه لِدَفعِ استِبطاءِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو المُسلِمينَ تأخيرَ الانتقامِ مِن المشركينَ، ولأنَّ المُشرِكينَ كانوا يَتربَّصون بالنَّبيِّ الموتَ فيَستريحوا مِن دَعوتِه؛ فأعلَمَه اللهُ أنَّه لا يُفلِتُهم مِن الانتِقامِ على تقديرِ مَوتِه). ((تفسير ابن عاشور)) (25/219). .
كما قال تعالى: وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40] .
وقال سُبحانَه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر: 77] .
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا رَدَّد اللهُ تعالى بيْنَ حياتِه ومَوتِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أمَرَه بأن يَستَمسِكَ بما أَوحاه إليه [474] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/376). .
وأيضًا لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما يُوجِبُ التَّسليةَ؛ أمَرَه أن يَتمَسَّكَ بما أمَرَه به [475] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (17/268). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (27/634). .
وأيضًا لَمَّا هَوَّن اللهُ على رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم ما يُلاقيه مِن شِدَّةِ الحِرصِ على إيمانِهم، ووَعَدَه النَّصرَ عليهم؛ فَرَّع على ذلك أنْ أمَرَه بالثَّباتِ على دينِه وكِتابِه، وألَّا يَخورَ عَزمُه في الدَّعوةِ؛ ضَجَرًا مِن تصَلُّبِهم في كُفرِهم، ونُفورِهم من الحَقِّ [476] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/219). .
وأيضًا قولُه: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ مُرتَبِطٌ بقَولِه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ [الزخرف: 40] ، وبَيْنَهما مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ وذلك لأنَّه تعالى لَمَّا نَبَّهَه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ جِدَّه واجتِهادَه في دُعاءِ قَومِه غَيرُ نافِعٍ، وأنَّهم صُمٌّ عُمْيٌ في ضَلالٍ مُبينٍ، لا يَرجِعُون ولا يَرعَوونَ، وبيَّن أنَّه لا بُدَّ مِن الهَلاكِ وقَطْعِ دابِرِهم؛ فقَسَمَ الأمرَ بيْنَ أنْ يَنصُرَه عليهم في الدُّنيا ويَشفِيَ صُدورَ المُؤمِنينَ، وبيْنَ أنْ يَنتقِمَ مِنهم في الآخِرةِ أشَدَّ الانتِقامِ؛ أرشَدَه إلى المُتارَكةِ والمُواعَدةِ، والاشتِغالِ بما يُهِمُّه مِن التَّمسُّكِ بالعُروةِ الوُثقَى، وهو هذا القُرآنُ الكَريمُ الَّذي لا يَأتيه الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيه ولا مِن خَلْفِه [477] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/254)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/148، 149)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/219). .
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ.
أي: فتَمَسَّكْ -يا مُحمَّدُ- بقُوَّةٍ بالقُرآنِ الَّذي أوحَيْناه إليك، واثبُتْ على العَمَلِ به [478] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/602)، ((تفسير القرطبي)) (16/93)، ((تفسير ابن كثير)) (7/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/219)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 165). .
إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المَقامُ -لِكَثرةِ المُخالِفِ- مُحتاجًا إلى تأكيدٍ يُطَيِّبُ خواطِرَ الأتْباعِ، ويَحمِلُهم على حُسنِ الاتِّباعِ؛ عَلَّل ذلك بقَولِه: إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ أي: طَريقٍ واسِعٍ واضِحٍ جِدًّا مُسْتَقِيمٍ مُوصِلٍ إلى المقصودِ، لا يَصِحُّ أصلًا أن يَلحَقَه شَيءٌ مِن عِوَجٍ؛ فإذا فَعَلْتَ ذلك لم يَضُرَّك شَيءٌ مِن نِقمَتِهم [479] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/435). .
إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: إنَّك على طريقٍ مُستقيمٍ لا اعوِجاجَ فيه، مُوصلٍ إلى اللهِ تعالى ورِضوانِه وجَنَّتِه [480] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/602)، ((تفسير القرطبي)) (16/93)، ((تفسير ابن كثير)) (7/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/220). .
كما قال تعالى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 79] .
وقال سُبحانَه: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: 3، 4].
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى تأثيرَ التَّمَسُّكِ بهذا الدِّينِ في مَنافِعِ الآخرةِ؛ بَيَّن أيضًا تأثيرَه في مَنافِعِ الدُّنيا، فقال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، أي: إنَّه يُوجِبُ الشَّرَفَ العظيمَ لك ولِقَومِك [481] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/634)، ((تفسير ابن عادل)) (17/268). ، على قولٍ في التَّفسيرِ.
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ.
أي: وإنَّ القُرآنَ لَشَرفٌ لك -يا مُحمَّدُ- ولِقَومِك مِن قُرَيشٍ وسائِرِ العَرَبِ، وهو مَوعِظةٌ وتَذكيرٌ لكم [482] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/602)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/442 - 444)، ((تفسير ابن جزي)) (2/260)، ((تفسير ابن كثير)) (7/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/220، 221)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 166). قال ابن عطية: (يَحتمِلُ أن يُريدَ: وإنَّه لَشَرفٌ وحَمدٌ في الدُّنيا، والقَومُ على هذا: قُرَيشٌ ثمَّ العَرَبُ... ويحتمِلُ أن يريدَ: وإنَّه لَتذكِرةٌ ومَوعِظةٌ، فالقَومُ على هذا: أُمَّتُه بأجْمَعِها). ((تفسير ابن عطية)) (5/57). وممَّن ذهَب إلى المعنى الأوَّلِ، وهو أنَّ المرادَ بالذِّكرِ هنا: الشَّرفُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي، والقرطبي، وابن جُزَي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/796)، ((تفسير ابن جرير)) (20/602)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/413)، ((تفسير السمرقندي)) (3/259)، ((تفسير القرطبي)) (16/93)، ((تفسير ابن جزي)) (2/260)، ((تفسير الشوكاني)) (4/638)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/221). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/603)، ((تفسير ابن كثير)) (7/229). قال البِقاعي: (لَكَ وَلِقَوْمِكَ قُريشٍ خُصوصًا، والعَرَبِ عُمومًا، وسائِرِ مَنِ اتَّبَعك ولو كان مِن غَيرِهم؛ مِن جِهةِ نُزولِه على واحِدٍ منهم وبلِسانِهم؛ فكان سائِرُ النَّاسِ تَبَعًا لهم، ومِن جِهةِ إيراثِه الطَّريقةَ الحُسنى، والعُلومَ الزَّاكيةَ الواسِعةَ، وتأثيرِه الظُّهورَ على جميعِ الطوائِفِ، والإمامةَ لقُريشٍ بالخُصوصِ). ((نظم الدرر)) (17/436). وممَّن ذهب إلى المعنى الثَّاني: ابنُ تيميَّة. يُنظر: ((الجواب الصحيح)) (1/442-444). قال ابنُ تيميَّةَ: (وقَومُه قُرَيشٌ، ولا يَمنَعُ أنَّه ذِكْرٌ لسائِرِ العَرَبِ، بل لسائِرِ النَّاسِ...، وهذا على أصَحِّ القولَينِ، وأنَّ المرادَ بقَولِه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أنَّه ذِكرٌ لهم يَذكُرونَه فيَهتَدونَ به. وقيل: إنَّ المرادَ أنَّه شَرَفٌ لهم. وليس بشَيءٍ؛ فإنَّ القُرآنَ هو شَرَفٌ لِمَنْ آمَنَ به مِن قَومِه وغَيرِهم، وليس شَرَفًا لجَميعِ قَومِه، بل مَن كَذَّب به منهم كان أحَقَّ بالذَّمِّ، كما قال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1]، وقال تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الأنعام: 66] ، بخِلافِ كَونِه تَذكِرةً وذِكرى؛ فإنَّه تَذكِرةٌ لهم ولِغَيرِهم). ((الجواب الصحيح)) (1/442). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ -معنَى الشَّرَفِ، ومعنَى التَّذكيرِ والبيانِ والمَوعِظةِ- في الجُملةِ: البِقاعي، والشربيني، والسعدي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/436)، ((تفسير الشربيني)) (3/ 565)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766). وذكَرَ ابنُ عُثيمينَ أنَّه لا مانِعَ مِن أن يكونَ بمعنى الشَّرَفِ، لكِنَّ الصَّوابَ أنَّ المرادَ بالذِّكرِ هنا التَّذكيرُ، ثمَّ قال: (فإنْ قال قائِلٌ: يَرِدُ على هذا أنَّه تذكيرٌ لكُلِّ النَّاسِ. فالجَوابُ: أنَّ هذا كقَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] ، مع أنَّه بُعِثَ لجَميعِ النَّاسِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 166). وصرَّح بالجمعِ بيْنَ المعنَيَينِ في فوائِدِ الآيةِ، فقال: (الفائِدةُ الخامِسةُ: أنَّ هذا القُرآنَ الكريمَ فيه ذِكرٌ للعَرَبِ، أي: شَرَفٌ لهم، وفيه تذكيرٌ لهم؛ لِقَولِه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 170). .
كما قال الله سُبحانَه وتعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10] .
وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ.
أي: وسوفَ يَسألُكم اللهُ عن هذا القُرآنِ [483] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/602)، ((تفسير القرطبي)) (16/94)، ((تفسير ابن كثير)) (7/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766). قيل: المعنى: تُسألون عن العَمَلِ بما فيه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/602)، ((تفسير ابن كثير)) (7/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 166، 167). وقيل: المعنى: تُسأَلونَ عن شُكرِ الله على نِعمةِ القرآنِ. وممَّن قال بهذا المعنى: الفَرَّاءُ، والزجاج، والسمرقندي، ومكِّي، والسمعاني. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/34)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/413)، ((تفسير السمرقندي)) (3/259)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6668)، ((تفسير السمعاني)) (5/105). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ السَّابِقَينِ: ابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/260). قال القرطبي: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ أي: عن الشُّكرِ عليه، قاله مقاتلٌ والفَرَّاءُ. وقال ابنُ جُرَيجٍ: أي: تُسألون أنت ومَن معك على ما أتاك. وقيل: تُسألون عمَّا عَمِلْتُم فيه. والمعنى مُتقارِبٌ).  ((تفسير القرطبي)) (16/94). وقال ابنُ عطيَّة: (وقوله: وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه: معناه: عن أوامَرِ القُرآنِ ونَواهيهِ. وقال الحسَنُ بنُ أبي الحسَنِ: معناه: عن شُكرِ النِّعمةِ فيه. واللَّفظُ يحتمِلُ هذا كلَّه ويَعُمُّه). ((تفسير ابن عطية)) (5/57). وقال النَّسَفي: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ عنه يومَ القيامةِ، وعن قيامِكم بحَقِّه، وعن تعظيمِكم له، وعن شُكرِكم هذه النِّعمةَ). ((تفسير النسفي)) (3/274). ويُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/336)، ((تفسير البغوي)) (4/162). وذهب البِقاعيُّ إلى أعَمَّ مِمَّا سَبَق، فقال: (تَصيرونَ في سائِرِ أنواعِ العِلمِ مَحَطَّ رِحالِ السَّائِلينَ دِينًا ودُنيا، بحيثُ يَسألُكم جميعُ أهلِ الأرضِ مِن أهلِ الكِتابِ ومِن غَيرِهم عمَّا يُهِمُّهم مِن أمرِ دينِهم ودُنياهم؛ لِما يَعتَقِدونَ مِن أنَّه لا يُوازيكم أحدٌ في العِلمِ، بعدَ أنْ كُنتُم عندَهم أحقَرَ الأُمَمِ ضَعفًا وجَهلًا! كما وقَعَ لبني إسرائيلَ حيثُ رَفَعهم اللهُ، وكان ذلك أبعَدَ الأشياءِ عندَ فِرعَونَ وآلِه؛ ولذلك كانوا يَتضاحَكونَ استِهزاءً بتلك الآياتِ، ويَنسُبونَ الآتيَ بها إلى ما لا يَليقُ بمَنصِبِه العالي مِنَ المُحالاتِ؛ وتُسأَلونَ عن حَقِّه وأداءِ شُكرِه، وكيف كُنتُم في العَمَلِ به والاستِجابةِ له). ((نظم الدرر)) (17/437). .
عن أبي مالِكٍ الأَشْعَريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((القُرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك)) [484] رواه مسلم (223). .
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45).
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا.
أي: واسألْ -يا مُحمَّدُ- الرُّسُلَ الَّذين أرسَلْناهم إلى أقوامِهم مِن قَبْلِك [485] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/606)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 975)، ((تفسير السمعاني)) (5/105). قال الماوَرْدي عن قولِه تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا: (فيه ثلاثةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: يعني: الأنبياءَ الَّذين جُمِعوا له لَيلةَ الإسراءِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ زَيدٍ. وكانوا سبعينَ نبيًّا؛ منهم: إبراهيمُ، وموسى، وعيسى عليهم السَّلامُ، فلم يَسأَلْهم؛ لأنَّه كان أعلَمَ باللهِ منهم. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: أهلُ الكِتابَينِ؛ التَّوراةِ والإنجيلِ. قاله قَتادةُ والضَّحَّاكُ، ويكونُ تقديرُه: سَلْ أُمَمَ مَن أرسَلْنا مِن قَبلِك مِن رُسُلِنا. الثَّالثُ: جِبريلُ، ويكونُ تقديرُه: واسأَلْ عمَّا أرسَلْنا مِن قَبلِك مِن رُسُلِنا. حكاه النَّقَّاشُ). ((تفسير الماوردي)) (5/227، 228). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: الأنبياءُ الَّذين لَقِيَهم لَيلةَ الإسراءِ: القُشَيْري، والقُرْطُبي، والعُلَيْمي. يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/369)، ((تفسير القرطبي)) (16/95)، ((تفسير العليمي)) (6/223). قال العُلَيمي: (ومعنى السُّؤالِ: التَّقريرُ لِمُشركي مكَّةَ أنَّه لم يأتِ رسولٌ ولا كتابٌ بعبادةِ غيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فلمْ يَشُكَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ولم يَسأَلْهم، وكان أثْبَتَ يقينًا مِن ذلك). ((تفسير العليمي)) (6/223). وممَّن قال بأنَّ المراد: سَلْ مُؤمِني أهلِ الكتابِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ونسَبَه الواحديُّ إلى أكثرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/796)، ((تفسير ابن جرير)) (20/ 606)، ((الوسيط)) للواحدي (4/75). قال الشوكاني: (ومعنى الآيةِ على القولَينِ: سؤالُهم هل أَذِنَ اللهُ بعِبادةِ الأوثانِ في مِلَّةِ مِن المِلَلِ، وهل سَوَّغ ذلك لأحدٍ منهم؟! والمقصودُ تقريعُ مُشرِكي قُرَيشٍ بأنَّ ما هم عليه لم يأتِ في شريعةٍ مِن الشَّرائعِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/638). وقال ابن عاشور: (المعنى: استَقْرِ شرائعَ الرُّسُلِ وكُتُبَهم وأخبارَهم، هل تجِدُ فيها عبادةَ آلهةٍ؟!). ((تفسير ابن عاشور)) (25/222). ويُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/274). وذَكرَ الرَّازيُّ أقوالًا في الآيةِ، ومنها: (أنَّ ذِكرَ السُّؤالِ في مَوضِعٍ لا يمكِنُ السُّؤالُ فيه يكونُ المرادُ منه النَّظَرَ والاستدلالَ؛ كقَولِ مَن قال: سَلِ الأرضَ مَن شَقَّ أنهارَكِ، وغَرَس أشجارَكِ، وجنَى ثِمارَكِ؟ فإنَّها إنْ لم تُجِبْك جوابًا، أجابَتْك اعتِبارًا. فهاهنا سؤالُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأنبياءَ الَّذين كانوا قبْلَه مُمتَنِعٌ؛ فكان المرادُ منه: انظُرْ في هذه المسألةِ بعَقلِك، وتدبَّرْ فيها بفَهمِك). ((تفسير الرازي)) (27/635). وقال ابن عثيمين: (المعنى: إنَّك إن تسألْ -على الفَرضِ والتَّخييرِ- فلن تجابَ بـ «نعم»، بل سيكونُ الجوابُ: «لا»؛ فهو مِن بابِ التحَدِّي للمُشرِكين الَّذين يَدَّعونَ أنَّهم على حَقٍّ... يعني: أنَّ السُّؤالَ أُريدَ به إلزامُ قُرَيشٍ بأنَّه لم يأتِ أحَدٌ مِن الرُّسُلِ بإباحةِ عبادةِ غيرِ اللهِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الخرف)) (ص: 169). .
كما قال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ.
أي: اسأَلْهم هل شرَعْنا وأمَرْنا بعبادةِ آلِهةٍ مِن دُونِ الرَّحمنِ [486] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/606)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/414)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/439)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/223). ؟!

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: مُوصِلٍ إلى اللهِ وإلى دارِ كرامتِه، وهذا مِمَّا يُوجِبُ عليك زيادةَ التَّمَسُّكِ به والاهتِداءِ، إذا عَلِمتَ أنَّه حقٌّ وعَدلٌ وصِدقٌ تكونُ بانيًا على أصلٍ أصيلٍ إذا بنى غَيرُك على الشُّكوكِ والأوهامِ، والظُّلمِ والجَورِ [487] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 766). . ففي الآيةِ حَثُّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على التَّمَسُّكِ بما أُوحيَ إليه، وإذا كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُحَثُّ على ذلك فنحن مِن بابِ أَولى [488] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 170). !
2- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يدُلُّ على أنَّ الإنسانَ يرغَبُ في الثَّناءِ الحسَنِ الجميلِ -وذلك على قولٍ في تفسيرِ الذِّكرِ-، ولو لم يَكُنْ ذلك مرغوبًا فيه ما امتَنَّ به تعالَى على رسولِه فقالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وقال إبراهيمُ عليه السَّلامُ: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ [الشعراء: 84] ، والذِّكرُ الجَميلُ قائِمٌ مَقامَ الحياةِ، بل هو أفضَلُ مِن الحياةِ؛ لأنَّ أثَرَ الحياةِ لا يحصُلُ إلَّا في الحَيِّ، وأثَرَ الذِّكرِ الجَميلِ يَحصُلُ في كُلِّ مَكانٍ، وفي كُلِّ زَمانٍ [489] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/376). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (27/634). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ وصْفُ اللهِ تبارك وتعالى بالانتقامِ كما وُصِفَ به في آياتٍ أخرى، ولكِنْ لا يُوصَفُ به على الإطلاقِ فيقالَ مَثلًا: «المنتَقِمُ»؛ لأنَّ كَلِمةَ «المُنتَقِم» ليست مدحًا في ذاتِها حتَّى تُقابَلَ بما يكونُ سببًا للانتقامِ، ومِن الغَلَطِ عَدُّها ضِمنَ أسماءِ اللهِ الحسنى؛ فإنَّ ذلك ليس مِن أسماءِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ لم يَذكُرْ ذلك مِن أسمائِه، وإنَّما ذَكَره مُقَيَّدًا بحالٍ مِن الأحوالِ، وهنا فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ مُقَيَّدٌ بحالٍ مِن الأحوالِ، وهي تكذيبُ هؤلاء، وهو كقَولِه تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [490] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 163). [السجدة: 22] .
2- في قَولِه تعالى: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ أنَّ الوَعدَ يأتي في الشَّرِّ والعُقوبةِ، خلافًا لِمَن قال: الوَعدُ في الخيرِ، والإيعادُ في الشَّرِّ، وأنشَدوا على ذلك قولَ الشاعرِ:
وإنِّي وإنْ أوعَدْتُه أو وَعَدْتُه                لَمُخْلِفُ إيعادي ومُنْجِزُ مَوعِدي [491] البيتُ لعامرِ بنِ الطُّفَيلِ. يُنظر: ((ديوان عامر بن الطفيل)) (ص: 58)، ((لسان العرب)) لابن منظور (14/223).
 فالصَّوابُ أنَّ لفظةَ الوعدِ تُطلَقُ على الخَيرِ والشَّرِّ، فهنا قال: الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ، وعلى قياسِ قولِ البيتِ يكونُ التَّعبيرُ: «الَّذي أوعَدْناهم»، ولكِنَّ الصَّحيحَ أنَّها جائزةٌ لهذا وهذا [492] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 163). ، فالوَعدُ هنا بمَعنَى الوَعيدِ؛ بقَرينةِ قَولِه قَبْلَه: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، وأمَّا الوَعيدُ فهو للشَّرِّ دائِمًا [493] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/218). .
3- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ عبَّرَ عن الشَّرَفِ بالذِّكرِ -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ قيل: للتَّنبيهِ على أنَّ سَبَبَه الإقبالُ على الذِّكرِ وعلى ما بَيَّنه وشَرَعَه، والاستِمساكُ به، والاعتِناءُ بشَأنهِ [494] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/436). .
4- في قَولِه تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا حُجَّةٌ في قَبولِ خبرِ الواحدِ الصَّادقِ؛ فإنَّ أماراتِ النُّبُوَّةِ دليلٌ على صِدْقِهم، والحُجَّةُ واجبةٌ بإخبارِهم؛ لا بأماراتِهم [495] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/132). .
5- قَولُه تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا -على القولِ بأنَّ المرادَ أمرُه بسؤالِ أهلِ التَّوراةِ والإنجيلِ- استُدِلَّ به على أنَّ خبرَ المَعيوبِ عليه في دِينِه -إذا عُرِفَ بالصِّدْقِ- مقبولٌ وإنْ أُنكِرَ حالُه؛ إذِ المرادُ مِن المُخبِرِ صِدْقُه لا غيرُه، وليس إلْمامُ المُذْنِبِينَ -المعروفِين بالصِّدْقِ- بالذُّنوبِ، والمُتأوِّلِينَ أمورًا بأكثرَ مِن كُفْرِ الكافِرين [496] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/134). !
6- في قَولِه تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ أنَّ أصلَ دينِ النَّصارى ليس فيه شِركٌ؛ فإنَّ الله إنَّما بَعَث رُسُلَه بالتَّوحيدِ، والنَّهيِ عن الشِّركِ، فالمسيحُ صلواتُ اللهِ عليه وسلامُه ومَن قبْلَه مِنَ الرُّسلِ إنَّما دَعَوْا إلى عبادةِ اللهِ وحْدَه لا شريكَ له [497] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/112). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
- قَولُه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ... استِئنافٌ، مَسُوقٌ لتَسلِيَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: إنَّ هؤلاء صُمٌّ فلا يُمكِنُك إسماعُهم، وعُميٌ فلا يُمكِنُك هِدايَتُهم [498] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/89). .
- قَولُه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ تَفريعٌ على جُملةِ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا [الزخرف: 36] ؛ لأنَّ ذلك أفاد تَوَغُّلَهم في الضَّلالةِ، وعُسْرَ انفِكاكِهم عنها؛ لأنَّ مُقارَنةَ الشَّياطينِ لهم تَقتَضِي ذلك؛ فانتَقَل منه إلى التَّهوينِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يُلاقِيه مِن الكَدِّ والتَّحَرُّقِ عليهم في تَصميمِهم على الكُفرِ والغَيِّ، وفيه إيماءٌ إلى تَأيِيسٍ مِن اهتِداءِ أكثَرِهم [499] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/216). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ لإنكارِ أنْ يَكونَ حِرصُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على هُداهم ناجعًا فيهم إذا كان اللهُ قدَّرَ ضَلالَهم فأوجَدَ أسبابَه؛ قال تعالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل: 37] . ولَمَّا كان حالُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مُعاوَدةِ دَعوتِهم كحالِ مَن يَظُنُّ أنَّه قادرٌ على إيصالِ التَّذكيرِ إلى قُلوبِهم، نُزِّلَ مَنزِلةَ مَن يَظُنُّ ذلك؛ فخُوطِبَ باستِفهامِ الإنكارِ، وسُلِّطَ الاستِفهامُ على كَلامٍ فيه طَريقُ قَصرٍ بتَقديمِ المُسنَدِ إليه على الخَبَرِ الفِعلِيِّ، مع إيلاءِ الضَّميرِ حَرْفَ الإنكارِ، وهو قَصْرٌ مُؤَكَّدٌ وقَصْرُ قَلبٍ [500] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإلهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19-22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: أنت لا تُسمِعُهم ولا تَهدِيهم؛ بل اللهُ يُسمِعُهم ويَهدِيهم إنْ شاءَ [501] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/253)، ((تفسير البيضاوي)) (5/91)، ((تفسير أبي حيان)) (9/376)، ((تفسير أبي السعود)) (8/48)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/216)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/89). .
- ومِن بَديعِ مَعنَى قَولِه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ... الآيةَ: أنَّ اللهَ وَصَف حالَ إعراضِهِم عن الذِّكرِ بالعَشَا، وهو النَّظَرُ الَّذي لا يَتَبَيَّنُ شَبَحَ الشَّيءِ المَنظورِ إليه، ثمَّ وَصَفهم هنا بالصُّمِّ العُمْيِ؛ إشارَةً إلى أنَّ التَّمَحُّلَ [502] التَّمَحُّلُ: أي: الاحتيالُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/1817). للضَّلالِ ومُحاوَلةَ تأيِيدِه، يَنقَلِبُ بصاحِبِه إلى أشدِّ الضَّلالِ؛ لِـ (أنَّ التَّخَلُّقَ يأتي دُونَه الخُلُقُ) [503] عَجُزُ بيتٍ يُنسَبُ لغيرِ واحدٍ؛ منهم: العَرْجيُّ. يُنظر: ((الحيوان)) للجاحظ (3/66)، ((الشعر والشعراء)) لابن قُتَيْبةَ (2/561). ومنهم: سالمُ بنُ وابِصةَ. ((البيان والتبيُّن)) للجاحظ (1/ 197)، ((شرح ديوان الحماسة)) للمرزوقي (ص: 710). ومنهم: ذو الإصبَعِ العَدْوانيُّ. يُنظر: ((التذكرة الحمدونية)) (7/90)، ((الدر الفريد)) للمستعصمي (3/453). ، والأحوالُ تَنقَلِبُ مَلَكَاتٍ. وإذ قد كان إعراضُهم انصِرافًا عن استِماعِ القُرآنِ، وعن النَّظَرِ في الآياتِ؛ كان حالُهُم يُشبِهُ حالَ الصُّمِّ العُمْيِ، كما مُهِّد لذلك بقَولِه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ [الزخرف: 36] ؛ فظَهَرت المُناسَبةُ بيْنَ وَصْفِهم بالعَشَا وبيْن ما في هذا الانتِقالِ لِوَصْفِهم بالصُّمِّ العُمْيِ [504] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/216، 217). .
- وقَولُه: وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ عَطفٌ على الْعُمْيَ باعتِبارِ تَغايُرِ الوَصفَينِ، وفيه إشعارٌ بأنَّ المُوجِبَ لذلك تَمَكُّنُهم في ضَلالٍ لا يَخفَى [505] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/91). .
- وأيضًا عَطْفُ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فيه مَعنى التَّذيِيلِ؛ لأنَّه أعَمُّ مِن كلٍّ مِن الصُّمِّ والعُمْيِ باعتِبارِ انفِرادِهما، وباعتِبارِ أنَّ الصَّمَمَ والعَمَى قد يكونُ تَعَلُّقُهما بالمَسموعِ والمُبصَرِ جُزئِيًّا في حالةٍ خاصَّةٍ؛ فكان الوَصفُ بالكَونِ في الضَّلالِ المُبينِ تَنبيهًا على عُمومِ الأحوالِ [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/217). .
2- قولُه تعالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ لَمَّا كَانَت حَواسُّهم لنْ يَنتَفِعوا بها الانتِفاعَ الَّذي يُجرِي خَلاصَهم مِن عَذابِ اللهِ، جُعِلوا صُمًّا عُمْيًا حَيارَى، ويُريدُ بهم قُرَيشًا؛ فهُم جامِعُو الأَوصافِ الثَّلاثةِ؛ ولذلك عادَ الضَّميرُ عليهم في قَولِه: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، ولم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ إلَّا في قَولِه: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ [الزخرف: 40] الآيةَ [507] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/376). .
- وقولُه: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ... تَفريعٌ على جُملةِ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ... [الزخرف: 40] إلى آخِرِها، المُتضَمِّنةِ إيماءً إلى التَّأيِيسِ مِنِ اهتِدائِهم، والصَّريحةِ في تَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن شِدَّةِ الحِرصِ في دَعوَتِهم؛ فجاء هنا تَحقيقُ وَعدٍ بالانتِقامِ منهم، ومعناه: الوَعدُ بإظهارِ الدِّينِ إنْ كان في حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو بعْدَ وَفاتِه، ووَعِيدُهم بالعِقابِ في الدُّنيا قبْلَ عِقابِ الآخِرةِ. ومِن أجْلِ الوَفاءِ بهَذَينِ الغَرَضَينِ ذُكِر في هذه الجُملةِ أمْرانِ: الانتِقامُ منهم لا مَحالةَ، وكَوْنُ ذلك واقِعًا في حَياةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو بعْدَ وَفاتِه، والمُفَرَّعُ هو: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ وما ذُكِرَ معه؛ فمُرادٌ منه تَحَقُّقُ ذلك على كلِّ تَقديرٍ [508] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/254)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/217). .
- والذَّهابُ به في قولِه: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ... مُستَعمَلٌ للتَّوَفِّي -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ بقَرينةِ قَولِه: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ؛ لأنَّ المَوتَ مُفارَقةٌ للأحياءِ؛ فالإماتةُ كالانتِقالِ به، أي: تَغْييبُه؛ ولذلك يُعَبَّرُ عن المَوتِ بالانتِقالِ، والمعنى: فإمَّا نَتَوَفَّيَنَّكَ فإنَّا مِنهم مُنتَقِمون بعْدَ وَفاتِكَ [509] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/217). .
- وفي قولِه: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ جاءَ جَوابُ الشَّرطِ مُقتَرِنًا بالفاءِ -وهو جُملةٌ اسمِيَّةٌ-؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ الانتِقامِ ودَوامِه، وأمَّا جُملةُ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فهي دَليلُ جَوابِ جُملةِ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ المَعطُوفةِ على جُملةِ الشَّرطِ؛ لأنَّ اقتِدارَ الله عليهم لا يُناسِبُ أنْ يَكونَ مُعَلَّقًا على إراءَتِه الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الانتِقامَ منهم؛ فالجَوابُ مَحذوفٌ لا مَحالةَ؛ لقَصدِ التَّهويلِ، وتَقديرُه: أوْ إمَّا نُرِيَنَّكَ الَّذي وعَدْناهُم -وهو الانتِقامُ- تَرَ انتِقامًا لا يُفلتِون منه؛ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ، أي: مُقتَدِرون الآنَ؛ فاسمُ الفاعِلِ مُستَعمَلٌ في زَمانِ الحالِ وهو حَقيقتُه [510] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/218). .
- وتَقديمُ المَجرُورَينِ مِنْهُمْ وعَلَيْهِمْ على مُتَعَلَّقَيْهما؛ للاهتِمامِ بهم في التَّمَكُّنِ بالانتِقامِ والاقتِدارِ عليهم [511] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/218). .
- قولُه: فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ الاقتدارُ: شِدَّةُ القُدرةِ، و(اقتَدَرَ) أبلَغُ مِن (قدَرَ) [512] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/218). .
- وقد اشتَمَل هَذانِ الشَّرطانِ وجَواباهُما فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ على خَمسَةِ مُؤَكِّداتٍ؛ وهي: (ما) الزَّائِدةُ في قولِه فَإِمَّا، ونُونُ التَّوكيدِ، وحَرفُ (إنَّ) للتَّوكيدِ، والجُملةُ الاسمِيَّةُ، وتَقديمُ المَعمولِ على مُنْتَقِمُونَ [513] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/254)، ((تفسير البيضاوي)) (5/91)، ((تفسير أبي السعود)) (8/48)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/218). .
- وفائدةُ التَّرديدِ في هذا الشَّرطِ -قَولُه: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ وقولُه: أَوْ نُرِيَنَّكَ-: تَعميمُ الحالَينِ: حالِ حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحالِ وَفاتِه -على قولٍ في التَّفسيرِ بأنَّ المرادَ بالإذهابِ: تَوَفِّيه عليه السَّلامُ-، والمَقصودُ: وَقتُ ذَينِكَ الحَالَينِ؛ لأنَّ المَقصودَ تَوقيتُ الانتِقامِ منهم، ففي هذا الوَعيدِ إلْقاءُ الرُّعبِ في قُلوبِهم لِمَا يَسمَعونَه [514] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/219). .
3- قولُه تعالَى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- قولُه: فَاسْتَمْسِكْ الاستِمساكُ: شِدَّةُ المَسكِ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ فيه للتَّأكيدِ، والأمرُ به مُستَعمَلٌ في طَلَبِ الدَّوامِ؛ لأنَّ الأمرَ بفِعلٍ لِمَن هو مُتَلبِّسٌ به لا يَكونُ لطَلَبِ الفِعلِ، بلْ لمَعنًى آخَرَ، وهو هنا: طَلَبُ الثَّباتِ على التَّمَسُّكِ بما أُوحِيَ إليه؛ كما دلَّ عليه قَولُه: إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وهذا كما يُدْعَى للعَزيزِ المُكرَمِ، فيُقالُ: أعَزَّكَ اللهُ وأكرَمَكَ، أي: أدامَ ذلك، وقَولُه: أَحياكَ اللهُ، أي: أطالَ حَياتَكَ [515] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/254)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/149)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/219). .
- قَولُه: إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تأيِيدٌ لطَلَبِ الاستِمساكِ بالَّذِي أُوحِيَ إليه، وتَعليلٌ له، أو تَعليلٌ للأمْرِ به [516] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/149)، ((تفسير أبي السعود)) (8/48)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/219)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/90). .
- والصِّراطُ المُستَقيمُ: هو العَمَلُ بالَّذي أُوحِيَ إليه؛ فكَأَنَّه قِيل: إنَّه صِراطٌ مُستَقيمٌ، ولَكِنْ عُدِلَ عن ذلك إلى إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ ليُفِيدَ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ راسِخٌ في الاهتِداءِ إلى مُرادِ اللهِ تعالى، كما يَتمَكَّنُ السَّائِرُ مِن طَريقٍ مُستَقيمٍ لا يَشُوبُه في سَيرِه تَرَدُّدٌ في سُلوكِه، ولا خَشيةُ الضَّلالِ في بُنَيَّاتِه، وحَرفُ (عَلَى) المُرادُ به التَّمَكُّنُ، وهذا تَثبيتٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وثَناءٌ عليه بأنَّه ما زَاغَ قِيدَ أُنمُلَةٍ عمَّا بَعَثَه اللهُ به، ويَتْبَعُه تَثْبيتُ المُؤمِنينَ على إيمانِهِم، وهذا أيضًا ثَناءٌ على القُرآنِ [517] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/220). .
4- قولُه تعالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ذُكِرَ حظُّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الثَّناءِ والتَّأيِيدِ في قَولِه: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43] المَجعُولِ عِلَّةً للأمرِ بالثَّباتِ عليه، ثمَّ عُطِفَ عليه تَعليلٌ آخَرُ اشتَمَل على ذِكْرِ حَظِّ القُرآنِ مِن المَدحِ والنَّفعِ بقَولِه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ، وتَشرِيفِه به بقَولِه: لَكَ، وأُتْبِعَ بحَظِّ التَّابِعينَ له ولكِتابِه مِنَ الاهتِداءِ والانتِفاعِ بقَولِه: وَلِقَوْمِكَ. وهذا أيضًا ثناءٌ على القُرآنِ [518] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/220، 221). .
- وعرَّضَ اللهُ سُبحانَه بالمُعرِضينَ عن القُرآنِ وعن الرَّسولِ والمُجافِينَ لهما بقَولِه: وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ، مع التَّوجيهِ في معنَى كلمةِ (ذِكْرٌ) مِن إرادةِ أنَّ هذا الدِّينَ يَكسِبُه ويَكسِبُ قَومَه حُسْنَ السُّمعةِ في الأُمَمِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ فمَنِ اتَّبَعه نالَ حَظَّه مِن ذلك، ومَن أَعرَضَ عنه عُدَّ في عِدادِ الحَمقَى، مع الإشارةِ إلى انتِفاعِ المُتَّبِعينَ به في الآخِرةِ، واستِضرارِ المُعرِضينَ عنه فيها، وتَحقيقُ ذلك بحَرفِ الاستِقبالِ (سوف) [519] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/220). .
5- قولُه تعالَى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ
- قولُه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا قيل: المُرادُ بالسُّؤالِ تَمثيلٌ لِشُهرةِ الخَبَرِ وتَحَقُّقِه؛ إذ لمْ يكُنِ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في شَكٍّ حتَّى يَسألَ، وإلَّا فإنَّ سُؤالَه الرُّسلَ الَّذين مِن قبْلِه مُتعذِّرٌ على الحقيقةِ. والمعنى: استَقْرِ شَرائعَ الرُّسلِ وكُتبَهم وأخْبارَهم؛ هلْ تجِدُ فيها عِبادةَ آلهةٍ؟! فالمُرادُ الاستِشهادُ بإجماعِ الأنبِياءِ على التَّوحيدِ، والتَّنبيهُ على أنَّه ليسَ بِبِدْعٍ ابتَدَعه حتَّى يُكَذَّبَ ويُعادَى له؛ فإنَّه كان أَقوَى ما حَمَلَهم على التَّكذيبِ والمُخالَفةِ [520] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/92)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/149)، ((تفسير أبي السعود)) (8/49)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/222). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قَولُه: أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ الهَمزةُ في أَجَعَلْنَا للاستِفهامِ، وهو إنكارِيٌّ، وهو المَقصودُ مِن الخَبَرِ، وهو رَدٌّ على المُشرِكين في قَولِهم: إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] ، أي: ليس آباؤُكُم بأَهدَى مِنَ الرُّسُلِ الأَوَّلينَ إنْ كُنتُم تَزعُمون تَكذيبَ رَسولِنا؛ لأنَّه أمَرَكُم بإفرادِ اللهِ بالعِبادةِ. ويَجوزُ أنْ يُجعَلَ السُّؤالُ عن شُهرةِ الخبَرِ، ومعنى الكلامِ: وإنَّا ما أمَرْنا بعِبادةِ آلهةٍ دُونَنا على لِسانِ أحَدٍ مِن رُسلِنا. وهذا رَدٌّ لِقَولِ المشركينَ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/222). [الزخرف: 20] .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ قَبْلِكَ لتأكيدِ اتِّصالِ الظَّرفِ بعامِلِه، و(مِن) في قولِه: مِنْ رُسُلِنَا بيانٌ لـ قَبْلِكَ؛ فمعنى أَجَعَلْنَا: ما جَعَلْنا ذلك، أي: جعْلَ التَّشريعِ والأمْرِ، أي: ما أمَرْنا بأنْ تُعبَدَ آلهةٌ دُونَنا؛ فوصْفُ آَلِهَةً بـ يُعْبَدُونَ لِنَفْيِ أنْ يكونَ اللهُ يَرْضَى بعِبادةِ غَيرِه، فضْلًا عن أنْ يكونَ غيرُه إلهًا مِثلَه؛ وذلك أنَّ المشركينَ كانوا يَعبُدون الأصنامَ، وكانوا في عَقائدِهم أشتاتًا؛ فمِنْهم مَن يَجعَلُ الأصنامَ آلهةً شُركاءَ للهِ، ومِنْهم مَن يَزعُمُ أنَّه يَعبُدُهم لِيُقَرِّبُوه مِن اللهِ زُلْفى، ومنْهم مَن يَزعُمُهم شُفعاءَ لهم عندَ اللهِ. فلمَّا نفَى بهذه الآيةِ أنْ يكونَ جعَلَ آلهةً يُعبَدون، أبطَلَ جميعَ هذه التَّمحُّلاتِ [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/223). .
- وأُجْرِيَ آَلِهَةً مُجْرى العُقلاءِ؛ فوُصِفوا بصِيغةِ جمْعِ العُقلاءِ بقولِه: يُعْبَدُونَ -ومِثلُه كَثيرٌ في القُرآنِ- جَرْيًا على ما غلَبَ في لِسانِ العرَبِ؛ إذ اعتَقَدُوهم عُقلاءَ عالِمينَ [523] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/223). .