موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (41-46)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ

غريب الكلمات:

لَا جَرَمَ: أي: حقًّا، وهي كَلِمةٌ تَرِدُ بمعْنَى تَحقيقِ الشَّيءِ، فقِيل: أصْلُها التَّبرِئةُ، بمعنَى: لا بُدَّ، ثُمَّ استُعْمِلت في معنى: حقًّا. وقيلَ: جَرَمَ بمعْنَى كسَبَ. وقيلَ: بمعنَى: وجَبَ وحَقَّ، و (لا) رَدٌّ لِمَا قبْلَها مِن الكلام، ثُمَّ يُبْتَدأُ بها [670] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 202)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 498)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 161)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/263)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 260). .
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ: أي: أرُدُّ الأمرَ إليه، وأتوكَّلُ عليه، وأُسلِّمُ أمْري إليه، وأصلُ (فوض): يدُلُّ على اتِّكالٍ في الأمرِ على آخَرَ وردِّه عليه [671] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/335، 336)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/460)، ((المفردات)) للراغب (ص: 648)، ((تفسير القرطبي)) (15/318). .
وَحَاقَ: أي: أحاطَ ونَزَل، وأصلُ (حيق): يدُلُّ على نُزُولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ [672] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 187)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 266)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93). .
غُدُوًّا: جمعُ غَداةٍ: وهي أوَّلُ النَّهارِ، وأصلُ (غدو): يَدُلُّ على زَمانٍ [673] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/669 - 671)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/287) و(4/415)، ((المفردات)) للراغب (ص: 603)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 982). .
وَعَشِيًّا: العَشِيُّ: مِن زَوالِ الشَّمسِ إلى الصَّباحِ، أو: آخِرُ النَّهارِ، وأصلُ (عشو): يدُلُّ على ظلامٍ، وقِلَّةِ وُضوحِ الشَّيءِ [674] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/322)، ((المفردات)) للراغب (ص: 567)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 336)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 982). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: قال مُؤمِنُ آلِ فِرعَون لِقَومِه: ويا قَومي ما لي أدعوكم إلى سَبيلِ النَّجاةِ، وتَدعُونَني إلى طَريقِ النَّارِ؟! تَدعُونَني لِأكفُرَ باللهِ وأُشرِكَ به ما لا أعلَمُ عليه دَليلًا، وأنا أدعوكم إلى عبادةِ العَزيزِ الغَفَّارِ! حقًّا لا شكَّ فيه أنَّ الَّذي تَدْعونَني إلى عبادتِه مِن الأوثانِ لا يَصلُحُ للألوهيَّةِ في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ، وأنَّ مَرجِعَنا جميعًا بعدَ مماتِنا إلى الله، وأنَّ الَّذين تَعَدَّوا حُدودَ اللهِ هم أصحابُ النَّارِ.
فستَتذَكَّرونَ ما نَصحتُكم به، وتَعلَمونَ صِدقي، وأُسَلِّمُ أمْري إلى الله؛ إنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على عِبادِه، لا يَخفَى عليه منهم شَيءٌ. فدفَعَ اللهُ عنه كَيْدَهم، ونَزَل بفِرعَونَ وأتْباعِه العَذابُ السَّيِّئُ؛ النَّارُ يُعرَضُون عليها كُلَّ صَباحٍ ومَساءٍ؛ ليُعذَّبوا بها إلى أن تقومَ السَّاعةُ، ويومَ القيامةِ يُقولُ اللهُ للملائكةِ: أَدخِلوا قومَ فِرعَونَ أشدَّ العَذابِ.

تفسير الآيات:

وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41).
أي: قال مُؤمِنُ آلِ فِرعَونَ لِقَومِه: ويا قَومي ما لي [675] قيل: المعنى: ما لَكم، كما يُقالُ: ما لي أراكَ حزينًا؟ معناه: ما لَك؟ ومعنَى الآيةِ: أخبِروني عنكم كيف هذه الحالُ؟ ومِمَّن قال بذلك: الواحديُّ، والبغوي، وابن الجوزي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/14)، ((تفسير البغوي)) (4/113)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/39). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (7/145). قال ابن عاشور: (أصلُ استِعمالِ: ما لي أفعلُ، وما لي لا أفعلُ ونحوِه، أنْ يكونَ استِفهامًا عن فِعلٍ أو حالٍ ثَبَت للمجرورِ باللَّامِ «وهي لامُ الاختِصاصِ»، ومعنَى لامِ الاختصاصِ يَكسِبُ مَدخولَها حالةً خَفِيًّا سَبَبُها الَّذي عُلِّقَ بمَدخولِ اللَّامِ، نحوَ قولِه تعالَى: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38]، مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ [النَّمْل: 20]، وقولِكَ لِمَنْ يَستوقِفُكَ: ما لَكَ؟ فتكونُ الجُملةُ الَّتي بعدَ اسمِ الاستِفهامِ وخبرِه جُملةً فِعليَّةً. وتَركيبُ: «ما لي» ونحوِه، هو كتَركيبِ: «هل لَكَ» ونحوِه في قولِه تعالَى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] ... فإذا قامَتِ القرينةُ على انتِفاءِ إرادةِ الاستِفهامِ الحقيقيِّ انصَرَف ذلك إلى التَّعَجُّبِ مِن الحالةِ، أو إلى الإنكارِ أوْ نحوِ ذلك. فالمعنَى هنا على التَّعَجُّبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/152، 153). أدعُوكم إلى سَبيلِ النَّجاةِ مِن العَذابِ، وتَدعُونَني أنتم إلى طَريقِ النَّارِ [676] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/331)، ((تفسير القرطبي)) (15/317)، ((تفسير ابن كثير)) (7/145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/387). ؟!
كما قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة: 72] .
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر هذا المؤمِنُ أنَّه يَدعوهم إلى النَّجاةِ، وهم يَدْعُونَه إلى النَّارِ؛ فسَّرَ ذلك بأنَّهم يَدْعُونَه إلى الكُفرِ باللهِ، وإلى الشِّركِ به [677] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/519). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ المُسبَّبَينِ أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؛ ذكَرَ سبَبَهما تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، وهو دُعاؤهم إلى الكُفْرِ والشِّركِ، ودُعاؤه إيَّاهم إلى الإيمانِ والتَّوحيدِ [678] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/260). .
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ.
أي: تَدْعُونَني لِأكفُرَ باللهِ وأُشرِكَ بهِ ما لا أعلَمُ دَليلًا على صِحَّتِه [679] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/332)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (7/633)، ((تفسير ابن كثير)) (7/145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/153). قال الشنقيطي: (الظَّاهِرُ أنَّ جُملةَ قَولِه: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بدَلٌ مِن قَولِه: وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؛ لأنَّ الدَّعوةَ إلى الكُفرِ باللهِ والإشراكِ به: دعوةٌ إلى النَّارِ). ((أضواء البيان)) (6/387). .
وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ.
أي: وأنا أدعوكم إلى عبادةِ العَزيزِ ذي القَهرِ والانتِقامِ مِمَّن استكبَرَ عن الحَقِّ وكَفَر به، البالِغِ المَغفرةَ لِمَن تابَ إليه [680] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/332)، ((تفسير ابن كثير)) (7/145)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 325). .
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43).
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ.
أي: حَقًّا يَقينًا لا شَكَّ فيه أنَّ الَّذي تَدْعُونَني إلى عبادتِه مِن الأوثانِ: عاجِزٌ لا يَصلُحُ لِلألوهيَّةِ في الدُّنيا والآخِرةِ [681] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/332)، ((تفسير القرطبي)) (15/317)، ((تفسير ابن كثير)) (7/145)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/78)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/155)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 328-331). قيل: المرادُ: ليس له استِجابةُ دَعوةٍ تَنفَعُ، فلا يُجيبُ داعِيَه لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والسمعاني، والرسعني، والخازن. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/375)، ((الوسيط)) للواحدي (4/14)، ((تفسير السمعاني)) (5/22)، ((تفسير الرسعني)) (6/620)، ((تفسير الخازن)) (4/74). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/333)، ((تفسير الثعلبي)) (8/277). وقيل: المعنى: أنَّه ليس له قَدْرٌ وحَقٌّ، فلا يَستَحِقُّ الدَّعوةَ إليه، والحَثَّ على عبادتِه، أو اللُّجوءَ إليه. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ عطية، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/561)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738). وقال الكَلْبي: (ليس له شفاعةٌ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ). يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/158). وقال مكِّي: (لا يَنفُذُ له أمرٌ ولا نهيٌ ولا شفاعةٌ في الدَّارَينِ). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (10/ 6436، 6437). وقيل: ليست له دَعوةٌ إلى عبادتِه في الدُّنيا؛ لأنَّ الأوثانَ لا تَدَّعي الرُّبوبيَّةَ، ولا تدعو إلى عبادتِها، وفي الآخرةِ تَتبرَّأُ مِن عابِديها، أمَّا المعبودُ بالحقِّ فيَدعو العِبادَ إلى طاعتِه، ثمَّ يدعو العِبادُ إليها إظهارًا لدعوةِ ربِّهم. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/113)، ((تفسير أبي حيان)) (9/260، 261). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ أي: إلى نفْسِه قَطُّ بالعبادةِ: العُلَيميُّ. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (6/121). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: 13، 14].
وقال الله سبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5، 6].
وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ.
أي: ولا شَكَّ أيضًا أنَّ مَرجِعَنا جميعًا بعدَ مماتِنا إلى الله، فيُجازي كلَّ عامِلٍ بحَسَبِ عَمَلِه [682] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/333)، ((تفسير ابن كثير)) (7/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738). .
وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ.
أي: ولا شَكَّ أنَّ الَّذين تَعَدَّوا حُدودَ اللهِ؛ كالوُقوعِ في الشِّركِ، وسَفكِ الدِّماءِ بغَيرِ حَقٍّ: هم أصحابُ النَّارِ المُلازِمونَ لها عندَ مَرجِعِنا إلى الله [683] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/333، 334)، ((تفسير القرطبي)) (15/317، 318)، ((تفسير ابن كثير)) (7/146)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/78)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/155)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 331). .
كما قال تعالى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [يونس: 83].
وعن مُعاوِيةَ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كُلُّ ذَنْبٍ عسَى اللهُ أن يَغفِرَه إلَّا الرَّجُلَ يَقتُلُ المؤمِنَ مُتعَمِّدًا، أو الرَّجُلَ يَموتُ كافِرًا)) [684] أخرجه النسائي (3984) واللَّفظُ له، وأحمد (16907). وثَّق رجالَه الشَّوكانيُّ في ((نيل الأوطار)) (7/196) وذكر أنَّ له شاهدًا، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/521)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (3984)، وصحَّحه لغيرِه شُعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((مسند أحمد)) (16907). .
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44).
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ.
أي: فسوفَ تَتذَكَّرونَ ما نَصحتُكم به، وتَعلَمونَ صِدقي، وتَندَمونَ حينَ يأتيكم عَذابُ اللهِ [685] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/335)، ((تفسير ابن كثير)) (7/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/156)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/387). .
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ.
أي: وأُسَلِّمُ أمْري إلى الله، وأتَوَكَّلُ عليه، وأعتَصِمُ به [686] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/335)، ((تفسير القرطبي)) (15/318)، ((تفسير ابن كثير)) (7/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 739)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/156). قال القرطبي: (قيل: هذا يدُلُّ على أنَّهم أرادوا قتلَه). ((تفسير القرطبي)) (15/318). وقال الرازي: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ وهذا كلامُ مَن هُدِّد بأمرٍ يخافُه، فكأنَّهم خَوَّفوه بالقتلِ). ((تفسير الرازي)) (27/520). .
عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ رجُلًا إذا أخَذَ مَضجَعَه مِنَ اللَّيلِ أن يقولَ: اللَّهُمَّ أسلَمْتُ نَفْسي إليك، ووجَّهتُ وَجْهي إليك، وألجَأْتُ ظَهري إليك، وفَوَّضتُ أمري إليك؛ رَغبةً ورَهبةً إليك، لا مَلجَأَ ولا مَنجَا مِنك إلَّا إليك، آمَنتُ بكِتابِك الَّذي أنزَلْتَ، وبِرَسولِك الَّذي أرسَلْتَ، فإنْ مات ماتَ على الفِطرةِ )) [687] رواه البخاري (247)، ومسلم (2710) واللَّفظُ له. .
إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.
أي: إنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على عِبادِه، عالِمٌ بأعمالِهم وأحوالِهم وأُمورِهم كُلِّها، لا يَخفى عليه منهم شَيءٌ [688] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/336)، ((تفسير ابن كثير)) (7/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 739)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/157). قيل: المعنى: إنَّ الله عالمٌ بأمورِ عبادِه، ومَن المطيعُ منهم، والعاصي له، والمُستحِقُّ للثوابِ، والمُستوجِبُ للعِقابِ. قاله ابن جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/336). وبمعناه قال مكِّي، والنسفي، والقاسمي. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكِّي (10/6438)، ((تفسير النسفي)) (3/214)، ((تفسير القاسمي)) (8/311). وقيل: يَعلَمُ المُحِقَّ مِن المُبطِلِ. وممَّن قال به: الثعلبيُّ، والبغوي، والخازن، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/277)، ((تفسير البغوي)) (4/113)، ((تفسير الخازن)) (4/75)، ((تفسير العليمي)) (6/121). وقال الواحدي، وابن الجوزي، والرسعني: بِالْعِبَادِ بأوليائِه وأعدائِه. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/15)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/39)، ((تفسير الرسعني)) (6/620). وقيل: المرادُ: يَهدي مَن يَستحِقُّ الهِدايةَ، ويُضِلُّ مَن يَستحِقُّ الإضلالَ. قاله ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/146). وقيل: المعنى: يَعلَمُ مَن يَستحِقُّ النُّصرةَ لاتِّصافِه بأوصافِ الكمالِ، ويَعلَمُ مَن يَمكُرُ فيَرُدُّ مَكْرَه عليه بما لَه مِن الإحاطةِ. قاله البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/80). وقيل: أي: يَعلَمُ حالي وضَعفي فيَمنَعُني منكم، ويَكفيني شرَّكم، ويَعلَمُ أحوالَكم فلا تَتصرَّفون إلَّا بإرادتِه ومَشيئتِه، فإنْ سلَّطكم علَيَّ فبِحِكمةٍ منه تعالى، وعن إرادتِه ومَشيئتِه صدَر ذلك. قاله: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 739). وقيل: إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فيَحرُسُ مَن يَلوذُ به -منهم- مِن المَكارِهِ. وممَّن قال به في الجملةِ: البيضاويُّ، وأبو السعود، والألوسي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/59)، ((تفسير أبي السعود)) (7/278)، ((تفسير الألوسي)) (12/325). .
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ ذلك الرَّجُلَ لم يُقَصِّرْ في تقريرِ الدِّينِ الحَقِّ، وفي الذَّبِّ عنه، فاللهُ تعالى رَدَّ عنه كَيْدَ الكافِرينَ، وقَصْدَ القاصِدِينَ [689] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/521). .
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا.
أي: فحَفِظَ اللهُ مُؤمِنَ آلِ فِرعَونَ، ودَفَع عنه كَيْدَهم [690] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/336)، ((تفسير السمرقندي)) (3/207، 208)، ((تفسير القرطبي)) (15/318)، ((تفسير السعدي)) (ص: 739)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/388). قيل: المرادُ بسَيِّئاتِ مَكرِهم: أضرارُ مَكرِهم وشدائِدُه. وممَّن قال بهذا المعنى: الزمخشريُّ، والبِقاعي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/170)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/80)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/388). وقيل: سَيِّئَاتِ هنا مِن بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى مَوصوفِها، أي: المكْرَ السَّيِّئَ. وممَّن قال بهذا المعنى: الشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/567)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 342). وقال الشنقيطي: (بعضُ العُلَماءِ يقولُ: نجَّاه اللهُ منهم مع موسى وقَومِه، وبَعضُهم يقولُ: صَعِدَ جَبَلًا فأعجَزَهم اللهُ عنه ونجَّاه منهم، وكُلُّ هذا لا دليلَ عليه، وغايةُ ما دَلَّ عليه القُرآنُ أنَّ اللهَ وَقاه سَيِّئاتِ مَكْرِهم، أي: حَفِظَه ونجَّاه منها). ((أضواء البيان)) (6/388). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/157). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا [الحج: 38] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] .
وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ.
أي: ونَزَل وأحاطَ بفِرعَونَ وأتْباعِه ما ساءَهم مِن عذابِ اللهِ، الَّذي وَجَبَ عليهم [691] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/715)، ((تفسير ابن جرير)) (20/336، 337)، ((تفسير ابن عطية)) (4/562)، ((تفسير ابن كثير)) (7/146)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/80)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/158)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/388، 389). قيل: آلُ فِرعَونَ في هذا الموضِعِ: أتْباعُه وأهلُ طاعتِه مِن قَومِه. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والثعالبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/336)، ((تفسير الثعالبي)) (5/118). قال مكِّي: (وقولُه: وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ يدُلُّ على أنَّ فِرعونَ في أشَدِّ ما في العذابِ؛ لأنَّ مَن كان على دِينِه إذا حلَّ به أشَدُّ العذابِ، فهو أحرَى أن يحلَّ عليه أشدُّ مِن ذلك). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (10/6440). وقيل: المرادُ بآلِ فِرعَونَ: فِرعونُ نفْسُه. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/24). وقيل: المرادُ بآلِ فِرعَونَ: فِرعَونُ وقَومُه. وممَّن قال بهذا القولِ: البيضاويُّ، والبِقاعي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/59)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/80، 81)، ((تفسير أبي السعود)) (7/278)، ((تفسير الشوكاني)) (4/567)، ((تفسير الألوسي)) (12/325)، ((تفسير القاسمي)) (8/312). واختلف المفسِّرونَ في المرادِ بقولِه: سُوءَ الْعَذَابِ؛ فقيل: هو نارُ جهنَّمَ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والزمخشريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/337)، ((تفسير الزمخشري)) (4/170). قال الزمخشري: (النَّارُ بدَلٌ مِن سُوءَ الْعَذَابِ. أو خبرُ مبتدَأٍ محذوفٍ، كأنَّ قائلًا قال: ما سوءُ العذابِ؟ فقيل: هو النَّارُ. أو مبتدأٌ خبرُه يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا، وفي هذا الوجهِ تعظيمٌ للنَّارِ، وتهويلٌ مِن عذابِها). ((تفسير الزمخشري)) (4/170). وقيل: المرادُ: الغرقُ. ومِمَّن قال بهذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والرازيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/715)، ((تفسير السمرقندي)) (3/208)، ((تفسير الرازي)) (27/521)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/157، 158). قال ابن عاشور: (وإنَّما كانَ الغرقُ سوءَ عذابٍ؛ لأنَّ الغريقَ يُعَذَّبُ باحتباسِ النَّفَسِ مُدَّةً وهو يَطْفو على الماءِ، ويَغوصُ فيه، وَيُرْعِبُه هولُ الأمواجِ، وهو موقنٌ بالهلاكِ، ثُمَّ يكونُ عُرضةً لأكلِ الحيتانِ حَيًّا ومَيِّتًا، وذلك ألمٌ في الحياةِ، وخِزيٌ بعدَ المماتِ يُذْكَرونَ به بيْنَ النَّاسِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/158). وقيل: سُوءَ الْعَذَابِ: الغرقُ وما بعدَه مِن النَّارِ وعذابِها. ومِمَّن قال بهذا القولِ: الثعلبيُّ، والبغوي، وابن عطية، وابن كثير، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/277)، ((تفسير البغوي)) (4/113)، ((تفسير ابن عطية)) (4/562)، ((تفسير ابن كثير)) (7/146)، ((تفسير العليمي)) (6/122). قال ابن كثير: (هو: الغرقُ في اليَمِّ، ثمَّ النُّقْلةُ منه إلى الجحيمِ؛ فإنَّ أرواحَهم تُعرضُ على النَّارِ صباحًا ومساءً إلى قيامِ السَّاعةِ، فإذا كان يومُ القيامةِ اجتمعتْ أرواحُهم وأجسادُهم في النَّارِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/146). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/388، 389). وقال ابن عثيمين: (قوله: سُوءَ الْعَذَابِ هذا أيضًا مِن بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى مَوصوفِها. أي المعنى: العذابُ السَّيِّئُ، والغرَقُ لا شكَّ أنَّه مِن سوءِ العذابِ، لكنْ هناك عذاباتٌ أخرى أُصيبَ بها آلُ فِرعَونَ: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 130] ، وقال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ [الأعراف: 133] ، كلُّ هذا مِن سوءِ العذابِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 343) بتصرُّف. .
كما قال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] .
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46).
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا.
أي: يُعرَضونَ على النَّارِ كلَّ صَباحٍ ومَساءٍ؛ ليُعذَّبوا بها إلى أن تَقومَ السَّاعةُ [692] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/715)، ((تفسير ابن جرير)) (20/337، 339)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/376)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 946)، ((تفسير البيضاوي)) (5/59)، ((تفسير ابن كثير)) (7/146). قال القُرطبي: (الجمهورُ على أنَّ هذا العَرضَ في البَرزخِ). ((تفسير القرطبي)) (15/318). قال الزمخشري: (غُدُوًّا وَعَشِيًّا في هذَينِ الوَقتَينِ يُعَذَّبونَ بالنَّارِ، وفيما بيْنَ ذلك اللهُ أعلَمُ بحالِهم؛ فإمَّا أن يُعَذَّبوا بجِنسٍ آخَرَ مِن العذابِ، أو يُنَفَّسَ عنهم، ويجوزُ أن يكون غُدُوًّا وَعَشِيًّا: عِبارةً عن الدَّوامِ، هذا ما دامَتِ الدُّنيا). ((تفسير الزمخشري)) (4/170). ويُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/214)، ((تفسير القنوجي)) (12/196). وقال البِقاعي: (يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا أي: في البَرزخِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا أي: غادِينَ ورائِحينَ في وَقتِ استِرواحِهم بالأكلِ واستِلذاذِهم به، هذا دأبُهم طولَ أيَّامِ البرزخِ، وكان عليهم في هذا العَرضِ زِيادةُ نَكَدٍ فَوقَ ما وَرَد عامًّا مِمَّا روى مالِكٌ والشَّيخانِ وغَيرُهم عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إنَّ أحَدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقعَدُه بالغَداةِ والعَشِيِّ...»، ولعلَّ زيادةَ النَّكَدِ أنَّهم هم المعروضونَ، فيُذهَبُ بهم في الأغلالِ يُساقُونَ لِيَنظُروا ما أعَدَّ اللهُ لهم، وعامَّةُ النَّاسِ يقتصرُ في ذلك على أن يُكشَفَ لهم -وهم في محالِّهم- عن مقاعِدِهم). ((نظم الدرر)) (17/81). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 344). .
قال الله  تبارك وتعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 44، 45].
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أحَدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقعَدُه بالغَداةِ والعَشِيِّ؛ إن كان مِن أهلِ الجنَّةِ فمِن أهلِ الجَنَّةِ، وإنْ كان مِن أهلِ النَّارِ فمِن أهلِ النَّارِ، يُقال: هذا مَقعَدُك حتَّى يَبعَثَك اللهُ إليه يومَ القيامةِ )) [693] رواه البخاري (1379)، ومسلم (2866). .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالى: أَدْخِلُوا قِراءتانِ:
1- قِراءةُ: اُدْخُلُوا بهمزةِ وصْلٍ مضمومةٍ، وضمِّ الخاءِ، على الأمرِ لهم بالدُّخولِ، والمعنى: ويومَ تقومُ السَّاعةُ نقولُ: ادخُلوا يا آلَ فِرعونَ...، ونصْبُ آَلَ على هذه القراءةِ؛ لأنَّه نِداءٌ مضافٌ [694] قَرأ بها ابنُ كثيرٍ وابنُ عَمرٍو وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/365). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/348)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 633). .
2- قِراءةُ: أَدْخِلُوا بهمزةِ قطْعٍ مفتوحةٍ، وكسرِ الخاءِ، على جِهةِ الأمرِ للملائكةِ بإدخالِهم، أي: يُقالُ للملائكةِ: أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ، ونصْبُ آَلَ على هذه القراءةِ؛ لأنَّه مفعولٌ به [695] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/365). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/348)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 633). .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.
أي: ويومَ القيامةِ يُقولُ اللهُ للملائكةِ [696] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/341)، ((الوسيط)) للواحدي (4/16)، ((تفسير الشوكاني)) (4/567). : أدخِلوا فِرعَونَ وأتْباعَه أشَدَّ عذابِ النَّارِ [697] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/715)، ((تفسير ابن جرير)) (20/340، 341)، ((تفسير الزمخشري)) (4/170)، ((تفسير القرطبي)) (15/320)، ((تفسير ابن كثير)) (7/146)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/82)، ((تفسير الشوكاني)) (4/567). .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى حكايةً عن مُؤمنِ آلِ فرعونَ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، وهكذا يجِبُ على كلِّ مؤمنٍ إذا أراد أنْ تُقضَى أمورُه وتُسَهَّلَ؛ أن يُفَوِّضَ أمْرَه إلى اللهِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] ، وقال لِنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [698] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 340). [الأنفال: 64] .
2- قَولُ الله تعالى: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا فيه دَليلٌ واضِحٌ على أنَّ التَّوَكُّلَ الصَّادِقَ على اللهِ، وتَفويضَ الأُمورِ إليه: سَبَبٌ للحِفظِ والوقايةِ مِن كُلِّ سُوءٍ [699] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/388). .
3- في قَولِه تعالى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا التَّحذيرُ مِن أعداءِ المُسلِمينَ؛ لِقَولِه: مَا مَكَرُوا، وأنَّ أعداءَ المُسلِمينَ قد لا يُواجِهونَهم بالعداوةِ، ولكِنَّهم يَمكُرونَ بهم؛ فلْيَحْذَرِ المؤمنُ مَكْرَ أعداءِ اللهِ، وهذا في القُرآنِ كثيرٌ؛ قال اللهُ تعالى لِنَبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] ، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [700] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 345). [الطارق: 15 - 17] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- كلُّ مَنِ استفرَغ وُسْعَه استحقَّ الثَّوابَ، وكذلك الكفَّارُ: مَن بلَغه دَعْوةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دارِ الكفرِ، وعَلِم أنَّه رسولُ الله، فآمَنَ به، وآمَن بما أُنزِل عليه، واتَّقَى الله ما استطاعَ، كما فعَل النَّجاشيُّ وغيرُه، ولم تُمكِنْه الهِجرةُ إلى دارِ الإسلامِ، ولا التِزامُ جميعِ شرائعِ الإسلامِ؛ لِكَونِه ممنوعًا مِن الهجرةِ، وممنوعًا مِن إظهارِ دينِه، وليس عندَه مَن يُعلِّمُه جميعَ شرائعِ الإسلامِ- فهذا مؤمنٌ مِن أهلِ الجنةِ، كما كان مؤمنُ آلِ فِرعَونَ مع قَومِ فِرعَونَ، وكما كانت امرأةُ فِرعَونَ [701] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/217). .
2- قومُ فِرعَونَ قد يَكونونَ أعرَضوا عن الله بالكُلِّيَّةِ بعدَ أن كانوا مشركينَ به، واستجابوا لفِرعَونَ في قولِه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] و: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] . ولهذا لَمَّا خاطبَهم المؤمنُ ذكَر الأمْرَينِ، فقال: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، فذكَر الكفرَ به الَّذي قد يَتناوَلُ جُحودَه، وذكَر الإشراكَ به أيضًا؛ فكان كلامُه مُتناوِلًا للمقالتَيْنِ والحالَيْنِ جميعًا [702] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/633). .
3- في قَولِه تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ استِعمالُ التَّعريضِ؛ لأنَّه لا شَكَّ أنَّ أوَّلَ مَن يَدخُلُ في هذه الجُملةِ هؤلاء، لكِنَّه لم يَشَأْ أنْ يَتكلَّمَ بذلك صَريحًا [703] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 338). .
4- في قَولِه تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا أنَّ النَّارَ موجودةٌ الآنَ [704] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 348). .
5- قال اللهُ تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ قال ابنُ سِيرينَ: (كان أبو هُريرةَ يأتينا بعدَ صَلاةِ العَصرِ، فيَقولُ: عَرَجَتْ ملائِكةٌ، وهَبَطَت ملائِكةٌ، وعُرِضَ آلُ فِرعَونَ على النَّارِ، فلا يَسمَعُه أحَدٌ إلَّا يَتعوَّذُ باللهِ مِن النَّارِ) [705] يُنظر: ((أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور)) لابن رجب (ص: 42). ويُنظر ما أخرجه اللَّالَكائيُّ (2142)، والبيهقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (396) من طريق ميمونِ ابنِ مَيْسَرةَ عن أبي هريرةَ بنحوِه. .
6- في قَولِه تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا إثباتُ عذابِ القَبرِ [706] يُنظر: ((الرُّوح)) لابن القيم (ص: 75). ؛ لأنَّه يَقتَضي عَرْضَ النَّارِ عليهم غُدُوًّا وعَشِيًّا، وليس المرادُ منه يومَ القيامةِ؛ لأنَّه قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وليس المرادُ منه أيضًا الدُّنيا؛ لأنَّ عَرْضَ النَّارِ عليهم غُدُوًّا وعَشِيًّا ما كان حاصِلًا في الدُّنيا؛ فثَبَت أنَّ هذا العَرْضَ إنَّما حَصَل بعدَ المَوتِ وقبْلَ يومِ القيامةِ، وذلك يدُلُّ على إثباتِ عَذابِ القَبرِ في حَقِّ هؤلاء، وإذ ثَبَت في حَقِّهم ثَبَت في حَقِّ غَيرِهم؛ لأنَّه لا قائِلَ بالفَرقِ [707] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/521). .
7- عذابُ القَبرِ نَوعانِ: نَوعٌ دائِمٌ -سِوى ما ورَدَ في بعضِ الأحاديثِ أنَّه يُخَفَّفُ عنهم ما بيْنَ النَّفخَتَينِ- ويدُلُّ على دَوامِه قَولُه تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، ويدُلُّ عليه أيضًا حَديثُ سَمُرةَ الَّذي رواه البُخاريُّ في رُؤْيا النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وفيه: ((فهو يُفعَلُ به ذلك إلى يَومِ القيامةِ )) [708] أخرجه البخاري (1386). ولفظُه: ((أمَّا الَّذي رأيْتَه يُشَقُّ شِدْقُه، فكذَّابٌ يُحَدِّثُ بالكَذْبةِ، فتُحْمَلُ عنه حتَّى تَبْلُغَ الآفاقَ، فيُصْنَعُ به إلى يومِ القيامةِ، والَّذي رأيْتَه يُشْدَخُ رأسُه، فرجُلٌ عَلَّمه اللهُ القُرآنَ، فنامَ عنه باللَّيلِ ولم يَعْمَلْ فيه بالنَّهارِ، يُفْعَلُ به إلى يومِ القيامةِ)). . والنَّوعُ الثَّاني: إلى مُدَّةٍ ثمَّ يَنقَطِعُ، وهو عذابُ بَعضِ العُصاةِ الَّذين خَفَّت جرائِمُهم، فيُعَذَّبُ بحَسَبِ جُرمِه، ثمَّ يُخَفَّفُ عنه، كما يُعذَّبُ في النَّارِ مُدَّةً، ثمَّ يَزولُ عنه العَذابُ، وقد ينقَطِعُ عنه العذابُ بدُعاءٍ أو صَدَقةٍ أو استِغفارٍ أو ثَوابِ حَجٍّ تَصِلُ إليه مِن بَعضِ أقاربِه أو غَيرِهم [709] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 89). .
8- في قَولِه تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا أنَّ هذا العَرْضَ قبْلَ الحَشرِ؛ إذْ هم بعدَ الحَشرِ إذا دَخَلوها فهم دائِمونَ فيها، مُعَذَّبونَ بسَرمَدِ العَذابِ، كما قال تعالى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر: 36] ، فإنَّما العَرْضُ بالغُدُوِّ والعَشِيِّ على مَن ليس دائِمًا فيها، وقد أكَّدَ ذلك قَولُه تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، فهذا عَذابٌ سِوى العَرضِ، وفي مَحَلٍّ غَيرِ مَحَلِّ العَرْضِ [710] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/53). .
9- قَولُ الله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ استدَلَّ به مَن قال: إنَّ أرواحَ الكُفَّارِ بعدَ مُفارَقةِ البَدَنِ ليس مَقَرُّها النَّارَ [711] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 226). ويُنظر الكلامُ عن مُستقَرِّ الأرواحِ في البرزخ في ((الرُّوح)) لابن القيِّم (ص: 115). .
10- لَفظُ «آلِ فُلانٍ» إذا أُطلِقَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ دَخَلَ فيه فُلانٌ، كما في قَولِه تعالى: أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وقولِه: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33] ، وقولِه: إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر: 34]، ومنه قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اللَّهُمَّ صَلِّ على آلِ أبي أَوْفَى )) [712] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/462). والحديث رواه البخاري (1497)، ومسلم (1078) مِن حديثِ عبدِ الله بنِ أبي أَوْفَى رضي الله عنه. .
11- إذا قيل: إنْ قال الله تعالى في المنافِقينَ: إنَّهم في الدَّرْكِ الأسفَلِ مِن النَّارِ، وقال في آلِ فِرعَونَ: أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، فأيُّهما أشَدُّ عَذابًا: المُنافِقونَ أم آلُ فِرعَونَ؟
والجوابُ: أنَّ الدَّرْكَ الأسْفَلَ يَجوزُ أن يكونَ هو أشَدَّ العَذابِ، فسُمِّيَ باسمَينِ مُختَلِفَينِ، كما يقول القائِلُ: أدخِلْ فُلانًا المُطبِقَ [713] المُطبِقُ: سِجنٌ تحتَ الأرضِ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (26/62). ، ثمَّ يقولُ بعدَ ذلك: أدخِلْه أضْيَقَ المجالِسِ وأشَدَّها، فيكونُ هذا مُوافِقًا للأوَّلِ، غيرَ مُخالِفٍ له [714] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (7/167). .
12- أنَّ تَفاوُتَ أهلِ النَّارِ في العَذابِ هو بحَسَبِ تفاوُتِ أعمالِهم الَّتي دخَلوا بها النَّارَ، فليس عِقابُ مَن تَغلَّظ كُفرُه، وأفسَدَ في الأرضِ، ودعا إلى الكُفرِ: كمَن ليس كذلك؛ قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وقال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] ، وكذلك تَفاوُتُ عذابِ عُصاةِ الموحِّدينَ في النَّارِ بحَسَبِ أعمالِهم؛ فليس عقوبةُ أهلِ الكبائِرِ كعُقوبةِ أصحابِ الصَّغائِرِ، وقد يُخَفَّفُ عن بَعضِهم العذابُ بحَسَناتٍ أُخَرَ له، أو بما شاء اللهُ مِن الأسبابِ [715] يُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 182). .
13- قال الله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ هذا تنبيهٌ على أنَّ فِرعَونَ نَفْسَه في الأشَدِّ مِن ذلك؛ لأنَّهم إنَّما دَخَلوا أشَدَّ العَذابِ تَبَعًا له؛ فإنَّه هو الَّذي استخَفَّهم فأطاعوه، وغَرَّهم فاتَّبَعوه؛ ولهذا يكونُ يومَ القيامةِ إمامَهم وفَرَطَهم [716] أي: مُتقدِّمَهم وسابقَهم، والفَرَطُ والفارِطُ هو الَّذي يَسبِقُ القَومَ إلى الماءِ لِيُصلِحَ لهم الحِياضَ والدِّلاءَ ونحوَها حتَّى يَرِدُوا فيَشرَبوا. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطَّابي (3/2274)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سِيدَه (9/154)، ((شرح النووي على مسلم)) (15/53). في هذا الوِردِ؛ قال تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98] . والمقصودُ: أنَّهم استَحَقُّوا أشَدَّ العذابِ؛ لِغِلَظِ كُفرِهم، وصَدِّهم عن سَبيلِ اللهِ، وعُقوبتِهم مَنْ آمَنَ باللهِ [717] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 409). قال البقاعي: (وإذا كان هذا لآلِه لِأَجْلِه؛ كان له أعظَمُ منه مِن بابِ الأَوْلى). ((نظم الدرر)) (17/82). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ أعاد نِداءَهم، وعُطِفَت حِكايتُه بواوِ العطْفِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ نِداءَه اشتمَلَ على ما يَقْتضي في لُغتِهم أنَّ الكلامَ قد تَخطَّى مِن غرَضٍ إلى غرَضٍ، وأنَّه سيَطْرُقُ ما يُغايِرُ أوَّلَ كَلامِه مُغايرةً ما تُشبِهُ مُغايرةَ المتعاطفَينِ في لُغةِ العرَبِ، وأنَّه سيَرْتَقي باستِدراجِهم في دَرَجِ الاستِدلالِ إلى المقصودِ بعْدَ المقدِّماتِ؛ فانتقَلَ هنا إلى أنْ أنكَرَ عليهم شيئًا جَرى منهم نحوه؛ وهو أنَّهم أعْقَبوا مَوعظتَه إيَّاهم بدَعوتِه للإقلاعِ عن ذلك، وأنْ يَتمسَّكَ بدِينِهم، وهذا شَيءٌ مَطْويٌّ في خِلالِ القصَّةِ دلَّتْ عليه حِكايةُ إنكارِه عليهم، وهو كلامُ آيِسٍ مِنِ استِجابتِهم؛ لقولِه فيه: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غافر: 44] ، ومُتوقِّعٍ أذاهم؛ لقولِه: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غافر: 44] ، ولقولِه تعالى آخِرَ القصَّةِ: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر: 45] ، فصرَّحَ هنا وبيَّن بأنَّه لم يَزَلْ يَدعوهم إلى اتِّباعِ ما جاء به مُوسى، وفي اتِّباعِه النَّجاةُ مِن عَذابِ الآخرةِ [718] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/151، 152). .
- وقيل: قد جِيءَ بالواوِ في النِّداءِ الثَّالثِ وَيَا قَوْمِ خِلافًا للنِّداءِ الثَّاني؛ لأنَّ النِّداءَ الثَّانيَ بمنزلةِ بَيانٍ للأوَّلِ وتَفسيرٍ له، فأُعطِيَ حُكمَه في عَدَمِ دُخولِ الواوِ عليه، وأمَّا الثَّالثُ فداخلٌ على كَلامٍ ليس بتلك المنزلةِ [719] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/168، 169)، ((تفسير البيضاوي)) (5/58)، ((تفسير أبي حيان)) (9/258)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/494). .
- وتَكريرُ نِدائِهم فيه زِيادةُ تَنبيهٍ لهم، وإيقاظٌ عن سِنَةِ الغَفلةِ. وفيه أنَّهم قَومُه وعَشيرتُه، وهمْ فيما يُوبِقُهم، وهو يَعلَمُ وَجْهَ خَلاصِهم، ونَصيحتُهم عليه واجبةٌ، فهو يَتحزَّنُ لهم ويَتلطَّفُ بهم، ويَسْتدعي ذلك ألَّا يَتَّهِموه؛ فإنَّ سُرورَهم سُرورُه، وغَمَّهم غَمُّه، ويَنزِلوا على تَنصيحِه لهم [720] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/168، 169)، ((تفسير البيضاوي)) (5/58)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/516)، ((تفسير أبي السعود)) (7/277)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/494). .
- والاستِفهامُ في مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ استِفهامٌ تَعجُّبيٌّ؛ فإنَّه يَعجَبُ مِن دَعوتِهم إيَّاه لِدِينِهم، مع ما رَأَوْا مِن حِرْصِه على نُصْحِهم، ودَعوتِهم إلى النَّجاةِ، وما أتاهم به مِن الدَّلائلِ على صِحَّةِ دَعوتِه، وبُطلانِ دَعوتِهم [721] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/260)، ((تفسير أبي السعود)) (7/277)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/152). .
2- قولُه تعالَى: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ
- جُملةُ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ ... بَيانٌ لِجُملةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؛ لأنَّ الدَّعوةَ إلى النَّارِ أمْرٌ مُجمَلٌ مُستغرَبٌ، فبَيَّنه ببَيانِ أنَّهم يَدْعونه إلى التَّلبُّسِ بالأسبابِ الموجِبةِ عَذابَ النَّارِ، والمعنى: تَدْعونني للكفْرِ باللهِ، وإشراكِ ما لا أعلَمُ مع اللهِ في الإلهيَّةِ، ومعنى مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما ليس لي بصِحَّتِه أو بوُجودِه عِلمٌ، والكلامُ كِنايةٌ عن كَونِه يَعلَمُ أنَّها ليستْ آلهةً بطَريقِ الكِنايةِ بنَفْيِ اللَّازمِ عن نَفْيِ الملزومِ، وفيه إشعارٌ بأنَّ الأُلوهيَّةَ لا بُدَّ لها مِن بُرهانٍ يُوجِبُ العِلمَ بها؛ فاعتِقادُها لا يصِحُّ إلَّا عن إيقانٍ، وعُطِفَ عليه وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ؛ فكان بَيانًا لِمُجمَلِ جُملةِ أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ [722] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/58، 59)، ((تفسير أبي السعود)) (7/277، 278)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/153). .
- وجاء في حقِّهم بالجُملةِ الفِعليَّةِ وَتَدْعُونَنِي الَّتي لا تَقْتضي تَوكيدًا؛ إذ دَعوتُهم باطلةٌ لا ثُبوتَ لها فتُؤكَّدَ [723] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/260). .
- وإبرازُ ضَميرِ المتكلِّمِ في قولِه: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ؛ لإفادةِ تَقَوِّي الخبَرِ بتَقديمِ المُسنَدِ إليه على خَبَرِه الفِعليِّ [724] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/153). .
- وأوصَلَ سَببَ دُعائِهم بمُسَبَّبِه، وهو الكُفرُ والنَّارُ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وأخَّرَ سبَبَ مُسبَّبِه وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ؛ لِيَكونَ افتِتاحُ كَلامِه واختِتامُه بما يَدْعو إلى الخَيرِ [725] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/260). .
- وعُدِلَ عن اسمِ الجَلالةِ إلى الصِّفتَينِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ؛ لإدماجِ الاستِدلالِ على استِحقاقِه تعالى الإفرادَ بالإلهيَّةِ والعِبادةِ، بوَصْفِه العزيزِ؛ لأنَّه لا تَنالُه النَّاسُ، بخِلافِ أصنامِهم؛ فإنَّها ذَليلةٌ تُوضَعُ على الأرضِ، ويَلتصِقُ بها القَتامُ -أي: الغُبارُ- وتُلوِّثُها الطُّيورُ بذَرْقِها [726] الذَّرقُ مِنَ الطَّائِرِ كالتَّغَوُّطِ مِن الإنسانِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/208). ، ولإدماجِ تَرغيبِهم في الإقلاعِ عن الشِّركِ بأنَّ الموحَّدَ بالإلهيَّةِ يَغفِرُ لهم ما سلَفَ مِن شِرْكِهم به؛ حتَّى لا يَيْئسوا مِن عَفْوِه بعْدَ أنْ أساؤُوا إليه [727] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/154). .
- وبدأ هنا باسمِ العَزيزِ؛ لأنَّ المقامَ يَقتَضيه؛ إذ إنَّ هؤلاء أقباطٌ مِن آلِ فِرعَونَ يَظُنُّونَ أنَّ العِزَّةَ لهم، ولم يَقُلْ: (إلى الغَفورِ الرَّحيمِ)، بل قال: إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، يعني: العزيزَ الغالِبَ، فيُهلِكُكم إذا أنتم كفَرْتُم به أو أشركْتُم به؛ الْغَفَّارِ يَغفِرُ لكم ما سَبَق إن أنتم آمَنْتُم به، وهذا مِن تمامِ فِقهِ هذا الرَّجُلِ المؤمِنِ؛ فالمقامُ يَقتَضي ذِكرَ اسمِه العزيزِ؛ لأنَّ هؤلاء يَدَّعُونَ أنَّهم فوقَ النَّاسِ، وأنَّ رَبَّهم فِرعَونُ، وأنَّه لا غالِبَ له [728] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 325). !
3- قولُه تعالَى: لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
- قولُه: لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ... واقِعٌ مَوقِعَ التَّعليلِ لِجُملَتَيْ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؛ لأنَّه إذا تَحقَّقَ أنْ لا دَعوةَ للأصنامِ في الدُّنيا بدَليلِ المشاهَدةِ، ولا في الآخرةِ بدَلالةِ الفَحْوى؛ فقدْ تَحقَّق أنَّها لا تُنْجي أتْباعَها في الدُّنيا، ولا يُفِيدُهم دُعاؤُها ولا نِداؤُها، وتَحقَّقَ إذَنْ أنَّ المرْجُوَّ للإنعامِ في الدُّنيا والآخرةِ هو الرَّبُّ الَّذي يَدْعوهم هو إليه، وهذا دَليلٌ إقناعيٌّ غيرُ قاطعٍ للمُنازِعِ في إلهيَّةِ ربِّ هذا المؤمِنِ، ولكنَّه أراد إقْناعَهم، واستَحْفَظَهم دَليلَه؛ لأنَّهم سيَظهَرُ لهم قَريبًا أنَّ ربَّ مُوسى له دَعوةٌ في الدُّنيا؛ ثِقةً منه بأنَّهم سيَرَون انتصارَ مُوسى على فِرعونَ، ويَرَونَ صَرْفَ فِرعونَ عن قتْلِ مُوسى بعْدَ عَزْمِه عليه، فيَعلَمون أنَّ الَّذي دَعا إليه مُوسى هو المُتصرِّفُ في الدُّنيا، فيَعلَمون أنَّه المُتصرِّفُ في الآخرةِ [729] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/154، 155). .
- وفِعلُ الدَّعوةِ (دعا) إذا رُبِطَ بمُتعلَّقٍ غَيرِ مَفعولِه يُعدَّى تارةً باللَّامِ، وهو الأكثرُ في الكلامِ، ويُعدَّى بحَرْفِ (إلى)، وهو الأكثَرُ في القرآنِ؛ لِمَا يَشتمِلُ عليه مِن الاعتباراتِ؛ ولذلك عُلِّقَ به مَعمولُه في هذه الآياتِ أربَعَ مرَّاتٍ بـ (إلى) ومرَّةً باللَّامِ، مع ما في رَبْطِ فِعلِ الدَّعوةِ بمُتعلَّقِه -الَّذي هو مِن المَعنويَّاتِ- مِن مُناسَبةِ لامِ التَّعليلِ، مِثلُ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ، ورَبْطِه بما هو ذاتٌ بحَرْفِ (إلى) في قولِه: أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ؛ فإنَّ النَّجاةَ هي نَجاةٌ مِن النَّارِ؛ فهي نَجاةٌ مِن أمْرٍ مَحسوسٍ، وقولِه: وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، وقولِه: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ولَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ؛ لأنَّ حرْفَ (إلى) دالٌّ على الانتهاءِ؛ لأنَّ الَّذي يَدْعو أحدًا إلى شَيءٍ إنَّما يَدْعوه إلى أنْ يَنتهِيَ إليه، فالدُّعاءُ إلى اللهِ الدُّعاءُ إلى تَوحيدِهِ؛ فشُبِّهَ بشَيءٍ مَحسوسٍ تَشبيهَ المعقولِ بالمحسوسِ، وشُبِّهَ اعتقادُه صِحَّتَه بالوُصولِ إلى الشَّيءِ المَسْعيِّ إليه، وشُبِّهَت الدَّعوةُ إليه بالدَّلالةِ على الشَّيءِ المرغوبِ الوصولُ إليه [730] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/153). .
- قولُه: وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ عطْفٌ على قولِه: لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ عطْفَ اللَّازمِ على مَلزومِه؛ لأنَّه إذا تبيَّن أنَّ ربَّ مُوسى المُسمَّى (الله) هو الَّذي له الدَّعوةُ، تبيَّن أنَّ المَرَدَّ -أي: المصيرَ- إلى الله؛ في الدُّنيا بالالتِجاءِ والاستِنصارِ، وفي الآخرةِ بالحُكْمِ والجزاءِ، ولو عُطِفَ مَضمونُ هذه الجُملةِ بالفاءِ المفيدةِ للتَّفريعِ لَكانت حَقيقةً بها، ولكنْ عُدِلَ عن ذلك إلى عطْفِها بالواوِ؛ اهتِمامًا بشَأْنِها؛ لِتَكونَ مُستقِلَّةَ الدَّلالةِ بنفْسِها، غيرَ باحثٍ سامِعُها على ما تَرتبِطُ به؛ لأنَّ الشَّيءَ المُتفرِّعَ على شَيءٍ يُعتبَرُ تابِعًا له. وكذلك جُملةُ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ بالنِّسبةِ إلى تَفرُّعِ مَضمونِها على مَضمونِ جُملةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ؛ لأنَّه إذا كان المصيرُ إليه كان الحُكْمُ والجزاءُ بيْن الصَّائرينَ إليه مِن مُثابٍ ومُعاقَبٍ، فيَتعيَّنُ أنَّ المعاقَبَ هم الكافرونَ باللهِ [731] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/155). .
- وتَعريفُ الْمُسْرِفِينَ تَعريفُ الجنْسِ المُفيدِ للاستِغراقِ، وهو تَعريضٌ بالَّذين يُخاطِبُهم؛ إذ هم مُسرِفون على كلِّ تَقديرٍ؛ فهمْ مُسرِفون في إفراطِ كُفْرِهم بالرَّبِّ الَّذي دعا إليه مُوسى، ومُسرِفون فيما يَسْتتبِعُ ذلك مِن المعاصي والجرائمِ؛ فضَميرُ الفصْلِ في قولِه: هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ يُفِيدُ قصْرًا ادِّعائيًّا [732] القصرُ الادِّعائي: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاء والمبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزلةَ العدَمِ، وقصْرُ الشيء على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/6)، ((عروس الأفراح)) للسبكي (1/394)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/524، 545). ويُنظر ما تقدم (ص: 91). ؛ لأنَّهم المُتناهُون في صُحبةِ النَّارِ بسَببِ الخُلودِ، بخِلافِ عُصاةِ المؤمنينَ [733] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/155، 156). .
4- قولُه تعالَى: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ختَمَ المؤمنُ كَلامَه بخاتمةٍ لَطيفةٍ تُوجِبُ التَّخويفَ والتَّهديدَ، وهي قولُه: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ، أي: إذا حلَّ بكم عِقابُ اللهِ، وهذا الكلامُ مُتارَكةٌ لِقَومِه، وتَنهيةٌ لِخِطابِه إيَّاهم، ولَعلَّه استَشْعَرَ مِن مَلامحِهم أو مِن مُقاطعتِهم كَلامَه بعباراتِ الإنكارِ، ما أيْأَسَه مِن تَأثُّرِهم بكَلامِه، فتَحدَّاهم بأنَّهم إنْ أعْرَضوا عن الانتِصاحِ لِنُصْحِه، سيَنْدَمون حينَ يَرَونَ العذابَ؛ إمَّا في الدُّنيا، كما اقتضاهُ تَهديدُه لهم بقولِه: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ [غافر: 30] ، أو في الآخرةِ، كما اقتضاهُ قولُه: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر: 32] ؛ فالفاءُ تَفريعٌ على جُملةِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [734] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/261)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/156). [غافر: 41] .
- وقولُه: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ عطْفٌ على جُملةِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، ومَساقُ هذه الجُملةِ مَساقُ الانتِصافِ منهم؛ لِمَا أظْهَروه له مِن الشَّرِّ، يعني: أنِّي أَكِلُ شَأْني وشَأْنَكم معي إلى قَضاءِ اللهِ وقدَرِه، لا إليكمْ ولا إلى أصنامِكم؛ فهو يَجْزي كلَّ فاعلٍ بما فَعَل، وهذا كَلامُ مُنصِفٍ؛ فالمُرادُ بـ أَمْرِي شأْني ومُهِمِّي، ويدُلُّ لمعنى الانتِصافِ تَعقيبُه بما يُوجِبُ تَفويضَ الأمْرِ للهِ بقولِه: إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، مُعلِّلًا تَفويضَ أمْرِه معهم إلى اللهِ بأنَّ اللهَ بصيرٌ بجَميعِ العِبادِ؛ فعُمومُ (العِبادِ) شَمِلَه وشَمِلَ خُصومَه [735] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/261)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/156، 157). .
- وختَمَ كَلامَه بجُملةٍ اسميَّةٍ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ؛ لِيَكونَ أبلَغَ في تَوكيدِ الأخبارِ [736] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/260). .
5- قولُه تعالَى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ
- تَفريعُ فَوَقَاهُ اللَّهُ مُؤذِنٌ بأنَّهم أضْمَروا مَكرًا بمُؤمنِ آلِ فِرعونَ، وتَسميتُه مَكْرًا مُؤذِنٌ بأنَّهم لم يُشعِروه به، وأنَّ اللهَ تَكفَّلَ بوقايتِه؛ لأنَّه فوَّضَ أمْرَه إليه [737] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/157). .
- قولُه: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا (ما) مَصدريَّةٌ، والمعنى: سَيِّئاتِ مَكْرِهم. وإضافةُ سَيِّئَاتِ إلى (مَكْر) إضافةٌ بَيانيَّةٌ، وهي هنا في قوَّةِ إضافةِ الصِّفةِ إلى المَوصوفِ؛ لأنَّ المكْرَ سيِّئٌ، وإنَّما جُمِعَ السَّيِّئاتُ باعتبارِ تَعدُّدِ أنواعِ مَكْرِهم الَّتي بَيَّتُوها [738] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/157). .
- قولُه: وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ أي: بفِرعونَ وقَومِه، وعَدمُ التَّصريحِ به؛ للاستِغناءِ بذِكرِهم عن ذِكرِه؛ ضرورةَ أنَّه أَولَى منهم بذلك [739] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/278). .
- والعذابُ هنا: الغرَقُ -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، ومُناسَبةُ فِعلِ (حاق) لذلك العذابِ أنَّه ممَّا يَحيقُ على الحقيقةِ [740] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/157، 158). .
6- قولُه تعالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ
- قولُه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا استِئنافٌ مَسوقٌ لِبَيانِ كيفيَّةِ سُوءِ العذابِ [741] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/170)، ((تفسير أبي السعود)) (7/278). .
- وقولُه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا فيه تَعظيمٌ للنَّارِ، وتَهويلٌ مِن عذابِها [742] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/170). وذلك على أنَّ قولَه: النَّارُ مبتدأٌ، وجملةَ: يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا خبرُه، والجملةَ تفسيرٌ لقولِه تعالى: وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ففي هذا الوجهِ تعظيمُ أمرِ النَّارِ، وتهويلُ عذابِها، ومنشأُ التعظيمِ: الإجمالُ، والتفسيرُ في كيفيةِ تعذيبِهم، وإفادةُ كلٍّ مِن الجملتينِ نوعًا مِن التَّهويلِ؛ الأُولى: الإحاطةُ بعذابٍ يستحِقُّ أنْ يسمَّى (سوءَ العذابِ). والثانيةُ: النَّارُ المعروضُ عليها غدوًّا وعشيًّا. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (12/325). .
- وقوله: غُدُوًّا وَعَشِيًّا قيل: هو كِنايةٌ عن الدَّوامِ؛ لأنَّ الزَّمانِ لا يَخْلو عن هذَينِ الوقتَينِ، وقيل: ذِكرُ الوقتَينِ يَحتمِلُ التَّخصيصَ [743] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/59)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/158). .
- وقولُه: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ذِكرٌ لِعَذابِ الآخرةِ الخالدِ، وقيل: عُلِمَ مِن عَذابِ آلِ فِرعونَ أنَّ فِرعونَ داخلٌ في ذلك العذابِ بدَلالةِ الفَحْوى [744] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/159). وفحْوَى الخطابِ -ويُسمَّى تنبيهَ الخطابِ، ومفهومَ الموافقةِ-: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطريقِ الأَولَى، كقولِه تعالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فيه تنبيهٌ على النَّهيِ عن ضربِهما وسَبِّهما؛ لأنَّ الضَّربَ والسَّبَّ أعظَمُ مِن التَّافيفِ، وكذلك قولُه تعالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] ، فيه تنبيهٌ على أنَّه يُؤدِّي ما كان دونَ القِنطارِ، ففي هذه الآيةِ نَبَّه بالأعلَى على الأدنَى، وفي الآيةِ الأُولى نَبَّه بالأدنَى على الأعلَى. يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/233)، ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 163). .