موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (37-40)

ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ

غريب الكلمات:

تَأْوِيلُهُ: أي: عاقِبتُه، وما يَؤُولُ إليه، ووقوعُ ما أخبَر به، وأصلُ (أول) هنا: يدُلُّ على انتِهاءِ الأمرِ [539] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 197)، ((تفسير ابن جرير)) (15/93)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/158). .
عَاقِبَةُ: عاقبةُ كلِّ شىءٍ: آخرُه، أو: ما يُؤدِّي إليه السببُ المتقدِّمُ، والعاقبةُ تختصُّ بالثوابِ إذا أُطْلِقتْ، وقد تُستعمَلُ في العقوبةِ إذا أُضيفَتْ، وأصلُ (عقب): تأخيرُ شيءٍ، وإتيانُه بعدَ غيرِه [540] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/257)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 575)، ((تفسير القرطبي)) (8/365)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
أَنْ يُفْتَرَى: مَصدرٌ مُؤوَّلٌ في محَلِّ نَصبٍ، خَبرُ كان، أي: وما كان هذا القُرآنُ افتِراءً، والمَصدرُ هنا بمعنى المَفعولِ، أي: مُفتَرًى. وَلَكِنْ تَصْدِيقَ: تصديقَ منصوبٌ، خبَرُ (كان) الـمحذوفةِ هي واسمُها، والتقديرُ: ولكِنْ كان تَصديقَ، أو منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ مِن أجلِه لفِعل مقدَّرٍ، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يُفتَرَى، ولكن أُنزِلَ للتَّصديقِ، والجُملةُ معطوفةٌ بـ (الواو) على ما قَبْلَها [541] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/346)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/675)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/201-202). قال ابنُ هشامٍ: (ما بعد (لكن) ليس معطوفًا بها؛ لدُخولِ الواو عليها، ولا بالواوِ؛ لأنَّه مُثبَتٌ وما قبلها منفيٌّ، ولا يُعطَفُ بالواو مُفرَدٌ على مُفرَدٍ إلَّا وهو شريكُه في النَّفيِ والإثباتِ، فإذا قُدِّرَ ما بعد الواوِ جُملةً صحَّ تَخالُفُهما، كما تقولُ: ما قام زيدٌ وقام عمرٌو). يُنظر: ((مغني اللبيب)) (ص: 790). .

المعنى الإجمالي:

يُبَيِّنُ تعالى أنَّه لا يُمكِنُ أن يكونَ هذا القرآنُ مَكذوبًا، يأتي به أحَدٌ غيرُ اللهِ تعالى، ولكِنْ أنزَلَه اللهُ مُصَدِّقًا للكتُبِ السَّابقةِ المُنَزَّلةِ على أنبيائِه، وتِبيانًا لِمَا كتَبَه اللهُ على هذه الأمَّةِ مِن الفرائِضِ والأحكامِ، والعقائِدِ والأخبارِ، لا شَكَّ في أنَّه مِن رَبِّ العالَمينَ.
أم يقولُ المُشرِكونَ: اختلقَ مُحمَّدٌ القُرآنَ، فأمرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنْ كنتُ قد افتَرَيتُه- كما تزعمونَ- فأْتُوا بسُورةٍ واحدةٍ مِثلِ القُرآنِ؛ فأنتم عَرَبٌ مِثلي، وادعُوا مَن قَدَرتُم أن تَدْعُوه؛ لِيُعينَكم على المجيءِ بسُورةٍ مِثلِ سُوَرِ القرآنِ، إنْ كُنتُم صادقينَ في دعواكم أنِّي افتَرَيتُه.
بل كذَّبَ المُشرِكونَ بالقُرآنِ الذي لم يُحيطُوا بعِلمِ ما فيه، وقبل أن يقَعَ ما أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه آتيهم، مِن العُقوبةِ التي توعَّدَهم اللهُ بها على تكذيبِهم بالقُرآنِ، كذلك كذَّبَ اللهَ مَن قَبلَهم، فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- كيف كانت نهايةُ المُكَذِّبينَ بآياتِ اللهِ مِن الأُمَمِ الماضيةِ.
ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ مِن المُشرِكينَ مَن سيُؤمِنُ بالقُرآنِ، ويتوبُ مِن الكُفرِ، ومنهم من لا يؤمِنُ به، وسيبقَى على كُفرِه حتى يموتَ، وربُّك- يا مُحمَّدُ- أعلَمُ بالمُفسِدينَ.

تفسير الآيات:

وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لما فرَغ سبحانَه مِن دلائلِ التوحيدِ وحُجَجِه؛ شرَع في تثبيتِ أمرِ النبوَّةِ [542]  يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/506). .
وأيضًا لَمَّا تقدَّم قولُهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ وكان مِن قَوْلِهم: (إنَّه افْتَراه)؛ قال تعالَى [543] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/57). :
وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ.
أي: ما يَنْبغي لهذا القرآنِ أن يختلِقَه أحدٌ مِن الخلقِ على الله، ولا يمكنُ أن يكونَ إِلَّا مِن عندِ اللَّهِ [544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/181، 182)، ((البسيط)) للواحدي (11/199)، ((تفسير ابن عطية)) (3/120)، ((تفسير ابن كثير)) (4/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/168). .
وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
أي: ولكِنْ أنزَلَه الله مُصَدِّقًا للكتُبِ السَّابقةِ التي أنزَلَها على أنبيائِه [545] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/182)، ((البسيط)) للواحدي (11/199، 200)، ((تفسير ابن عطية)) (3/120)، ((تفسير أبي حيان)) (6/57)، ((تفسير ابن كثير)) (4/268)، ((تفسير أبي السعود)) (4/145)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/169). قال السَّعدي: (أنزَلَه تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِن كُتُبِ اللهِ السَّماويَّةِ، بأنْ وافَقَها، وصَدَّقَها بما شَهِدَت به، وبشَّرَت بنزولِه، فوقع كما أخبَرَت). ((تفسير السعدي)) (ص: 364). وقال ابنُ عاشور: (وَتَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ كونُه مُصَدِّقًا للكتُبِ السَّالفةِ، أي، مُبَيِّنًا للصادقِ منها، ومُميِّزًا له عمَّا زِيدَ فيها، وأُسيءَ مِن تأويلِها، كما قال تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ... وأيضًا هو مُصَدَّقٌ (بفتح الدال) بشَهادةِ الكتُبِ السَّالفةِ فيما أخذَتْ مِن العَهدِ على أصحابِها أن يؤمِنوا بالرَّسولِ الذي يجيءُ مُصَدِّقًا وخاتَمًا، فالوصفُ بالمَصدرِ صالحٌ للأمرينِ؛ لأنَّ المَصدرَ يقتَضي فاعلًا ومفعولًا). ((تفسير ابن عاشور)) (11/169). .
كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] .
وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ.
أي: وتبيانًا لِما كتَبَه اللهُ على أُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الفرائِضِ والأحكامِ، والعقائِدِ والأخبارِ [546] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/182)، ((البسيط)) للواحدي (11/201)، ((تفسير ابن كثير)) (4/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364). وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، وابنُ كثيرٍ، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ أنَّ القُرآنَ مُبيِّنٌ لِما جاء في الكتُبِ السَّابقةِ. وممَّن اختار هذا المعنى: القرطبيُّ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/344)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/169). .
كما قال تعالى: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111] .
وقال سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ.
أي: لا شكَّ في أنَّ القُرآنَ مِن عندِ اللهِ رَبِّ العالَمينَ [547] قال السعدي: (تنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ الذي ربَّى جميعَ الخَلقِ بنِعَمِه، ومِن أعظَمِ أنواعِ تَربيتِه أنْ أنزَلَ عليهم هذا الكتابَ الذي فيه مصالِحُهم الدينيَّةُ والدُّنيويَّةُ، المُشتَمِلَ على مكارِمِ الأخلاقِ ومحاسِنِ الأعمالِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 364). وليس كلامَ غَيرِه [548] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/182)، ((البسيط)) للواحدي (11/200)، ((تفسير ابن كثير)) (4/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/169). .
كما قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] .
وقال سُبحانه: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 2] .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نفى اللهُ تعالى أن يكونَ القُرآنُ مُفتَرًى، بل جاء مُصَدِّقًا لِما بين يَدَيه من الكُتُبِ، وبيانًا لِما فيها؛ ذكَرَ هنا أعظَمَ دَليلٍ على أنَّه مِن عندِ الله، وأقام البرهانَ القاطعَ على ذلك ، وهو الإعجازُ الذي اشتمَلَ عليه، فتحدَّى جميعَ الخلقِ بسورةٍ واحدةٍ مثلِه، فأبطلَ بذلك دعواهم افتراءَه [549] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/58)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/156). .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.
أي: أم [550] اختُلِف في المرادِ بـ (أم) فقِيل: هي المتضمنةُ معنَى (بل)، والهمزةِ، أي: بل أيقولونَ. وقيل: (أم) هذه بمنزلةِ همزةِ الاستفهامِ، وقيل: (أم) هي المعادلةُ للهمزةِ، وحُذِفت الجملةُ قبلَها، والتقديرُ: أيُقِرُّون به أم يقولون: افتراه. وقِيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير أبي حيان) (6/58)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/204). يقولُ المُشرِكونَ المُكَذِّبونَ: اختلَقَ مُحمَّدٌ القُرآنَ مِن نَفسِه، وكذَبَ على اللهِ [551] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/182)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/21)، ((البسيط)) للواحدي (11/201)، ((تفسير أبي حيان)) (6/58)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364). ؟!
قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ.
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنْ كنتُ قد افتَرَيتُ هذا القُرآنَ- كما تَزعُمونَ- فأنتم عرَبٌ مِثلي، فأْتُوا بسُورةٍ واحدةٍ مِن جِنسِ القُرآنِ [552] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/182، 183)، ((تفسير ابن عطية)) (3/121)، ((تفسير ابن كثير)) (4/269)، ((تفسير أبي حيان)) (6/58)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364). قال ابنُ عطيةَ: (الضَّميرُ عائِدٌ على القُرآنِ المتَقَدِّمِ الذِّكرِ، كأنَّه قال: فأْتُوا بسورةٍ مِثلِ القُرآنِ، أي: في معانيه وألفاظِه). ((تفسير ابن عطية)) (3/121).
كما قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 23، 24].
وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
أي: وادْعُوا- أيُّها المُشرِكونَ- مَن قَدَرتُم أن تَدْعُوه مِن شُرَكائِكم وأولِيائِكم؛ لِيُعينوكم على المجيءِ بسُورةٍ واحدةٍ مِثلِ سُوَرِ القُرآنِ، إن كُنتُم صادِقينَ في زَعمِكم أنِّي افتريتُ القُرآنَ [553] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/183، 184)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/170). .
كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88].
بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى مجموعَ الدَّلائِلِ التي في إثباتِ أنَّ القُرآنَ مُعجِزٌ، ذكَرَ السَّبَبَ الذي لأجْلِه كذَّبُوا القُرآنَ [554] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/255). .
وأيضًا لَمَّا أقام اللهُ تعالى الدَّليلَ على أنَّ القُرآنَ كلامُه، وكان الدَّليلُ إنَّما مِن شَأنِه أن يُقامَ على مَن عَرَض له غَلَطٌ أو شُبهةٌ، وكان قَولُ الكافرينَ افْتَرَاهُ لا عن شُبهةٍ، وإنَّما هو مجَرَّدُ عِنادٍ- نبَّه سُبحانه على ذلك، وعلى أنَّه إنَّما أقام الدَّليلَ لإظهارِ عِنادِهم، لا لأنَّ عِندَهم شُبهةً في كونِه حَقًّا، بالإضرابِ عَن قَولِهم [555] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/124). ، فقال تعالى:
بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ.
أي: بل كذَّب المُشرِكونَ بالقُرآنِ الذي لم يُحيطوا بعِلمِ ما فيه مِنَ الحَقِّ، ولم يَفهَموه [556] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/202)، ((تفسير القرطبي)) (8/345)، ((تفسير ابن كثير)) (4/270)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/172). .
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 84] .
وقال سبحانه: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: 11] .
وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.
أي: ولَمْ يأتِهم بعدُ حَقيقةُ ما وُعِدوا في الكِتابِ، بما يَؤُولُ إليه أمْرُهم مِن العُقوبةِ، ونزولِ العذابِ [557] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/184)، ((البسيط)) للواحدي (11/202، 203)، ((تفسير القرطبي)) (8/345)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/282، 283، 313) و (17/370)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/172، 173). قال القرطبي: (قولُه: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي: ولم يأتِهم حقيقةُ عاقبةِ التَّكذيبِ مِن نُزولِ العذابِ بهم. أو كذَّبوا بما في القُرآنِ مِن ذِكرِ البَعثِ والجنَّةِ والنَّارِ، ولم يأتِهم تأويلُه، أي: حقيقةُ ما وُعِدوا في الكتابِ. قاله الضحَّاكُ). ((تفسير القرطبي)) (8/345). قال ابنُ عاشورٍ: (والتَّأويلُ الَّذي في هذه الآيةِ يَحْتَمِلُ المعنيينِ ولعلَّ كِلَيْهما مرادٌ، أي لَمَّا يأتِهم تأويلُ مَا يدَّعونَ أَنَّهم لم يفهموه مِن معاني القرآنِ؛ لعدمِ اعتيادِهم بمعرفةِ أمثالِها، مثلَ حكمةِ التَّشريعِ، ووقوعِ البعثِ، وتفضيلِ ضعفاءِ المؤمنينَ على صناديدِ الكافرينَ، وتنزيلِ القرآنِ مُنَجَّمًا، ونحوِ ذلك. فهم كانوا يعتبرونَ الأمورَ بما ألِفوه في المحسوساتِ، وكانوا يقيسون الغائِبَ على الشَّاهدِ، فكذَّبوا بذلك وأمثالِه قبلَ أن يأتِيَهم تأويلُه. ولو آمنوا ولازموا النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم لعَلِموها واحدةً بعدَ واحدةٍ. وأيضًا لَمَّا يَأْتِهم تأويلُ ما حَسِبُوا عدمَ التَّعجيلِ به دليلًا على الكذبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (11/172، 173). .
كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف: 53] .
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.
أي: كما كذَّب المُشرِكونَ بالحَقِّ، كذلك كذَّبَ المُشرِكونَ مِن الأُمَم الماضيةِ بالحَقِّ الذي جاءَهم مِن اللهِ تعالى [558] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/184)، ((تفسير القرطبي)) (8/345)، ((تفسير ابن كثير)) (4/270). .
كما قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [فاطر: 25- 26] .
فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.
أي: فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- كيف كانت نهايةُ المكذِّبينَ بآياتِ اللهِ مِن الأُمَمِ الماضية؛ أهلَكْناهم، وسنُهلِكُ كذلك الظَّالِمينَ المكَذِّبينَ مِن هذه الأمَّةِ، فلا تحسبَنَّهم يُفلِتونَ منَّا [559] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/184)، ((تفسير القرطبي)) (8/345)، ((تفسير ابن كثير)) (4/270)، ((تفسير السعدي)) (ص: 364)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/173، 174). وممن صرَّح بأنَّ الخطابَ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ابنُ جريرٍ وابنُ عاشورٍ. قال الخازن: (وقيل: يحتمِلُ أن يكونَ الخِطابُ لكُلِّ فَردٍ مِن النَّاسِ، والمعنى: فانظُرْ- أيُّها الإنسانُ- كيف كان عاقِبةُ مَن ظلَمَ، فاحذَرْ أن تفعَلَ مِثلَ فِعلِه). ((تفسير الخازن)) (2/444). .
كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .
وقال سُبحانه: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 16 - 19] .
وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ الله تعالى تكذيبَ مُشرِكي قُريشٍ، كان ذلك ربَّما أيأسَ مِن إذعانِهم وتَصديقِهم، وآذَنَ باستئصالِهم لِتَكمُلَ المُشابهةُ للأوَّلينَ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شديدَ الشَّفَقةِ عليهم، والحِرصِ على إيمانِهم، فأتبَعَه تعالى بقَولِه هذا؛ بيانًا لأنَّ عِلمَه بانقسامِهم أوجَبَ عدَمَ استئصالِهم [560] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/126). .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ تعالى في الآياتِ السَّابقةِ حالَ مُشرِكي قُرَيشٍ في اتِّهامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بافتراءِ القُرآنِ، وبتكذيبِهم بوَعيدِه لهم؛ بَيَّنَ في هاتينِ الآيتينِ أقسامَ هؤلاءِ القَومِ في تَكذيبِهم ومُستقبَلِ أمْرِهم، أو حالِهم ومُستقبَلِهم في الإيمانِ، وفي عَمَلِ المكَذِّبينَ بمُقتَضى تكذيبِهم، وعَمَلِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمُقتَضى رسالتِه إلى أنْ يأتيَ أمرُ اللهِ فيهم [561] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/312). .
وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ.
أي: ومِنَ المُشرِكينَ مَن سَيُؤمِنُ بالقُرآنِ، ويتوبُ مِن الكُفرِ، ومِنهم مَن لا يُؤمِنُ بالقُرآنِ أبدًا، ويستمِرُّ على كُفرِه حتى يموتَ [562] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/184)، ((البسيط)) للواحدي (11/204)، ((تفسير أبي حيان)) (6/61)، ((تفسير ابن كثير)) (4/270). وممن قال بهذا القول المذكور: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، وأبو حيانَ، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: المصادر السابقة.  وقيل المراد: ومِنَ المُشرِكينَ مَن يُصدِّقُ بأنَّ القُرآنَ حَقٌّ، ولكِنَّه يجحَدُ به عنادًا واستكبارًا، ومِنَ المُشرِكينَ مَن لا يُصدِّقُ بالقُرآنِ أصلًا، وممن اختار هذا القول: النَّحاسُ، والشوكانيُّ، والقاسميُّ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للنحاس (3/295)، ((تفسير الشوكاني)) (2/508)، ((تفسير القاسمي)) (6/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/175). .
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ.
أي: وربُّك- يا مُحمَّدُ- أعلَمُ بالمكذِّبينَ، ومَن يبقَى منهم مُصِرًّا على الكُفرِ، فيُجازيهم بأعمالِهم [563] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/184)، ((تفسير الرازي)) (17/256)، ((تفسير القرطبي)) (8/345)، ((تفسير الشوكاني)) (2/508). .
كما قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران: 63] .

الفوائد التربوية :

قَولُ اللهِ تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ في هذا دليلٌ على التثبُّتِ في الأمورِ، وأنَّه لا ينبغي للإنسانِ أن يُبادِرَ بقَبولِ شَيءٍ أو رَدِّه، قبل أن يحيطَ به عِلمًا [564] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:364). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: ما كان لِأنْ يُفتَرى، يقولُ: ما كان لِيُفعَلَ هذا، فلم ينفِ مُجَرَّدَ فِعلِه، بل نفى احتمالَ فِعلِه، وأخبَرَ بأنَّ مِثلَ هذا لا يقَعُ، بل يمتَنِعُ وقوعُه، فيكونُ المعنى: ما يُمكِنُ، ولا يحتَملُ، ولا يجوزُ أن يُفتَرَى هذا القُرآنُ مِن دُونِ الله؛ فإنَّ الذي يفتَريه مِن دونِ اللهِ مَخلوقٌ، والمخلوقُ لا يقدِرُ على ذلك [565] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/425). .
2- قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ففَرَّقَ بين الإحاطةِ بعِلمِه وبين إتيانِ تأويلِه، فتبيَّنَ أنَّه يُمكِنُ أن يُحيطَ أهلُ العِلمِ والإيمانِ بعِلمِه، ولَمَّا يأتِهم تأويلُه، وأنَّ الإحاطةَ بعِلمِ القُرآنِ ليست إتيانَ تأويلِه؛ فإنَّ الإحاطةَ بعِلمِه معرفةُ معاني الكلامِ على التَّمامِ، وإتيانَ التَّأويلِ نَفسُ وُقوعِ المُخبَرِ به [566] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/283). .
3- في قَولِه تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ذمٌّ لِمَن كذَّبَ بما لم يُحِطْ بعِلْمِه، فما قاله الناسُ من الأقوالِ المُختَلِفةِ في تفسيرِ القُرآنِ وتأويلِه، ليس لأحدٍ أنْ يُصَدِّقَ بقَولٍ دونَ قولٍ بلا عِلمٍ، ولا يُكذِّبَ بشيءٍ مِنها إلَّا أنْ يحيطَ بعِلمِه، وهذا لا يُمكِنُ إلَّا إذا عَرفَ الحقَّ الذي أُريدَ بالآيةِ، فيَعلَم أنَّ ما سواه باطلٌ، فيُكَذِّب بالباطِلِ الذي أحاط بعِلمِه، وأمَّا إذا لم يَعرِفْ مَعناها، ولم يُحِطْ بشَيءٍ منها عِلمًا؛ فلا يجوزُ له التكذيبُ بشَيءٍ منها [567] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/403). .
4- في قَولِه تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إشارةٌ إلى أنَّ مَن جَهِلَ شيئًا عاداه [568] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/331). .
5- قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ فيه تفريقُ كَلِمةِ الكُفَّارِ، وأنَّهم لَيسُوا مُستَوينَ في اعتقاداتِهم، بل هم مُضطَرِبونَ، وإن شَمِلَهم التَّكذيبُ والكُفرُ [569] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/62). ، وذلك على أحد وجْهَي تأويلِ الآيةِ.
6- في قَولِه تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ إخبارٌ أنَّ مَن قَبْلَ المكَذِّبينَ أصلٌ يُعتبَرُ به، والفرعُ نفوسُهم، فإذا ساوَوهم في المَعنى ساوَوهم في العاقِبةِ [570] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/107). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
قولُه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى يفيدُ المبالغةَ في نفْيِ أن يكونَ القرآنُ مُفتَرًى مِن غيرِ اللهِ، أي: مَنسوبًا إلى اللهِ كَذبًا وهو آتٍ مِن غيرِه، فإنَّ قولَه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى أبلَغُ مِن أن يُقالَ: (ما هو بِمُفتَرًى)؛ لما يَدُلُّ عليه فِعلُ الكَونِ مِن الوجودِ، أي: ما وُجِدَ أن يُفتَرى، أي: وجودُه مُنافٍ لافتِرائِه؛ فدَلالةُ ذاتِه كافيةٌ في أنَّه غيرُ مفترًى [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/168). .
قولُه: هذَا الْقُرْآنُ الإشارةُ بـهَذَا فيها تفخيمُ المشارِ إليه وتَعظيمُه، وكونُه جامِعًا للأوصافِ الَّتي يَستحيلُ وُجودُها فيه أن يَكونَ مُفترًى [572] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/57). .
قولُه: وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ، لَمَّا نَفى عن القرآنِ الافتراءَ أخبَر عنه بأنَّه تصديقٌ وتفصيلٌ، فجَرَت أخبارُه كلُّها بالمصدَرِ؛ تَنْويهًا ببلوغِه الغايةَ في هذه المعاني حتَّى اتَّحد بأجناسِها [573] يُنظر: . ((تفسير ابن عاشور)) (11/169). .
2- قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، (أم) للإضرابِ الانتقاليِّ مِن النَّفيِ في وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى إلى الاستفهامِ الإنكاريِّ التَّعجُّبيِّ، وهو ارتقاءٌ بإبطالِ دَعْواهم أن يَكونَ القُرآنُ مُفتَرًى مِن دونِ اللهِ، والاستفهامُ مقدَّرٌ، والمعنى: بل أيَقولون: افْتَراه بعدَما تبيَّن لهم مِن الدَّلائلِ على صِدْقِه وبَراءتِه مِن الافتراءِ، وهذا الاستفهامُ تقريرٌ لإلزامِ الحُجَّةِ عليهم، أو إنكارٌ لقولِهم واستِبْعادٌ [574] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/347)، ((تفسير أبي حيان)) (6/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/170). ، وهذا على أحدِ أوجهِ تأويلِ (أم).
ومِن بَديعِ الأسلوبِ وبَليغِ الكلامِ: أنْ قَدَّمَ وصْفَ القرآنِ بما يَقْتَضي بُعْدَه عن الافتراءِ في قولِه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى وبما فيه مِن أجَلِّ صِفاتِ الكتُبِ، وبِتَشريفِ نِسْبتِه إلى اللهِ تعالى، ثمَّ أعقَب ذلك بالاستِفْهامِ في قولِه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ عن دَعْوى المشرِكين افتراءً؛ لِيَتلقَّى السَّامعُ هذه الدَّعوى بمَزيدِ الاشمئزازِ والتَّعجُّبِ مِن حَماقةِ أصحابِها؛ فلذلك جُعِلَت دَعْواهم افتِراءَه في حيِّزِ الاستفهامِ الإنكاريِّ التَّعجُّبيِّ [575] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/170). .
3- قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
قولُه: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ (بل) إضرابٌ انتقاليٌّ لبيانِ كُنْهِ تَكْذيبِهم، وأنَّ حالَهم في المبادَرةِ بالتَّكذيبِ قبْلَ التَّأمُّلِ أعجَبُ مِن أصلِ التَّكذيبِ؛ إذ إنَّهم بادَروا إلى تَكْذيبِه دونَ نظَرٍ في أدلَّةِ صِحَّتِه التي أشار إليها قولُه: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ [576] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/171). .
وعبَّر بقولِه: بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ دونَ أن يُقالَ: (بل كذَّبوا به مِن غيرِ أن يُحيطوا بعِلمِه)، أو نحوُ ذلك؛ للإيذانِ بكمالِ جَهلِهم به، وأنَّهم لم يَعلَموه إلَّا بعُنوانِ عدمِ العلمِ به، وبأنَّ تكذيبَهم به إنَّما هو بسبَبِ عدمِ عِلْمِهم به؛ لأنَّ إدارةَ الحكمِ على الموصولِ (ما) مُشعِرةٌ بعِلِّيَّةِ مَا في حيِّزِ الصِّلةِ له [577] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /146). .
وفيه نفيُ إتيانِ التَّأويلِ بكلمةِ (لَمَّا) الدَّالَّةِ على التَّوقُّعِ بعدَ نفيِ الإحاطةِ بعِلمِه بكلمةِ (لم)؛ لتَأكيدِ الذَّمِّ، وتَشديدِ التَّشنيعِ؛ فإنَّ الشَّناعةَ في تكذيبِ الشَّيءِ قبْلَ عِلمِه المتوقَّعِ إتيانُه، أفحَشُ منها في تَكذيبِه قبلَ علمِه مُطلقًا [578] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/147). .
قولُه: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيه إِشارةٌ إلى أنَّ التَّكذيبَ عادةُ المعانِدين الكافرين؛ لِيَعلَمَ المشرِكون أنَّهم مُماثِلون للأُممِ الَّتي كذَّبَت الرُّسلَ فيَعتبِروا بذلك، وتعريضٌ بالنِّذارةِ لهم بحُلولِ العذابِ بهم، كما حلَّ بأولئك الأممِ الَّتي عرَفَ السَّامِعونَ مَصيرَها وشاهَدوا دِيارَها، وتسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه ما لَقِي مِن قومِه إلَّا مِثلَ ما لَقِي الرُّسلُ السَّابقون مِن أقوامِهم [579] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/173). .
قولُه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ فيه وضعُ المُظهَرِ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ موضِعَ المُضمَرِ (عاقِبتُهم)؛ للإيذانِ بكونِ التَّكذيبِ ظُلمًا، أو بعِلِّيَّتِه لإصابةِ ما أصابهم مِن سوءِ العاقبةِ، وبدُخولِ هؤلاء الظَّالِمين في زُمرَتِهم جُرمًا ووَعيدًا دُخولًا أوَّليًّا [580] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/147). .

4- قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ
قولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، في اختيارِ صيغةِ المُضارِعِ يُؤْمِنُ دلالةٌ على استمرارِ الإيمانِ به مِن بَعضِهم معَ المعانَدةِ، واستمرارِ عدمِ الإيمانِ به مِن بعضِهم أيضًا [581] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/175). ، وذلك على أحدِ وجهي تأويلِ الآيةِ.
وجملةُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ مُعترِضةٌ في آخِرِ الكلامِ، وهي تعريضٌ بالوعيدِ والإنذارِ [582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/175). ، وفي تعلُّقِ العلمِ بالمفسِدين وَحْدَهم: تهديدٌ عظيمٌ لهم [583] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/62). .