موسوعة التفسير

سُورةُ الدُّخَانِ
الآيات (34-39)

ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ

غَريبُ الكَلِماتِ:

بِمُنْشَرِينَ: أي: بمَبعوثِينَ، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتشَعُّبِه [211] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 403)، ((تفسير ابن جرير)) (21/49)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((تفسير القرطبي)) (16/144)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .

المعنى الإجماليُّ:

 يقولُ تعالى مبيِّنًا موقفَ المشركينَ مِن البعثِ والنُّشورِ: إنَّ هؤلاء المُشرِكينَ مِن قُرَيشٍ لَيَقولونَ مُنكِرينَ للبَعثِ: ما هي إلَّا مَوتتُنا الَّتي نَموتُها في الدُّنيا ولا حياةَ بعدَها، فإذا مِتْنا فما نحن بمَبعوثينَ، فإنْ كنتُم صادِقينَ في أنَّنا نُبعَثُ بعدَ مَوتِنا فأْتُوا بآبائِنا الَّذين ماتوا مِن قَبْلُ!
ثمَّ يقولُ تعالى مهدِّدًا لهم: أهؤلاء المُشرِكونَ مِن قُرَيشٍ خَيرٌ أمْ قَومُ تُبَّعٍ مَلِكِ اليَمَنِ، والَّذين مِن قَبْلِهم مِنَ الكُفَّارِ؟ أهلَكْناهم؛ لأنَّهم كانوا مُجرِمينَ!
ثمَّ يقولُ تعالى مُدلِّلًا على صِحَّةِ البعثِ: وما خلَقْنا السَّمَواتِ والأرضَ وما بيْنَهما لَعِبًا، ما خلَقْناهما إلَّا بالحَقِّ والحِكمةِ، ولكِنَّ أكثَرَ المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حَكَى تعالى عن المُشرِكين إعْراضَهم عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وطَعْنَهم فيه، بقَولِه: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان: 13، 14]، وهدَّدَهم بقَولِه: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدخان: 16]، وضَرَب لهم مَثَلَ قَومِ فِرعَونَ، ومَجيءِ رَسولٍ كَريمٍ إليهم، وقَصْدِهم إيَّاه، وتَدميرِ اللهِ وقَطْعِ دابِرِهم؛ اعتِبارًا واتِّعاظًا- أتى بما هو أَطَمُّ مِن الأوَّلِ، وهو تَكذيبُ اللهِ بأنْ لا بَعْثَ ولا حَشْرَ، وأنَّ اللهَ تعالَى ما خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ بالحَقِّ، بلْ خَلَقَهما باطلًا! لأنَّه سَبَق مِرارًا وأطوارًا أنَّه تعالى ما خَلَق السَّمواتِ والأرضَ إلَّا لِيُوَحَّدَ ويُعبَدَ، ثمَّ لا بُدَّ أن يَجزِيَ المُطيعَ والعاصِيَ، وليست هذه دارَ الجَزاءِ [212] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/216). .
وأيضًا فإنَّها رُجوعٌ إلى ذِكرِ كُفَّارِ مَكَّةَ؛ وذلك لأنَّ الكلامَ فيهم، حيثُ قال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان: 9] ، أي: بَلْ هم في شَكٍّ مِن البَعثِ والقيامةِ، ثمَّ بَيَّنَ كيفيَّةَ إصرارِهم على كُفْرِهم، ثمَّ بَيَّنَ أنَّ قَومَ فِرعَونَ كانوا في الإصرارِ على الكُفرِ مثلَهم، ثمَّ بَيَّنَ أنَّه كيف أهلَكَهم، وكيف أنعَمَ على بني إسرائيلَ، ثمَّ رَجَع إلى الحديثِ الأوَّلِ، وهو كَونُ كُفَّارِ مَكَّةَ مُنكِرينَ للبَعثِ؛ فقال [213] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/661، 662). :
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34).
أي: إنَّ كُفَّارَ قُرَيشٍ لَيَقولونَ مُنكِرينَ للبَعثِ [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/48)، ((تفسير القرطبي)) (16/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 774). قال ابنُ عاشور: (كَلِمةُ هَؤُلَاءِ حيثُما ذُكِرَ في القُرآنِ غيرَ مَسبوقٍ بما يَصلُحُ أن يُشارَ إليه: مُرادٌ به المُشرِكونَ مِن أهلِ مكَّةَ، كما استَنْبَطْناه). ((تفسير ابن عاشور)) (25/307). :
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35).
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى.
أي: ما هي إلَّا مَوتَتُنا الَّتي نَموتُها في الدُّنيا، ولا حياةَ بعدَها [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/48)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6744)، ((تفسير السمعاني)) (5/128)، ((تفسير البغوي)) (4/178)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/92)، ((تفسير الشوكاني)) (4/660). ممَّن اختار المعنى المذكورَ في الجملةِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والسمعاني، والبغوي، وابنُ الجوزي، والخازن، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/48)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6744)، ((تفسير السمعاني)) (5/128)، ((تفسير البغوي)) (4/178)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/92)، ((تفسير الخازن)) (4/119)، ((تفسير العليمي)) (6/253)، ((تفسير الشوكاني)) (4/660). قال البيضاوي: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى ما العاقِبةُ ونِهايةُ الأمرِ إلَّا المَوتةُ الأُولى المُزيلةُ للحَياةِ الدُّنيويَّةِ، ولا قَصْدَ فيه إلى إثباتِ ثانيةٍ، كما في قَولِك: حَجَّ زَيدٌ الحَجَّةَ الأُولى، ومات). ((تفسير البيضاوي)) (5/102). ويُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/63)، ((تفسير الألوسي)) (13/124). وقال الواحدي: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى ما المَوتةُ إلَّا مَوتةٌ نَموتُها في الدُّنيا، ثمَّ لا بَعْثَ بَعْدَها). ((الوسيط)) (4/90). وقال ابنُ عاشور: (وضَميرُ هِيَ ضَميرُ الشَّأنِ، ويُقالُ له: ضَميرُ القِصَّةِ؛ لأنَّه يُستعمَلُ بصِيغةِ المؤنَّثِ بتأويلِ القِصَّةِ، أي: لا قِصَّةَ في هذا الغَرَضِ إلَّا المَوتةُ المعروفةُ؛ فهي مَوتةٌ دائِمةٌ لا نُشورَ لنا بَعْدَها). ((تفسير ابن عاشور)) (25/307). وقيل: المعنى: أنَّه قيل لهم: إنَّكم تَموتونَ مَوتةً تَعَقُبُها حياةٌ، كما تَقدَّمَتْكم مَوتةٌ قد تعَقَّبَتْها حَياةٌ، وذلك قَولُه عزَّ وجلَّ: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] ، فقالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى، يُريدونَ: ما المَوتةُ الَّتي مِن شَأْنِها أن يَتعَقَّبَها حياةٌ إلَّا المَوتةُ الأُولى دونَ المَوتةِ الثَّانيةِ، وما هذه الصِّفةُ الَّتي تَصِفونَ بها الموتةَ مِن تعَقُّبِ الحياةِ لها إلَّا لِلْمَوتةِ الأُولى خاصَّةً، فلا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ هذا وبيْنَ قَولِهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا في المعنى. وهذا القَولُ هو قَولُ الزَّمخشري، وذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: النَّيْسابوري، والبِقاعي، وجلالُ الدِّينِ المحلِّي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/279)، ((تفسير النيسابوري)) (6/105)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/35)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 658). قال النيسابوري: (ذلك أنَّ النِّزاعَ إنَّما وَقَع في مَوتةٍ تَعقُبُها حياةٌ، فأنكَروا أن تكونَ مَوتةٌ بهذا الوَصفِ إلَّا الموتةَ الأُولى، وهو حالَ كَونِهم نُطَفًا). ((تفسير النيسابوري)) (6/105).  وقال البِقاعي: (قالوا: ما هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا على حَذْفِ مُضافٍ، أي: ما الحَياةُ إلَّا حياةُ مَوتَتِنا الْأُولَى أي: الَّتي كانت قبْلَ نَفخِ الرُّوحِ ... وعَبَّروا عنها بالمَوتةِ؛ إشارةً إلى أنَّ الحياةَ في جَنْبِ الموتِ المؤَبَّدِ -على زَعْمِهم- أمرٌ مُتلاشٍ لا نِسبةَ لها منه). ((نظم الدرر)) (18/35). وقال ابنُ المُنَيِّر: (الموتُ السَّابِقُ على الحياةِ الدُّنيا لا يُعَبَّرُ عنه بالمَوتةِ؛ فإنَّ المَوتةَ فَعْلةٌ فيها إشعارٌ بالتَّجَدُّدِ والطَّرَيانِ. والموتُ السَّابِقُ على الحياةِ الدُّنيا أمرٌ مُستصحَبٌ لم تتقَدَّمْه حياةٌ طَرَأَ عليها هذا). ((حاشية ابن المنيِّر على تفسير الزمخشري)) (4/279). .
وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ.
أي: وما نحن بمَبعوثينَ [216] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/114)، ((تفسير القرطبي)) (16/144). .
فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36).
أي: فأْتُوا بآبائِنا الَّذين ماتوا مِن قَبْلُ، فلْيَرجِعوا إلى الدُّنيا أحياءً بعدَ مَوتِهم إنْ كُنتُم حَقًّا صادِقينَ في أنَّ اللهَ يَبعَثُنا بعدَ مَوتِنا [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/49)، ((تفسير الزمخشري)) (4/279)، ((تفسير ابن كثير)) (7/256)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/36)، ((تفسير الشوكاني)) (4/660)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/308). قيل: الخِطابُ هنا للنَّبيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وخُوطِبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو وَحْدَه خِطابَ الجَمعِ على غِرارِ قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق: 1] و رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] . وممَّن قال بذلك: الفَرَّاءُ، وابنُ جرير، والسمرقندي، والثعالبي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/42)، ((تفسير ابن جرير)) (21/49)، ((تفسير السمرقندي)) (3/272)، ((تفسير الثعالبي)) (5/200). وقيل: هو خِطابٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولأتْباعِه مِن المؤمِنينَ. وممَّن قال بهذا المعنى: مكِّي، والزمخشري، والنَّسَفي، وابن جُزَي، وأبو حيَّان، وأبو السعود، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6744)، ((تفسير الزمخشري)) (4/279)، ((تفسير النسفي)) (3/292)، ((تفسير ابن جزي)) (2/268)، ((تفسير أبي حيان)) (9/405)، ((تفسير أبي السعود)) (8/64)، ((تفسير الشوكاني)) (4/660)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/308). وقال ابنُ عطية: (وقَولُ قُرَيشٍ: فَأْتُوا مُخاطَبةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَّا أنَّه مِن حيثُ كان النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مُسنِدًا في أقوالِه وأفعالِه إلى اللهِ تعالى وبواسِطةِ مَلَكٍ، خاطَبوه كما تخُاطَبُ الجَماعةُ، وهم يُريدونَه ورَبَّه ومَلائِكتَه). ((تفسير ابن عطية)) (5/75). وقال ابن عاشور: (جَعَلوا قَولَهم: فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ حُجَّةً على نَفيِ البَعثِ بأنَّ الأمواتَ السَّابِقينَ لم يَرجِعْ أحدٌ منهم إلى الحَياةِ، وهو سَفْسَطةٌ؛ لأنَّ البَعثَ المَوعودَ به لا يَحصُلُ في الحَياةِ الدُّنيا). ((تفسير ابن عاشور)) (25/307، 308). !
كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 25، 26].
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه بعْدَ أنْ ضَرَب لهمُ المَثَلَ بمَهلِكِ قَومِ فِرعَونَ؛ زادهم مَثَلًا آخَرَ هو أقرَبُ إلى اعتِبارِهم به، وهو مَهلِكُ قَومٍ أقرَبَ إلى بِلادِهم مِن قَومِ فِرعَونَ، وأُولَئِكَ قَومُ تُبَّعٍ؛ فإنَّ العَرَب يَتَسامَعونَ بعَظَمةِ مُلْكِ تُبَّعٍ وقَومِه أهلِ اليَمَنِ، وكَثيرٌ مِن العَرَبِ شَاهَدوا آثارَ قُوَّتِهم وعَظَمَتِهم في مَراحِلِ أسفارِهِم [218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/308). .
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: أمُشرِكو قُرَيشٍ خَيرٌ [219] قال القرطبي: (قيل: المعنى: أهُمْ أظهَرُ نِعمةً وأكثَرُ أموالًا أمْ قَومُ تُبَّعٍ؟! وقيل: أهُمْ أعَزُّ وأشَدُّ وأمنَعُ أم قَومُ تُبَّعٍ؟!). ((تفسير القرطبي)) (16/144). أمْ قَومُ تُبَّعٍ مَلِكِ اليَمَنِ [220] ذهب عددٌ مِن المفَسِّرين إلى أنَّ تُبَّعًا لَقَبٌ لملوكِ اليَمَنِ، وقيل لِمَن مَلَك منهم سبأً وحِمْيَرَ وحَضْرَمَوتَ، كما أنَّ كِسْرى لَقَبٌ لِمَن مَلَك فارِسَ، وقَيْصَرَ لَقَبٌ لِمَن مَلَك الرُّومَ، وذهبوا إلى أنَّ المرادَ به هنا مَلِكٌ واحِدٌ بعَيْنِه كان قد آمَنَ باللهِ تعالى؛ فذَمَّ اللهُ تعالى قَومَه ولم يَذُمَّه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/49، 50)، ((تفسير الزمخشري)) (4/279، 280)، ((تفسير القرطبي)) (16/144، 145)، ((تفسير ابن كثير)) (7/256-258)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/309). وممَّن قال مِن السَّلَفِ: إنَّه كان مُؤمِنًا صالحًا: عائِشةُ، وكعبُ الأحبارِ، وابنُ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير عبد الرزاق)) (3/186)، ((تفسير ابن جرير)) (21/49)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/415). قال أبو عُبَيدةَ: (مُلوكُ اليمَنِ كان كُلُّ واحدٍ مِنهم يُسَمَّى تُبَّعًا؛ لأنَّه يَتْبَعُ صاحِبَه، وكذلك الظِّلُّ؛ لأنَّه يَتْبَعُ الشَّمسَ، ومَوضِعُ تُبَّعٍ فى الجاهليَّةِ مَوضِعُ الخليفةِ فى الإسلامِ، وهم مُلوكُ العَرَبِ الأعاظِمُ). ((مجاز القرآن)) (2/209). وخصَّ بعضُ المفَسِّرينَ قَومَ تُبَّعٍ هنا بقَومِ سَبَأٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/256)، ((تفسير القاسمي)) (8/420). والَّذين مِن قَبْلِهم مِن الأُمَمِ الكافِرةِ كعادٍ وثَمودَ [221] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/49، 50)، ((البسيط)) للواحدي (20/114)، ((تفسير البغوي)) (4/179)، ((تفسير القرطبي)) (16/144، 145)، ((تفسير ابن كثير)) (7/256-258)، ((تفسير الشوكاني)) (4/660)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/309). ؟!
كما قال الله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر: 43].
وعن عائشةَ رَضيَ الله عنها أنَّها قالت: (كان تُبَّعٌ رجُلًا صالحًا، ألَا ترَى أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ذمَّ قَومَه، ولم يَذُمَّه؟) [222] أخرجه عبد الرزاق في ((تفسيره)) (2819)، ومن طريقه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2/488) واللَّفظُ له. قال الحاكم: (صحيحٌ على شرطِ الشَّيخَينِ)، ووافقه الألباني: في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (5/549)، وقال شعيبٌ الأرناؤوط في تحقيق ((المسند)) (37/ 520): (رجالُه ثقاتٌ رجالُ الشَّيخَينِ). .
أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ.
أي: مع أنَّهم خَيرٌ منهم أهلَكْناهم؛ لأنَّهم كانوا مُتَّصِفينَ بالإجرامِ، فلا يمتَنِعُ أن نُهلِكَ كُفَّارَ قُرَيشٍ وهم دُونَهم، كما أُهلِكَ مَنْ قَبْلَهم [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/50)، ((تفسير الشوكاني)) (4/660)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/310). !
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أنكَرَ اللهُ تعالى على كُفَّارِ مكَّةَ قَولَهم، ووصَفَهم بأنَّهم أضعَفُ مِمَّن كان قَبْلَهم؛ ذكَرَ الدَّليلَ القاطِعَ على صِحَّةِ القَولِ بالبَعثِ والقيامةِ، فقال تعالى [224] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/588). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (27/662). :
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38).
أي: وما خلَقْنا السَّمَواتِ والأرضَ وما بيْنَهما مِن المخلوقاتِ لَعِبًا بلا مَعنًى ولا فائِدةٍ [225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/51)، ((تفسير الرازي)) (27/662)، ((تفسير ابن كثير)) (7/259)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/38، 39)، ((تفسير السعدي)) (ص: 774)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/310). قال الرازي: (لو لم يَحصُلِ البَعثُ لَكان هذا الخَلقُ لَعِبًا وعَبَثًا). ((تفسير الرازي)) (27/662). !
كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191].
وقال الله عزَّ وجلَّ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115].
وقال تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا نفى اللهُ تعالى أن يكونَ خَلَق ذلك لِلَّعِبِ الَّذي هو باطِلٌ، أثبَتَ ما خلَقَه له [226] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/39). ، فقال تعالى:
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ.
أي: ما خلَقْنا السَّمَواتِ والأرضَ وما بيْنَهما إلَّا بالعَدلِ والِحكمةِ، ومِن أجْلِ إقامةِ الحَقِّ بعِبادتِه وَحْدَه لا شَريكَ له؛ فيُمتَحَنُ العبادُ بذلك أمرًا ونَهيًا، ثم يُجازَونَ عليه بعد بَعْثِهم ثَوابًا أو عِقابًا [227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/51)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/205)، ((تفسير الخازن)) (4/120)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/424، 425)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/40)، ((تفسير السعدي)) (ص: 774)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/310، 311). قال ابن القيِّم: (اتَّفَق المفَسِّرون على أنَّ الحَقَّ الَّذي خُلِقت به السَّمَواتُ والأرضُ هو الأمرُ والنَّهيُ، وما يَترتَّبُ عليهما مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ). ((مفتاح دار السعادة)) (2/201). .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ولكنَّ أكثَرَ المُشرِكينَ باللهِ لا يَعلَمونَ أنَّ اللهَ خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ بالحَقِّ، وأنَّه لا بُدَّ مِن بَعثِ العِبادِ ومُجازاتِهم على أعمالِهم يومَ القيامةِ؛ فهم لا يَخافونَ عُقوبةً على ما يأتونَه مِن سَخَطِ اللهِ، ولا يَرجُونَ ثَوابًا على خَيرٍ فَعَلوه؛ لِتَكذيبِهم بالمعادِ إلى اللهِ تعالى [228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/51)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/40)، ((تفسير الشوكاني)) (4/661). .
كما قال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم: 8] .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال اللهُ تعالى حِكايةً عن المُشرِكينَ: فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ، ورُبَّما تَوهَّمَ جاهِلٌ أنَّهم لم يُجابوا عمَّا سَألوا! وليس كذلك؛ فإنَّ الَّذي سألوا لا يَصلُحُ أن يكونَ دَليلًا على البَعثِ؛ لأنَّهم لو أُجيبوا إلى ما سألوا لم يكُنْ ذلك حُجَّةً على مَن تقَدَّمَ، ولا على مَن تأخَّرَ، ولم يَزِدْ على أن يكونَ لِمَن تقَدَّمَ وَعدًا، ولِمَن تأخَّرَ خَبَرًا، اللَّهُمَّ إلَّا أن يجيءَ لكُلِّ واحِدٍ أبوه، فتَصيرَ هذه الدَّارُ دارَ البَعثِ! ثمَّ لو جاز وُقوعُ مِثلِ هذه كان إحياءُ مَلِكٍ يُضرَبُ به الأمثالُ أَوْلى، كـ (تُبَّعٍ)، لا أنتم يا أهلَ مَكَّةَ؛ فإنَّكم لا تُعرَفونَ في بِقاعِ الأرضِ [229] هذه فائدةٌ مِن الوزيرِ ابنِ هُبَيْرةَ، نقَلها عنه ابنُ الجوزي في ((المقتبس)). يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/149). !
2- قال الله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ تَعليقُ الإهلاكِ بقَومِ تُبَّعٍ دُونَه يَقتَضي أنَّ تُبَّعًا نجا مِن هذا الإهلاكِ، وأنَّ الإهلاكَ سُلِّطَ على قَومِه [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/309). .
3- أفعالُ اللهِ تعالى مُحكَمةٌ واقِعةٌ لغَرَضٍ ومَصلحةٍ؛ وإلَّا لَكان -سُبحانَه وتعالى- عابِثًا؛ قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [231] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيميَّة (2/98). !
4- قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ لو لم يَكُن بَعثٌ وجَزاءٌ لَكَان خَلقُ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما عَبَثًا، ونَحنُ خَلَقْنا ذلك كُلَّه بالحَقِّ، أي: بالحِكمةِ؛ كما دلَّ عليه إتقانُ نِظامِ المَوجُوداتِ؛ فلا جَرَمَ اقتَضَى خَلْقُ ذلك أنْ يُجازَى كلُّ فاعِلٍ على فِعلِه، وألَّا يُضاعَ ذلك، ولَمَّا كان المُشاهَدُ أنَّ كَثيرًا مِن النَّاسِ يَقضِي حَياتَه ولا يَرَى لِنَفْسِه جَزاءً على أعمالِه، تَعيَّنَ أنَّ اللهَ أخَّرَ جَزاءَهُم إلى حَياةٍ أُخرى، وإلَّا لَكان خَلْقُهم في بَعضِ أَحوالِه مِن قَبيلِ اللَّعِبِ [232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/310). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ * فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
- جُملةُ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ للحَديثِ عن قُرَيشٍ بعْدَ استِطرادِ حَديثِ بَني إسرائيلَ [233] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/131). . وقيل: إنَّ الكَلامَ اعتِراضٌ بيْن جُملةِ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدخان: 16] وجُملةِ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [الدخان: 37] ؛ فإنَّه لَمَّا هَدَّدَهم بعَذابِ الدُّخَانِ ثمَّ بالبَطْشةِ الكُبرَى، وضَرَبَ لهم المَثَلَ بقَومِ فِرعونَ؛ أَعقَبَ ذلك بالإشارةِ إلى أنَّ إنكارَ البَعثِ هو الَّذي صَرَفهم عن تَوَقُّعِ جَزاءِ السُّوءِ على إعراضِهِم.
 وافتِتاحُ الكَلامِ بحَرفِ (إنَّ) الَّذي ليس هو للتَّأكيدِ؛ لأنَّ نِسبةَ هذا القَولِ إلى المُشرِكين لا تَرَدُّدَ فيه حتَّى يَحتاجَ إلى التَّأكيدِ، فتَعَيَّنَ كَونُ حَرفِ (إنَّ) لِمُجرَّدِ الاهتِمامِ بالخَبَرِ، وهو إذا وَقَعَ مِثلَ هذا المَوقِعِ أفادَ التَّسَبُّبَ، وأغنَى عن الفاءِ [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/306، 307). .
- وهَؤُلَاءِ يعني: كُفَّارَ قُرَيشٍ، وفي اسمِ الإشارةِ تَحقيرٌ لهم، وازدِراءٌ بهم؛ ولِهَذا قال: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [235] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/216)، ((تفسير أبي حيان)) (9/405). [الدخان: 37] .
- قولُه: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى هذا كلامٌ مِن كَلِماتِهم في إنكارِ البَعثِ، وفيه قَصرٌ، وهذا القَصرُ قَصرٌ حَقيقيٌّ [236]  القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإلهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19-22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). في اعتِقادِهم؛ لأنَّهُم لا يُؤمِنون باعتِراءِ أحوالٍ لهم بعْدَ المَوتِ؛ فأَنكَروا أنْ يَكونَ لَهُم مَوتةٌ ثانيةٌ، والمَعنَى: ما آخِرُ أمْرِنا ومُنتَهَى وُجودِنا إلَّا عِندَ مَوتَتِنا [237] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/405)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/307). .
- وأعْقَبوا قصْرَ ما يَنتابُهم بعْدَ الحياةِ على المَوتةِ التي يَموتونَها بقولِهم: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ تَصريحًا بمَفهومِ القَصرِ، وجيءَ به مَعطوفًا للاهتِمامِ به؛ لأنَّه غَرَضٌ مَقصودٌ مع إفادَتِه تَأكيدَ القَصرِ [238] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/405)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/307، 308). .
2- قولُه تعالَى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ استِئنافٌ ناشِئٌ عن قَولِه تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الدخان: 17] ؛ فضَميرُ (هم) راجِعٌ إلى اسمِ الإشارةِ في قولِه: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/308). [الدخان: 34، 35].
- والهَمزةُ في قولِه: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ للاستِفهامِ الإنكارِيِّ [240] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/131). . وهو أيضًا استِفهامٌ تَقريريٌّ؛ إذ لا يَسَعُهم إلَّا أنْ يَعتَرِفوا بأنَّ قَومَ تُبَّعٍ والَّذين مِن قَبلِهِم خَيرٌ منهم؛ لأنَّهم كانوا يَضرِبون بهم الأمثالَ في القُوَّةِ والمَنَعةِ. وافتُتِحَ الكَلامُ بالاستِفهامِ التَّقريريِّ؛ لاستِرعاءِ الأسماعِ لِمَضمونِه؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يَعلَمُ أنَّ تُبَّعًا ومَن قَبْلَه مِن المُلوكِ خَيرٌ مِن هَؤُلاءِ المُشرِكين [241] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/64)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/308، 309). .
- وجُملةُ أَهْلَكْنَاهُمْ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا لِمَا أَثارَه الاستِفهامُ التَّقريريُّ مِن السُّؤالِ عن إبهامِه: ماذا أُرِيدَ به [242] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/102)، ((تفسير أبي حيان)) (9/407)، ((تفسير أبي السعود)) (8/64)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/309). ؟
- وقولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ بَيانٌ للجامِعِ المُقتَضِي للإهلاكِ، وتَعليلٌ لِإهلاكِهِم. وفي ذلك وَعيدٌ لِقُريشٍ، وتَهديدٌ أنْ يُفعَلَ بهمْ ما فُعِلَ بقَومِ تُبَّعٍ ومَن قَبْلَهم مِن مُكذِّبي الرُّسلِ لإجْرامِهم [243] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/102)، ((تفسير أبي حيان)) (9/407)، ((تفسير أبي السعود)) (8/64)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/308)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/131). .
3- قولُه تعالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للتَّدليلِ على صِحَّةِ الحَشرِ ووُقوعِه وتَقريرِه؛ لأنَّا ما خَلَقْنا السَّمواتِ والأرضَ وما بيْنَهما للعَبَثِ -جلَّ جنابُ الجَلالِ عن ذلك- بلْ بالحَقِّ، وهو أنِ اعبُدُوا ووَحِّدوا، ولا بُدَّ لِمَن عَبَدَ ووَحَّدَ ولِمَن أعرَضَ وأشرَكَ مِن الثَّوابِ والعِقابِ؛ فكَيفَ يقال: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [244] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/221)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/133). ؟!
أو عَطفٌ على جُملَةِ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [الدخان: 34، 35]؛ ردًّا عليهم [245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/310). .
- وقولُه: لَاعِبِينَ حالٌ مِن ضَميرِ خَلَقْنَا، والنَّفيُ مُتَوَجِّهٌ إلى هذا الحالِ؛ فاقتَضَى نَفْيَ أنْ يَكُونَ شَيءٌ مِن خَلقِ ذلك في حالَةِ عَبَثٍ؛ فمِن ذلك حالةُ إهمالِ الجَزاءِ [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/310). .
- وذِكرُ اللَّعبِ تَوبيخٌ لِلَّذين أحالُوا البَعْثَ والجَزاءَ؛ بأنَّهُم اعتَقَدوا ما يُفضِي بهم إلى جَعْلِ أفعالِ الحَكيمِ لَعِبًا [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/310). .
- والباءُ في بِالْحَقِّ للمُلابَسةِ، أي: خَلَقْنا ذلك مُلابِسًا ومُقارِنًا للحَقِّ، أو الباءُ للسَّبَبِيَّةِ، أي: بسَبَبِ الحَقِّ، أي: لإيجادِ الحَقِّ مِن خَلْقِهِما [248] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/310). .
- وجُملةُ الاستِدراكِ في قَولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَذيِيلٌ وتَجهِيلٌ عَظيمٌ لمُنكِرِي الحَشرِ وتَوكَيدٌ؛ لأنَّ إنكارَهُم يُؤَدِّي إلى إبطالِ الكائِناتِ بأَسْرِها، والاستِدراكُ ناشئٌ عمَّا أفادَهُ نَفْيُ أنْ يَكونَ خَلقُ المَخلوقاتِ لَعِبًا، وإثباتُ أنَّه للحقِّ لا غَيرُ؛ مِن كَونِ شَأنِ ذلك ألَّا يَخفَى، ولَكِنَّ جَهْلَ المُشرِكين هو الَّذي سَوَّلَ لهم أنْ يَقولوا: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [249] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/221)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/311). [الدخان: 35].