موسوعة التفسير

سورةُ المُؤْمِنونَ
الآيات (93-100)

ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات:

هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ: أي: نَخساتِهم، وغَمزاتِهم، وطَعَناتِهم، ووساوسِهم، والهمْزُ: الدَّفْعُ؛ فهَمَزاتُهم: دَفْعُهم بالإغواءِ إلى المعاصي، أو هو دفعٌ بنَخْزٍ وغَمْزٍ يُشبهُ الطَّعنَ، وأصْلُ (همز): يدُلُّ على ضَغطٍ وعصْرٍ [826] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 300)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 493)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/65)، ((الوسيط)) للواحدي (3/297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 252)، ((تفسير القرطبي)) (12/148)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/164). .
وَمِنْ وَرَائِهِمْ: أي: مِن أمامِهم فيما يَستقبلونَ مِن الزَّمانِ، و(وراء) مِن الأضْدادِ، يُقالُ للرَّجل: وراءَك، أي: خلْفَك، ووَراءَك، أي: أمامَك [827] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/62)، ((تفسير ابن جرير)) (17/109)، ((الأضداد)) لابن الأنباري (ص: 68)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/104)، ((المفردات)) للراغب (ص: 866)، ((تفسير ابن جزي)) (2/57). .
بَرْزَخٌ: البَرزخُ: القَبْرُ، أو ما بيْن الدُّنيا والآخرةِ، وكلُّ حاجزٍ بَيْن شَيْئَيْنِ فهو بَرزخٌ [828] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 300)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 126)، ((المفردات)) للراغب (ص: 118)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 309)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 226). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا له: قُلْ -يا محمَّدُ-: ربِّ إنْ تُرِني العَذابَ الَّذي وعدتَ به هؤلاء المُشرِكينَ، فنَجِّني حِينذاكَ، ولا تجعَلْني في هؤلاء القومِ الظَّالمينَ.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قادِرٌ على أن يُريَه العذابَ الَّذي أعدَّه لهم.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يقابلَ أذاهم بالخَصلةِ التي هي أحسَنُ الخصالِ؛ وأن يصبرَ على أذاهُم، ويبيِّنُ له أنَّه تعالى أعلَمُ بما يَصِفُه هؤلاء المُشرِكونَ مِنَ الشِّركِ والتَّكذيبِ.
ويأمرُه كذلك أن يستعيذَ به مِن وَساوسِ الشَّياطينِ، ومِن نَزَغاتِهم المُغريةِ على الباطِلِ، وأن يستجيرَ به مِن حُضورِهم في أيِّ أمْرٍ مِن أُمورِه.
ثمَّ يخبرُ تعالَى عن حالِ المحتضَرينَ مِن المفرِّطينَ الظالمينَ، فإنَّه إذا فاجَأَ أحدَهم الموتُ، ونزَلَت به سكَراتُه، ولاحَتْ لهم علاماتُ العذابِ؛ قال حينَها: ربِّ ارجِعْنى إلى الدُّنيا؛ لكيْ أعملَ عملًا صالحًا أستدركُ به ما فرَّطتُ فيه مِن الإيمانِ والطاعاتِ.
ثمَّ يبيِّنُ اللهُ تعالى أنَّ الأمرَ ليس كما قال هذا الكافرُ النَّادمُ؛ فلن يستجيبَ اللهُ تعالى لهذا الطلبِ، فإنَّ طلبَه هذا مجرَّدُ كَلِمةٍ يقولُها حينَ يأتيه الموتُ، ولا تنفعُه شيئًا؛ ومِن أمامِ هؤلاءِ الموتَى حاجِزٌ يَحولُ بيْنهم وبيْن الرُّجوعِ إلى الدُّنيا، وهذا الحاجِزُ مُستمِرٌّ إلى يومِ البَعثِ والنُّشورِ.

تفسير الآيات:

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما كان عليه الكُفَّارُ مِن ادِّعاءِ الولَدِ والشَّريكِ له، وكان تعالى قد أعلَمَ نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يَنتقِمُ منهم، ولم يُبيِّنْ إذ ذاك هل يقَعُ ذلك في حَياتِه أمْ بَعْدَ مَوتِه: أمَرَهُ بأنْ يَدْعوَ بهذا الدُّعاءِ [829] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/582). .
وأيضًا فإنَّ الآياتِ السَّابقةَ آذنَتْ بأقصى ضَلالِ المُشركينَ، وانتفاءِ عُذْرِهم فيما دانُوا به اللهَ تعالى، وبغَضبِ اللهِ عليهم لذلك، وأنَّهم سواءٌ في ذلك مع الأُمَمِ الَّتي عجَّلَ اللهُ لها العَذابَ في الدُّنيا، وادَّخَرَ لها عذابًا آخَرَ في الآخرةِ؛ فكان ذلك نِذراةً لهم بمِثْلِه، وتَهديدًا بما سيَلْقَونَه، وكان مَثارًا لِخَشيةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَحِلَّ العَذابُ بقَومِه في حَياتِه، والخوفِ مِن هَولِه؛ فلقَّنَ اللهُ نَبِيَّه أنْ يَسأَلَ النَّجاةَ مِن ذلك العذابِ [830] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/118). .
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ-: يا ربِّ، إنْ أَرَيتَني ما وعَدْتَ هؤلاء المُشرِكينَ المُكذِّبينَ مِن نُزولِ العذابِ بهم [831] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/103)، ((تفسير القرطبي)) (12/147)، ((تفسير السعدي)) (ص: 558). قال الشنقيطي: (قد بيَّنَ تعالى في مواضِعَ أُخَرَ: أنَّه لا يُنزِلُ بهم العذابَ وهو فيهم، وذلك في قولِه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] ، وبيَّنَ هنا أنَّه قادِرٌ على أنْ يُريَه العذابَ الَّذي وعَدَهُم به في قولِه: وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ [المؤمنون: 95] ، وبيَّنَ في سُورةِ «الزُّخرفِ»: أنَّه إنْ ذهَبَ به قَبلَ تَعذيبِهم، فإنَّه مُعذِّبٌ لهم ومُنتقِمٌ منهم لا مَحالةَ، وأنَّه إنْ عذَّبَهم وهو حاضِرٌ فهو مُقتدِرٌ عليهم، وذلك في قولِه تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف: 41، 42]). ((أضواء البيان)) (5/352). .
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94).
أي: ربِّ، فنَجِّني حِينذاكَ، ولا تَجْعَلْني فيهم [832] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/103)، ((تفسير القرطبي)) (12/147)، ((تفسير ابن كثير)) (5/492). .
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ الله عنهما، عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يَرويه عن رَبِّه عزَّ وجَلَّ، أنَّه قال: ((يا محمَّدُ، إذا صلَّيتَ فقُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ فِعلَ الخَيراتِ، وتَرْكَ المُنْكَراتِ، وحُبَّ المَساكينِ، وإذا أردْتَ بعِبادِك فِتنةً [833] فِتنةً: أي: ضلالةً أو عقوبةً دنيويةً. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا القاري (2/611). فاقبِضْني إليك غيْرَ مَفْتونٍ)) [834] أخرجه الترمذي (3233) واللفظ له، وأحمد (3484). حسَّن إسنادَه ابنُ الجوزي في ((العلل المتناهية)) (1/35)، وحسَّن الحديثَ ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/317)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3233)، وصحَّح إسنادَه أحمدُ شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (5/162). .
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95).
أي: وإنَّا -يا محمَّدُ- على أنْ نُرِيَك ما نَعِدُ المُشرِكينَ المُكذِّبينَ مِن العذابِ لَقادِرونَ، وإنَّما نُؤخِّرُه لحِكمةٍ؛ فلا يَحزُنْك تَكذيبُهم [835] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/104)، ((تفسير ابن كثير)) (5/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 558). قال القرطبيُّ: (قد أراه اللهُ تعالى ذلك فيهم بالجوعِ والسَّيفِ، ونجَّاه اللهُ ومَن آمن به مِن ذلك). ((تفسير القرطبي)) (12/147). وقال ابنُ عاشور: (قد تحقَّقَ ذلك فيما حلَّ بالمشركين يومَ بدْرٍ ويومَ حُنَينٍ، فالوعيدُ المذكور هنا وَعيدٌ بعقابٍ في الدُّنيا كما يَقْتضيه قولُه تعالى: فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (18/118). .
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أنبَأَ اللهُ رسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بما يُلمِحُ له بأنَّه مُنجِزٌ وَعيدَه مِنَ الَّذين كذَّبوهُ، فعَلِمَ الرَّسولُ والمُسلِمون أنَّ اللهَ ضَمِنَ لهمُ النَّصرَ؛ أعقَبَ ذلك بأنْ أمَرَه بأنْ يَدفَعَ مُكذِّبيه بالَّتي هي أحسَنُ، وألَّا يَضِيقَ بتَكذيبِهم صَدْرُه، فذلك دَفْعُ السَّيِّئةِ بالحَسنةِ كما هو أدَبُ الإسلامِ [836] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/119). .
وأيضًا لَمَّا تبيَّن أنَّ أخْذَهم وتأْخيرَهم في الإمكانِ على حَدٍّ سَواءٍ، وكانوا يَقولون ويَفْعَلون ما لا صَبْرَ عليه إلَّا بمَعونةٍ مِنَ اللهِ؛ كان كأنَّه قال: فماذا أفعَلُ فيما تَعلَمُ مِن أمْرِهم؟ فقال آمِرًا له بمُداواتِه [837] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/183). :
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ.
أي: ادفَعْ -يا محمَّدُ- أذَى أولئك القومِ بالخَصلةِ الَّتي هي أحسَنُ الخِصالِ؛ بأنْ تُحسِنَ إليهم، وتَصفَحَ عنهم، وتَصبِرَ على أذاهُم [838] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/104)، ((تفسير ابن كثير)) (5/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 558)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/352). قال ابن جزي: (والأظهرُ أنَّه أمرٌ بالصَّفحِ والاحتمالِ وحُسنِ الخُلقِ، وهو مُحْكَمٌ غيرُ منسوخٍ، وإنَّما نُسِخ ما يقتضيه مِن مسالمةِ الكفَّارِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/57). .
كما قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34-35].
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ.
أي: نحنُ أعلَمُ بما يَصِفُ أولئك المُشرِكونَ به ربَّهم مِنَ الأكاذيبِ والأباطيلِ المُختَلَقةِ؛ كادِّعاءِ الشَّريكِ والولَدِ له سُبحانَه، وبما يقولونَ فيك مِن السُّوءِ [839] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/105)، ((تفسير القرطبي)) (12/147)، ((تفسير السعدي)) (ص: 559). قال البقاعي: (نَحْنُ أَعْلَمُ أي: مِن كلِّ عالِمٍ، بِمَا يَصِفُونَ في حَقِّك وحَقِّنا). ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/183). .
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أدَّبَ اللهُ سُبحانَه رَسولَه بقولِه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون: 96] ، أتْبَعَه بما به يَقْوَى على ذلك؛ وهو الاستِعاذةُ باللهِ مِن أمْرينِ: أحدِهما: مِن هَمزاتِ الشَّياطينِ، وثانيهِما: قولُه: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [840] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/292). .
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97).
أي: وقُلْ -يا محمَّدُ-: يا ربِّ، أعتصِمُ بك مِن وَساوسِ الشَّياطينِ، ونزَغاتِهم [841] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/105)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/21)، ((تفسير القرطبي)) (12/148)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/95)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/184)، ((تفسير السعدي)) (ص: 559). قال الشوكاني: (هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ: نَزَغاتُهم ووَساوِسُهم كما قالَه المفسِّرونَ). ((تفسير الشوكاني)) (3/588). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .
وقال سبُحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: 36 - 38] .
وعن سُلَيمانَ بنِ صُرَدٍ رضِيَ الله عنه، قال: ((كنتُ جالِسًا مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورجُلانِ يَستبَّانِ، فأحدُهما احمَرَّ وجْهُه، وانتفخَتْ أوداجُه [842] الأوداج: هي ما أحاط بالعنُقِ من العروقِ، واحدُها: ودَجٌ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/165). ، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنِّي لَأعلَمُ كَلِمةً لو قالها ذهَبَ عنه ما يَجِدُ؛ لو قال: أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ، ذهَبَ عنه ما يَجِدُ )) [843] رواه البخاري (3282) واللفظ له، ومسلم (2610). .
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98).
أي: وأعتصِمُ بك -يا ربِّ- أنْ يَحضُرَ الشَّياطينُ شيئًا مِن أُموري، فيُصِيبوني بشَرٍّ وأذًى [844] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/106)، ((تفسير القرطبي)) (12/148، 149)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/96)، ((تفسير ابن كثير)) (5/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 559). قال الشَّوكانيُّ: (المعنى: وأعوذُ بك أنْ يكونوا معي في حالٍ مِنَ الأحوالِ؛ فإنَّهم إذا حَضَروا الإنسانَ لم يكُنْ لهم عمَلٌ إلَّا الوَسوسةُ والإغراءُ على الشرِّ والصَّرفِ عن الخيرِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/588). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/353). وقال ابنُ كثير: (ولهذا أُمِرَ بذِكْرِ اللهِ في ابتداءِ الأُمورِ -وذلك مَطرَدةٌ للشَّياطينِ-: عندَ الأكلِ والجِماعِ والذَّبحِ، وغيرِ ذلك مِن الأُمور). ((تفسير ابن كثير)) (5/492). .
عن أبي اليَسَرِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَدْعو: ((اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك أنْ يَتخبَّطني [845] يتخَبَّطَني: أي: يصرَعَني، ويلعبَ بي، ويُفسِدَ ديني وعقلي. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/233). الشَّيطانُ عندَ الموتِ)) [846] أخرجه أبو داود (1552)، والنسائي (5531)، وأحمد (15523). صحَّح إسنادَه الحاكمُ في ((المستدرك)) (1/713)، وذكر ابن حجر في ((بذل الماعون)) (199) أنه حديثٌ ثابتٌ، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1552). .
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان أضَرُّ أوقاتِ حُضورِ الشَّياطينِ ساعةَ المَوتِ، وحالةَ الفوتِ، فإنَّه وقْتُ كشْفِ الغِطاءِ، عمَّا كُتِبَ مِنَ القضاءِ، وآنُ اللِّقاءِ، وتَحتُّمِ السُّفولِ أوِ الارتقاءِ- عقَّبَ ذلك بذِكْرِه؛ تَنبيهًا على بَذلِ الجُهدِ في الدُّعاءِ، والتَّضرُّعِ للعِصمةِ فيه، فقال [847] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/184). :
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99).
أي: حتَّى [848] قال ابن عطيَّة: (حَتَّى في هذا الموضِعِ: حَرْفُ ابتداءٍ، ويَحتمِل أنْ تكونَ غايةً مُجرَّدةً بتقديرِ كلامٍ مَحذوفٍ، والأوَّلُ أبيَنُ؛ لأنَّ ما بعدَها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكرُه). ((تفسير ابن عطية)) (4/155). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/353). إذا حضَرَتِ الوَفاةُ أحدَ المُفرِّطينَ الظَّالِمينَ، فانكشَفَ له الغِطاءُ، وظهَرَ له الحَقُّ، ولاحَتْ له أماراتُ العذابِ؛ قال نادمًا: يا ربِّ، ارجِعُوني إلى الدُّنيا [849] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/106)، ((تفسير ابن عطية)) (4/155)، ((تفسير ابن كثير)) (5/493)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/184)، ((تفسير السعدي)) (ص: 559). نقل السَّمعاني الاتِّفاقَ على أنَّ سُؤالَ الرَّجعةِ يَكونُ للكافرِ لا للمُؤمِنِ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/490). لكِنْ أثبَتَ الرَّازيُّ الخِلافَ، ونَسَب للأكثَرينَ القَولَ بأنَّ سُؤالَ الرَّجعةِ يَكونُ للكُفَّارِ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/292). قال القرطبي: (ليس سُؤالُ الرَّجعةِ مُختَصًّا بالكافِرِ؛ فقد يَسألُها المؤمِنُ كما في آخِرِ سُورةِ المنافِقينَ). ((تفسير القرطبي)) (12/149). وقال ابنُ كثير: (يخبِرُ تعالى عن حالِ المُحتَضَرِ عند الموتِ مِن الكافِرينَ أو المفَرِّطينَ في أمرِ اللهِ تعالى، وقِيلِهم عندَ ذلك، وسُؤالِهم الرَّجعةَ إلى الدُّنيا؛ لِيُصلِحَ ما كان أفسَدَه في مُدَّةِ حَياتِه). ((تفسير ابن كثير)) (5/493). وقال الرازي: (اختَلَفوا في وَقتِ مسألةِ الرَّجعةِ؛ فالأكثَرونَ على أنَّه يَسألُ في حالِ المُعايَنةِ). ((تفسير الرازي)) (23/293). .
كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10] .
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100).
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ.
أي: لِأعمَلَ [850] قال القرطبيُّ: («لعلَّ» تتضمَّن تردُّدًا، وهذا الَّذي يَسألُ الرَّجعةَ قدِ استيقنَ العذابَ، وهو يُوطِّنُ نفْسَه على العملِ الصَّالحِ قطْعًا مِن غيرِ تردُّدٍ؛ فالتَّردُّدُ يرجِعُ إمَّا إلى ردِّه إلى الدُّنيا، وإمَّا إلى التَّوفيقِ، أي: أعمَلُ صالحًا إنْ وفَّقتَني؛ إذ ليس على قطْعٍ مِن وُجودِ القُدرةِ والتَّوفيقِ لو رُدَّ إلى الدُّنيا). ((تفسير القرطبي)) (12/150). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/293). عمَلًا صالِحًا أستَدْرِكُ به ما ضيَّعتُه وفرَّطْتُ فيه مِنَ الإيمانِ وما يتبعُه مِن الطَّاعاتِ [851] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/106)، ((تفسير الشوكاني)) (3/589)، ((تفسير السعدي)) (ص: 559)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/355). قيل: المعنى: فيما تركتُ وضيعتُ مِن العمل بالطاعاتِ. وممَّن اختاره: ابنُ جريرٍ، والقرطبي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/106)، ((تفسير القرطبي)) (12/150)، ((تفسير السعدي)) (ص: 559). قال الشنقيطي: (والعملُ الصَّالحُ يشملُ جميعَ الأعمالِ؛ مِن الشَّهادتينِ، والحجِّ الَّذي كانَ قد فَرَّط فيه، والصَّلواتِ، والزَّكاةِ، ونحوِ ذلك). ((أضواء البيان)) (5/355). وقيل: فِيمَا تَرَكْتُ أي: ضيَّعتُ أن أقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ. وممَّن اختاره: السمعانيُّ، والبغوي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/490)، ((تفسير البغوي)) (3/374). وقيل: المرادُ: في الإيمانِ الذي تركتُه. وممَّن اختاره: مقاتلُ بن سليمان، والبيضاوي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/165)، ((تفسير البيضاوي)) (4/95)، ((تفسير أبي السعود)) (6/150). وقيل: المراد: الإيمانُ وما يتبعُه. وممَّن اختاره: البِقاعيُّ، والشربيني. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/185)، ((تفسير الشربيني)) (2/591). وقيل: فيما تركتُه من المالِ فأتصدق، أو مِن الدُّنيا، أو فيما مضى مِن عُمُري. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/271)، ((تفسير القرطبي)) (12/150)، ((تفسير أبي السعود)) (6/150). قال ابنُ القيِّم: (ذكَر سببَ سؤالِ الرَّجعةِ، وهو أن يَستقبلَ العملَ الصالحَ فيما ترَك خلفَه مِن مالِه وجاهِه وسلطانِه وقوَّتِه وأسبابِه). ((عدة الصابرين)) (ص: 184). .
كَلَّا.
أي: ليس الأمرُ كما قال هذا الظَّالمُ لنَفْسِه؛ فلنْ يَستجيبَ اللهُ طلَبَ إمهالِه وإرجاعِه إلى الدُّنيا لِيعمَلَ صالِحًا [852] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/108)، ((تفسير القرطبي)) (12/150)، ((تفسير ابن كثير)) (5/493)، ((تفسير السعدي)) (ص: 559)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/355). .
كما قال تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون: 11] .
إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا.
أي: إنَّ طلَبَه الرُّجوعَ إلى الدُّنيا مُجرَّدُ كلامٍ يقولُه الظَّالمُ حين تَحضُرُه الوَفاةُ [853] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/108)، ((تفسير ابن كثير)) (5/494)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/124). قال ابنُ كثير: (قوله: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا: قال عبدُ الرحمن بنُ زيدِ بن أسلمَ: أي لا بدَّ أن يقولَها لا محالةَ كلُّ محتضَرٍ ظالمٍ. ويحتمِلُ أن يكونَ ذلك علةً لقولِه: كَلَّا، أي: لأنَّها كلمةٌ، أي: سؤالُه الرجوعَ ليعملَ صالحًا هو كلامٌ منه، وقولٌ لا عملَ معه، ولو رُدَّ لَما عمِل صالحًا، ولكان يكذبُ في مقالتِه هذه، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). ((تفسير ابن كثير)) (5/494). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/185، 186). وقال السعدي: (إِنَّهَا أي: مقالتَه التي تمنَّى فيها الرجوعَ إلى الدنيا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا أي: مجرَّدُ قولٍ باللسانِ، لا يفيدُ صاحبَه إلَّا الحسرةَ والندمَ، وهو أيضًا غيرُ صادقٍ في ذلك؛ فإنَّه لو رُدَّ لعاد لِما نُهي عنه). ((تفسير السعدي)) (ص: 559). .
وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
أي: ومِن أمامِ هؤلاء المَوتى حاجِزٌ بيْنَ الدُّنيا والآخرةِ يَحجُزُهم عنِ الرُّجوعِ إلى الدُّنيا، مِن وقْتِ مَوتِهم إلى يومِ القِيامةِ الَّذي يَبعَثُ اللهُ فيه النَّاسَ أحياءً مِن قُبورِهم [854] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/109)، ((تفسير القرطبي)) (12/150)، ((الروح)) لابن القيم (ص: 108)، ((أهوال القبور)) لابن رجب (ص: 5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 559). ونقَل ابنُ عطيةَ إجماعَ المفسِّرينَ على أنَّ البرزخَ هنا هو المُدَّةُ الَّتي بينَ موتِ الإنسانِ وبيْنَ بَعثِه. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/156). وقال ابنُ كثير: (في قولِه: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ: تهديدٌ لهؤلاء المحتضَرينَ مِن الظَّلَمةِ بعذابِ البرزخِ، كما قال: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: 10] ، وقال وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 17] . وقولُه: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي: يستمرُّ به العذابُ إلى يومِ البعثِ، كما جاء في الحديثِ: «فلا يزالُ معذَّبًا فيها» أي: في الأرضِ). ((تفسير ابن كثير)) (5/495). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ، والتَّخلُّقُ بهذه الآيةِ هو: أنَّ المُؤمِنَ الكامِلَ يَنْبَغي له أنْ يُفوِّضَ أمْرَ المُعتدينَ عليه إلى اللهِ؛ فهو يَتولَّى الانتصارَ لمَن توكَّلَ عليه، وأنَّه إنْ قابَلَ السَّيِّئةَ بالحَسَنةِ، كان انتصارُ اللهِ أشْفى لِصَدْرِه، وأرسَخَ في نَصْرِه، وماذا تَبلُغُ قُدرةُ المَخلوقِ تُجاهَ قُدرةِ الخالِقِ، وهو الَّذي هزَمَ الأحزابَ بلا جُيوشٍ ولا فيالِقَ؟! وهكذا كان خلُقُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فقد كان لا يَنتقِمُ لِنفْسِه، وكان يَدْعُو رَبَّه [855] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/120). .
2- قال اللهُ تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ فِقْهُ الآيةِ: اسلُكْ مَسلَكَ الكِرامِ ولا تَلحَظْ جانِبَ المكافأةِ، ادفَعْ بغَيرِ عِوَضٍ ولا تَسلُكْ مَسلَكَ المُبايَعةِ. ويَدخُلُ فيه: سَلِّمْ على مَن لمْ يُسلِّمْ عليكَ [856] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/330). .
3- قال اللهُ تعالى: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قال قَتادةُ: (طلَبَ الرُّجوعَ لِيَعملَ صالِحًا، لا لِيَجمعَ الدُّنيا، ويَقضيَ الشَّهَواتِ؛ فرحِمَ اللهُ امرَأً عَمِلَ فيما يَتمنَّاهُ الكافرُ إذا رأى العَذابَ) [857] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/490). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فيه إيذانٌ بكَمالِ فَظاعةِ ما وُعِدُوه مِن العَذابِ، وكَونِه بحيثُ يَجِبُ أنْ يَستعيذَ منه مَن لا يكادُ يُمكِنُ أنْ يَحِيقَ به، ورَدٌّ لإنكارِهم إيَّاهُ واستعجالِهم به على طَريقةِ الاستِهزاءِ به [858] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/149). . وقيل: أُمِرَ به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هَضْمًا لنَفْسِه؛ إظهارًا للعُبوديَّةِ وتَواضُعًا لرَبِّه، وإخباتًا له. وقيل: لأنَّ شُؤمَ الكَفَرةِ قد يَحِيقُ بمَن وَراءَهُم، كقولِه تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [859] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/201)، ((تفسير البيضاوي)) (4/94)، ((تفسير أبي حيان)) (7/582)، ((تفسير أبي السعود)) (6/149). [الأنفال: 25] .
2- قولُه تعالى: أَنْ نُرِيَكَ فيه إيماءٌ إلى أنَّه في مَنجاةٍ مِن أنْ يَلحَقَه ما يُوعَدونَ به، وأنَّه سَيَراهُ مَرأى عينٍ دونَ كَونٍ فيه [860] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/119). .
3- في قولِه تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ دَلالةٌ على أنَّ فِعْلَ العبدِ مَقدورٌ للهِ سُبحانَه؛ فمِنَ المعلومِ أنَّ الإعاذةَ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ ليست بإماتَتِه، ولا تَعطيلِ آلاتِ كَيْدِه، وإنَّما هي بأنْ يَعْصِمَ اللهُ المُستعيذَ مِن أذاهُ له، ويَحولَ بيْنَه وبيْنَ فِعْلِه الاختياريِّ له؛ فدَلَّ على أنَّ فِعْلَه مَقدورٌ له سُبحانَه: إنْ شاء سَلَّطه على العبدِ، وإنْ شاء حالَ بيْنَه وبيْنَه [861] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 63). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ دلَّتِ الآيةُ على أنَّ أحدًا لا يَموتُ حتَّى يَعرِفَ اضطرارًا أهو مِن أولياءِ اللهِ أمْ مِن أعداءِ اللهِ، ولولَا ذلك لَمَا سأَلَ الرَّجعةَ، فيَعْلَموا ذلك قَبلَ نُزولِ الموتِ وذَوَاقِه [862] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/149، 150). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لا يَخْفى ما يَسبِقُ إلى الذِّهنِ فيه مِن رُجوعِ الضَّميرِ إلى الرَّبِّ، والضَّميرُ بصِيغةِ الجمْعِ، والرَّبُّ جَلَّ وعلَا واحدٌ؟ والجوابُ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ:
الوجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الواوَ لِتَعظيمِ المُخاطَبِ، وهو اللهُ، وهذا لفظٌ تَعرِفُه العربُ للجليلِ الشَّأنِ يخبِرُ عن نفسِه بما يخبِرُ به عن الجماعةِ. وذلك النَّادِمُ السَّائلُ الرَّجعةَ يُظهِرُ في ذلك الوقْتِ تَعظيمَه ربَّهُ [863] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (16/61)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 164)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/355). وقال الشنقيطي عن هذا الوجهِ في ((دفع إيهام الاضطراب)) (ص: 164): (وهو أظهَرُها). .
الوجْهُ الثَّاني: أنَّ قَولَه: رَبِّ استغاثةٌ به تَعالى، وقولُه: ارْجِعُونِ خِطابٌ للملائكةِ، فمَسألةُ القَومِ الرَّدَّ إلى الدُّنيا إنَّما كانت منهم للملائكةِ الَّذين يَقْبِضون رُوحَهم، ومِثلُ هذا يَكثُرُ في الكلامِ عن العَرَبِ؛ أن يُخاطِبوا أحدًا ثمَّ تُصرَفُ المُخاطَبةُ إلى غيرِه؛ لأنَّ المعنى مُشتَمِلٌ على ذلك [864] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/108)، ((البسيط)) للواحدي (16/61)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 164). .
الوجْهُ الثَّالثُ: أنَّه جمَعَ الضَّميرَ لِيَدُلَّ على التَّكرارِ، فكأنَّه قال: ربِّ ارْجِعْني ارْجِعني [865] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 164). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (12/149)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/185). وقال الشنقيطي عن الوجهِ الثالثِ: (ولا يَخْلو هذا القولُ عندي مِنْ بُعْدٍ). ((دفع إيهام الاضطراب)) (ص: 164). .
6- قولُه تعالى: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا، والمرادُ بها قولُه: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ- دلَّ على أنَّ اللَّهُ يُطلِقُ اسمَ الكلمةِ على الكلامِ، وكما في قولِه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] ، وما جاءَ لفظُ الكَلِمةِ في القرآنِ إلَّا مُرادًا به الكلامُ المفيدُ [866] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/200). ويُنظر أيضًا: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (9/213). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ فيه إدخالُ (ما) الزَّائدةِ بَعدَ حَرفِ الشَّرطِ للتَّوكيدِ؛ فاقترَنَ فِعْلُ الشَّرطِ بنُونِ التَّوكيدِ؛ لزِيادةِ تَحقيقِ رَبْطِ الجَزاءِ بالشَّرطِ [867] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/201)، ((تفسير البيضاوي)) (4/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/118). .
2- قوله تعالى: رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- في تَكريرِ النِّداءِ، ولَفظِ رَبِّ، وتَصديرِ كلٍّ مِن الشَّرطِ والجَزاءِ به في قولِه: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ: مُبالَغةٌ في الابتِهالِ إلى اللهِ تعالى والتَّضرُّعِ؛ لإبرازِ كَمالِ الضَّراعةِ والابتهالِ [868] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/201)، ((تفسير البيضاوي)) (4/94)، ((تفسير أبي حيان)) (7/582)، ((تفسير أبي السعود)) (6/149). . أو ذُكِرَ في هذا الدُّعاءِ لَفْظُ رَبِّ مُكرَّرًا تَمهيدًا للإجابةِ؛ لأنَّ وَصْفَ الرُّبوبيَّةِ يَقْتضي الرَّأفةَ بالمَربوبِ [869] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/118). .
- ولَقَّنَ اللهُ نَبِيَّه أنْ يسأَلَ النَّجاةَ مِن ذلك العَذابِ، وفي هذا التَّلقينِ تَعريضٌ بأنَّ اللهَ مُنَجِّيه مِن العذابِ بحِكْمتِه، وإيماءٌ إلى أنَّ اللهَ يُرِي نَبِيَّه حُلولَ العذابِ بمُكذِّبِيه؛ فهذه الجُملةُ استئنافٌ بَيانيٌّ، جوابًا عمَّا يَختلِجُ في نَفْسِ رسولِ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [870] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/118). .
3- قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ
- في قولِه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ عَدَلَ عن مُقْتضى السِّياقِ لسِرٍّ بَليغٍ؛ فالظَّاهرُ أنْ يقولَ: (ادفَعْ بالحَسنةِ السَّيِّئةَ)، ولكنَّه عَدَلَ عن مُقْتضى الكلامِ؛ لِمَا فيه مِن التَّفضيلِ، والمعنى: ادفَعِ السَّيِّئةَ بما أمكَنَ مِن الإحسانِ، حتَّى إذا اجتمَعَ الصَّفحُ والإحسانُ، وبَذْلُ الاستِطاعةِ فيه؛ كانت حَسنةً مُضاعَفةً بإزاءِ سَيِّئةٍ [871] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/201)، ((تفسير البيضاوي)) (4/95)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/623، 624)، ((تفسير أبي حيان)) (7/583)، ((تفسير أبي السعود)) (6/149)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/120)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/542). .
- وفي قولِه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فخَّمَ الأمْرَ بالموصولِ؛ لِمَا فيه مِن الإيهامِ المُشوِّقِ للبَيانِ، ثمَّ بأفعَلِ التَّفضيلِ أَحْسَنُ [872] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/183). .
- وأيضًا في قولِه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ تَقديمُ الجارِّ والمَجرورِ على المفعولِ؛ للاهتِمامِ [873] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/149). .
- قولُه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ خَبرٌ مُستعمَلٌ كِنايةً عن كَونِ اللهِ يُعامِلُ أصحابَ الإساءةِ لرَسولِه بما همْ أحِقَّاءُ به مِن العِقابِ؛ لأنَّ الَّذي هو أعلَمُ بالأحوالِ يَجْري عمَلُه على مُناسِبِ تلك الأحوالِ بالعَدْلِ. وفي هذا تَطمينٌ لِنفْسِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [874] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/119). ؛ ففي قولِه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَعيدٌ لهم بالجَزاءِ والعُقوبةِ، وتَسليةٌ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإرشادٌ له صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى تَفويضِ أمْرِه إليه تعالى [875] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/149). .
4- قولُه تعالى: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أُمِرَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَعوذَ به تعالى مِن حُضورِهم بَعْدَما أُمِرَ بالعَوذِ مِن هَمزاتِهم؛ للمُبالَغةِ في التَّحذيرِ مِن مُلابَسَتِهم. وإعادةُ الفِعْلِ (أعوذُ) مع تَكريرِ النِّداءِ رَبِّ؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتِناءِ بالمأْمورِ به، وعَرْضِ نِهايةِ الابتِهالِ في الاستدعاءِ [876] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/150). .
- وقولُه: يَحْضُرُونِ قيل: إنَّه مَقطوعٌ عن مُتعَلِّقِه بمَنزِلةِ اللَّازمِ؛ فالاستِعاذةُ مِن حُضورِه مُطلقًا [877] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/625). . وعلى القولِ بتَخصيصِ الاستِعاذةِ بحالِ الصَّلاةِ وقِراءةِ القُرآنِ، أو حالِ حُلولِ الأجَلِ؛ لأنَّها أحْرَى الأحوالِ بالاستِعاذةِ منها [878] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/95)، ((تفسير أبي السعود)) (6/150). .
5- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
- قولُه: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ مُتعلِّقٌ بـ يَصِفُونَ، وما بَيْنَهما اعتِراضٌ؛ لتأْكيدِ الإِغضاءِ بالاستِعاذةِ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ أنْ يُزِلَّه عن الحِلْمِ، ويُغْرِيَه على الانتِقامِ [879] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/202)، ((تفسير البيضاوي)) (4/95)، ((تفسير أبي حيان)) (7/583)، ((تفسير أبي السعود)) (6/150). . وقيل: حَتَّى ابتدائيَّةٌ، ولا تُفِيدُ أنَّ مَضمونَ ما قَبْلَها مُغيًّا بها؛ فلا حاجةَ إلى تَعليقِ (حتَّى) بـ يَصِفُونَ [المؤمنون: 91] . وقيل: إنَّ (حتَّى) مُتَّصِلةٌ بقولِه: وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ [المؤمنون: 95] ؛ فهذا انتِقالٌ إلى وَصفِ ما يَلْقَون مِنَ العذابِ في الآخرةِ بَعْدَ أنْ ذكَرَ عَذابَهم في الدُّنيا؛ فيكونُ قولُه هنا: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وَصْفًا أُنُفًا -جديدًا- لعَذابِهم في الآخرةِ [880] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/122). قال الشِّنقيطي: (الظَّاهرُ عندي: أنَّ حَتَّى في هذه الآيةِ: هي الَّتي يُبتدأُ بعدها الكلامُ، ويُقال لها: حرفُ ابتداءٍ، كما قاله ابنُ عطيَّة، خِلافًا للزمخشريِّ القائلِ: إنَّها غايةٌ لقولِه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ... ولأبي حيَّانَ القائلِ: إنَّ الظاهرَ له أنَّ قبْلَها جملةً محذوفةً هي غايةٌ له يدُلُّ عليها ما قبْلَها، وقدَّر الجملةَ المذكورةَ بقولِه: فلا أكون كالكفارِ الذين تهمزُهم الشياطينُ ويحضرونَهم، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ...). ((أضواء البيان)) (5/353). .
- وفي قَولِه: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قدَّمَ المفعولَ فقال: أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ؛ لِيذْهَبَ الوَهْمُ في فاعِلِه كلَّ مَذهَبٍ [881] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/184). .
- وضَمائرُ الغَيبةِ عائدةٌ إلى ما عادَتْ عليه الضَّمائرُ السَّابقةُ مِن قولِه: قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون: 82] إلى ما هنا، وليست عائدةً إلى الشَّياطينِ، ولقَصْدِ إدماجِ التَّهديدِ بما سيُشاهِدون مِن عَذابٍ أُعِدَّ لهم، فيَندَمُون على تَفريطِهم في مُدَّةِ حَياتِهم [882] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/123). .
6- قوله تعالى: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
- قولُه: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ في مَوضِعِ العِلَّةِ لمَضمونِ قولِه: ارْجِعُونِ [883] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/123). . وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث لم يَنظِمْه في سِلْكِ الرَّجاءِ كسائرِ الأعمالِ الصَّالحةِ، بأنْ يقولَ: (لعلِّي أُؤمِنُ فأعمَلَ...) إلخ؛ للإشعارِ بأنَّه أمْرٌ مُقرَّرُ الوُقوعِ، غَنِيٌّ عن الإخبارِ بوُقوعِه قَطْعًا، فضْلًا عن كَونِه مَرْجُوَّ الوُقوعِ [884] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/150). .
- والتَّركُ هنا في قولِه: فِيمَا تَرَكْتُ مُسْتعمَلٌ في حَقيقتِه، وهو معنَى التَّخليةِ والمُفارَقةِ. والمُرادُ بـ فِيمَا تَرَكْتُ عالَمُ الدُّنيا. ويَجوزُ أنْ يُرادَ بالتَّركِ الإعراضُ والرَّفضُ، على أنْ يكونَ المُرادُ بـ (ما) الموصولةِ الإيمانَ باللهِ وتَصديقَ رَسولِه، فذلك هو الَّذي رفَضَه كلُّ مَن يَموتُ على الكُفرِ؛ فالمعنَى: لعلِّي أُسلِمُ، وأعمَلُ صالِحًا في حالةِ إسْلامي الَّذي كنْتُ رَفضْتُه؛ فاشتمَلَ هذا المعنى على وَعْدٍ بالامتِثالِ، واعتِرافٍ بالخطأِ فيما سلَفَ، ورُكِّبَ بهذا النَّظمِ المُوجَزِ؛ قَضاءً لحَقِّ البلاغةِ [885] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/123). .
- قولُه: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا كَلَّا رَدْعٌ عن طلَبِ الرَّجعةِ، وإنكارٌ واستِبعادٌ [886] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/203)، ((تفسير البيضاوي)) (4/95)، ((تفسير أبي حيان)) (7/584)، ((تفسير أبي السعود)) (6/150). . وقولُه: إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا تَركيبٌ يَجْري مَجرى المثَلِ، وهو مِن مُبتكَراتِ القُرآنِ، وحاصِلُ معناهُ: أنَّ قَولَ المُشرِكِ: رَبِّ ارْجِعُونِ ... إلخ، لا يَتجاوزُ أنْ يكونَ كَلامًا صدَرَ مِن لِسانِه لا جَدْوى له فيه، أي: لا يُستجابُ طلَبُه به؛ فجُملةُ هُوَ قَائِلُهَا وَصفٌ لـ كَلِمَةٌ، أي: هي كَلِمةٌ هذا وَصْفُها. وإذ كان مِن المُحقَّقِ أنَّه قائِلُها، لم يكُنْ في وَصْفِ كَلِمَةٌ به فائدةٌ جديدةٌ؛ فتَعيَّنَ أنْ يكونَ الخبَرُ مُسْتعمَلًا في معنَى أنَّه لا وَصْفَ لكَلِمتِه غيرُ كَونِها صدَرَتْ مِن فِي صاحِبِها، وبذلك يُعلَمُ أنَّ التَّأكيدَ بحَرفِ (إنَّ)؛ لتَحقيقِ المعنى الَّذي استُعمِلَ له الوَصفُ [887] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/123، 124). .
- والضَّميرُ في قولِه: وَمِنْ وَرَائِهِمْ لأحدِهم، والجَمْعُ باعتِبارِ المعنَى؛ لأنَّه في حُكْمِ كلِّهم، كما أنَّ الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتِبارِ اللَّفظِ [888] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/150). .
- قولُه: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إقناطٌ كُلِّيٌّ لِمَا عُلِمَ أنَّه لا رَجعةَ يومَ البَعثِ إلَّا إلى الآخرةِ؛ ففيه التَّقييدُ بالمُحالِ للمُبالَغةِ [889] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/203)، ((تفسير البيضاوي)) (4/95)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/628)، ((تفسير أبي حيان)) (7/584)، ((تفسير أبي السعود)) (6/150)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/124). .