موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيات (24-26)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

يَحُولُ: أي: يَحجُز، وأصلُ الحَوْلِ: تغيُّرُ الشَّيءِ، وانفصالُه عن غَيرِه [309] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 178)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 508)، ((المفردات)) للراغب (ص: 266)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 127)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 85)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 218). .
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ: أي: يأخُذونَكم بِسُرعةٍ، ويَستَلِبونَكم، ويقتلُونَكم، والخَطفُ: أَخذُ الشَّيءِ بِسُرعةٍ واستِلابٍ [310] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/117)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 211)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/196)، ((المفردات)) للراغب (ص: 286)، ((تفسير القرطبي)) (7/394). .
فَآوَاكُمْ: أي: جعَلَ لكم مَأوًى تأوون إليه، وأصْلُه: يدلُّ على التَّجمُّعِ [311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/117)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1 /151)، ((المفردات)) للراغب (ص: 103)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 127)، ((تفسير القرطبي)) (7/394). .
وَأَيَّدَكُمْ: أي: قَوَّاكم وأعانَكم، والأَيْدُ: القُوَّةُ الشَّديدةُ، وأصلُ (أيد): يدلُّ على القوَّةِ والحِفظِ [312] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 148)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/163)، ((المفردات)) للراغب (ص: 97)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 127)، ((تفسير القرطبي)) (7/394)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 225). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ عِبادَه المُؤمنينَ أن يَستَجيبوا بالطَّاعةِ للهِ وللرَّسولِ، إذا دعاهم الرَّسولُ إلى ما فيه صَلاحٌ وحياةٌ لِأبدانِهم وأرواحِهم في الدُّنيا والآخرةِ، وأن يَعلَموا أنَّ اللهَ يحجُزُ بين المَرءِ وقَلبِه إذا شاء، وأنَّه إليه تعالى مَصيرُهم يومَ القِيامةِ.
وأمَرَهم أن يَحذَرُوا بلاءً يأتيهم مِن رَبِّهم، لا يختَصُّ وقوعُه بِمَن ظَلَم نفسَه بارتكابِ المعاصي، بل يعُمُّ المُسيءَ وغَيرَه، مِمَّن رأى المُنكَر يُرتكَبُ ولم يَنْهَ عنه، ولم يُغَيِّرْه، إن كان قادرًا على ذلك، وأن يَعلموا أنَّه سُبحانَه شَديدُ العِقابِ.
وأمَرَهم أن يَذكُروا إذ هم قَليلٌ عَدَدُهم، يستضعِفُهم أعداؤُهم، يخافونَ أن يَستَلِبَهم الكُفَّارُ، فيأخُذوهم بِسُرعةٍ واحدًا تِلوَ الآخَرِ، فيقتُلوهم، فآواهم اللهُ، وقَوَّاهم وأعانَهم، حتى انتَصَروا على أعدائِهم، ورَزَقهم من الطَّيِّباتِ؛ لعلَّهم يَشكُرونَ.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ.
أي: يا أيُّها المؤْمِنونَ أجيبُوا اللهَ ورَسولَه بِطاعَتِهما، والمُبادرةِ إلى الانقيادِ لِأمْرِهما، واجتنابِ نَهْيِهما [313] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (6/77)، ((تفسير ابن جرير)) (11/105)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/452)، ((تفسير ابن عطية)) (2/514)، ((تفسير السعدي)) (ص: 318)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/312). .
إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.
أي: إذا دعاكم الرَّسولُ إلى ما فيه صلاحٌ لكم، وحياةٌ طيبةٌ نافعةٌ لأبدانِكم وأرواحِكم؛ في الدُّنيا والآخرةِ، كالدَّعوةِ إلى الجِهادِ [314] قال ابنُ القيِّم: (قَالَ الواحديُّ والأكثرونَ على أَنَّ معنَى قولِه: لِمَا يُحْيِيكُمْ هو الجهادُ، وهو قولُ ابنِ إِسحاقَ، واختيارُ أكثرِ أهلِ المعاني). ((الفوائد)) (ص: 88)، ويُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/452). ، والدَّعوةِ إلى تدبُّرِ القُرآنِ والعَمَلِ به، وغَيرِ ذلك مِن كُلِّ ما دعا اللهُ ورَسولُه إليه ظاهِرًا وباطِنًا [315] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (6/77)، ((تفسير ابن جرير)) (11/105)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/452)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 88-89)، ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) لابن القيم (1/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 318)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/312). ونسَبَ ابنُ عطيَّةَ إلى مجاهدٍ والجُمهورِ القَولَ بأنَّ المرادَ بما يُحيي المؤمنينَ: الطَّاعةُ، وما تضمَّنَه القرآنُ مِن أوامِرَ ونَواهٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/514). وذكر ابنُ القيِّم عباراتِ السَّلف في معنَى قولِه: لِمَا يُحْيِيكُمْ، ومنها: للحقِّ- القرآنِ- الإسلامِ- الحربِ والجهادِ، ثم قال: (وهذه [كُلُّها] عباراتٌ عن حقيقةٍ واحدةٍ، وهي القيامُ بما جاء به الرَّسولُ ظاهِرًا وباطِنًا). وقال أيضًا: (والآيةُ تتناوَلُ هذا كُلَّه؛ فإنَّ الإيمانَ والإسلامَ والقُرآنَ والجهادَ، يُحيي القُلوبَ الحياةَ الطَّيبةَ، وكَمالُ الحياةِ في الجنَّةِ، والرَّسولُ داعٍ إلى الإيمانِ وإلى الجنَّةِ، فهو داعٍ إلى الحياةِ في الدُّنيا والآخرةِ). ((الفوائد)) (ص: 88-89). .
كما قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122].
وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .
وقال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 169 - 171] .
وشبَّه سبحانه مَن لا يستجيبُ لرسولِه بأصحابِ القبورِ، فقال: إنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ [316] قال ابنُ القَيِّم: (هذا مِن أحسَنِ التَّشبيهِ؛ فإنَّ أبدانَهم قُبورٌ لِقُلوبِهم، فقد ماتت قُلوبُهم وقُبِرَت في أبدانِهم). ((إغاثة اللهفان)) (1/22). [فاطر: 22] .
وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَومَ الْقيَامَة أَعْمَى [طه:124] .
وعن أبي سعيدِ بنِ المعلَّى رضي الله عنه، قال: ((كنتُ أُصلِّي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلمْ أُجبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إني كنتُ أُصلِّي، فقالَ: ألم يقلِ اللهُ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ. ثم قال لي: لأُعلِّمنَّكَ سورةً هي أعظمُ السوَرِ في القرآنِ، قبل أن تخرجَ منَ المسجدِ. ثمَّ أخَذ بيدي، فلما أراد أن يخرجَ، قلتُ لهُ: ألم تقلْ: لأُعلِّمنَّكَ سورةً هي أعظمُ سورةٍ في القرآنِ. قال: الحمدُ للهِ ربِّ العالمِينَ: هي السبعُ المثاني، والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُهُ )) [317] رواه البخاري (4474). .
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا أمَرَهم اللهُ تعالى بالاستجابةِ له ولرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حذَّرهم من التَّخَلُّفِ والتأخُّرِ عن الاستجابةِ، الَّذِي يكونُ سَببًا لِأنْ يحولَ بينَهم وبينَ قُلوبِهم [318] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 318). ، فقال:
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
أي: واعلَموا- أيُّها المؤْمنونَ- أنَّ اللهَ تعالى يحجُزُ بين العَبدِ وقَلبِه إذا شاء، فلا يستطيعُ المَرءُ أن يُدرِكَ ويعِيَ به شيئًا مِن حقٍّ أو باطلٍ، إلَّا بإذنِ اللهِ تعالى، فقُلوبُكم بِيَدِ خالِقِكم سُبحانه، يُصَرِّفُها ويُقَلِّبُها كيف يشاءُ؛ يُصَرِّفُها مِن الهُدى إلى الضَّلالةِ، ومِن الضَّلالةِ إلى الهُدى، فإيَّاكم أن تردُّوا أمْرَ اللهِ حين يأتِيكم، أو تتثاقَلُوا وتتباطَؤُوا عن الاستجابةِ له، فلا تأمَنُوا حينَها أن يُحالَ بينَكم وبينَ قُلوبِكم، فلا تَقْدِروا على الاستجابةِ بعد ذلك إذا أردْتُموها [319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/112 - 113)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/452)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 90)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 31)، ((تفسير السعدي)) (ص: 318)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/557). وهذا المعنى المذكورُ هو في الجُملةِ اختيارُ ابنِ جريرٍ، والواحديِّ، والسعديِّ، والشنقيطيِّ. ونسبَه ابنُ القَيِّم إلى جمهورِ المُفَسِّرين. يُنظر: المصادر السابقة. وممن رُوي عنه هذا القولُ مِن السَّلفِ: السُّديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/111). وثمَّ معنًى آخرُ ذكره الزَّجاج، وذكره الواحدي عن قتادة، وذكره ابنُ القَيِّم، ورآه أنسبَ للسياقِ، وهو أنَّ اللهَ تعالى قريبٌ مِن قَلبِ العَبدِ، وأقرَبُ إليه مِن قَلْبِه، لا يخفَى عليه شيءٌ أظهَرَه أو أسَرَّه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/409)، ((البسيط)) للواحدي (10/92)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 90). .
كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110].
وقال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .
وقال تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف: 101] .
وقد أثنَى الله عزَّ وجلَّ على عبادِه الراسخينَ في العلمِ بأنَّهم يقولونَ: آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7] إلى أن قال عنهم: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [320] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/557). [آل عمران: 8] .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ أن يقولَ: يا مقلِّبَ القُلوبِ! ثبِّتْ قَلبي علَى دينِك، فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ! آمنَّا بك وبما جئتَ بهِ، فهل تخافُ علَينا؟! قال: نعَم؛ إنَّ القُلوبَ بين أُصبعَينِ من أصابعِ اللهِ، يقلِّبُها كيف يشاءُ )) [321] أخرجه الترمذي (2140)، وابن ماجة (3834)، وأحمد (12107)، والبزار (7508). حسنه الترمذي، وقال الذهبي في ((الميزان)) (2/343): صحيح غريب. وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) ( 1/112): رجاله رجال مسلم في الصحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2140). .
وعن النوَّاسِ بنِ سمعانَ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((ما مِن قلبٍ إلَّا وهو بينَ أُصبعينِ مِن أصابعِ ربِّ العالمينَ، إن شاء أن يُقيمَه أقامه، وإن شاء أن يُزيغَه أزاغه. وكان يقولُ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلوبَنا على دينِك )) [322] أخرجه ابن ماجه (199)، وأحمد (17630) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7738). أخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) (943)، وقال ابنُ منده في ((الرد على الجهمية)) (87): ثابتٌ، رواه الأئمةُ المشاهيرُ ممن لا يمكنُ الطعنُ على واحدٍ منهم، وجوَّد إسنادَه بنحوه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/56)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (166). .
 وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أي: واعلَمُوا- أيُّها المؤمنونَ- أيضًا مع العِلمِ بأنَّ اللهَ يَحولُ بينَ المرءِ وقَلْبِه، أنَّ إلى اللهِ تعالى مَصيرَكم ومَرجِعَكم يومَ القيامةِ، فتُجمَعون إليه وَحْدَه، فيُوفِّيكم جزاءَ أعمالِكم؛ إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ، فاحذروا مِن تَرْكِ الاستجابةِ لِرَسولِه إذا دعاكم لِما يُحيِيكم [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/113)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/452)، ((تفسير السعدي)) (ص: 318)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/558). .
كما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة: 203] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنعام: 72] .
وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه عقَّبَ التَّحريضَ على الاستجابةِ، المُستلزِمَ التَّحذيرَ مِن ضِدِّها، بتَحذيرِ المُستجيبينَ مِن إعراضِ المُعرِضينَ؛ لِيَعلَموا أنَّهم قد يلحَقُهم أذًى مِن جرَّاءِ فِعلِ غَيرِهم، إذا هم لم يُقَوِّمُوا عِوَجَ قَومِهم؛ كيلا يحسَبُوا أنَّ امتثالَهم كافٍ إذا عصى دَهْماؤُهم، فحَذَّرَهم فتنةً تَلحَقُهم، فتعُمُّ الظَّالمَ وغيرَه [324] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/316). ، فقال:
وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً.
أي: احْذَروا- أيُّها المؤمنونَ- مِن بلاءٍ يأتيكم مِن اللهِ، لا يختَصُّ وقوعُه بمَن ظَلَم نَفسَه بارتكابِ المعاصي، بل يعُمُّ المسيءَ وغَيرَه، ممَّن يرى المُنكَر يُرتكَبُ، ولا ينهَى عنه، أو يُغيِّرُه مع قدرتِه على ذلك، فحينَ لا تُدفَعُ ولا تُرفَعُ تلك المعاصي الظَّاهرةُ بالنَّهيِ عنها، وقَمْعِ أهلِها، وعدَمِ تَمكينِهم منها، حينَها يعُمُّ اللهُ تعالى الجميعَ بعقابٍ يَحُلُّ بهم [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/113)، ((تفسير القرطبي)) (7/392-393)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/382-383)، ((تفسير ابن كثير)) (4/37-38)، ((تفسير السعدي)) (ص: 318)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/558-60). ونسَب الشنقيطيُّ هذا القولَ إلى جمهورِ المفسِّرينَ. قال ابنُ كثيرٍ: (والقَولُ بأنَّ هذا التَّحذيرَ يعُمُّ الصَّحابةَ وغَيرَهم- وإن كان الخطابُ معهم- هو الصَّحيحُ، ويدلُّ على ذلك الأحاديثُ الواردةُ في التَّحذيرِ مِن الفِتَنِ). ((تفسير ابن كثير)) (4/38). .
كما قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78-79] .
وعن زينبَ بنتِ جَحشٍ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((استيقَظَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن النَّومِ مُحمَرًّا وجهُه، يقول: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويلٌ للعَرَبِ من شرٍّ قد اقتَرَب، فُتِحَ اليومَ من ردْمِ [326] الرَّدْمُ: السَّدُّ، وهو سدٌّ بناه ذو القَرنينِ في وجهِ يأجوجَ ومأجوجَ؛ كي لا يخرجوا مِن مواطِنِهم في الأرضِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (5/322). يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه. وعقَدَ سُفيانُ تسعينَ أو مِئةً [327] عَقدُ التِّسعينَ: وهو أنْ تَجْعلَ رأسَ الأصْبعِ السَّبَّابةِ في أصلِ الإبْهامِ، وتَضُمُّها حتَّى لا يَبِينَ بينَهما إلَّا خَلَلٌ يَسِيرٌ، وعَقدُ المئةِ مِثلُ عَقدِ التِّسعينَ، لكن بالخِنصَر اليُسرى. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/216)، ((فتح الباري)) لابن حجر (13/108). ، قيل: أنَهلِكُ وفينا الصَّالِحونَ؟ قال: نعم، إذا كثُرَ الخبَثُ [328] الخَبَثُ: المرادُ به الفُسوقُ والفجورُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/109). ) [329] رواه البخاري (7059)، واللفظ له، ومسلم (2880). .
وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَثَلُ القائمِ على حُدودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كمَثَلِ قومٍ استَهَمُوا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفَلَها، فَكانَ الَّذينَ في أسفَلِها إذا استَقَوا منَ الماءِ مرُّوا على مَن فَوقَهم، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصيبِنا خَرقًا ولم نُؤذِ مَن فَوْقَنا، فإن يترُكوهم وما أرادُوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذُوا على أيدِيهم نَجَوْا، ونَجَوْا جميعًا )) [330] رواه البخاري (2493). .
وعن قَيسِ بنِ أبي حازمٍ، قال: ((قال أبو بكرٍ، بعد أن حَمِدَ اللهَ، وأثنَى عليه: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّكم تَقرَؤونَ هذه الآيةَ، وتَضعونَها على غيرِ مَوضِعِها: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وإنَّا سَمِعْنا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: إنَّ النَّاسَ إذا رأَوُا الظَّالمَ فلَم يأخُذوا على يدَيْه؛ أوشَكَ أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ )) [331] أخرجه أبو داود (4338) واللفظ له، والترمذي (2168) (3057)، وأحمد (1/208). قال الترمذي (حسن صحيح )، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/208)، وابنُ العربيِّ في ((الناسخ والمنسوخ)) (2/205)، والألباني في ((صحيح أبي داود)) (4338 )، وصحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (412 )، وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (1/36). .
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: واعلَمُوا- أيُّها المُؤمنونَ- أنَّ رَبَّكم شديدٌ عقابُه لِمَن تعرَّض لمساخطِه، وجانَب رِضاه، بِتَركِه امتثالَ أوامِرِه، واجتنابَ نواهِيه [332] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/116)، ((تفسير السعدي)) (ص: 318)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/561). .
وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ سُبحانه قَولَه: أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وكان مِن أشَدِّ العِقابِ الإذلالُ؛ حَذَّرَهموه بالتَّذكيرِ بما كانوا فيه مِن الذُّلِّ [333] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/259). .
وأيضًا لما أمر الله تعالى بالاستجابةِ له ولرسولِه؛ ذكَّر المُؤمنينَ بنعمتِه عليهم بالعِزَّةِ والنَّصرِ، بعد الضَّعفِ والقِلَّةِ والخَوفِ؛ لِيَذكُروا كيف يَسَّرَ اللهُ لهم أسبابَ النَّصرِ مِن غَيرِ مظانِّها، حتى أوصَلَهم إلى مُكافحةِ عَدُوِّهم، وأنْ يتَّقيَ أعداؤُهم بأسَهم، فكيف لا يستجيبونَ لله فيما بعدَ ذلك، وهم قد كَثُروا وعَزُّوا وانتصَرُوا [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/319). ؟!
وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ.
أي: واذكُرُوا- أيُّها المؤمنونَ- حين كان عَدَدُكم قليلًا جدًّا، أثناءَ مُقامِكم بأرضِ مَكَّةَ، يراكم أعداؤُكم ضُعَفاءَ، ويَقْهَرونَكم، ويُؤذُونكم بسبَبِ إيمانِكم [335] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/117)، ((تفسير ابن كثير)) (4/40)، ((تفسير السعدي)) (ص: 319)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/562). .
تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ.
أي: تَخافونَ أن يستَلِبَكم الكُفَّارُ [336] اختار ابنُ جريرٍ أنَّ المرادَ بالنَّاسِ هنا: مُشرِكو قريشٍ، وذهب ابنُ كثيرٍ إلى أنَّ المُرادَ بهم مَن يُعادِيهم مِن النَّاسِ مِن سائِرِ بلادِ اللهِ؛ مِن مُشركٍ ومَجوسيٍّ وروميٍّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/119)، ((تفسير ابن كثير)) (4/40). ، فيأخُذوكم بسرعةٍ، واحدًا تِلوَ الآخَرِ، فيقتلوكم؛ إذ لم تكُنْ لديكم مَنَعةٌ بكثرةٍ ولا بِقُوَّةٍ [337] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/117، 119، 120)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/453)، ((تفسير ابن كثير)) (4/40)، ((تفسير السعدي)) (ص: 319)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/562-563). .
فَآوَاكُمْ.
أي: فجعَلَ لكم بلدًا تَأوُونَ إليه مِنهم، وهي المدينةُ: دارُ الهِجرةِ [338] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/117، 120)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/453)، ((تفسير ابن كثير)) (4/40)، ((تفسير السعدي)) (ص: 319)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/563). .
وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ.
أي: وقوَّاكم وأعانَكم بأهلِ المَدينةِ؛ الأنصارِ، فتَمَكَّنتُم مِن الانتصارِ على أعدائِكم بِبَدرٍ وغَيرِها [339] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/117، 120)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/453)، ((تفسير ابن كثير)) (4/40)، ((تفسير السعدي)) (ص: 319)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/563). .
قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123] .
وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ.
أي: وأطعَمَكم الغنائِمَ حلالًا طيِّبًا، كما رزَقَكم غنائِمَ يومَ بَدرٍ [340] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/117)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/453)، ((تفسير القرطبي)) (7/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 319)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/564). .
كما قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا [الأنفال: 69] .
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: تذكَّروا هذا الإنعامَ والإحسانَ التَّامَّ؛ لأجْلِ أن تَشكُروا المُنعِمَ سُبحانَه على ذلك، فتُطيعوه وتَعبُدوه وَحدَه؛ حيث كُنتُم قليلينَ فكَثَّركم، وأذلَّةً مُستضعَفينَ خائِفينَ، فأعَزَّكم وقوَّاكم ونَصَركم، وفُقراءَ عالةً فأغناكم ورَزَقَكم [341] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/117)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/453)، ((تفسير ابن كثير)) (4/40)، ((تفسير السعدي)) (ص: 319)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/562، 564، 565). قال الشنقيطي: (شُكْرُ العَبدِ لِرَبِّه. قال بعضُ العُلَماءِ: ضابِطُه المُنطَبِقُ على جُزئيَّاتِه: هو أن يَستعمِلَ جميعَ نِعَمِ الله فيما يُرضِي اللهَ). ((العذب النمير)) (4/564). .
قال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .
وقال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل: 114] .
وقال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15] .

الفوائد التربوية:

1- حياةُ القَلبِ والرُّوحِ تكونُ بالعبوديَّةِ لله تعالى، ولُزومِ طاعَتِه وطاعةِ رَسولِه على الدَّوامِ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، فقَولُه: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وصفٌ مُلازِمٌ لكُلِّ ما دعا اللهُ ورَسولُه إليه، وبيانٌ لِفائِدَتِه وحِكمَتِه [342] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 318). .
2- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الحياةُ النَّافعةُ إنَّما تحصُلُ بالاستجابةِ لِلَّهِ ورَسولِه، فمَن لم تحصُلْ له هذه الاستجابةُ، فلا حياةَ له، وإن كانت له حياةٌ بَهيميَّةٌ مُشتَركةٌ بينه وبين أرذَلِ الحيواناتِ؛ فالحياةُ الحقيقيَّةُ الطَّيبةُ هي حياةُ مَن استجابَ للهِ والرَّسولِ ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاءِ هم الأحياءُ وإن ماتوا، وغيرُهم أمواتٌ وإن كانوا أحياءَ الأبدانِ؛ ولهذا كان أكمَلُ النَّاسِ حياةً أكمَلَهم استجابةً لِدَعوةِ الرَّسولِ، فإنْ كان ما دعا إليه فيه الحياةُ، فمَن فاتَه جُزءٌ منه فاتَه جزءٌ مِن الحياةِ، وفيه من الحياةِ بحَسَبِ ما استجابَ للرَّسولِ [343] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 88). .
3- اللهُ تعالى هو القادِرُ على الحَيلولةِ بينَ الإنسانِ وبين ما يَشتَهيه قَلبُه؛ فهو بِيَدِه تعالى مَلكوتُ كُلِّ شَيءٍ وزِمامُه، قال اللهُ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وفي ذلك حَضٌّ على المُراقبةِ والخوفِ منه تعالى، والبِدارِ إلى الاستجابةِ له [344] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/302). .
4- قولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: إلى اللهِ تعالى تُحشَرونَ لا إلى غَيرِه، فيُجازيكم بأعمالِكم، ولا تُترَكونَ مُهمَلينَ مُعَطَّلينَ، وفي ذلك ترغيبٌ شَديدٌ في العَملِ، وتحذيرٌ عن الكَسَلِ والغَفلةِ [345] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/473)، ((تفسير الشربيني)) (1/564). .
5- قوله: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ  قولُه: شَدِيدُ الْعِقَابِ فيه تحذيرٌ شديدٌ، وتخويفٌ لمن يُقصِّرُ في امتثالِ أمرِه، واجتنابِ نهيِه، فليس للمسلمِ أن يُقصِّر في الأمرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن المنكرِ ما وجَد إلى ذلك سبيلًا [346] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/561). .
6- في قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً دليلٌ على وجوب المراعاةِ، وأَخْذِ الحذرِ، والاحتراسِ مِن الفتنِ قبلَ وقوعِها [347] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/468). .
7- النُّقلةُ مِن الشِّدَّةِ إلى الرَّخاءِ، ومِن البَلاءِ إلى النَّعماءِ والآلاءِ؛ تُوجِبُ الاشتغالَ بالشُّكرِ والطَّاعةِ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [348] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/474). .
8- في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ دليلٌ على وجوب تَذَكُّرِ النِّعَم؛ والفِكْرِ في حُسْنِ صنيعِ اللهِ [349] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/469). .
9- في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ دليلٌ على أنَّ تَذَكُّرَ النِّعَم يَستخرجُ الشكرَ مِن العبدِ؛ فإذا أغفلها أغفلَ الشُّكرَ معها [350] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/469). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إعادةُ حَرفِ الجَرِّ بعد واو العَطفِ في قَولِه: وَلِلرَّسُولِ؛ للإشارةِ إلى استقلالِ المَجرورِ بالتَّعَلُّقِ بفِعلِ الاستجابةِ؛ تَنبيهًا على أنَّ استجابةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعَمُّ مِن استجابةِ اللهِ؛ لأنَّ الاستجابةَ لِلَّهِ لا تكونُ إلَّا بمعنى الطَّاعةِ، بخلافِ الاستجابةِ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّها بالمعنى الأعَمِّ- وهو استجابةُ نِدائه، والطَّاعةُ- فأُريدَ أمْرُهم بالاستجابةِ للرَّسولِ بالمعنَيَينِ كُلَّما صَدَرَت منه دعوةٌ تقتضي أحَدَهما [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/312). .
2- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ يقتضي الأمرَ بالامتثالِ لِما يَدعُو إليه الرَّسولُ، سواءٌ دعا حقيقةً بِطَلبِ القُدومِ، أم طَلَبَ عَملًا من الأعمالِ؛ فلذلك لم يكُن قَيدُ لِمَا يُحْيِيكُمْ مقصودًا لتقييدِ الدَّعوةِ بِبَعضِ الأحوالِ، بل هو قَيدٌ كاشِفٌ؛ فإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَدعُوهم إلَّا وفي حُضُورِهم لديه حياةٌ لهم [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/312). .
3- ليس قولُه: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قيدًا للأمرِ باستجابةٍ، ولكنَّه تنبيهٌ على أنَّ دعاءَه إيَّاهم لا يكونُ إلَّا إلى ما فيه خيرٌ لهم، وإحياءٌ لأنفسِهم [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/312)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 103-104). ، وقيل: هو تنبيهٌ على وُجوبِ اتِّباعِ الرَّسولِ في كلِّ ما يدعو إليه، وحكمةُ الإتيانِ به: الإعلامُ بأنَّه ما ترك خيرًا إلَّا دعا إليه [354] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/253). .
4- لمَّا كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعوهم لا محالةَ، لأنَّ الله تعالى أمَره بدعائِهم، وكان لا يَدْعوهم إلَّا إلى ما أمَره الله به، وكان سبحانَه لا يَدْعو إلَّا إلى صلاحٍ ورشدٍ؛ عبَّر بأداةِ التحقيقِ إِذَا ووحَّد الضميرَ دَعَاكُمْوشوَّق بإثمارِ الحياةِ لِمَا يُحْيِيكُمْ [355] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/251). .
5- لَمَّا كان اجتِناءُ ثَمرةِ الطَّاعةِ في غايةِ القُربِ؛ نَبَّه على ذلك باللَّامِ دُونَ (إلى)، فقال: لِمَا يُحْيِيكُمْ [356] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/251). .
6- في قولِه تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ لَمَّا كان وجودُ مُطلَقِ الاستضعافِ دالًّا على غايةِ الضَّعفِ؛ بنى للمَفعولِ قَولَه: مُسْتَضْعَفُونَ [357] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/259). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
- تكريرُ النِّداءِ مع وَصْفِهم بنَعتِ الإيمانِ؛ لِتَنشيطِهم إلى الإقبالِ على الامتثالِ بما يَرِدُ بَعدَه من الأوامِرِ، وتنبيهِهم على أنَّ فيهم ما يُوجِب ذلك [358] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/16). ، أي: إنَّ الإيمانَ هو الذي يقتضي أن يَثِقُوا بعنايةِ اللهِ بهم، فيمتَثِلوا أمْرَه إذا دعاهم [359] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/311). .
- ووحَّدَ الضَّميرَ في قَولِه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ؛ لأنَّ الدُّعاءَ مِن فِعلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُباشرةً، ولأنَّ استجابةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كاستجابَتِه تعالى [360] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/210)، ((تفسير أبي حيان)) (5/301)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/312). .
- والسِّينُ والتَّاءُ في اسْتَجِيبُوا للتَّأكيدِ [361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/312). .
2- قَولُه تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
- افتُتِحَت الجملةُ بـ (اعْلَمُوا)؛ للاهتمامِ بما تتضَمَّنُه، وحَثِّ المُخاطَبينَ على التأمُّلِ فيما بَعدَه [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/314). .
- وفيه تعريضٌ غالبًا بغَفلةِ المُخاطَبِ عن أمرٍ مُهِمٍّ؛ فمِنَ المَعروفِ أنَّ المُخبِرَ أو الطَّالِبَ، ما يُريدُ إلَّا عِلمَ المُخاطَبِ، فالتَّصريحُ بالفِعلِ الدَّالِّ على طلَبِ العِلمِ مَقصودٌ للاهتمامِ [363] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/314). .
- قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فيه تَصويرٌ لتَمَلُّكِه سُبحانَه على العَبدِ قَلبَه، بحيثُ يَفسَخُ عَزائِمَه، ويُغَيِّرُ نِيَّاتِه ومَقاصِدَه، ويَحولُ بينه وبينَ الكُفرِ إن أرادَ سَعادَتَه، ويُبَدِّلُه بالأمْنِ خَوفًا، وبالذِّكرِ نِسيانًا، وما أشبَهَ ذلك من الأمورِ المُعتَرِضة المُفَوِّتةِ للفُرصةِ. والمقصودُ مِن هذا تَحذيرُ المُؤمنينَ مِن كُلِّ خاطِرٍ يخطُرُ في النُّفوسِ: مِنَ التَّراخي في الاستجابةِ إلى دَعوةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتنصُّلِ منها، أو التسَتُّرِ في مُخالَفتِه، والحثُّ على المُبادرةِ بالامتثالِ، وعَدَمِ إرجاءِ ذلك إلى وَقتٍ آخرَ؛ خَشيةَ أن تعتَرِضَ المرءَ موانِعُ مِن تَنفيذِ عَزمِه على الطَّاعةِ [364] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/16)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/315). .
- وقوله: يَحُولُ جيء به بصيغةِ المُضارعِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك يتجَدَّدُ ويستمِرُّ [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/315). .
- قولُه: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تقديمُ مُتعَلِّقِ تُحْشَرُونَ عليه؛ لإفادةِ الاختصاصِ، أي: إليه لا إلى غَيرِه تُحشَرونَ، وهذا الاختصاصُ للكنايةِ عَن انعدامِ ملجأٍ أو مخبأٍ تلتجِؤونَ إليه مِن الحَشرِ إلى اللهِ؛ فكنَّى عن انتفاءِ المكانِ بانتفاءِ مَحشورٍ إليه غيرِ اللهِ، بأبدَعِ أُسلوبٍ [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/315). .
3- قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
- جيءَ بالجُملةِ أَنْتُمْ قَلِيلٌ اسميَّةً؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ وَصفِ القِلَّةِ والاستضعافِ فيهم [367] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/319). .
- وجملة: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إدماجٌ بذِكرِ نِعمةِ تَوفيرِ الرِّزقِ في خلالِ المِنَّةِ بنِعمةِ النَّصرِ، وتوفيرِ العَدَدِ بعدَ الضَّعفِ والقِلَّةِ؛ فإنَّ الأمنَ ووَفرةَ العَددِ يَجلِبانَ سَعةَ الرِّزقِ [368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/320). .