موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (134-137)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ

غريب الكلمات :

الرِّجْزُ: العذابُ والسَّخَطُ، وأَصْلُ (رجز): الاضْطِرابُ [1500] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 50)، ((تفسير ابن جرير)) (10/399)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/489)، ((المفردات)) للراغب (1/341). .
بَالِغُوهُ: أي: واصِلونَ إليه، والبُلوغُ والبَلاغُ: الانتهاءُ إلى أقْصى المَقْصِدِ والمُنْتَهى، تَقولُ: بَلَغَ المَكانَ، إذا وَصَلَ إليه، وأَصْلُ (بلغ): الوُصولُ إلى الشَّيْءِ [1501] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/301)، ((المفردات)) للراغب (ص: 144). .
يَنْكُثُونَ: أي: يَنقُضونَ عَهْدَهم، والنكثُ نقضُ ما أُبْرِم، ويُستعملُ في الأجسامِ وفي المعاني، وأصلُ (نكث) يَدُلُّ عَلَى نَقْضِ شَيْءٍ [1502] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 507)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/475) ((المفردات)) للراغب (ص: 822)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 117)، ((تفسير ابن عطية)) (2/446)،  ((تفسير القرطبي)) (7/271). .
الْيَمِّ: أي: البَحْرِ، أو النِّيلِ [1503] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/57)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 171)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 465)، ((المفردات)) للراغب (ص: 893). .
يَعْرِشُونَ: أي: يَبْنونَ، والعُروشُ: البُيوتُ والسُّقوفُ، والعَرْشُ في الأصل: شَيءٌ مُسَقَّفٌ، وأصْلُ (عرش) يَدُلُّ على ارْتِفاعٍ في شَيْءٍ مَبْنِيٍّ [1504] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 172)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 507)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/264)، ((المفردات)) للراغب (ص: 558)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 117)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 988). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّه لَمَّا وقَعَ على آلِ فرعونَ العذابُ عقوبةً لهم، طَلَبوا من موسى أنْ يَدْعوَ اللهَ بما أوْصاه أن يدعوَ به حتى يَكُفَّ عنهم هذا العذابَ، ووَعَدوه مُقْسِمينَ له: لَئِنْ كَشَفَ عنهم هذا العذابَ ليُؤمِنُنَّ له، وليُرسِلُنَّ معه بني إسرائيلَ، فلمَّا كَشَفَ اللهُ عنهم هذا العذابَ، وأَمْهَلَهم إلى الوقتِ المُقدَّرِ لهلاكِهم، إذا بهم يَنْكُثونَ العَهْدَ الَّذي التَزَموه؛ فانتقم اللهُ منهم، فأَغْرَقهم في البحرِ؛ لكَوْنِهم كذَّبوا بآياتِه، وكانوا عنها غافلين.
وأَوْرَثَ اللهُ بني إسرائيلَ، الَّذين كانوا يُقهَرونَ ويُستعبَدونَ، مشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها الَّتي جَعَلَ اللهُ فيها البرَكةَ، ووَفَّى الله تعالى بما وَعَدَ به بني إسرائيلَ مِن إهلاكِ عدوِّهم، وتمكينِهم في الأرضِ؛ لِكَوْنِهم صَبَروا، ودمَّرَ ما كان يَصْنَعُ فرعونُ وقومُه، وما كانوا يَبنونه ويرفعونه مِنَ المباني والقُصورِ.

تفسير الآيات :

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ
أي: ولَمَّا نزَلَ بآلِ فرعونَ العذابُ [1505] اختلف المفسِّرون في المرادِ بالرِّجزِ هاهنا، فقيل: المرادُ به ما أُرسِلَ عليهم من الطُّوفانِ والجرادِ والقُمَّلِ والضَّفادعِ والدَّمِ. وهذا القولُ اختاره الواحديُّ وابنُ عاشورٍ والشنقيطيُّ، وذهب أبو حيَّان وابنُ عطيَّة إلى أنَّه ظاهرُ الآيةِ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 410)، ((تفسير أبي حيان)) (5/152)، ((تفسير ابن عطية)) (2/445)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/71)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/125). وممَّن رُوي عنه مِن السَّلف أنَّ المرادَ به ما أُرسِلَ عليهم مِن الطُّوفانِ والجرادِ والقُمَّلِ والضَّفادعِ والدَّمِ: ابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/401)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/149). وقيل: المرادُ به الطَّاعونُ، وهذا قولٌ ذَكَرَه السعدي وابنُ عاشورٍ احتمالًا. ونسَبَ السعدي القولَ به إلى كثيرٍ من المفسِّرين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 301)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/71). وممَّن قال مِن السَّلف: إنَّه الطاعونُ، ابنُ عبَّاس، وسعيدُ بنُ جبيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/399)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/149). وذهب ابنُ جريرٍ إلى أنَّه عذابٌ عُذِّبوا به دون تحديدٍ لماهيَّتِه. قال ابن جرير: (جائزٌ أنْ يكونَ ذلك الرِّجزُ كان الطُّوفانَ والجرادَ والقُمَّلَ والضَّفادعَ والدَّمَ؛ لأنَّ كلَّ ذلك كان عذابًا عليهم، وجائزٌ أنْ يكونَ ذلك الرِّجزُ كان طاعونًا. ولم يُخبرْنا اللهُ أيَّ ذلك كان، ولا صَحَّ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأيِّ ذلك كان خبرٌ فنُسلِّمَ له. فالصَّوابُ أنْ نقولَ فيه كما قال جلَّ ثناؤه: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ، ولا نتعدَّاه إلَّا بالبيانِ الَّذي لا تَمانُعَ فيه بين أهلِ التَّأويلِ، وهو لِمَا حَلَّ بهم عذابُ اللهِ وسَخَطُه). ((تفسير ابن جرير)) (10/401). وممن قال من السَّلف أنَّه العذابُ مجاهدٌ، وقتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/400). عقوبةً بَعْدَ أُخْرى [1506] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/399)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/370)، ((تفسير أبي حيان)) (5/152)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/125). .
كما قال تعالى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [1507] قال الشنقيطي: (الرِّجزُ المذكورُ في «الأعرافِ» هو بِعَيْنِه العذابُ المذكورُ في آيةِ «الزُّخْرُفِ» هذه). ((أضواء البيان)) (7/122). [الزخرف: 48] .
قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ
أي: فَزِعوا إلى موسى قائلين [1508] رجَّح أبو حيَّانَ أنَّ سؤالَهم موسى عليه السَّلامُ جاء بعْدَ وُقوعِ جميعِها- أي: الطُّوفانِ والجرادِ والقُمَّلِ والضَّفادعِ والدَّمِ- لا بعْدَ وُقوعِ نوعٍ منها. وذهب الشنقيطيُّ إلى أنَّ سؤالَهم موسى قد تكرَّرَ فلجؤوا إليه عَقِبَ وُقوعِ كلِّ نوعٍ من تلك الأنواعِ على حِدَةٍ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/152)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/125). : يا موسى، ادعُ لنا ربَّكَ بالَّذي أَوْصاكَ أنْ تَدْعوَه به [1509] هذا المعنى للعَهْدِ هو اختيارُ ابنِ جرير، والواحدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/401)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (9/316). وقريبٌ منه اختيارُ القرطبيِّ وابنِ عاشورٍ. قال القرطبيُّ: (أي: بما استودَعك من العِلْمِ، أو بما اختصَّكَ به فنبَّأَكَ). ((تفسير القرطبي)) (7/271). وقال ابنُ عاشور: (أي: بما عرَّفك وأودَع عندك من الأسرارِ... أي: ادْعُه بما علَّمك ربُّك من وسائلِ إجابةِ دعائِك عِند ربِّك). ((تفسير ابن عاشور)) (9/72-73). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/271- 272). ؛ لِيَكُفَّ عنَّا هذا العذابَ [1510] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/72). قال ابن عاشور: (ليس قولُهم: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بإيمانٍ باللهِ ورسالةِ موسى، ولكنَّهم كانوا مُشرِكين، وكانوا يُجوِّزونَ تعدُّدَ الآلهةِ، واختصاصَ بعضِ الأُمَمِ وبعضِ الأقطارِ بآلهةٍ لهم، فهُمْ قد خامَرَهم من كثرةِ ما رَأَوْا من آياتِ موسى أنْ يكونَ لموسى ربٌّ له تصرُّفٌ وقُدرةٌ، وأنَّه أصابَهم بالمصائبِ؛ لأنَّهم أضرُّوا عَبيدَه، فسألوا موسى أنْ يَكُفَّ عنهم ربَّه، ويكونَ جزاؤه الإذْنَ لبني إسرائيلَ بالخُروجِ من مِصْرَ؛ ليعبُدوا ربَّهم... وقد كان عَبَدَةُ الأربابِ الكثيرين يُجَوِّزُ أنْ تَغْلِبَ بعضُ الأربابِ على بعضٍ؛ مِثْلُ ما يحدُثُ بين الملوكِ... وقد انْبَرَمَ حالُ موسى على فرعونَ، فَلَمْ يَدْرِ أهو رسولٌ من إلهٍ غيرِ آلهةِ القِبْطِ؛ فلذلك قال له: بِمَا عَهِدَ عِندَك، أي: بما عرَّفك وأودَع عِندك من الأسرارِ، وهذه عِبارةُ مُتَحَيِّرٍ في الأمرِ، مُلْتَبِسَةٍ عليه الأدلَّةُ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/72). .
كما قال تعالى: وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ [الزخرف: 48، 49].
لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ
أي: نُقْسِمُ لك- يا موسى- لَئِنْ رَفَعْتَ عنَّا هذا العذابَ بدعائِكَ ربَّكَ، لنُصَدِّقَنَّكَ، ولنؤمِننَّ بما جِئْتَ به [1511] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/401- 402)، ((تفسير القرطبي)) (7/271)، ((تفسير السعدي)) (ص: 301)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/73)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/125). قال السعدي: (هُمْ في ذلك كَذَبَةٌ، لا قَصْدَ لهم إلا زوالُ ما حَلَّ بهم من العذابِ، وظَنُّوا إذا رُفِعَ لا يُصيبُهم غيرُه). ((تفسير السعدي)) (ص: 301). وقال ابن عاشور: (وَعْدُهم بالإيمانِ لموسى وَعْدٌ بالإيمانِ بأنَّه صادقٌ في أنَّه مُرسَلٌ من ربِّ بني إسرائيلَ؛ ليُخرِجَهم من أرضِ مصرَ، وليس وعدًا باتِّباعِ الدِّينِ الَّذي جاء به موسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّهم مُكذِّبونَ به في ذلك، وزاعِمون أنَّه ساحرٌ يُريدُ إخراجَ النَّاسِ من أرضِهم؛ ولذلك جاء فِعْلُ الإيمانِ مُتعلِّقًا بموسى لا باسمِ اللهِ، وقد جاء هذا الوعدُ على حسَبِ ظنِّهم أنَّ الرَّبَّ الَّذي يدعو إليه موسى هو ربٌّ خاصٌّ به وبقومِه، كما دلَّ عليه قولُه: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ، وقد وضَّحوا مُرادَهم بقولِهم: وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/73). .
وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
أي: ولنُخَلِّيَنَّ بني إسرائيلَ كما طلَبْتَ- يا موسى- فنترُكُهم معك، وتذهَبُ بهم حيثُ تَشاءُ [1512] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/402)، ((البسيط)) للواحدي (9/316)، ((تفسير القاسمي)) (5/172). .
كما قال تعالى حاكيًا قولَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف: 105].
وقال سُبحانَه حاكيًا أيضًا قولَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان: 18] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [طه: 47] .
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
أي: فلَمَّا رَفَعَ اللهُ عن قومِ فِرعونَ العذابَ، وأَمْهَلَهم إلى الوقتِ الَّذي قدَّرَه لهلاكِهم، إذا بهم يَنقُضونَ عُهودَهم؛ فَلَمْ يُؤمِنوا، ولم يُرسلِوا بني إسرائيلَ مع موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [1513] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/402)، ((البسيط)) للواحدي (9/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 301)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/73). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الزخرف: 49-50] .
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ تعالى عن إهلاكِه فرعونَ عَطَفَ عليه ما صَنَع ببني إسرائيلَ؛ تصديقًا لقولِ موسى عليه السَّلامُ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ، فكان كما تَرَجَّى، فأَغْرَقَ أعداءَهم في اليَمِّ، واسْتَخْلَفَ بني إسرائيلَ في الأرضِ [1514] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/154)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/43). .
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ
أي: فلمَّا نَقَضوا العُهودَ، وأصرُّوا على الكُفْرِ انْتَقَمْنا منهم، بأنْ أغرقْناهم جميعًا في البحرِ [1515] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/403)، ((البسيط)) للواحدي (2/402)، ((تفسير الرازي)) (14/348)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466)، ((تفسير السعدي)) (ص: 301). قال ابن عاشور: (هذا مَحَلُّ العِبرةِ من القِصَّةِ، فهو مُفَرَّعٌ عليها تفريعَ النَّتيجةِ على المقدِّماتِ... وكان إغراقُهم انتقامًا من الله لذاتِه؛ لأنَّهم جَحَدوا انفرادَ اللهِ بالإلهيَّةِ، أو جَحَدوا إلهيَّتَه أصلًا، وانتقامًا أيضًا لبني إسرائيلَ؛ لأنَّ فِرعونَ وقومَه ظلموا بني إسرائيلَ وأذلُّوهم واستعبَدوهم باطلًا. واليَمُّ: البحرُ، والنَّهرُ العظيمُ... والمرادُ به هنا بَحْرُ القُلْزُمِ... وهو البحرُ الأحمرُ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/74، 75). .
كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 52-67] .
وقال سُبحانَه: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55] .
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أي: أغرقْنا فِرعونَ وقومَه؛ بسَبَبِ تكذيبِهم بآياتِنا [1516] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/403)، ((تفسير الرازي)) (14/348)، ((تفسير الشوكاني)) (2/272)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/75). قال أبو حَيَّانَ: (والآياتُ هي المعجزاتُ الَّتي ظهرَتْ على يَدِ موسى عليه السَّلامُ). ((تفسير أبي حيان)) (5/154). .
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ
أي: وكانوا مُعْرِضينَ عن آياتِنا الدَّالَّةِ على صِدْقِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَلَمْ يَتفكَّروا فيها، ولم يَعْتَبِروا بها [1517] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/403- 404)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/371)، ((الوسيط)) للواحدي (2/402)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/75). واختلف المفسِّرون في عَوْدِ الضَّميرِ في قوله تعالى: عَنْهَا، فذَهب كثيرٌ منهم إلى أنَّه عائدٌ على الآياتِ، وهذا اختيارُ الزَّجَّاج، وابن عطيَّة، وابن كثير، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (2/371)، ((تفسير ابن عطية)) (2/446)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466)، ((تفسير الشوكاني)) (2/272)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/75). قال ابنُ جرير: (فلو قال قائلٌ: هي كِنايةٌ من ذِكْرِ الآياتِ، ووجهُ تأويلِ الكلامِ إلى: وكانوا عنها مُعرِضينَ، فجعل إعراضَهم عنها غُفولًا منهم إْذ لم يقبلوها كان مذهبًا). ((تفسير ابن جرير)) (10/403-404). ولكنَّ ابن جرير رجَّح أنَّ الضميرَ يعود على النِّقمةِ الَّتي حلَّتْ بهم؛ فكانوا غافلين عمَّا يُرادُ بهم من الغَرَقِ في البحرِ. واختار هذا القولَ القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) 10/403-404)، ((تفسير القرطبي)) (7/272). .
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا 
أي: وملَّكْنا بني إسرائيلَ [1518] قال الشنقيطي: (قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ هُمْ بنو إسرائيلَ بإجماعِ العلماءِ). ((العذب النمير)) (4/125-126). الَّذينَ كان فِرعونُ وقومُه يَقهرونهم ويَستعبِدونهم، ويُذبِّحونَ أبناءَهم، ويَستحيون نِساءَهم- ملَّكْناهم جميعَ جِهاتِ شرْقِ أرضِ الشَّامِ، وجِهاتِ غرْبِها [1519] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/404)، ((الوسيط)) للواحدي (9/319- 320)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 410)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466)، ((تفسير السعدي)) (ص: 301)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/76). واختار أنَّ المرادَ بالأرضِ هنا أرضُ الشَّامِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابنُ عطية، وابنُ تيمية، وابنُ عاشور، ولم يَحْكِ ابنُ كثير عن السَّلفِ قولًا غيرَه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/404)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 410)، ((تفسير ابن عطية)) (2/446)، ((مجموع الفتاوى)) (27/44، 505، 506)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/77)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466). وقال به مِن السَّلف: الحسنُ وقَتادةُ وزيدُ بنُ أسلمَ وسفيانُ الثوريُّ. يُنظر: ((تفسير سفيان الثوري)) (ص: 113)، ((تفسير عبد الرزاق)) (2/88)، ((تفسير ابن جرير)) (10/404- 405)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (3/527). قال ابن عطيَّةَ: (الَّذي يَليقُ بمعنى الآيةِ... لا سيَّما بوصْفِه الأرضَ بأنَّها الَّتي بارَكَ فيها، ولا يتَّصِفُ بهذه الصِّفةِ، وينفرِدُ بها أكثَرَ من غيرِها إلَّا أرضُ الشَّامِ؛ لِمَا بها من الماءِ والشَّجرِ والنِّعَمِ والفوائدِ). ((تفسير ابن عطية)) (2/446). وقيل: المرادُ بالأرضِ: الشَّامُ، ومِصْرُ. وممَّن اختار هذا القولَ: القرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/272)، ((تفسير الشوكاني)) (2/273- 274). وهذا القولُ مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ بسندٍ واهٍ، من طريقِ السُّدِّيِّ الصَّغيرِ، عن الكَلْبِيِّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبَّاسٍ، وهذا أَوْهى الطُّرقِ عن ابن عبَّاسٍ، وتُسمَّى سلسلةَ الكَذِبِ، ينظر: ((الإتقان)) للسيوطي (4/239)، وقد جَزَمَ الثَّعلبيُّ بهذا التَّفسيرِ من غيرِ أنْ ينسُبَه لأحدٍ، ونسَبَه تلميذُه الواحديُّ لابن عبَّاسٍ، وقد ذكَرَ هذا القولَ ابن الجوزيِّ ولم ينسُبْه لأحدٍ، وربَّما فيه إشارةٌ إلى عدمِ شُهرةِ هذا القولِ.  وذكَرَ ابنُ الجوزي والرازي قولًا ثالثًا في الآيةِ، وهو أنَّ المرادَ جُملةُ الأرضِ، ويوجد قولٌ رابعٌ، وهو أنَّ المرادَ مِصْرُ، وهو قولُ اللَّيثِ بنِ سعدٍ، وبه فسَّر السعديُّ الآيةَ.  والقولُ الأوَّلُ- وهو أنَّ المرادَ مشارقُ أرضِ الشَّامِ ومغاربُها- هو القولُ المشهورُ عن السَّلفِ، وعليه أكثرُهم. والله أعلم. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (9/320)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/150)، ((تفسير الرازي)) (14/349)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (3/531)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (4/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 301)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/127). .
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
أي: الأرضَ الَّتي جعَلْنا فيها الخيرَ ثابتًا، مُستمِرًّا، وكثيرًا، فأخرَجْنا لهم منها الزُّروعَ والثِّمارَ، والعُيونَ والأنهارَ، ونَحْوَ ذلك من خيراتِ الأرضِ [1520] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/404)، ((الوسيط)) للواحدي (9/321)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/128). .
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا 
أي: وقد وَفَّى ربُّكَ- يا مُحَمَّدُ- بما وَعَدَ به بني إسرائيلَ [1521] ذهب كثيرٌ من المفسِّرين إلى أنَّ هذه الكلمةَ الحُسنى هي قولُه تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 5-6] . يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/406)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (9/321)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/39). ونسَب الشنقيطيُّ ذلك إلى جماهيرِ العلماءِ. يُنظر: ((العذب النمير)) (4/128). من إهلاكِ عدُوِّهم، وتمكينِهم في الأرضِ؛ وذلك بسببِ صَبْرِهم على أَذَى فرعونَ وقومِه [1522] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/406)، ((البسيط)) للواحدي (9/321)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/254)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/128). قال ابن عاشور: (الحُسنى: صفةٌ لـ كَلِمَتُ، وهي صِفةُ تشريفٍ كما يُقالُ: الأسماءُ الحُسنى، أي: كلمةُ ربِّك المنزَّهةُ عن الخُلْفِ، ويحتمِلُ أنْ يكونَ المرادُ حُسْنَها لبني إسرائيلَ، وإنْ كانت سيِّئةً على فرعونَ وقومِه؛ لأنَّ العدلَ حَسَنٌ، وإنْ كان فيه إضرارٌ بالمحكومِ عليه). ((تفسير ابن عاشور)) (9/78). .
كما قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 5، 6].
وقال سُبحانَه: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 128-129].
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ
أي: وأَهْلَكْنا، وخرَّبْنا خرابًا شديدًا [1523] قال محمد رشيد رضا: (التَّدميرُ: إدخالُ الهلاكِ على السَّالمِ، والخرابِ على العامرِ). ((تفسير المنار)) (9/88). ما كان يُشيِّدُه فرعونُ وقومُه من العِماراتِ، ويَبْنُونَه من المَزارعِ [1524] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/407)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466)، ((تفسير السعدي)) (ص: 302)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/78)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/129). وممَّن اختار هذا المعنى لـ يَصْنَعُ: ابنُ جريرٍ، وابنُ الجوزيِّ، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/407)، ((زاد المسير)) (2/150)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466). وقيل: ما كان يَصنعونه من التَّدبيرِ في أمْرِ موسى عليه السَّلامُ وإخمادِ كلمته؛ كالمكايد السِّحريَّة والصِّناعيَّة الَّتي كان يصنعها السَّحرةُ؛ لإبطال آياتِه أو التَّشكيكِ فيها، كما قال تعالى لموسى عليه السَّلامُ: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ [طه: 69] . يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/156)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/88). .
وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
أي: وخرَّبْنا أيضًا ما كان يَبنيه، ويرفُعُه فرعونُ وقومُه، من المبانِي والقُصورِ [1525] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/407)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/371)، ((البسيط)) للواحدي (9/322)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/78)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/129). وهذا المعنى المذكور لـ يَعْرِشُونَ هو في الجملةِ اختيارُ ابن جرير، وابن الجوزي، والواحديِّ، وأبي حيان. وحكاه ابنُ كثير عن بعض السَّلفِ ولم يَحْكِ سواه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/407)، ((زاد المسير)) (2/150)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 410)، ((تفسير أبي حيان)) (5/156)، ((تفسير ابن كثير)) (3/466)، وقد جعَلَه ابن عاشور ممَّا تَحتمِلُه الآيةُ، فقال: (ويجوز أن يكونَ يَعْرِشُونَ بمعنى يرفعون، أي: يُشيِّدونَ من البِناءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/79). وقال الشنقيطيُّ: (وقال بعضُهم: عَرَشَه: إذا رفَع بِناءَه، والعَرْشُ أصْلُه السَّقفُ، وعُروش الأبنيةِ: سُقوفُها. يعني: ودمَّرْنا ما كانوا يرفعونه من البناء؛ كصَرْحِ هامانَ المشهورِ، ونَحْوِ ذلك). ((العذب النمير)) (4/129). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/349). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلف ابنُ عبَّاس، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (5/1552)، ((تفسير ابن جرير)) (10/407)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (3/532). وقيل: يَعْرِشُونَ: أي يُنشِئون الجنَّاتِ ذاتَ العرايشِ، فيجعلون للعنب العريشَ؛ ليمتدَّ عليه، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام: 141] . وهذا اختيارُ محمَّد رشيد رضا، وابن عاشور. قال محمَّد رشيد رضا: (العَرْشُ: رفْعُ المباني والسَّقائفِ للنَّباتِ والشَّجرِ المتسلِّقِ؛ كعرائش العنب، ومنه عَرْشُ الملكِ). ((تفسير المنار)) (9/88). وقال ابنُ عاشور: (ويَعْرِشُونَ يُنشِئونَ من الجنَّاتِ ذاتِ العرايشِ، والعرايش: ما يُرْفَعُ من دوالي الكُرومِ، ويُطلَقُ أيضًا على النَّخلاتِ العديدةِ تُربَّى في أصْلٍ واحدٍ، ولعلَّ جنَّاتِ القِبْطِ كانت كذلك كما تَشهَدُ به بعضُ الصورِ المرسومةِ على هياكلِهم نَقْشًا ودَهْنًا). ((تفسير ابن عاشور)) (9/78). .
كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر: 36- 37] .

الفوائد التربوية:

قولُ اللهِ تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ، العِبرةُ في هذه الآياتِ أنْ يَتفكَّرَ تالي القرآنِ في تأثيرِ الإيمانِ والوحيِ في موسى وهارونَ عليهما السَّلامُ؛ إذ تَصَدَّيا لأعظمِ مَلِكٍ في الأرضِ، فَدَعَواهُ إلى الرُّجوعِ عن الكُفرِ والظُّلمِ والطُّغيانِ، وتعبيدِ بني إسرائيلَ، وأَنْذَراه وهدَّداه، وما زالا يُكافِحانِه بالحُجَجِ والآياتِ البيِّناتِ حتَّى أَظْفَرَهما اللهُ تعالى به، وأَنْقَذا قومَهما من ظلمِه وظلمِ قومِه، فجديرٌ بالمؤمنين باللهِ تعالى ورُسلِه أنْ يَنتقِلوا من التَّفكُّرِ في هذا إلى التَّفكُّرِ في وَعْدِ اللهِ تعالى للمؤمنين بالنَّصرِ، كما وعَدَ المرسَلين إذا هُمْ قاموا بما أمَرَهم تعالى به على ألسنتِهم، وألَّا يَستعظِموا في هذه السَّبيلِ قُوَّةَ ظالمٍ، فإنَّ قوَّةَ الحقِّ الَّتي نَصَرَها اللهُ تعالى برجُلٍ أو رجُلين على أعظمِ الدُّوَلِ لا تُغْلَبُ إذا نَصَرْناها ونحن مئاتُ الملايينِ [1526] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/89). .
الصَّابرُ صائرٌ إلى النَّصرِ، وتحقيقِ الأملِ؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا، فقوله: بِمَا صَبَرُوا الباءُ سببيَّةٌ، و(ما) مصدريَّةٌ، أي: بسببِ صَبْرِهم على الأذى في ذاتِ الإلهِ، وفي ذلك تنبيهٌ على فائدةِ الصَّبرِ، وتنويهٌ بفَضيلتِه وحُسنِ عاقبتِه، وأنَّه سببٌ للفرَجِ ؛ فمَنْ قابَلَ البلاءَ بالجَزَعِ وَكَلَه اللهُ إليه، ومَنْ قابَلَه بالصَّبرِ وانتظارِ النَّصرِ ضَمِنَ اللهُ له الفرَجَ [1527] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/349)، ((تفسير ابن عطية)) (2/447)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/77، 78)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/129). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، لم يقولوا: (ربَّنا)؛ كِبْرًا وعُتُوًّا [1528] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/508). .
2- قولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عبَّر بالفاءِ دلالة على قُرْبِ الإجابةِ [1529] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/43). .
3- قولُ اللهِ تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، المشارِقُ والمغارِبُ جَمْعٌ باعتبارِ تعدُّدِ الجِهاتِ؛ لأنَّ الجهةَ أمْرٌ نسبيٌّ تتعدَّدُ بتعدُّدِ الأمكِنةِ المفروضةِ، والمرادُ بهما إحاطةُ الأمكنةِ [1531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/77). .
4- قول الله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى... إلى آخِرِ الآيةِ، استدلَّ به بعضُ السَّلفِ على أنَّه لا ينبغي أنْ يُخْرَجَ على مُلوكِ السُّوءِ، وإنَّما ينبغي أنْ يُصْبَرَ عليهم، فإنَّ اللهَ تعالى يُدمِّرُهم [1532] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/447). .

بلاغة الآيات :

لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ جملةٌ مُستأنفَةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ طلبَهم مِن موسى الدُّعاءَ بكَشفِ الرِّجز عنهم مع سابقيَّةِ كُفرِهم به يُثير سؤالَ موسى أنْ يقولَ: فما الجزاءُ على ذلِك [1533] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/73) . ؟
وقوله: لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فيه دلالةٌ على أنَّه طلَب منهم الإيمانَ، كما أنَّه طلَب منهم إرسالَ بني إسرائيل، وقدَّموا الإيمانَ؛ لأنَّه المقصودُ الأعظمُ الناشِئ منه الطواعيةُ، وفي إسنادِ الكَشْفِ إلى موسى حَيدةٌ عن إسنادِه إلى اللهِ تعالى؛ لعدمِ إقرارِهم بذلك [1534] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/152). .
قولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ، كُرِّرَ (الرِّجْزَ) تصريحًا وتهويلًا [1535] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/43). .
وقولُه تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ، قولُه: هُمْ بَالِغُوهُ صِفةٌ لـ أَجَلٍ، والوَصْفُ بهذه الجملةِ أَبْلَغُ من وصفِه بالمفرَدِ؛ لتكرُّرِ الضَّميرِ المؤذِنِ بالتَّفخيمِ [1536] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (9/287). .
قوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها فيه العدولُ عن تَعريفِهم بطريقِ الإضافةِ إلى تَعريفِهم بطريق الموصوليَّة؛ لنُكتَتينِ: أُولاهما: الإيماءُ إلى عِلَّة الخبرِ، أي: إنَّ الله مَلَّكهم الأرضَ، وجعَلَهم أُمَّةً حاكمةً؛ جزاءً لهم على ما صَبَروا على الاستعبادِ، غَيرةً مِن اللهِ تعالى على عَبيدِه. الثانية: التعريضُ ببشارةِ المؤمنِينَ بمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّهم ستكونُ لهم عاقبةُ السلطانِ، كما كانتْ لبني إسرائيلَ؛ جزاءً على صبْرِهم على الأذَى في اللهِ، ونذارة المشرِكينَ بزوالِ سُلطانِ دِينهم [1537] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/76). .
قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا الخِطابُ في قولِه: رَبِّكَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أُدْمِجَ في ذِكْرِ القصَّةِ؛ إشارةً إلى أنَّ الَّذي حقَّقَ نصْرَ موسى وأُمَّتِه على عدُوِّهم هو ربُّك؛ فسينصُرُكَ وأُمَّتَكَ على عدُوِّكم؛ لأنَّه ذلك الربُّ الَّذي نَصَرَ المؤمنين السَّابقين، وتلك سُنَّتُه وصُنْعُه [1538] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/78). .
وفي قولِه: عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ: عُدِّيَ فِعلُ التمام بـ(على)؛ للإشارةِ إلى تَضمينِ (تمَّت) معنى الإنعامِ [1539] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/78). .
قوله: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ فِعل (كان) في الصِّلتَينِ- مَا كَانَ يَصْنَعُ و وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ- دالٌّ على أنَّ ذلك دَأبَه وهِجِّيراه، أي: ما عُنِي به مِن الصَّنائِعِ والجنَّات، وصِيغةُ المضارعِ في الخَبرينِ عن (كان)- يَصْنَعُ ويَعْرِشُونَ-؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والتكرُّرِ [1540] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/78). .