موسوعة التفسير

سورةُ القيامةِ
الآيات (7-15)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات:

بَرِقَ: أي: شَخَصَ فلا يَطرِفُ، وفَزِعَ وتحَيَّرَ؛ وبَرَقَ وبَرِقَ: يُقالُ في العَينِ إذا اضطَرَبَتْ وجالتْ مِن خَوفٍ، والإنسانُ إذا بَقِيَ كالمُتَحَيِّرِ قيل: بَرِقَ بَصَرُه بَرَقًا، وأصلُ (برق) هنا: يدُلُّ على لَمعانٍ في شَيءٍ [54] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 499)، ((تفسير ابن جرير)) (23/478)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/221)، ((المفردات)) للراغب (ص: 119)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 428). .
وَخَسَفَ الْقَمَرُ: أي: ذهَب ضَوؤُه، وقيل: غاب القَمَرُ وذهب، قيل: خسَف وكسَف واحدٌ، وقيل: إذا ذَهَب بعضُه فهو الكُسوفُ، وإذا ذَهَب كلُّه فهو الخُسوفُ، وقيل: الخُسوفُ للقَمَرِ، والكُسوفُ للشَّمسِ، وأصل (خسف): يدُلُّ على غُموضٍ وغُؤورٍ [55] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/209)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/277)، ((تفسير ابن جرير)) (23/481)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/180)، ((الوسيط)) للواحدي (4/391)، ((تفسير القرطبي)) (19/96)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 116)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 437). .
وَزَرَ: أي: مَلْجَأَ، والوَزَرُ: الملجأُ الَّذي يُلتجَأُ إليه مِن الجَبَلِ ونحوِه، وأصلُ (وزر) هنا: يدُلُّ على مَلجَأٍ [56] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 499)، ((تفسير ابن جرير)) (23/484)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 486)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 867)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 428)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 436). .
بَصِيرَةٌ: أي: شاهدٌ، وأصلُ (بصر) هنا: العِلمُ بالشَّيءِ [57] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 500)، ((ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن)) لغلام ثعلب (ص: 543)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/253)، ((البسيط)) للواحدي (22/492). .
مَعَاذِيرَهُ: أي: ما اعتَذر به، أو اعتذارَه، جمعُ مَعْذرةٍ، والعُذْرُ هو رَوْمُ الإنسانِ إصْلاحَ ما أُنْكِر عليه بكَلامٍ، أو: تحرِّيه ما يمحو به ذُنوبَه [58] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/278)، ((ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن)) لغلام ثعلب (ص: 544)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/253)، ((البسيط)) للواحدي (22/494)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 555). .

المعنى الإجمالي:

يَذكُرُ الله تعالى أحوالَ القيامةِ، فيقولُ: فإذا لَمَع بَصَرُ الإنسانِ وشَخَصَ مَبهوتًا متحَيِّرًا فلم يَطرِفْ، وذَهَب ضَوءُ القَمَرِ وجُمِع بيْنَ الشَّمسِ والقَمَرِ؛ يقولُ الإنسانُ يَومَئِذٍ: أين المَهرَبُ والخَلاصُ؟! كَلَّا لا مَلجَأَ مِنَ اللهِ! إلى ربِّك في ذلك الوَقتِ المرجِعُ والاستِقرارُ، يُخبَرُ الإنسانُ يَومَئذٍ بما قدَّمَه أو أخَّرَه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، بل الإنسانُ شاهِدٌ على نَفْسِه فيما عَمِل، فلا تخفَى عليه أعمالُه، ولو اعتَذَر أو جادَل بالباطِلِ عن كُفْرِه أو مَعاصيه، فهو يَعلَمُ أنْ لا عُذرَ له!

تفسير الآيات:

فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7).
أي: فإذا لَمَع بَصَرُ الإنسانِ وشَخَصَ مَبهوتًا متحَيِّرًا فلم يَطرِفْ [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/478، 479)، ((تفسير القرطبي)) (19/96)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/344). !
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8).
أي: وإذا ذَهَب ضَوءُ القَمَرِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/481)، ((تفسير القرطبي)) (19/96)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/345). قال ابن عاشور: (خُسوفُ القمَرِ أُريدَ به انطِماسُ نُورِه انطماسًا مُستَمِرًّا... فهذا خُسوفٌ ليس هو خُسوفَه المعتادَ عندَ ما تَحُولُ الأرضُ بيْن القَمَرِ وبيْن مُسامتَتِه الشَّمسَ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/345). !
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9).
أي: وإذا جُمِع بيْنَ الشَّمسِ والقَمَرِ [61] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 152)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/345). قال الرَّسْعَني: (قال الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ: المعنى: جُمِع بيْنَهما في ذَهابِ نُورِهما. وقال جمهورُ المفسِّرينَ: جُمِع بيْن ذاتَيْهِما). ((تفسير الرسعني)) (8/383). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/209)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/252). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/153). !
عن أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الشَّمْسُ والقَمَرُ مُكَوَّرانِ [62] مُكَوَّرانِ: أي: مطويَّانِ ذاهِبا الضَّوءِ، وقيل: يُلَفَّانِ ويُجْمَعانِ، ويُلْقَيانِ في النار. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/208)، ((عمدة القاري)) للعيني (15/120). قال القَسْطَلَّاني: (لأنَّهما عُبِدا مِن دونِ الله، وليسَ المرادُ مِن تكويرِهما فيها تعذيبَهما بذلك، لكنَّه زيادةُ تبكيتٍ لمَن كان يعبدُهما في الدُّنيا؛ ليَعْلموا أنَّ عبادتَهم لهما كانتْ باطِلةً). ((إرشاد الساري)) (5/259). يومَ القِيامةِ)) [63] أخرجه البخاري (3200). .
يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10).
أي: إذا بَرِقَ البَصَرُ وخَسَف القَمَرُ وجُمِعَ الشَّمسُ والقَمَرُ، يقولُ الإنسانُ: أين المَهرَبُ والخَلاصُ [64] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/484)، ((تفسير القرطبي)) (19/98)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277). قال الماوَرْدي في جملةِ أَيْنَ الْمَفَرُّ: (يحتَمِلُ وجهَينِ؛ أحدُهما: أَيْنَ الْمَفَرُّ مِنَ اللهِ؛ استحياءً منه. الثَّاني: أَيْنَ الْمَفَرُّ مِن جهنَّمَ؛ حَذَرًا منها. ويحتَمِلُ هذا القَولُ مِنَ الإنسانِ وجهَينِ؛ أحدُهما: أن يكونَ مِن الكافِرِ خاصَّةً مِن عَرَصةِ القيامةِ دون المؤمِنِ؛ لِثِقَةِ المؤمِنِ ببُشْرى رَبِّه. الثَّاني: أن يكونَ مِن قَولِ المؤمِنِ والكافِرِ عندَ قيامِ السَّاعةِ؛ لِهَولِ ما شاهَدوه منها). ((تفسير الماوردي)) (6/153). ؟!
كَلَّا لَا وَزَرَ (11).
أي: ليس ثَمَّةَ مكانٌ يَومَئذٍ تَلجَؤون إليه، وتَعتَصِمونَ به [65] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/484)، ((تفسير القرطبي)) (19/97)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899). قال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن يكونَ كَلَّا لَا وَزَرَ كلامًا مُستأنَفًا مِن جانبِ اللهِ تعالى جوابًا لِمَقالةِ الإنسانِ، أي: لا وَزَرَ لك... ويجوزُ أن يكونَ مِن تمامِ مقالةِ الإنسانِ، أي: يقولُ: أين المفَرُّ؟ ويُجيبُ نَفْسَه بإبطالِ طَمَعِه، فيقولُ: كَلَّا لَا وَزَرَ، أي: لا وَزَرَ لي!). ((تفسير ابن عاشور)) (29/346). وينُظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/93). .
كما قال تعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22] .
وقال سُبحانَه: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى: 47] .
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12).
أي: إلى ربِّك في ذلك الوَقتِ المرجِعُ والاستقرارُ: إمَّا في الجنَّةِ، وإمَّا في النَّارِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/488)، ((تفسير السمعاني)) (6/104)، ((تفسير القرطبي)) (19/98)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277). قيل: هذا خِطابٌ مِن الله تعالى للإنسانِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/488). وقيل: هي حكايةٌ لِقَولِ الإنسانِ ذلك لنَفْسِه. واستظهَر هذا القولَ أبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/346). وقيل: هو كلامُ اللهِ تعالى خاطَبَ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّنيا، بقرينةِ قولِه: يَوْمَئِذٍ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/346). .
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13).
أي: يُخبَرُ الإنسانُ يومَئذٍ بجَميعِ عَمَلِه الَّذي قدَّمَه أو أخَّرَه؛ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ [67] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 152)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/347). قيل: معنى: ما قدَّم وأخَّرَ: ما قَدَّمَ لآخِرتِه، وما أَخَّرَ مِن خَيرٍ أو شرٍّ بعدَ مَوتِه في دنياه، فاستَنَّ به قومٌ بَعْدَه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/511)، ((تفسير العليمي)) (7/222). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وابنُ مسعودٍ، وأبو صالحٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/489)، ((تفسير الثعلبي)) (10/85)، ((البسيط)) للواحدي (22/491)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/346). قال ابن جرير: (والصَّوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا، أنَّ ذلك خَبَرٌ مِن اللهِ أنَّ الإنسانَ يُنَبَّأُ بكلِّ ما قَدَّم أمامَه مِمَّا عَمِل مِن خيرٍ أو شَرٍّ في حياتِه، وأخَّر بعدَه مِن سُنَّةٍ حسَنةٍ أو سَيِّئةٍ مِمَّا قَدَّم وأخَّر، كذلك ما قَدَّمَ مِن عمَلٍ عَمِلَه مِن خيرٍ أو شَرٍّ، وأخَّر بعدَه مِن عمَلٍ كان عليه فضَيَّعه، فلم يَعمَلْه مِمَّا قَدَّم وأخَّر، ولم يَخْصُصِ اللهُ مِن ذلك بعضًا دونَ بعضٍ، فكلُّ ذلك مِمَّا يُنَبَّأُ به الإنسانُ يومَ القيامةِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/491). وقيل: المرادُ بـ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ: بأوَّلِ عَمَلِه وآخِرِه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحديُّ، وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1154)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 779). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ، وعَطاءٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/490)، ((البسيط)) للواحدي (22/492)، ((تفسير البغوي)) (5/184). وقيل: المعنى: أنَّه يُخبَرُ بجميعِ أعمالِه؛ قديمِها وحديثِها، أوَّلِها وآخِرِها، صغيرِها وكبيرِها. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/277). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 899)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/62). وقيل: المعنى: ما قدَّمَه مِن عَمَلِه الَّذي يوجِبُ نجاتَه وثوابَه؛ مِن الخَيراتِ والصَّالحاتِ، وما أَخَّره منه ففَرَّط وقصَّر فيه ولم يَعمَلْه. وممَّن ذهب إليه: القاسميُّ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/364). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/490)، ((البسيط)) للواحدي (22/492). وقيل: المرادُ بما قَدَّم: ما فعَلَه الكافِرُ مِن سُوءٍ، وبما أخَّرَ: ما ترَكَه ممَّا أُمِرَ بفِعْلِه أو نُهِيَ عن فِعْلِه في الحالَينِ، فخالَف ما كُلِّف به. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/347). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/154). .
كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
وقال سُبحانَه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5].
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ في الآيةِ الأولى أنَّ الإنسانَ يُخبَرُ يومَ القيامةِ بأعمالِه، ثمَّ ذَكَر في هذه الآيةِ أنَّه شاهِدٌ على نَفْسِه بما عَمِلَ [68] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/494). .
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14).
أي: إنَّ الإنسانَ شاهِدٌ على نَفْسِه فيما عَمِلَ، فلا تَخفى عليه أعمالُه الَّتي استحَقَّ عليها العِقابَ [69] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 122)، ((تفسير ابن جرير)) (23/491)، ((تفسير السمرقندي)) (3/522)، ((الوسيط)) للواحدي (4/392)، ((تفسير القرطبي)) (19/100)، ((تفسير ابن جزي)) (2/433). قال الماتُريدي: (جائزٌ أن يكونَ أرادَ بهذا في الدُّنيا: أنَّ الإنسانَ بَصيرٌ بعَمَلِ نَفْسِه، وإن جادَل عنها أنَّه لم يَفعَلْ ذلك، وأسَرَّ ذلك عن النَّاسِ... والوجهُ الثَّاني: أن يكونَ في الآخرةِ، وهو يحتَمِلُ وَجهَينِ: أحدُهما: أنَّ الإنسانَ وإن كان يَعتَذِرُ يومَ القيامةِ بقَولِه: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وقال: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: 18] ، فيُقْدِمون على الحَلِفِ؛ اعتِذارًا منهم، على العِلمِ منهم أنَّهم مُبطِلونَ في جدالِهم. والثَّاني: أن يكونَ معنى البصيرةِ: الشَّاهِدَ، أي: أنَّ الإنسانَ على نَفْسِه شاهدٌ يومَ القيامةِ بسُوءِ أفعالِه، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ، أي: وإنْ سَتَرَ على نَفْسِه شهَدِتَ عليه جَوارِحُه). ((تفسير الماتريدي)) (10/343). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: أنَّ جوارِحَه تَشهَدُ عليه يومَ القيامةِ: ابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقنديُّ، والواحديُّ، والقُرطبيُّ. يُنظر: ((تأويل مُشْكِل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 122)، ((تفسير ابن جرير)) (23/491)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/252)، ((تفسير السمرقندي)) (3/522)، ((الوسيط)) للواحدي (4/392)، ((تفسير القرطبي)) (19/100). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/491)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277). وقال ابنُ كثير: (أي: هو شَهيدٌ على نَفْسِه، عالِمٌ بما فعَلَه، ولو اعتَذَر وأنكَرَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/277). وممَّن جمَع بيْن المعاني السَّابقةِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/95، 96). .
كما قال تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14].
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15).
أي: ولو اعتَذَر أو جادَلَ بالباطِلِ عن كُفْرِه أو مَعاصيه، فهو يَعلَمُ أنْ لا عُذرَ له [70] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/493، 496)، ((الوسيط)) للواحدي (4/392)، ((تفسير القرطبي)) (19/101)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277، 278)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/ 96، 97)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/348). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فيه سؤالٌ: طَعَنَت الملاحِدةُ في الآيةِ، وقالوا: خُسوفُ القَمَرِ لا يَحصُلُ حالَ اجتماعِ الشَّمسِ والقَمَرِ!
الجوابُ: اللهُ تعالى قادِرٌ على أن يجعَلَ القَمَرَ مُنخَسِفًا، سواءٌ كانت الأرضُ متوسِّطةً بيْنَه وبيْن الشَّمسِ، أو لم تكُنْ، واللهُ قادِرٌ على كلِّ الممكِناتِ، فوجَبَ أن يَقدِرَ على إزالةِ الضَّوءِ عن القَمَرِ في جميعِ الأحوالِ [71] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/724، 725). .
2- في قَولِه تعالى: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ردٌّ على مَن يَقولُ بالدَّهرِ، وقِدَمِ العالَمِ، ومَن يقولُ: إنَّ المعتادَ مِن مجاري اللَّيلِ والنَّهارِ والشَّمسِ والقَمَرِ: لا يَتَغَيَّرُ! وقد أخْبَر اللهُ تعالى نصًّا -كما ترى- أنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ يُجْمَعُ بيْنَهما، وفي الجَمعِ بيْنَهما ذَهابُ المعتادِ مِن مَجاريهِما [72] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/450). .
3- قال تعالى: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ جُمِع الشَّمسُ والقَمَرُ ولم يَجتَمِعا قبْلَ ذلك، بل يَجمَعُهما الَّذي يجمَعُ عِظامَ الإنسانِ بعدَ ما فَرَّقها البِلَى ومَزَّقها [73] ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 152). .
4- قولُه سُبحانَه: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ غَلَّب المذكَّرَ على المؤنَّثِ؛ لاجتِماعِهما، ولو قُلتَ: طلَع الشَّمسُ والقَمَرُ، لَقَبُحَ ذلك، كما يَقبُحُ: قام هندٌ وزَيدٌ، إلَّا أن تريدَ الواوَ الجامِعةَ لا العاطفةَ، وأمَّا في الآيةِ فلا بُدَّ أن تكونَ الواوُ جامِعةً، ولَفظُ الفِعلِ -وَجُمِعَ- يَقتضي ذلك [74] يُنظر: ((نتائج الفكر في النحو)) للسهيلي (ص: 196)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/195). .
5- في قَولِه تعالى: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ دليلٌ على قَبولِ إقرارِ المرءِ على نَفْسِه؛ لأنَّها شَهادةٌ منه عليها؛ قال اللهُ سُبحانَه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] ، ولا خِلافَ فيه؛ لأنَّه إخبارٌ على وَجهٍ تَنتفي التُّهمةُ عنه؛ لأنَّ العاقِلَ لا يَكْذِبُ على نفْسِه. وقولُه: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ أي: لو اعتذرَ بعدَ الإقرارِ لم يُقْبَلْ منه؛ ففيه دليلٌ على أنَّ الرُّجوعَ عن الإقرارِ لا يُقْبَلُ [75] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/344 - 346)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 278). والإقرارُ إن كان بحقٍّ مِن حقوقِ الله التي تسقطُ بالشُّبهةِ كالزِّنا، فمذهبُ جمهورِ الفقهاءِ: الحنفيَّةِ، والمالكيَّةِ -في المشهورِ عندَهم- والشَّافعيَّةِ والحنابلةِ؛ على أنَّ الرُّجوعَ في إقرارِه يُعتبَرُ، ويسقُطُ الحدُّ عنه. أمَّا مَن أقرَّ بحقٍّ مِن حقوقِ العبادِ أو بحقٍّ لله تعالى لا يسقطُ بالشُّبهةِ -كالقصاصِ وحدِّ القذفِ وكالزكاةِ والكفَّاراتِ- ثمَّ رجَع في إقرارِه فإنَّه لا يُقبَلُ رجوعُه عنها مِن غيرِ خلافٍ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (6/72، 73). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ الفاءُ لتَفريعِ الجَوابِ عن السُّؤالِ، وعُدِلَ عن أنْ يُجابوا بتَعيينِ وقْتٍ ليومِ القِيامةِ إلى أنْ يُهدَّدوا بأهوالِه؛ لأنَّهم لم يَكونوا جادِّينَ في سُؤالِهم؛ فكان مِن مُقتَضى حالِهم أنْ يُنذَروا بما يقَعُ مِن الأهوالِ عندَ حُلولِ هذا اليومِ مع تَضمينِ تَحقيقِ وُقوعِه؛ فإنَّ كَلامَ القُرآنِ إرشادٌ وهدْيٌ، ما يَترُكُ فُرصةً للهدْيِ والإرشادِ إلَّا انتَهَزَها، وهذا تَهديدٌ في ابتدائِه جاء في صُورةِ التَّعيينِ لوقْتِ يومِ القِيامةِ إيهامًا بالجوابِ عن سُؤالِهم، كأنَّه حمْلٌ لِكلامِهم على خِلافِ الاستِهزاءِ، على طَريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ [76] الأسلوبُ الحكيمُ: هو تلقِّي المُخاطَبِ بغيرِ ما يترقَّبُ بحملِ كلامِه على غيرِ مرادِه؛ تنبيهًا على أنَّه هو الأَولَى بالقصدِ، وكذلك أيضًا تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تنبيهًا على ما هو الأولَى بحالِه وبالسُّؤالِ عنه، وهو مِن خلافِ مقتضَى الظاهرِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 327)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/42، 43)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/132). . وفيه تَعريضٌ بالتَّوبيخِ على أنْ فرَّطوا في التَّوقِّي مِن ذلك اليومِ، واشتَغَلوا بالسُّؤالِ عن وقْتِه، وقَريبٌ منه ما جاء في الحديثِ أنَّ رجُلًا مِن المسلمينَ سأَلَ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((متى السَّاعةُ؟ فقال له: ماذا أعدَدْتَ لها؟)) [77] أخرجه البخاريُّ (3688)، ومسلمٌ (2639) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه. ؛ فإنَّ هذه الأحوالَ المذكورةَ في الآيةِ ممَّا يقَعُ عندَ حُلولِ السَّاعةِ وقِيامِ القِيامةِ، فكان ذلك شيئًا مِن تَعيينِ وقْتِه بتَعيينِ أشراطِه [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/343، 344). .
- قولُه: بَرِقَ معْناه: دُهِشَ وبُهِتَ، وإنَّما أُسنِدَ في الآيةِ إلى البصَرِ تَنزيلًا له مَنزِلةَ مَكانِ البَرْقِ؛ لأنَّه إذا بُهِتَ شخَصَ بَصَرُه. وعلى قراءةِ «بَرَقَ» بفتْحِ الرَّاءِ [79] قرأ نافعٌ وأبو جعفرٍ بفتحِ الرَّاءِ، والباقون بكَسْرِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/393). ، مِن البريقِ بمعْنى اللَّمَعانِ، أي: لَمَعَ البصَرُ مِن شِدَّةِ شُخوصِه، ومآلُ معْنى القِراءتينِ واحدٌ، وهو كِنايةٌ عن الفزَعِ والرُّعبِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/344). .
- والتَّعريفُ في الْبَصَرُ للجِنسِ المرادِ به الاستغراقُ، أي: أبصارُ النَّاسِ كلِّهم مِن الشِّدَّةِ الحاصلةِ في ذلك الوقتِ، على أنَّهم مُتفاوِتون في الرُّعبِ الحاصِلِ لهم على تَفاوتِهم فيما يُعرَضونَ عليه مِن طَرائقِ مَنازلِهم [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/344). .
- وأيضًا قولُه: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بـ يَقُولُ الْإِنْسَانُ [القيامة: 10] ، وإنَّما قُدِّمَ على عامِلِه للاهتِمامِ بالظَّرفِ؛ لأنَّه المقصودُ مِن سِياقِ مُجاوَبةِ قولِه: يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة: 6] . وطُوِيَ التَّصريحُ بأنَّ ذلك حُلولُ يومِ القِيامةِ اكتِفاءً بذِكْرِ ما يدُلُّ عليه، وهو قولُهم: أَيْنَ الْمَفَرُّ [القيامة: 10] ، فكأنَّه قِيل: حلَّ يومُ القِيامةِ، وحَضَرَت أهوالُه، يقولُ الإنسانُ يومئذٍ... ثمَّ تأكَّدَ بقولِه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/345). [القيامة: 12] .
2- قولُه تعالَى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، أُعِيدَ لَفظُ (القمَر) في الفاصلتَينِ المُتواصلَتينِ؛ لأنَّ ذلك لبَيانِ أهوالِ القِيامةِ وتَعظيمِها، والعرَبُ تَستعمِلُ هذا فيما تَقصِدُ به التَّهويلَ والتَّعظيمَ، وقدِ اجتَمَعَ هنا قصْدُ التَّعظيمِ، ورَعْيُ الأسجاعِ، فتَأكَّدَ الحاملُ على التَّكريرِ، وإذا تَكرَّرَ أحدُ النَّيِّرينِ المرادُ اجتماعُهما أغْنى عن تَكرُّرِ الآخَرِ، وطَلَبَت الفواصلُ منها ما يُناسِبُ، فجاء على أتمِّ وَجهٍ في البلاغةِ [83] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1312، 1313)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 243)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/495)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/491). .
3- قولُه تعالَى: يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ يَوْمَئِذٍ ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بـ يَقُولُ أيضًا، أي: يومَ إذْ يَبرُقُ البصَرُ، ويَخسِفُ القمَرُ، ويُجمَعُ الشَّمسُ والقمَرُ؛ فتَنوينُ (إذْ) تَنوينُ عِوَضٍ عن الجُملِ المحذوفةِ الَّتي دلَّت عليها الجُملةُ الَّتي أُضِيفَ إليها (إذ) [84] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/345). .
- وذِكرُ يَوْمَئِذٍ معَ أنَّ قولَه: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ... إلخ مُغْنٍ عنه؛ للاهتِمامِ بذِكرِ ذلك اليومِ الَّذي كانوا يُنكِرون وُقوعَه، ويَستهْزِئون فيَسأَلون عن وقْتِه، وللتَّصريحِ بأنَّ حُصولَ هذه الأحوالِ الثلاثةِ في وقْتٍ واحدٍ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/345). .
- والاستِفهامُ أَيْنَ الْمَفَرُّ مُستعمَلٌ في التَّمنِّي، أي: لَيْتَ لي فِرارًا في مكانِ نَجاةٍ [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/345). .
4- قولُه تعالَى: كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ
- قولُه: كَلَّا ردْعٌ وإبطالٌ لِما تَضمَّنَه أَيْنَ الْمَفَرُّ مِن الطَّمَعِ في أنْ يَجِدَ للفِرارِ سَبيلًا [87] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/660)، ((تفسير البيضاوي)) (5/266)، ((تفسير أبي حيان)) (10/346)، ((تفسير أبي السعود)) (9/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/345)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/298). .
- والوَزرُ: المكانُ الَّذي يُلجَأُ إليه للتَّوقِّي مِن إصابةِ مَكروهٍ، مِثلُ الجِبالِ والحُصونِ؛ فيَجوزُ أنْ يكونَ كَلَّا لَا وَزَرَ كلامًا مُستأنَفًا مِن جانبِ اللهِ تعالَى جوابًا لمَقالةِ الإنسانِ، أي: لا وَزَرَ لك. ويجوزُ أنْ يكونَ مِن تَمامِ مَقالةِ الإنسانِ، أي يقولُ: أين المفرُّ؟ ويُجيبُ نفْسَه بإبطالِ طَمَعِه فيقولُ: كَلَّا لَا وَزَرَ، أي: لا وَزَرَ لي، وذلك بأنْ نظَرَ في جِهاتِه فلم يَجِدْ إلَّا النَّارَ، كما ورَدَ في الحَديثِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/346). ويُنظر ما أخرجه البخاري (7512)، ومسلم (1016). .
- قولُه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ كَلامٌ مِن جانبِ اللهِ تعالَى خاطَبَ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الدُّنيا؛ بقَرينةِ قولِه: يَوْمَئِذٍ، فهو اعتراضٌ وإدماجٌ [89] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للتَّذكيرِ بمُلكِ ذلك اليومِ، وذلك على قولٍ. وإضافةُ (ربّ) إلى ضَميرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيماءٌ إلى أنَّه ناصِرُه يَومَئذٍ بالانتقامِ مِن الَّذين لم يَقبَلوا دَعوتَه [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/346). .
- وتَقديمُ المجرورِ إِلَى رَبِّكَ؛ لإفادةِ الحَصْرِ [91] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/660)، ((تفسير البيضاوي)) (5/266)، ((تفسير أبي السعود)) (9/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/346). .
- والمُستقَرُّ: مَصدرٌ مِيميٌّ مِن استقَرَّ، إذا قَرَّ في المكانِ ولم يَنتقِلْ، والسِّينُ والتَّاءُ للمُبالَغةِ في الوصْفِ [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/346). .
- وجُملةُ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا أثارَه قولُه: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، أو بدَلُ اشتِمالٍ مِن مَضمونِ تلك الجُملةِ، أي: إلى اللهِ مَصيرُهم، وفي مَصيرِهم يُنبَّؤون بما قدَّموا وما أخَّروا [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/346). .
- وتَنْبئةُ الإنسانِ بما قدَّمَ وأخَّرَ كِنايةٌ عن مُجازاتِه على ما فَعَلَه: إنْ خيرًا فخَيرٌ، وإنْ سُوءًا فسُوءٌ؛ إذ يُقالُ له: هذا جَزاءُ الفعلةِ الفُلانيَّةِ، فيَعلَمُ مِن ذلك فِعلتَه، ويَلْقى جَزاءَها، فكان الإنباءُ مِن لَوازمِ الجزاءِ، ويَحصُلُ في ذلك الإنباءِ تَقريعٌ وفضْحٌ لحالِه [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/347). .
- قولُه: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ إضرابٌ انتقاليٌّ، وهو للتَّرقِّي مِن مَضمونِ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13] إلى الإخبارِ بأنَّ الكافرَ يَعلَمُ ما فَعَلَه؛ لأنَّهم تَشهَدُ عليهم ألْسنتُهم وأيْديهم وأرْجُلُهم بما كانوا يَعمَلون [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/347). .
- ونظْمُ قولِه: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ صالحٌ لإفادةِ مَعنيَينِ؛ أوَّلُهما: أنْ يكونَ بَصِيرَةٌ بمعْنى مُبصِرٍ شَديدِ المُراقَبةِ، فيكونَ بَصِيرَةٌ خبَرًا عن الْإِنْسَانُ، عَلَى نَفْسِهِ مُتعلِّقًا بـ بَصِيرَةٌ، أي: الإنسانُ بَصيرٌ بنفْسِه، وعُدِّيَ بحرْفِ (على) لتَضمينِه معْنى المُراقَبةِ، وهو معْنى قولِه في الآيةِ الأُخرى: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14] ، وهاءُ بَصِيرَةٌ تكونُ للمُبالَغةِ، مِثلُ هاءِ علَّامةٍ ونسَّابةٍ، أي: الإنسانُ عليمٌ بَصيرٌ قويُّ العِلمِ بنفْسِه يَومَئذٍ. والمعْنى الثَّاني: أنْ يكونَ بَصِيرَةٌ مُبتدأً ثانيًا، والمرادُ به قَرينُ الإنسانِ مِن الحفَظةِ، ويكونَ عَلَى نَفْسِهِ خبَرَ المبتدأِ الثَّاني مُقدَّمًا عليه، ومَجموعُ الجُملةِ خبرًا عن الْإِنْسَانُ، وبَصِيرَةٌ حِينَئذٍ يَحتمِلُ أنْ يكونَ بمعْنى بَصيرٍ، أي: مُبصِرٍ، والهاءُ للمُبالَغةِ، وتكونَ تَعديةُ بَصِيرَةٌ بـ عَلَى لتَضمينِه معْنى الرَّقيبِ.
ويَحتمِلُ أنْ تكونَ بَصِيرَةٌ صِفةً لمَوصوفٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: حُجَّةٌ بَصيرةٌ، أو عينٌ بَصيرةٌ، وتكونَ بَصِيرَةٌ معبَّرًا بها عن كَونِها بيِّنةً، والتَّأنيثُ لتَأنيثِ الموصوفِ. وقد جَرَت هذه الجُملةُ مَجرى المثَلِ؛ لإيجازِها ووَفْرةِ مَعانيها [96] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/660)، ((تفسير البيضاوي)) (5/266)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/162)، ((تفسير أبي حيان)) (10/347)، ((تفسير أبي السعود)) (9/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/347، 348)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/299). .
- ومَعَاذِيرَهُ: جمْعٌ مُعرَّفٌ بالإضافةِ، يدُلُّ على العُمومِ [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/348). .