موسوعة التفسير

سورةُ القيامةِ
الآيات (16-19)

ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ

المعنى الإجمالي:

يُوجِّهُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى ما يَنبغي أنْ يكونَ عليه عندَ تلَقِّي القرآنِ، فيقولُ: لا تُحرِّكْ بالقُرآنِ لِسانَك -يا محمَّدُ- مُتعَجِّلًا بأخْذِه قبْلَ أن يَفرُغَ جِبريلُ مِن قراءَتِه عليك؛ إنَّ علينا أن نجْمَعَ هذا القُرآنَ في صَدْرِك، وأن تَقرَأَه بعْدَ ذلك؛ فلَسْتَ بحاجةٍ إلى تحريكِ شَفَتَيك عندَ نُزولِه، فإذا قرأ جِبْريلُ عليك القُرآنَ فاستَمِعْ لقِراءتِه حتَّى يَفرُغَ، ثمَّ اقْرَأْه كما أقرَأَك، ثمَّ إنَّ علينا أن نُبَيِّنَ لك معانيَ القُرآنِ.

تفسير الآيات:

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ مُنكِرَ القِيامةِ والبَعثِ مُعرِضًا عن آياتِ اللهِ تعالَى ومُعجزاتِه، وأنَّه قاصرٌ شَهَواتِه على الفُجورِ، غيرُ مُكترِثٍ بما يَصدُرُ منه- ذكَرَ حالَ مَن يُثابِرُ على تَعلُّمِ آياتِ اللهِ وحِفظِها وتَلقُّفِها، والنَّظَرِ فيها وعَرْضِها على مَن يُنكِرُها؛ رَجاءَ قَبولِه إيَّاها، فظَهَرَ بذلك تَبايُنُ مَن يَرغَبُ في تَحصيلِ آياتِ اللهِ ومَن يَرغَبُ عنها، وبضِدِّها تَتميَّزُ الأشياءُ. ولَمَّا كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -لِمُثابَرتِه على ذلك- كان يُبادِرُ للتَّحفُّظِ بتَحريكِ لِسانِه، أخبَرَه تعالَى أنَّه يَجمَعُه له ويُوضِّحُه [98] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/350). وذكر الرازيُّ وُجوهًا أخرى. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/726، 727). .
وقيل: هذه الآيةُ وما بعدَها نَزَلَتْ في خلالِ توبيخِ المشركينَ على إنكارِهم البعثَ ووصْفِ يومِ الحشرِ وأهوالِه، وليسَتْ لها مناسبةٌ بذلك، ولكنْ سَبَبُ نُزولِها حَصَل في خلالِ ذلك [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/80). قال الإيجي: (قولُه: لَا تُحَرِّكْ إلى قولِه: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ اعتراضٌ بذِكرِ ما اتفقَ في أثناءِ نزولِ هذه الآياتِ). ((تفسير الإيجي)) (4/413). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/266). .
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16).
سبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعالِجُ مِن التَّنزيلِ شِدَّةً، وكان مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيه، فأنزل اللهُ تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ قال: جَمْعَه لك في صَدْرِك وتَقرَأَه، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ [القيامة: 18] قال: فاستَمِعْ له وأنصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 19] : ثمَّ إنَّ علينا أن تقرَأَه، فكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعْدَ ذلك إذا أتاه جِبريلُ استَمَعَ، فإذا انطَلَق جِبريلُ قَرَأَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما قَرَأَه )) [100] رواه البخاري (5) واللفظ له، ومسلم (448). .
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16).
أي: لا تُحرِّكْ بالقُرآنِ لِسانَك -يا محمَّدُ- مُتعَجِّلًا بحَمْلِه وأخْذِه قبْلَ أن يَفرُغَ جِبريلُ مِن قراءتِه عليك [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/500)، ((تفسير ابن كثير)) (8/278)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/98)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899). .
كما قال الله تعالى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] .
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه عَلَّل النَّهيَ عن العَجَلةِ بقَولِه: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ في صَدْرِك، وإثباتَ قِراءتِه في لسانِك [102] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/349). .
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17).
أي: إنَّ علينا -يا محمَّدُ- أن نجْمَعَ هذا القُرآنَ في صَدْرِك، فنُثْبِتَه فيه، وأن تَقرَأَه بعْدَ ذلك؛ فلَسْتَ بحاجةٍ إلى تحريكِ شَفَتَيك عندَ نُزولِه [103] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/500)، ((تفسير ابن جزي)) (2/434)، ((تفسير ابن كثير)) (8/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899). .
كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] .
وقال سُبحانَه: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى [الأعلى: 6] .
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18).
أي: فإذا قرأ جِبْريلُ عليك القُرآنَ -يا محمَّدُ- فاستَمِعْ لقِراءتِه حتَّى يَفرُغَ، ثمَّ اقْرَأْه كما أقرَأَك [104] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/393)، ((تفسير السمعاني)) (6/106)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/371)، ((تفسير الرازي)) (30/728)، ((تفسير ابن كثير)) (8/278)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/349). قال ابنُ تيميَّةَ: (مَذهَبُ سَلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها وخَلَفِها: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَمِع القرآنَ مِن جِبريلَ، وجِبريلَ سَمِعَه مِنَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وأمَّا قَولُه: نَتْلُوا [القصص: 3] ونَقُصُّ [يوسف: 3] ونحوه؛ فهذه الصِّيغةُ في كلامِ العَرَبِ للواحِدِ العظيمِ الَّذي له أعوانٌ يُطيعونَه، فإذا فعَل أعوانُه فِعلًا بأمْرِه، قال: نحنُ فَعَلْنا، كما يقولُ الملِكُ: نحنُ فَتَحْنا هذا البَلَدَ... قولُه: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ هو قراءةُ جبريلَ له عليه، واللهُ قرَأَه بواسِطةِ جِبريلَ كما قال: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى: 51] ؛ فهو مكَلِّمٌ لمحمَّدٍ بلِسانِ جِبريلَ وإرسالِه إليه). ((مجموع الفتاوى)) (5/128، 235). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/434)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/6). .
وقال سُبحانَه: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204] .
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19).
أي: ثمَّ إنَّ علينا أن نُبَيِّنَ لك -يا محمَّدُ- معانيَ القُرآنِ [105] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بيانُ معاني القُرآنِ: ابنُ كثير، والسعديُّ. يُنظر: المصدران السابقان. وقيل: المرادُ: بيانُ أحكامِه وحلالِه وحَرامِه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/504)، ((تفسير القرطبي)) (19/106). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ، وعطيَّةُ العَوْفيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/504)، ((تفسير ابن كثير)) (8/279). وقيل: البيانُ هنا بيانُ ألفاظِه، وليس بيانَ معانيه. وممَّن ذهب إليه: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/350). وقيل: بيانُ ألفاظِه ومعانيه. وممَّن ذهب إليه: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/102). .

الفوائد التربوية:

1- قولُه تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... فيه التوبيخُ على حُبِّ العَجلةِ؛ لأنَّ العَجلةَ إذا كانتْ مذمومةً فيما هو أهمُّ الأمورِ، وأصلُ الدِّينِ، فكيفَ بها في غيرِه [106] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/266). ؟ فالنَّهيُ عن العجلةِ في هذا يَقتضي النهيَ فيما عداه على آكدِ وجهٍ، ومِن محبةِ العاجلِ وايثارِه على الآجلِ تقديمُ الدُّنيا الحاضرةِ على الآخرةِ [107] يُنظر: ((حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي)) (8/282). .
2- مِن الأسرارِ الَّتي تَضَمَّنَها قولُه تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ التَّأنِّي والتَّثَبُّتُ في تلَقِّي العِلمِ، وألَّا يَحْمِلَ السَّامِعَ شِدَّةُ محبَّتِه وحِرْصِه وطَلَبِه على مُبادَرةِ المعلِّمِ بالأخذِ قبْلَ فراغِه مِن كلامِه، بل مِن آدابِ الرَّبِّ الَّتي أَدَّبَ بها نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أَمْرُه بتركِ الاستعجالِ على تلَقِّي الوَحيِ، بل يَصبِرُ إلى أنْ يَفْرُغَ جبريلُ مِن قراءتِه، ثُمَّ يَقرؤُه بعدَ فراغِه عليه، فهكذا يَنبغي لطالبِ العلمِ ولسامعِه أنْ يَصبِرَ على مُعَلِّمِه حتَّى يَقضيَ كلامَه، ثُمَّ يُعيدَه عليه، أو يَسألَ عمَّا أَشْكَلَ عليه منه، ولا يُبادِرَه قبْلَ فراغِه [108] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 159). ؛ فإنَّ الإنسانَ إذا تَسَرَّعَ في تلَقِّي العِلمِ، فرُبَّما يَتلقَّاه على غيرِ ما ألقاه إليه شَيخُه [109] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/393). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ دليلٌ إلى الإشارةِ إلى المعنى وإنْ لم يَجْرِ لفْظُه في أوَّلِ الكلامِ؛ لأنَّ «الهاء» في بِهِ راجعةٌ على القُرآنِ، ولم يُذْكَرْ قَبْلَها؛ فاستغنى بما دلَّ عليه آخرُ الكلامِ؛ إذْ يقولُ: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، وهو مِن المواضعِ الَّتي يُبِينُ آخِرُ اللَّفظِ فيه عن أَوَّلِه [110] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/452). .
2- في قَولِه تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ أنَّ القرآنَ المسموعَ مِن لسانِ العِبادِ هو كلامُ اللهِ، غيرُ مخلوقٍ، ولم يَصِرْ لفظًا ولا حِكايةً، وأنَّه القرآنُ المَحْضُ الَّذي تَكَلَّمَ اللهُ به، وليس للعِبادِ به لفظٌ أصلًا، إنَّما حَمَلُوه حَملًا، وأَدَّوه أداءً كما يَحمِلُه الكاتبُ بكتابتِه مِن غيرِ أنْ يكونَ له فيه ممازَجةُ لَفظٍ، فليس للتَّالي، ولا للكاتبِ، ولا للحافظِ، ولا للسَّامعِ صنعٌ في اللَّفظِ، ولا في الحكايةِ؛ لأنَّ اللَّفظَ لا يكونُ مِن لافظَينِ في حالٍ واحدةٍ، ولا الكلامُ يكون حكايةً ومحكيًّا مِن واحدٍ في حالٍ واحدةٍ؛ إذ لا بدَّ مِن عدمِ أحدِهما بوجودِ الآخَرِ [111] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/452، 453). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ فيه إشارةٌ إلى أنَّ القُرآنَ نَزَل مُفَرَّقًا، وإشارةٌ إلى أنَّ جَمْعَه على هذا النَّحو ِالموجودِ برعايةٍ وعنايةٍ مِنَ اللهِ تعالى، وتحقيقًا لقَولِه تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، ويَشهَدُ لذلك أنَّ هذا الجَمعَ الموجودَ مِن وسائِلِ حِفْظِه، كما تعَهَّدَ تعالى بذلك [112] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/374). .
4- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ سؤالٌ: أنَّ المرادَ هنا قراءةُ جِبريلَ القرآنَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع أنَّ اللهَ تعالى أضاف القراءةَ إليه!
 الجوابُ: لَمَّا كان جبريلُ يَقْرَؤُه على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأمرِ اللهِ تعالى، صَحَّتْ إضافةُ القراءةِ إليه تعالى، وكذلك جاء في قَولِه تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74] ، وإبراهيمُ إنَّما كان يجادِلُ الملائكةَ الَّذين هم رُسُلُ اللهِ تعالى [113] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/324). . وأيضًا فقد جعَل قراءةَ جبريلَ قراءةَ الله؛ لأنَّها مِن عندِه [114] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/434). . وأيضًا فما يُسنِدُه سُبحانَه إلى نفْسِه بصيغةِ ضَميرِ الجَمعِ قد يريدُ به ملائكتَه، كقَولِه تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، وقَولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [يوسف: 3] ونَظائِرِه؛ فتأمَّلْه [115] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/6). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ احتَجَّ مَن جوَّزَ تأخيرَ البيانِ عن وَقتِ الخِطابِ بهذه الآيةِ [116] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/729). ، فـ ثُمَّ للتَّراخي، فدلَّت على تراخي البيان عن وقتِ الخِطابِ [117] يُنظر: ((روضة الناظر وجنة المناظر)) لابن قدامة (1/536)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 223). لكن قال ابنُ عاشورٍ: (قد احتجَّ بهذه الآيةِ بعضُ علمائِنا الذين يرونَ جوازَ تأخيرِ البيانِ عن المبينِ متمسكينَ بأنَّ ثُمَّ للتَّراخي، وهو متمسكٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ التَّراخيَ الذي أفادَتْه ثُمَّ إنَّما هو تراخٍ في الرُّتبةِ، لا في الزَّمنِ، ولأنَّ ثُمَّ قد عطَفت مجموعَ الجملةِ، ولم تعطِفْ لفظَ بَيَانَهُ خاصَّةً، فلو أُرِيد الاحتجاجُ بالآيةِ للزِم أنْ يكونَ تأخيرُ البيانِ حقًّا لا يخلو عنه البيانُ، وذلك غيرُ صحيحٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/325). .
6- في قَولِه تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أنَّه سُبحانَه تَكَفَّلَ بأنْ يُبَيِّنَ هذا القرآنَ لعبادِه لفظًا ومعنًى؛ ولهذا لا يوجَدُ في القرآنِ كلمةٌ لا يَفْهَمُ أحدٌ معناها، بمعنى: أنَّ الأُمَّةَ كلَّها تُطْبِقُ على عدمِ معرفتِها! هذا لا يمكنُ، صحيحٌ أنَّ مِن القرآنِ ما يَخفى على بعضِ النَّاسِ دونَ بعضٍ، وهذا واضحٌ. لكنْ لا يمكِنُ أنْ يوجَدَ في القرآنِ شيءٌ لا تَفْهَمُه الأُمَّةُ كلُّها أبدًا [118] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 3). .
7- قال الله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ إنَّ الله سُبحانَه وتعالى لم يُخْفِ على العِبادِ ما يُكَلِّفُهم به، فإنَّ رحمتَه وحِكمتَه تأبى ذلك؛ ولهذا قال اللهُ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، فاللهُ تعالى قد بَيَّنَ للخَلْقِ، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، وينبني على هذه الفائدةِ -وهي فائدةُ البيانِ-: أهمِّيَّةُ التَّرجمةِ، وأنَّ على المسلمينَ أنْ يُترجِموا الشَّريعةَ إلى لغةِ مَن يُخاطِبونَهم بها حتَّى تَتِمَّ الحُجَّةُ؛ لأنَّك لو أَتيتَ إلى قومٍ عَجَمٍ وتكلَّمْتَ عندَهم بأبلَغِ الكلامِ العربيِّ وأفصَحِه، ما استفادوا مِن هذا شيئًا، ولا يَدرون ما تقولُ، وعليه فمَن أراد أنْ يَذهبَ إلى قومٍ يَدْعوهم إلى اللهِ لا بُدَّ أنْ يَتَعَلَّمَ لُغتَهم؛ حتَّى يَتمكَّنَ مِن دَعوتِهم، أو يَصْطَحِبَ شخصًا يُتَرجِمُ له يكونُ عالِمًا باللُّغَتَينِ الأصليَّةِ والفَرعيَّةِ، ويكونُ له إلمامٌ بموضوعِ ما يُتَرْجِمُه، فإذا أراد أن يُترجِمَ في الكلامِ على التَّوحيدِ -مثلًا- فلا بُدَّ أنْ يكونَ عندَه إلمامٌ بذلك؛ لئلَّا يُفْهِمَ الأمرَ على خِلافِه [119] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/317). .

بلاغة الآيات:

قولُه تعالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
- قولُه: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ أي: فإذا أتْمَمْنا قِراءتَه عليكَ بلسانِ جِبريلَ عليه السَّلامُ، فكُنْ مُتَّبِعًا له ولا تُسابِقْه، وإسنادُ القِراءةِ إلى نُونِ العَظَمةِ للمُبالَغةِ في إيجابِ التَّأنِّي [120] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/67)، ((تفسير الألوسي)) (15/157). .
- وتقديمُ شِبه الجُملةِ عَلَيْنَا على اسم (إنَّ) في إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ، وثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ: أسلوبُ قَصرٍ [121] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). يُفيدُ أنَّ اللهَ تعالَى المتولِّي مُهمَّةَ الحِفظِ والبَيانِ، لم يَكِلْ ذلك إلى بَشرٍ، وبهذا سَلِم مِن التَّغييرِ والنَّقْصِ والتَّحريفِ [122] يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (12/7876). .
- لَفظُ عَلَيْنَا في الموضعَينِ للتَّكفُّلِ والتَّعهُّدِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/350). .
- و(ثُمَّ) في ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ قيل: للتَّراخي في الرُّتبةِ، أي: التَّفاوتِ بيْن رُتبةِ الجُملةِ المعطوفِ عليها -وهي قولُه: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ- وبيْن رُتبةِ الجُملةِ المعطوفةِ، وهي إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، أي: ليس فقط علينا حِفظُه وجَمْعُه وقِراءتُه عليك، وتَثبيتُ حِفظِه في قلبِكَ، بلْ فوقَ ذلك بَيانُه لك، وتفسيرُ معانِيه، وشرْحُ أحكامِه، وتَفصيلُ مُجمَلِه، وتَيسيرُ تِبيانِه للنَّاسِ على لِسانِك بما أُوتيتَ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ وفَصْلِ الخِطابِ [124] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/266)، ((تفسير أبي حيان)) (10/348)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/350). .