موسوعة التفسير

سورةُ الحَديدِ
الآيات (12-15)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ

غريب الكلمات:

بُشْرَاكُمُ: أي: بِشارَتُكم الَّتي تُبَشَّرون بها، والبُشرى تُطلَقُ على الإخبارِ بما يَسُرُّ، وما يُعطَى للمُبشَّرِ، وأصلُ (بشر): ظهورُ الشَّيءِ مع حُسْنٍ وجَمالٍ [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/399)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 129)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/251)، ((الهداية)) لمكي بن أبي طالب (11/7314)، ((المفردات)) للراغب (ص: 125). .
انْظُرُونَا: أي: انتَظِرُونا، مِنَ النَّظَرِ بمعنى الانتِظارِ، ومِنْه النَّظِرةُ: وهي التَّأخيرُ، وأصلُ (نظر): يدُلُّ على تأمُّلِ الشَّيءِ ومُعايَنتِه، ومنه الانتظارُ، كأنَّه يَنظُرُ إلى الوقتِ الَّذي يَأتي فيه [239] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/444)، ((المفردات)) للراغب (ص: 813)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 905). .
نَقْتَبِسْ: أي: نَستَضِئْ، والقَبَسُ: شُعْلَةُ النَّارِ، وأصلُ (قبس): يدُلُّ على صِفةٍ مِن صِفاتِ النَّارِ [240] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/48)، ((المفردات)) للراغب (ص: 652)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 915). .
مِنْ قِبَلِهِ: أي: مِنْ جِهَتِه، وقِبَلُ: أي: الجهةُ المقابِلةُ، ويُقالُ: فَعَل ذلك قِبَلًا، أيْ: مُواجَهةً. وهذا مِن قِبَلِ فُلانٍ، أيْ: مِن عِنْدِه، كأنَّه هو الَّذي أقْبَل به عليكَ، وأصلُ (قبل): يدُلُّ على مُواجَهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [241] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/51)، ((تفسير الرسعني)) (7/640)، ((تفسير الشوكاني)) (5/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/384). .
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: أي: أهْلَكْتُموها وأضْلَلْتُموها بالنِّفاقِ، أو: أوقَعْتُموها في بَليَّةٍ وعذابٍ. وفِتنتُهم أنفُسَهم في هذا الموضعِ كانت النِّفاقَ، والفِتنةُ في الأصلِ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ مِن الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لِتَظهَرَ جَودتُه مِن رَداءتِه [242] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 260)، ((تفسير ابن جرير)) (22/404)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تفسير ابن جزي)) (2/346)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/545). قال الشنقيطي: (الفِتنة أُطْلِقَتْ في القرآنِ ثلاثةَ إطلاقاتٍ، وبعضُهم يقولُ: أربعةُ إطلاقاتٍ. أمَّا الإطلاقاتُ الثَّلاثُ الَّتي لم يُخالِفْ فيها أحَدٌ: فمنها إطلاقُ الفِتنةِ على الاختبارِ، وهو أشهَرُها في القرآنِ. ومنها إطلاقُ الفتنةِ على الإحراقِ بالنَّارِ؛ لأنَّ العربَ تقولُ: فَتَنْتُ الذَّهبَ، إذا سَبَكْتَه في النَّارِ وأذَبْتَه، أي: لِيَتبَيَّنَ أخالِصٌ هو أم زائِفٌ. ومِن إطلاقِ الفِتنةِ على مُطْلَقِ الوضعِ في النَّارِ قولُه تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13]، أي: يُحْرَقون بالنَّارِ، والعياذُ بالله... وكذلك تُطْلَقُ الفِتنةُ على نتيجةِ الاختبارِ إن كانت سيِّئةً خاصَّةً؛ كالمعاصي والكفرِ، فإنَّ الكفَّارَ والعُصاةَ اختَبَرَهم اللهُ بالأوامرِ والنَّواهي، فكانت نتيجةُ الاختبارِ فيهم غيرَ محمودةٍ، حيث كفَروا وعَصَوْا؛ ولِذا يُطْلَقُ اسمُ الفِتنةِ على الكفرِ والمعاصي، ومنه قولُه تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 193] ، أي: حتَّى لا يَبقى شِرْكٌ. الرَّابعُ: إطلاقُ الفتنةِ بمعنَى الحُجَّةِ، كما قاله بعضُ العلماءِ في قولِه...: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ [الأنعام: 23] ، أي: حُجَّتُهم). ((العذب النمير)) (1/325). وذكر ابنُ قُتَيْبةَ مِن معاني الفِتنةِ أيضًا: الصَّدَّ والاستِزلالَ، واستشهَد بقولِه تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة: 49] أي: يَصُدُّوك ويَستَزِلُّوك. وقولِه: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء: 73] ، وقولِه: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 162، 163] أي: صادِّينَ. وذكر مِن معانيها: العِبْرةَ، واستشهَد بقولِه تعالى: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: 85]، وقولِه: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 5] ، قال: (أي: يَعتَبِرونَ أمْرَهم بأمْرِنا، فإذا رأَوْنا في ضرٍّ وبلاءٍ، ورأَوْا أنفُسَهم في غِبْطةٍ ورَخاءٍ؛ ظنُّوا أنَّهم على حقٍّ، ونحن على باطلٍ).  ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 260). .
وَتَرَبَّصْتُمْ: أي: انتَظَرْتُم بالمُؤمِنينَ حُلولَ الهلاكِ بهم، أو: تأخَّرْتُم بالتَّوبةِ، وأصلُ (ربص): يدُلُّ على الانتِظارِ [243] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/477)، ((المفردات)) للراغب (ص: 338)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 320). .
وَارْتَبْتُمْ: أي: شَكَكْتُم، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ [244] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 453)، ((تفسير ابن جرير)) (22/405)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((المفردات)) للراغب (ص: 368). .
الْغَرُورُ: أي: الشَّديدُ التَّغريرِ والخِداعِ، والمرادُ به الشَّيطانُ، يقالُ: غَرَرتُ فُلانًا: إذا أصبْتَ غِرَّتَه ونِلتَ منه ما تُريدُه، مِنَ الغِرَّةِ: وهي الغَفلةُ [245] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/406)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (11/ 7318)، ((المفردات)) للراغب (ص: 603، 604)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/259). .
فِدْيَةٌ: أي: عِوَضٌ وبَدَلٌ، وأصلُ (فدي): يدُلُّ على جَعْلِ شَيءٍ مكانَ شَيءٍ حِمًى له [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/407)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/483)، ((المفردات)) للراغب (ص: 627). .
مَأْوَاكُمُ: أي: مَثْواكم ومَسكَنُكم، والمأوى: مكانُ كُلِّ شَيءٍ يَأْوِي إليه، وأصلُ (أوى): يدُلُّ على التَّجَمُّعِ [247] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 453)، ((تفسير ابن جرير)) (22/408)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/151)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 870). .
مَوْلَاكُمْ: أي: مَصيرُكم، وأولَى بكم، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ [248] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 453)، ((تفسير ابن جرير)) (22/408)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 870). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا فضلَ الإيمانِ واغتِباطَ أهلِه به يومَ القيامةِ: يومَ تَرى المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ يَومَ القيامةِ يَسْعى نُورُهم مِن أمامِهم، وبأيمانِهم، يُقالُ لهم: بِشارتُكم العَظيمةُ اليَومَ جَنَّاتٌ لكم، تجري مِن تَحتِها الأنهارُ، ماكِثينَ فيها أبَدًا، ذلك هو الفَوزُ العَظيمُ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى سوءَ عاقِبةِ المنافِقِين، ويَذكُرُ جانبًا ممَّا يَدورُ بيْنَهم وبيْنَ المؤمنينَ مِن مُحاوَراتٍ، فيقول: يَومَ يَقولُ المُنافِقونَ والمُنافِقاتُ للَّذِين آمَنوا: انتَظِرونا نَنَلْ قَبَسًا مِن نُورِكم، فيُقالُ لهم: ارجِعوا خَلْفَكم، فاطلُبوا مِن هُنالِك نُورًا لأنفُسِكم! فضُرِبَ بيْنَهم وبيْنَ المُؤمِنينَ حاجِزٌ يَفصِلُ بيْنَهم، له بابٌ باطِنُه مِن جِهةِ المُؤمِنينَ فيه الجنَّةُ، وظاهِرُه مِن جِهةِ المُنافِقينَ يأتِيهم مِن قِبَلِه العَذابُ.
يُنادي المُنافِقونَ المُؤمِنينَ مِن وَراءِ السُّورِ الحاجِزِ بَيْنَهم: ألمْ نَكُنْ مَعَكم في الدُّنيا نُصَلِّي ونَصومُ، ونَفعَلُ ما تَفعَلونَ؟! قالوا لهم: بلَى قد كُنتُم معنا في الدُّنيا في الظَّاهِرِ، ولكِنْ بلا إيمانٍ صادِقٍ؛ فأهلَكْتُم أنفُسَكم، وانتَظَرْتُم بالمُؤمِنينَ حُلولَ الهلاكِ بهم، وشَكَكْتُم في الحَقِّ، وخَدَعَتْكم أمانيُّكم الباطِلةُ، وخدَعكم باللهِ -تعالى- الشَّيطانُ!
فاليَومَ لا يُؤخَذُ مِنكم عِوَضٌ يُخَلِّصُكم مِن العَذابِ، ولا مِنَ الَّذين كَفَروا، مَنزِلُكم النَّارُ، هي مَوضِعُ قُربِكم، ومَصيرُكم، وبِئسَ المَصيرُ هي!

تفسير الآيات:

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعْدَ أن أمَرَ اللهُ تعالى بالإيمانِ والإنفاقِ في سبيلِه، وحَثَّ على كُلٍّ منهما بوُجودِ مُوجِباتِه؛ فحَثَّ على الإيمانِ بوُجودِ الأسبابِ الَّتي تُساعِدُ عليه، وهي وُجودُ الرَّسولِ بيْنَ أظهُرِهم، وكتابِه الَّذي يُتلَى بيْنَ أيديهم، وحَثَّ على الإنفاقِ فأبان أنَّ المالَ مالُ اللهِ، وهو عارِيَّةٌ بيْنَ أيديهم ثمَّ يُرَدُّ إليه، وأنَّهم يَنالونَ على إنفاقِه الأجرَ العظيمَ في جنَّاتِ النَّعيمِ، ثمَّ ذَكَر أنَّ المنفِقينَ أوَّلَ الإسلامِ لهم مِن الأجرِ أكثَرُ مِمَّن أنفَقوا مِن بَعْدُ حِينَ كَثُرَ النَّصيرُ والمُعِينُ- ذكَرَ هنا حالَ المؤمِنينَ المنفِقينَ يومَ القيامةِ [249] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (27/168). .
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.
أي: يومَ [250] قال الزمخشري: (يَوْمَ تَرَى ظَرفٌ لِقَولِه: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ. أو مَنصوبٌ بإضمارِ «اذْكُرْ»؛ تعظيمًا لذلك اليَومِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/475). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/455). ممَّن قال: إنَّ يَوْمَ ظَرفٌ مُتعَلِّقٌ بقَولِه تعالى: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ -أي: وله أجرٌ كَريمٌ في اليَومِ الَّذي ترى فيه المؤمِنينَ والمُؤمِناتِ يَسعى نُورُهم-: الزَّجَّاجُ، وابنُ عطية، والقرطبيُّ، والبِقاعي، والعُلَيمي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/123)، ((تفسير ابن عطية)) (5/261)، ((تفسير القرطبي)) (17/243)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/271)، ((تفسير العليمي)) (6/534). وممَّن قال بأنَّ يَوْمَ مَنصوبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: اذكُرْ: جلالُ الدين المحلي، وابنُ عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 720)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/379)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 385). وقيل: هذه الآيةُ تَتعَلَّقُ بقَولِه تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى... وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/399). ترَى [251] قال ابن عاشور: (الخِطابُ في تَرَى لِغَيرِ مُعَيَّنٍ؛ لِيَكونَ على مِنْوالِ المُخاطَباتِ الَّتي قَبْلَه، أي: يومَ يَرى الرَّائي، والرُّؤيةُ بَصَريَّةٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/379). وقال الألوسي: (الخِطابُ لكلِّ مَن تتأتَّى منه، أو لسيِّدِ المُخاطَبينَ صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم). ((تفسير الألوسي)) (14/174). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/203). المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ يَومَ القيامةِ يَمضي نُورُهم معهم مِن أمامِهم، وبأيْمانِهم [252] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/248)، ((تفسير ابن كثير)) (8/15، 16)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/379، 380)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 385، 386). قيل: ذلك يكونُ على الصِّراطِ. وممَّن نصَّ على هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، والبغوي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/239)، ((تفسير السمرقندي)) (3/404)، ((تفسير الثعلبي)) (9/236)، ((الوسيط)) للواحدي (4/248)، ((تفسير البغوي)) (5/28)، ((تفسير الشوكاني)) (5/203). وممَّن رُوِيَ عنه هذا القَولُ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ مسعود، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/ 243)، ((تفسير ابن كثير)) (8/15). وقال ابنُ كثيرٍ: (ثمَّ يَنتهي النَّاسُ بعدَ مفارقتِهم مكانَ الموقفِ إلى الظُّلمةِ التي دونَ الصِّراطِ، وهي على جسرِ جهنَّمَ، كما تقدَّم عن عائشةَ: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِل أينَ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم: 48] ؛ فقال: «هم في الظُّلمةِ دونَ الجسرِ» [مسلم «315»]. وفي هذا الموضعِ يفترقُ المنافقونَ عن المؤمنينَ، ويتخلَّفونَ عنهم، ويسبِقُهم المؤمنونَ، ويُحالُ بينَهم وبينَهم بسورٍ يمنعُهم مِن الوصولِ إليهم، كما قال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ). ((البداية والنهاية)) (20/80). وقال ابنُ عاشور: (النُّورُ المذكورُ هنا نورٌ حَقيقيٌّ يَجعَلُه اللهُ للمُؤمِنينَ في مَسيرِهم مِن مَكانِ الحَشرِ؛ إكرامًا لهم، وتنويهًا بهم في ذلك المَحشَرِ!). ((تفسير ابن عاشور)) (27/380). واختُلِف في قولِه: وَبِأَيْمَانِهِمْ؛ فقيل: المعنى: وعن أيمانِهم، والمرادُ: في جميعِ جِهاتهِم، وعَبَّرَ عن ذلك بالأيْمانِ؛ تشريفًا لها، فأقامَ الباءَ مُقامَ (عن)، واكتفى بالأيمانِ عن ذِكرِ الشَّمائلِ. وقيل: وَبِأَيْمَانِهِمْ: كُتُبِهم الَّتي أُعطوها، فكُتُبُهم بأيْمانِهم، ونُورُهم بيْنَ أيديهم، فحذَف الكُتبَ لدَلالِة قولِه: وَبِأَيْمَانِهِمْ عليها. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (21/285)، ((تفسير ابن عطية)) (5/261)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/234)، ((تفسير أبي حيان)) (10/105). وممَّن قال في الجملة بأنَّ قَولَه تعالى: وَبِأَيْمَانِهِمْ يعني: مِن الجِهةِ اليُمنى: البغويُّ، والخازن، والبِقاعي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/28)، ((تفسير الخازن)) (4/ 248)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/272)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/380)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 386). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بقولِه: وَبِأَيْمَانِهِمْ أي: كُتُبُ أعمالِهم: ابنُ جرير، وابن أبي زَمَنين، وأبو السعود، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/398، 399)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/350)، ((تفسير أبي السعود)) (8/207)، ((تفسير القاسمي)) (9/145). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: الضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/398)، ((تفسير ابن كثير)) (8/16). قال ابن عطية: (وقال جمهورُ المفسِّرينَ: المعنى: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يُريدُ: الضَّوءَ المُنبسِطَ مِن أصلِ النُّورِ. وَبِأَيْمَانِهِمْ أصْلُه، والشَّيءُ الَّذي هو مُتَّقدٌ فيه. قال القاضي أبو محمَّدٍ [ابن عطية]: فمُضَمَّنُ هذا القَولِ أنَّهم يَحمِلونَ الأنوارَ، وكونُهم غيرَ حامِلينَ أكرَمُ، ألَا ترى أنَّ فَضيلةَ عَبَّادِ بنِ بِشرٍ وأُسَيدِ بنِ حُضَيرٍ إنَّما كانت بنُورٍ لا يَحمِلانِه [يُنظر: «صحيح البخاري» «465، 3805»]. هذا في الدُّنيا، فكيف في الآخِرةِ؟!). ((تفسير ابن عطية)) (5/261). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/105). .
كما قال الله تبارك وتعالى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8].
بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى نُفوذَهم فيما يُحِبُّونَ مِنَ الجِهاتِ، وتَيسيرَه لهم؛ أتْبَعَه ما يُقالُ لهم مِنَ المحبوبِ في سُلوكِهم لذلك المحبوبِ، فقال [253] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/272). :
بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: يُقالُ للمُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ: بِشارتُكم العَظيمةُ هذا اليَومَ -أي: يومَ القيامةِ- جَنَّاتٌ لكم تَدخُلونَها، تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ؛ مِن الماءِ أو اللَّبَنِ، أو الخَمرِ أو العَسَلِ [254] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/399)، ((تفسير القرطبي)) (17/244)، ((تفسير ابن كثير)) (8/16)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/272)، ((تفسير الشوكاني)) (5/204)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 386). .
خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: ماكِثينَ في تلك الجَنَّاتِ، لا تَخرُجونَ منها أبَدًا [255] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/399)، ((تفسير ابن كثير)) (8/16)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/272)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 387). .
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أي: دُخولُ تلك الجَنَّاتِ في الآخِرةِ والخُلودُ فيها: هو الرِّبحُ والنَّجاحُ العَظيمُ [256] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/399)، ((تفسير السمعاني)) (5/369)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 387). قال ابنُ عاشور: (جملةُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يحتَمِلُ أن يكونَ مِن بَقِيَّةِ الكَلامِ المَحكيِّ بالقَولِ المُبَشَّرِ به، ويحتَمِلُ أن يكونَ مِن الحِكايةِ الَّتي حُكِيَت في القُرآنِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/381). .
قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] .
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا شَرَح تعالى حالَ المُؤمِنينَ في مَوقِفِ القيامةِ؛ أتْبَعَ ذلك بشَرحِ حالِ المُنافِقينَ، فقال تعالى [257] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/456). :
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ.
أي: يَومَ [258] قال ابنُ عاشور: (يَوْمَ يَقُولُ بَدَلٌ مِن يَوْمَ تَرَى بدَلًا مُطابِقًا؛ إذِ اليَومُ هو عَينُ اليَومِ المُعَرَّفِ في قَولِه تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ [الحديد: 12] ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/381). يَقولُ المُنافِقونَ والمُنافِقاتُ لأولئك المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ: انتَظِرونا وأمْهِلونا؛ حتَّى نَلحَقَ بكم، ونَنالَ شُعْلةً مِن نُورِكم [259] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/400)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 296)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/381، 382)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 387). قال ابنُ عاشور: (ذلك يَقتَضي أنَّ اللهَ يأذَنُ للمُؤمِنينَ الأوَّلينَ بالسَّيرِ إلى الجنَّةِ فَوجًا، ويَجعَلُ المُنافِقينَ -الَّذين كانوا بَيْنَهم في المدينةِ- سائِرينَ وَراءَهم، كما وَرَد في حديثِ الشَّفاعةِ: «وتَبقى هذه الأُمَّةُ فيها مُنافِقوها»). ((تفسير ابن عاشور)) (27/382). !
عن أبي هُرَيرةَ وأبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم قال: ((يَجمَعُ اللهُ النَّاسَ يَومَ القيامةِ فيَقولُ: مَن كان يَعبُدُ شَيئًا فلْيَتْبَعْه، فيَتْبَعُ مَن كان يَعبُدُ الشَّمسَ الشَّمسَ، ويَتْبَعُ مَن كان يَعبُدُ القَمَرَ القَمَرَ، ويَتْبَعُ مَن كان يَعبُدُ الطَّواغِيتَ الطَّواغِيتَ، وتَبقى هذه الأُمَّةُ فيها مُنافِقوها )) [260] رواه البخاريُّ (806)، ومسلمٌ (182) واللَّفظُ له. .
قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا.
أي: يُقالُ لأولئك المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ؛ تَهكُّمًا بهم: ارجِعوا خَلْفَكم، فاطلُبوا مِن هُنالِك نُورًا لأنفُسِكم [261] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/10)، ((تفسير القرطبي)) (17/246)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/274)، ((تفسير الشوكاني)) (5/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/382، 383). قال ابن عثيمين: (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ والقِيلُ هذا: إمَّا مِن المُؤمِنينَ، أو مِنَ الملائِكةِ. فاللهُ أعلَمُ، لا ندري). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 388). وقال أبو السعود: (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ أي: إلى الموقفِ فَالْتَمِسُوا نُورًا فإنَّه مِن ثمَّ يُقتبَسُ، أو إلى الدُّنيا). ((تفسير أبي السعود)) (8/207). !
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ.
أي: فضَرَب اللهُ بيْنَ المُؤمِنينَ والمُنافِقينَ حاجِزًا يَفصِلُ بيْنَهم [262] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/401)، ((تفسير القرطبي)) (17/246)، ((تفسير ابن كثير)) (8/17، 18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 388). قيل: المرادُ بالسُّورِ: الحِجابُ المذكورُ في قولِه تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [الأعراف: 46] . وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والثعلبيُّ، والزمخشري، وابن الجوزي، والرازي، والرَّسْعَني، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، ومحمد رشيد رضا، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/240)، ((تفسير ابن جرير)) (10/208) و(22/401)، ((تفسير الثعلبي)) (4/235)، ((تفسير الزمخشري)) (2/106)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/123)، ((تفسير الرازي)) (14/248)، ((تفسير الرسعني)) (2/134)، ((تفسير القرطبي)) (7/211)، ((تفسير ابن كثير)) (8/17)، ((تفسير الشوكاني)) (2/236)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/383)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/15)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/283). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/402)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/351)، ((تفسير ابن كثير)) (8/17). .
لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ.
أي: لذلك السُّورِ الحاجِزِ بينَ المُؤمِنينَ والمنافِقينَ بابٌ يَدخُلُ منه المؤمِنونَ، داخلُ ذلك السُّورِ مِن جِهةِ المُؤمِنينَ: فيه الجنَّةُ، وخارِجُ السُّورِ مِن الجِهةِ الَّتي تَلي المُنافِقينَ وتَبدو لهم: يأتِيهم مِن قِبَلِه عَذابُ جهنَّمَ [263] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/403)، ((تفسير الزمخشري)) (4/476)، ((تفسير ابن عطية)) (5/263)، ((تفسير القرطبي)) (17/246)، ((تفسير ابن كثير)) (8/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/384). قال الواحدي: (الرَّحمةُ قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرونَ: يعني الجنَّةَ الَّتي فيها المؤمنونَ). ((البسيط)) (21/289). .
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14).
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ.
أي: يُنادي المُنافِقونَ المُؤمِنينَ مِن وَراءِ السُّورِ الحاجِزِ بَيْنَهم، وهم في الظُّلْمةِ والعَذابِ: ألمْ نَكُنْ مَعَكم في الدُّنيا نُصَلِّي ونَصومُ ونَذكُرُ اللهَ، ونَدِينُ بالإسلامِ، ونَفعَلُ مِثلَ ما تَفعَلونَ [264] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/404)، ((تفسير القرطبي)) (17/246)، ((تفسير ابن كثير)) (8/18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/545)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 388، 389). ؟!
قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ.
أي: قال المؤمِنونَ لهم: قد كُنتُم معنا في الدُّنيا في الظَّاهِرِ، ولكِنْ بلا نِيَّةٍ صَحيحةٍ، ولا إيمانٍ صادِقٍ؛ فأهلَكْتُم أنفُسَكم بالنِّفاقِ الَّذي هو كُفرٌ باطِنٌ [265] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/404)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/545)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 389). !
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء: 60، 61].
وَتَرَبَّصْتُمْ.
أي: وانتَظَرْتُم بالمُؤمِنينَ حوادثَ الدَّهرِ ونوائبَه أن تُهلِكَهم [266] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/240)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/124)، ((الوسيط)) للواحدي (4/249)، ((تفسير القرطبي)) (17/247)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/386)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/545). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ المرادَ: ترَبَّصْتُم بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو بالمُؤمِنينَ الدَّوائرَ والهلاكَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والقرطبيُّ، وابنُ عاشور، والشنقيطيُّ. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ: تربَّصْتُم بالإيمانِ والتَّوبةِ. وممَّن قال بهذا في الجملةِ: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، والبغوي، وابن جُزَي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/405)، ((تفسير الثعلبي)) (9/238)، ((تفسير البغوي)) (5/30)، ((تفسير ابن جزي)) (2/346)، ((تفسير الخازن)) (4/249). قال ابن كثير: (وَتَرَبَّصْتُمْ أي: أخَّرْتُم التَّوبةَ مِن وقتٍ إلى وقتٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/18). وقال الشربيني: (وَتَرَبَّصْتُمْ أي: بالإيمانِ والتَّوبةِ، وبمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير الشربيني)) (4/207). !
كما قال تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [التوبة: 98].
وَارْتَبْتُمْ.
أي: وشَكَكْتُم في الحَقِّ الَّذي جاءَ مِن عِندِ اللهِ تعالى [267] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/405)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/234)، ((تفسير القرطبي)) (17/247)، ((تفسير ابن كثير)) (8/18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/545). .
قال تعالى: وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 45] .
وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ.
أي: وخَدَعَتْكم أمانيُّ نُفوسِكم الباطِلةُ، فصَرَفَتْكم عن اتِّباعِ الحَقِّ، حتَّى جاءَكم الموتُ [268] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/406)، ((تفسير القرطبي)) (17/247)، ((تفسير السعدي)) (ص: 839)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/386، 387)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 545). قال الشوكاني: (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ الباطِلةُ الَّتي مِن جُملتِها ما كُنتُم فيه مِنَ التَّرَبُّصِ. وقيل: هو طُولُ الأمَلِ. وقيل: ما كانوا يَتمَنَّونَه مِن ضَعفِ المُؤمِنينَ. وقال قَتادةُ: الأمانيُّ هنا: غُرورُ الشَّيطانِ. وقيل: الدُّنيا. وقيل: هو طَمَعُهم في المَغفِرةِ. وكُلُّ هذه الأشياءِ تَدخُلُ في مُسمَّى الأمانيِّ). ((تفسير الشوكاني)) (5/205). !
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
أي: وخدَعكم باللهِ -تعالى- الشَّيطانُ [269] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/406)، ((تفسير القرطبي)) (17/247)، ((تفسير ابن كثير)) (8/18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/387)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 389). قال ابنُ جرير: (يقولُ: وخَدَعَكم باللهِ الشَّيطانُ، فأطمَعَكم بالنَّجاةِ مِن عُقوبتِه، والسَّلامةِ مِن عَذابِه). ((تفسير ابن جرير)) (22/406). وقال البِقاعي: (فإنَّه يُنوِّعُ لكم بغُرورِه التَّسويفَ، ويقولُ: إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ، وعَفُوٌّ كريمٌ، وماذا عسى أن تكونَ ذُنوبُكم عندَه وهو عظيمٌ ومُحسِنٌ وحليمٌ ونحو هذا، فلا يَزالُ حتَّى يوقِعَ الإنسانَ، فإذا أوقَع واصَل عليه مِثلَ ذلك حتَّى يَتمادَى، فإذا تَمادَى صار الباعثُ له حينَئذٍ مِن قِبَلِ نفْسِه، فصار طَوْعَ يَدِه). ((نظم الدرر)) (19/277). وقال ابن عاشور: (أي: جعَلَ الشَّيطانُ شأنَ الله سببًا لِغُرورِكم، بأنْ خَيَّل إليكم أنَّ الحِفاظَ على الكفرِ مَرْضيٌّ لله تعالى، وأنَّ النِّفاقَ حافَظْتُم به على دينِكم، وحَفِظْتُم به نُفوسَكم، وكرامةَ قَومِكم، واطَّلَعْتُم به على أحوالِ عدوِّكم). ((تفسير ابن عاشور)) (27/387). .
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15).
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: يَقولُ المُؤمِنونَ للمُنافِقينَ الَّذين سَتَروا كُفْرَهم: ففي هذا اليَومِ -يومِ القيامةِ- لا يُؤخَذُ مِنكم عِوَضٌ مِنَ المالِ بَدَلًا مِن عَذابِ اللهِ؛ فيُخَلِّصَكم منه، ولا يُؤخَذُ أيضًا عِوَضٌ مِنَ الَّذين أظهَروا كُفْرَهم؛ فلا خَلاصَ لكم مِنَ النَّارِ، فأنتم جميعًا مُشتَرِكونَ في الكُفرِ [270] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/407)، ((تفسير القرطبي)) (17/247، 248)، ((تفسير ابن كثير)) (8/19)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/277)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 389). قال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن يكونَ هذا الكلامُ مِن تَتِمَّةِ خِطابِ المُؤمِنينَ للمُنافِقينَ استِمرارًا في التَّوبيخِ والتَّنديمِ، وهذا ما جرى عليه المفَسِّرون... ويجوزُ أن يكونَ كَلامًا صادِرًا مِن جانِبِ اللهِ تعالى للمُنافِقينَ؛ تأييسًا لهم مِنَ الطَّمَعِ في نَوالِ حَظٍّ مِن نُورِ المؤمِنينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/388). !
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .
مَأْوَاكُمُ النَّارُ.
أي: مَنزِلُكم ومُقامُكم الَّذي تَصيرونَ إليه وتَسكُنونَ فيه: النَّارُ [271] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/408)، ((تفسير القرطبي)) (17/248)، ((تفسير ابن كثير)) (8/19)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/389)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 389). .
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة: 73] .
هِيَ مَوْلَاكُمْ.
أي: وتلك النَّارُ هي قَرينتُكم الَّتي تُلازِمُكم وتَضُمُّكم إليها، ومَوضِعُ قُربِكم، ومَصيرُكم؛ فلا قُربَ لكم إلى غَيرِها، ولا مَصيرَ إلى سِواها [272] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/408)، ((تفسير القرطبي)) (17/248)، ((تفسير ابن كثير)) (8/19)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840). !
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي: وبِئسَ المَرجِعُ النَّارُ [273] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/408)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 389). !
الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:
قال اللهُ تعالى: يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ مِن حَقِّ المؤمِنِ أن يَعتَبِرَ بما تضَمَّنَه قَولُه تعالى: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ الآيةَ، فلا يُماطِلَ التَّوبةَ، ولا يَقولَ: غَدًا غَدًا [274] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/387). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ إلى قَولِه في المُنافِقينَ: مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أخبَرَ سُبحانَه أنَّ المُنافِقينَ يَفقِدونَ النُّورَ الَّذي كان المُؤمِنونَ يَمشُونَ به، ويَطلُبونَ الاقتِباسَ مِن نُورِهم، فيُحجَبونَ عن ذلك بحِجابٍ يُضرَبُ بيْنَهم وبيْن المؤمِنينَ، كما أنَّ المنافِقينَ لَمَّا فَقَدوا النُّورَ في الدُّنيا كان مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [275] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/285). [البقرة: 17] .
2- في قَولِه تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عَطفُ المُؤمِناتِ على المُؤمِنينَ، وكذا في نظائِرِه مِنَ القُرآنِ المَدَنيِّ. ووَجهُ ذلك: التَّنبيهُ على أنَّ حُظوظَ النِّساءِ في هذا الدِّينِ مُساويةٌ حُظوظَ الرِّجالِ، إلَّا فيما خُصِصْنَ به مِن أحكامٍ قَليلةٍ لها أدِلَّتُها الخاصَّةُ؛ وذلك لإبطالِ ما عندَ اليَهودِ مِن وَضعِ النِّساءِ في حالةِ مَلعوناتٍ ومَحروماتٍ مِن مُعظَمِ الطَّاعاتِ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/379). !
3- في قَولِه تعالى: يَسْعَى نُورُهُمْ أنَّ هذا النُّورَ على حَسَبِ الإيمانِ؛ لأنَّ الحُكْمَ إذا عُلِّقَ بوَصفٍ كان قَويًّا بقُوَّةِ ذلك الوَصفِ، وضَعيفًا بضَعْفِه، إذَنْ نُورُهم على حَسَبِ إيمانِهم؛ الذَّكَرِ والأُنثى [277] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 386). .
4- قال اللهُ تعالى: يَسْعَى نُورُهُمْ في قَولِه: نُورُهُمْ غَلَبةُ المُذَكَّرِ على المؤنَّثِ، فلم يَقُلْ: «نُورُهُنَّ» [278] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/221). .
5- قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ وَجْهُ عطْفِ المنافِقاتِ على المنافِقينَ هنا كعَطفِ المؤمناتِ على المُؤمنِينَ في الآيةِ السَّابقةِ قبْلَ هذِه، وهو التَّنبيهُ على أنَّ حُظوظَ النِّساءِ في هذا الدِّينِ مُساويةٌ حُظوظَ الرِّجالِ إلَّا فيما خُصِّصْنَ به مِن أحكامٍ قليلةٍ لها أدِلَّتُها الخاصَّةُ [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/379، 381). .
6- قال اللهُ تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ لعَلَّ جَعْلَ البابِ في سُورٍ واحِدٍ فيه ليمُرَّ منه أفواجُ المؤمِنينَ الخالِصينَ مِن وُجودِ منافِقينَ بيْنَهم بمرأًى مِن المنافِقينَ المحبوسين وراءَ ذلك السُّورِ؛ تنكيلًا بهم وحَسرةً حينَ يُشاهِدونَ أفواجَ المؤمِنينَ يُفتَحُ لهم البابُ الَّذي في السُّورِ؛ لِيَجتازُوا منه إلى النَّعيمِ الَّذي بباطِنِ السُّورِ [280] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/384). .
7- المنافقونَ هم أشقَى الأشقياءِ، ولهذا يُستهزأُ بهم فى الآخرةِ، ويُعطَوْنَ نورًا يَتوسَّطون به على الصِّراطِ، ثمَّ يُطفئُ اللهُ نورَهم، ويُقالُ لهم: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد: 13] ، ويُضرَبُ بيْنَهم وبيْنَ المؤمنينَ: بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد: 13] ، وهذا أشدُّ ما يكونُ مِن الحسرةِ والبَلاءِ: أن يُفتَحَ للعبدِ طريقُ النَّجاةِ والفَلاحِ، حتَّى إذا ظنَّ أنَّه ناجٍ ورأى مَنازِلَ السُّعداءِ اقتُطِع عنهم، وضُرِبَتْ عليه الشِّقْوةُ، ونعوذُ بالله مِن غضَبِه وعِقابِه [281] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 403). .
8- في قَولِه تعالى: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ ذِكْرُ أربعةِ أُصولٍ لهم، هي أسبابُ الخُسْرانِ؛ وهي: فِتنةُ أنفُسِهم، والتَّرَبُّصُ بالمُؤمِنينَ، والارتيابُ في صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والاغتِرارُ بما تُمَوِّهُ إليهم أنفُسُهم. وهذه الأربعةُ هي أصولُ الخِصالِ المتفَرِّعةِ على النِّفاقِ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/385). .
9- قال تعالى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ذكَر الله الكفَّار والمنافقينَ هنا وفي غيرِ موضعٍ مِن القرآنِ، كقولِه: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1، 48]. وقوله: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140] ؛ لِيُمَيِّزَهم عنهم بإظهارِ الإسلامِ، وإلَّا فَهُم في الباطِنِ شَرٌّ مِن الكُفَّارِ، كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [283] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/353). [النساء: 145] .
10- في قَولِه تعالى: مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ إجازةُ تَسميةِ المخلوقِ باسمِ الخالِقِ -وذلك فيما يكونُ له معنًى كُلِّيٌّ تَتفاوَتُ فيه أفرادُه مِن الأسماءِ والصِّفاتِ- [284] جاء في ((فتاوى اللَّجنةِ الدَّائمةِ)) -بعدَ تقريرِ منْعِ تسميةِ غيرِ الله بهذا الاسمِ (الله)؛ لأنَّ مُسمَّاه مُعيَّنٌ لا يَقبَلُ الشَّرِكةَ، وكذا ما كان مِن الأسماءِ في معناه في عدَمِ قَبولِ الشَّرِكةِ، كالخالقِ والبارئِ-: (أمَّا ما كان له معنًى كُلِّيٌّ تتفاوَتُ فيه أفرادُه مِن الأسماءِ والصِّفاتِ، كالملِكِ، والعزيزِ، والجبَّارِ، والمُتكبِّرِ؛ فيجوزُ تسميةُ غيرِه بها؛ فقد سمَّى الله نفْسَه بهذه الأسماءِ، وسمَّى بعضَ عبادِه بها). ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (2/368). ويُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/549، 550). ؛ إذْ قد دَلَّ على تَسميةِ النَّاسِ به، ثمَّ أجاز هاهنا تَسميةَ النَّارِ أيضًا به [285] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/223). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
- قولُه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... مَنصوبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: (اذكُرْ) تَعظيمًا لذلك اليَومِ، وتَنويهًا بما يَحصُلُ في ذلك اليومِ مِن ثَوابٍ للمؤمنينَ والمؤمناتِ، ومِن حِرمانٍ للمنافِقينَ والمنافِقاتِ؛ ولذلك كُرِّر (يَوم) -يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ-؛ ليَختَصَّ كلُّ فريقٍ بذِكرِ ما هو مِن شُؤونِه في ذلك اليَومِ. وعلى هذا فالجُملةُ مُتَّصِلةٌ بالَّتي قبْلَها بسَببِ هذا التَّعلُّقِ، على أنَّه في نظْمِ الكلامِ يصِحُّ جَعْلُه ظرْفًا مُتعلِّقًا بـ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 11] ، على طَريقةِ التَّخلُّصِ لذِكرِ ما يَجْري في ذلك اليَومِ مِن الخَيراتِ لأهْلِها، ومِن الشَّرِّ لأهْلِه. وعلى الوجْهِ الأوَّلِ فالجُملةُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا لِمُناسَبةِ ذِكرِ أجْرِ المُنفِقينَ، فعُقِّبَ ببَيانِ بَعضِ مَزايا المؤمنينَ، وعلى الوجْهِ الثَّاني فهي مُتَّصلةٌ بالَّتي قبْلَها بسَببِ التَّعلُّقِ [286] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/475)، ((تفسير البيضاوي)) (5/187)، ((تفسير أبي حيان)) (10/105)، ((تفسير أبي السعود)) (8/207)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/379). .
- ومعنَى قولِه: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ: يَسْعى نُورُهم حينَ يَسعَون؛ فحُذِفَ ذلك لأنَّ النُّورَ إنَّما يَسْعى إذا سَعى صاحبُه، وإلَّا لانْفصَلَ عنه وترَكَه، وإضافةُ (نُور) إلى ضَميرِهم، وجَعْلُ مَكانِه بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يُبيِّنُ أنَّه نُورٌ لِذَواتِهم أُكرِموا به [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/380). .
- وإنَّما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ؛ لأنَّ السُّعداءَ يُؤتَون صَحائفَ أعمالِهم مِن هاتَينِ الجِهتَينِ، كما أنَّ الأشقياءَ يُؤتَونَها مِن شَمائلِهم ومِن وراءِ ظُهورِهم، فجُعِلَ النُّورُ في الجِهتَينِ شِعارًا لهم وآيةً [288] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/475)، ((تفسير البيضاوي)) (5/187)، ((تفسير أبي حيان)) (10/105). . أو اقتُصِرَ على ذِكرِ الأيمانِ تَشريفًا لها، وهو مِن الاكتفاءِ [289] الاكتفاء: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ، على سَبيلِ الاكتِفاءِ؛ إذِ التَّقْديرُ: تقيكُمُ الحرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). ، أي: وبجانِبَيْهم [290] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/380). .
- قولُه تَعالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وفي سُورةِ (التَّحريمِ): يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى [التحريم: 8] ؛ فقُدِّمَ الفعلُ في الأُولى يَسْعَى نُورُهُمْ، وأُخِّرَ في الثَّانيةِ نُورُهُمْ يَسْعَى! ووَجْهُ ذلك -واللهُ أعلَمُ-: أنَّ قولَه في سُورةِ (التَّحريمِ): وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ يُفهِمُ -مِن حيث المعيَّةُ- قُرْبَ المَنزِلةِ، وعُلوَّ الحالِ، فتَقدَّمَ ثُبوتُه، فناسَبَ ذلك وُرودُ الجُملةِ الاسميَّةِ هنا؛ لِما تَقْتضيهِ مِن الثَّباتِ وتَقدُّمِه واستحكامِه، أمَّا قولُه في سُورةِ (الحديدِ): يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فبِشارةٌ للمؤمنينَ، ولم يأْتِ هنا كونُهم مع نَبيِّهم، فلمْ يَتحصَّلْ ما يُفهِمُ تَمكُّنَ المنزلةِ وثُبوتَها ما تَحصَّلَ في آيةِ التَّحريمِ، إنَّما هذه بِشارةٌ؛ فناسَبَها التَّجدُّدُ والحدوثُ، فناسَبَ ذلك الفعلُ بما يُعطِيه مِن المعْنى، فقيلَ: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ ليُفهَمَ التَّكرُّرُ وحُدوثُ الشَّيءِ بعْدَ الشَّيءِ، فوَرَدَ كلٌّ على ما ينُاسِبُ [291] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/468). .
- قولُه: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ مُقدَّرٌ بقَولٍ هو حالٌ أو استِئنافٌ، أيْ: يُقالُ لهم: بُشراكُم، أي: ما تُبشَّرونَ بهِ جنَّاتٌ، أو بُشراكم دُخولُ الجنَّةِ. والكلامُ على حذْفِ مُضافَينِ تَقديرُهما: إعلامٌ بدُخولِ جنَّاتٍ، كما دلَّ عليه قولُه: خَالِدِينَ فِيهَا [292] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/475)، ((تفسير البيضاوي)) (5/187)، ((تفسير أبي حيان)) (10/105)، ((تفسير أبي السعود)) (8/207)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/381). .
- وقولُه: خَالِدِينَ فِيهَا بعْدَ قولِه: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ الْتِفاتٌ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ، ولو جَرى على الخِطابِ لَكان التَّركيبُ: (خالدًا أنتُم فيها) [293] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/105)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/465). .
- قولُه: ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ تَذييلٌ يدُلُّ على مَجموعِ مَحاسِنِ ما وقَعَتْ به البُشرَى، واسمُ الإشارةِ للتَّعظيمِ والتَّنبيهِ، وضَميرُ الفَصْلِ لتَقويةِ الخبَرِ [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/381). .
2- قولُه تعالَى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ
- قولُه: لِلَّذِينَ آَمَنُوا تَغليبٌ للذُّكورِ؛ لأنَّ المخاطَبِينَ هم أصحابُ النُّورِ، وهو للمُؤمنينَ والمؤمناتِ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/381). .
- والأمرُ في قولِه: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ أمْرُ تَوبيخٍ وطرْدٍ، أي: ارْجِعوا إلى الموقفِ حيثُ أُعطِينا الفوزَ فالْتَمِسوه هناك، فمِن ثَمَّ يُقتبَسُ. أو ارْجِعوا إلى الدُّنيا والْتَمِسوا نُورًا، أي: بتَحصيلِ سَببِه، وهو الإيمانُ، أو ارْجِعوا خائبينَ وتَنحَّوا عنَّا، فالْتمِسوا نُورًا غيرَ هذا؛ فلا سَبيلَ لكم إلى الاقتباسِ منه. وقد عَلِموا أنْ لا نُورَ وراءَهم، وإنَّما هو تَخييبٌ وإقناطٌ لهم [296] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/475، 476)، ((تفسير البيضاوي)) (5/187)، ((تفسير أبي حيان)) (10/106)، ((تفسير أبي السعود)) (8/207). .
- قولُه: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ على القَولِ بأنَّه مِن كَلامِ الملائكةِ السَّائقينَ للمُنافِقِين؛ فمَقالةُ الملائكةِ للمنافِقِينَ تَهكُّمٌ؛ إذ لا نُورَ وَراءهم، وإنَّما أرادوا إطْماعَهم، ثم تَخييبَهم بضرْبِ السُّورِ بيْنَهم وبيْنَ المؤمنينَ؛ لأنَّ الخَيبةَ بعْدَ الطَّمعِ أشدُّ حَسرةً [297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/382، 283). .
- ولفْظُ وَرَاءَكُمْ تأْكيدٌ لمعْنى ارْجِعُوا؛ إذِ الرُّجوعُ يَستلزمُ الوراءَ، وهذا كما يُقالُ: رجَعَ القَهْقرَى. ويَجوزُ أنْ يكونَ ظرْفًا لفِعلِ فَالْتَمِسُوا نُورًا، أي: في المكانِ الَّذي خلْفَكم، وتَقديمُه على عامِلِه للاهتِمامِ؛ فيَكونُ فيه معْنى الإغراءِ بالْتماسِ النُّورِ هناك، وهو أشدُّ في الإطماعِ؛ لأنَّه يُوهِمُ أنَّ النُّورَ يُتناوَلُ مِن ذلك المكانِ الَّذي صدَرَ منْه المؤمنونَ، وبذلك الإيهامِ لا يكونُ الكلامُ كذِبًا؛ لأنَّه مِن المَعاريضِ، لا سيَّما مع احتمالِ أنْ يكونَ وَرَاءَكُمْ تأْكيدًا لمعْنى ارْجِعُوا [298] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/383). .
- وضُمِّن قولُه: فَضُرِبَ في الآيةِ معْنى الحَجْزِ؛ فعُدِّيَ بالباءِ، أي: ضُرِبَ بيْنهم سُورٌ للحجْزِ به بيْنَ المنافِقينَ والمؤمنينَ [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/383). .
- وضَمائرُ لَهُ بَابٌ وبَاطِنُهُ و(ظَاهِرُهُ) عائِدةٌ إلى السُّورِ، والجُملتانِ صِفتانِ لـ (سُورٍ)، وإنَّما عُطِفَت الجُملةُ الثَّالثةُ بالواوِ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ؛ لأنَّ المقصودَ مِن الصِّفةِ مَجموعُ الجُملتَينِ المُتعاطفتَينِ [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/384). .
3- قولُه تعالَى: يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
- الاستِفهامُ في قولِه: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ تَقريريٌّ، استُعمِلَ كِنايةً عن طلَبِ اللَّحاقِ بهم، والانضمامِ إليهم كما كانوا معَهم في الدُّنيا يَعمَلون أعمالَ الإسلامِ مع المُسلِمينَ [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/385). .
- قولُه: قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، هذا الجوابُ إقرارٌ بأنَّ المنافِقِين كانوا يَعمَلون أعمالَهم معهم، ولَمَّا كان هذا الإقرارُ يُوهِمُ أنَّه قولٌ بمُوجَبِ الاستِفهامِ التَّقريريِّ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، أعْقَبوا جَوابَهم الإقراريَّ بالاستِدراكِ الرَّافعِ لِما تَوهَّمَه المنافِقون مِن أنَّ الموافقةَ للمؤمنِينَ في أعمالِ الإسلامِ تَكفِي في الْتِحاقِهم بهم في نَعيمِ الجنَّةِ، فبيَّنوا لهم أسبابَ التَّباعُدِ بيْنَهم [302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/385). .
- والتَّربُّصُ: انتظارُ شَيءٍ، ويَتعدَّى فِعلُه إلى المفعولِ بنَفْسِه، ويَتعلَّقُ به ما زادَ على المفعولِ بالباءِ، وحُذِفَ هنا مَفعولُه ومُتعلَّقُه؛ ليَشملَ عِدَّةَ الأمورِ الَّتي يَنتظِرُها المنافِقون في شأْنِ المؤمنينَ، وهي كثيرةٌ، مَرجِعُها إلى أذى المسلمينَ والإضرارِ بهم، فيَتربَّصون هَزيمةَ المسلمينَ في الغزَواتِ ونحْوِها مِن الأحداثِ؛ قال تعالى في بعضِهم: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [التوبة: 98] ، ويَتربَّصون انقِسامَ المؤمنِينَ؛ فقدْ قالوا لفَريقٍ مِنَ الأنصارِ يُندِّمونهم على مَن قُتِلَ مِن قَومِهم في بعضِ الغزَواتِ: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/386). [آل عمران: 168] .
- والمَقصودُ مِن الغايةِ بقولِه: حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ التَّنديدُ عليهم بأنَّهم لم يَرْعَوُوا عن غَيِّهم معَ طُولِ مُدَّةِ أعمارِهم، وتَعاقُبِ السِّنينَ عليهم وهم لم يَتدبَّروا في العواقِبِ، كما قال تعالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [304] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/386، 387). [فاطر: 37] .
- وجُملةُ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ عطْفٌ على جُملةِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ؛ تَحقيرًا لغُرورِهم وأمانِيِّهم بأنَّها مِن كَيدِ الشَّيطانِ؛ ليَزدادوا حَسرةً حينَئذٍ [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/387). .
- والغَرورُ -بفتْحِ الغَينِ-: مُبالَغةٌ في المُتَّصِفِ بالتَّغريرِ، والمرادُ به الشَّيطانُ، أي: بإلقائِه خَواطرَ النِّفاقِ في نُفوسِهم بتَلوينِه في لَونِ الحقِّ، وإرضاءِ دِينِ الكفْرِ. أو عُبِّرَ عَنِ الشَّيطانِ بصِيغةِ المبالَغةِ الْغَرُورُ الَّتي هي المفعولُ؛ لكَثرةِ غُرورِه لبني آدَمَ، كما قال تَعالى: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 120] ، ويَجوزُ أنْ يُرادَ جِنسُ الغارِّينَ، أي: وغرَّكم باللهِ أئمَّةُ الكفْرِ، وقادةُ النِّفاقِ [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/387)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/545، 546). .
4- قولُه تعالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ لَمَّا كان قولُه: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ معلومًا عندَهم قد شاهَدوا دَلائلَه، فرَّعوا لهم عليه قولَهم: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ؛ قَطعًا لطَمَعِهم أنْ يَكونوا مع المؤمنينَ يومَئذٍ كما كانوا معَهم في الحياةِ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/387). .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ هذا الكلامُ مِن تَتِمَّةِ خِطابِ المؤمنينَ للمنافِقِين؛ استِمرارًا في التَّوبيخِ والتَّنديمِ، فمَوقعُ فاءِ التَّفريعِ بيِّنٌ، والعِلمُ للمؤمنينَ بأنْ لا تُؤخَذُ فِديةٌ مِن المنافِقينَ والَّذين كَفَروا حاصِلٌ ممَّا يَسمَعون في ذلك اليَومِ مِن الأقضيةِ الإلهيَّةِ بيْنَ الخلْقِ بحيث صار مَعلومًا لأهلِ المحشَرِ، أو هو عِلمٌ مُتقرِّرٌ في نُفوسِهم ممَّا عَلِموه في الدُّنيا مِن أخبارِ القُرآنِ وكلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذلك مُوجِبُ عطْفِ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا تَعبيرًا عمَّا عَلِموه بأسْرِه، وهو عطْفٌ مُعترِضٌ جرَّتْه المناسَبةُ. ويجوزُ أنْ يكونَ كلامًا صادرًا مِن جانبِ اللهِ تعالى للمنافِقِين؛ تأْييسًا لهم مِن الطَّمَعِ في نَوالِ حظٍّ مِن نُورِ المؤمنينَ، فيَكونَ الفاءُ مِن عطْفِ التَّلقينِ عاطِفةً كلامَ أحدٍ على كَلامِ غيرِه؛ مِن أجْلِ اتِّحادِ مكانِ المُخاطَبةِ، ويكونَ عطْفُ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا جمْعًا للفريقَينِ في تَوبيخٍ وتَنديمٍ واحدٍ؛ لاتِّحادِهما في الكُفْرِ [308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/388). .
- وإقحامُ كَلمةِ فَالْيَوْمَ؛ لتَذكيرِهم بما كانوا يُضمِرونه في الدُّنيا حِينَ يُنفِقونَ معَ المؤمنِينَ رِياءً وتَقِيَّةً، وهو ما حَكاهُ اللهُ عنهم بقولِه: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/388). [التوبة: 98] .
- وفي قولِه: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ كُنِّيَ بنَفْيِ أخْذِ الفِديةِ عن تَحقُّقِ جَزائِهِم على الكُفرِ؛ وإلَّا فإنَّهم لم يَبذُلوا فِدْيةً، ولا كان النِّفاقُ مِن أنواعِ الفِدْيةِ، ولكنَّ الكلامَ جرى على الكِنايةِ؛ لِما هو مَشهورٌ مِن أنَّ الأسيرَ والجانيَ قد يَتخلَّصانِ مِن المؤاخَذةِ بفِديةٍ تُبذَلُ عنهما؛ فعَطْفُ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا قُصِدَ منه تَعليلُ أنْ لا مَحيصَ لهم مِن عَذابِ الكُفْرِ مِثلَ الَّذين كَفَروا، أي: الَّذين أعْلَنوا الكُفْرَ حتَّى كان حالةً يُعرَفون بها، وهذا يَقْتضي أنَّ المنافقينَ كانوا هم والكافِرونَ في صَعيدٍ واحدٍ عندَ أبوابِ جَهنَّمَ؛ ففيه احتِراسٌ مِن أنْ يَتوهَّمَ الكافرونَ الصُّرحاءُ مِن ضَميرِ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ أنَّ ذلك حُكْمٌ خاصٌّ بالمنافِقينَ تَعلُّقًا بأقلِّ طمَعٍ؛ فليس ذِكرُ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مُجرَّدَ استطرادٍ [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/388، 389). .
- والمأْوى: هو المكانُ الَّذي يُؤْوَى إليه، أي: يُصارُ إليه ويُرجَعُ، وكُنِّيَ به عن الاستِمرارِ والخُلودِ، وأُكِّدَ ذلك بالصَّريحِ بجُملةِ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ، أي: تَرجِعون إليها كما يَرجِعُ المُستنصِرُ إلى مَولاهُ لِيَنصُرَه أو يُفادِيَ عنه، فعُبِّرَ بالمَولى عن المَقَرِّ على طَريقةِ التَّهكُّمِ [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/389). .
- وقولُه: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَذييلٌ يَشملُ جَميعَ ما يَصِيرون إليه مِن العذابِ [312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/389). .