موسوعة التفسير

سورةُ الإنسانِ
الآيات (4-12)

ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ

غريب الكلمات:

وَأَغْلَالًا: جَمعُ غُلٍّ، وهو طَوقٌ تُشَدُّ به اليدُ إلى العُنُقِ، وأصلُ (غلل): يدُلُّ على إحاطةٍ وثَباتٍ [46] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/375)، ((المفردات)) للراغب (ص: 610)، ((تفسير ابن كثير)) (6/520). .
وَسَعِيرًا: أي: نارًا تُسَعَّرُ عليهم فتَتَوَقَّدُ، والسَّعيرُ اسْمٌ مِن أسماءِ جَهَنَّمَ، يُقال: سَعرْتُ النَّارَ، إذا ألهَبْتَها، وأصلُ (سعر): يدُلُّ على اشتِعالِ الشَّيءِ واتِّقادِه وارتِفاعِه [47] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/538)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 259)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /75)، ((المفردات)) للراغب (ص: 411)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 163)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 521). .
الْأَبْرَارَ: أي: المؤمنينَ الصَّادقينَ في إيمانِهم، المُطيعينَ لربِّهم، جمعُ: بَرٍّ وبَارٍّ، وأصلُ (برر) هنا: الصِّدْقُ، يُقالُ: يَبَرُّ رَبَّه، أي: يُطيعُه، وهو مِنَ الصِّدقِ. وقيل: لَمَّا كان البَرُّ خِلافَ البحرِ، وتُصُوِّرَ منه التَّوسُّعُ، اشتُقَّ منه البِرُّ، وهو التَّوسُّعُ في فِعلِ الخَيرِ [48] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/177)، ((المفردات)) للراغب (ص: 114)، ((تفسير البغوي)) (5/189)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 431)، ((تفسير الرسعني)) (8/404). .
مِزَاجُهَا: أي: ما يُمازِجُها، يُقالُ: مَزَجَ الشَّرابَ: خلَطَه، وأصلُ (مزج): يدُلُّ على خَلْطِ الشَّيءِ بغَيرِه [49] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/319)، ((البسيط)) للواحدي (23/22)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766). .
يُفَجِّرُونَهَا: أي: يُجْرُونها ويُصَرِّفونَها ويَقودُونَها إلى حيث شاؤوا، والتَّفجيرُ: الإسالةُ والإجراءُ، والفَجْرُ: شَقُّ الشَّيءِ شَقًّا واسعًا، وأصلُ (فجر): التَّفَتُّحُ في الشَّيءِ [50] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/540)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/475)، ((المفردات)) للراغب (ص: 625)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 431)، ((تفسير ابن كثير)) (4/464)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 987). .
مُسْتَطِيرًا: أي: فاشِيًا مُنتَشِرًا، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصْطِفافِ شَيءٍ [51] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 502)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 453)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 431)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 439). .
عَبُوسًا: أي: تَعبَسُ وتَنقَبِضُ فيه الوُجوهُ مِن هَولِه وشِدَّتِه، نُسِبَ العُبُوسُ إلى اليومِ، كما يُقالُ: يَومٌ صائِمٌ، ولَيلٌ قائِمٌ، والعُبُوسُ: تَقطُّبُ الوَجهِ عندَ كراهيةِ أمرٍ، وأصلُ (عبس): يدُلُّ على تَكَرُّهٍ [52] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 502)، ((تفسير ابن جرير)) (23/549)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/210)، ((تفسير البغوي)). .
قَمْطَرِيرًا: أي: شَديدًا صَعْبًا، والقَمْطَريرُ: أشَدُّ ما يكونُ مِنَ الأيَّامِ وأطوَلُه في البلاءِ، يُقالُ: يومٌ قَمطَرِيرٌ وقُماطِرٌ: إذا كان شَديدًا كريهًا [53] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/547)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 340، 380)، ((المفردات)) للراغب (ص: 684)، ((تفسير البغوي)) (8/295)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/141). .
وَلَقَّاهُمْ: أي: آتاهم، وأعْطاهم حينَ لَقُوه، وأصلُ (لقي) هنا: يدُلُّ على تَوافي شَيئَيْنِ [54] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/260)، ((تفسير القرطبي)) (19/136)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (4/38)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 782)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901). .
نَضْرَةً: أي: حُسْنًا وإشراقًا وبَهْجةً، يُقالُ: نَضَرَ وَجهُ فُلانٍ: إذا حَسُنَ مِن النِّعمةِ، وأصلُ (نضر): يدُلُّ على حُسنٍ وجمالٍ [55] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/550)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 470)، ((المفردات)) للراغب (ص: 810)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 443)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 454). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ
قَولُه تعالى: عَيْنًا منصوبةٌ مِن أوجُهٍ؛ أحَدُها: أنَّه بَدَلٌ مِن كَافُورًا؛ لأنَّ ماءَها في بياضِ الكافورِ، وفي رائحتِه وبَرْدِه. والثَّاني: أنَّها بَدَلٌ مِن محلِّ مِنْ كَأْسٍ على تقديرِ مُضافٍ، أي: يَشرَبونَ خَمرًا خَمْرَ عَينٍ. الثَّالثُ: أنَّها مفعولٌ بـ يَشْرَبُونَ، أي: يَشرَبونَ عَينًا مِن كأسٍ. الرَّابعُ: أن يَنتصِبَ على الاختِصاصِ بإضمارِ «أعني» أو «أَخُصُّ». الخامسُ: أنَّه مَفعولٌ به ثانٍ لفِعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «يُعْطَونَ». وقيلَ غَيرُ ذلك.
قَولُه تعالى: يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ في الباءِ أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّه على تَضمينِ «يَشْرَبُ» معنى: «يَلْتَذُّ» أو «يَرْوَى»، وهما يَتعَدَّيانِ بالباءِ. الثَّاني: أنَّها مَزيدةٌ، أي: يَشرَبُها. الثَّالثُ: أنَّها بمعنى «مِنْ». الرَّابعُ: أنَّ الباءَ للإلصاقِ مُتعَلِّقةٌ بمحذوفٍ حال، أي: يَشرَبُ الخَمْرَ ممزوجةً بها، أي: بالعَينِ [56] يُنظَر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (5/63)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/ 1258)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/599، 600)، ((تفسير الألوسي)) (15/170). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا ما أعَدَّه للكافِرين: إنَّا هَيَّأْنا للكافِرينَ سلاسِلَ يُقادُونَ بها، وقُيودًا في أعناقِهم، ونارًا حاميةً، ثم يبينُ ما أعدَّه للشَّاكرينَ، فيقولُ: إنَّ الطَّائِعينَ الأبرارَ يَشرَبونَ مِن كأسٍ مُمتَزِجٍ شَرابُها بالكافورِ، وهذا الكافُورُ هو عَينٌ جاريةٌ يَرتَوي بها عِبادُ اللهِ، يتصرَّفُون في تلك العَينِ بإنباعِها وإجرائِها حيث شاؤُوا!
 ثمَّ يبيِّنُ الله تعالى الأسبابَ الَّتي أوصلَتِ الشَّاكرينَ إلى هذا النَّعيمِ، ويذكُرُ جملةً مِن أعمالِهم، فيقولُ: أولئك الأبرارُ كانوا يُوفُونَ في الدُّنيا بنُذورِهم، ويَخافُونَ يومَ القيامةِ ذا الشَّرِّ المنتَشِرِ، ويُطْعِمونَ الطَّعامَ -مع محَبَّتِهم إيَّاه- المِسكينَ، واليتيمَ، والأسيرَ، قائِلينَ: إنَّما نُطعِمُكم لوَجْهِ اللهِ تعالى، ورجاءَ رِضاه وثَوابِه، لا نَطلُبُ منكم مُكافأةً على ذلك، ولا شُكْرًا، إنَّا نَخافُ مِن رَبِّنا يومَ القيامةِ ذا الأهوالِ العظيمةِ، والضِّيقِ والشِّدَّةِ، فدَفَع اللهُ عنهم شرَّ ذلك اليَومِ، وأعطاهم حُسْنًا في وُجوهِهم، وفَرَحًا في قُلوبِهم، وجَزاهم اللهُ تعالى بسَبَبِ صَبْرِهم جَنَّةً وحريرًا.

تفسير الآيات:

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قَسَّمَهم اللهُ تعالى إلى القِسمَينِ؛ ذكَرَ جزاءَ كُلِّ قِسمٍ [57] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/134، 135). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (30/743). .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4).
أي: إنَّا هَيَّأْنا للكافِرينَ سلاسِلَ يُقادُونَ أو يُوثَقونَ بها، وقُيودًا في أعناقِهم، ونارًا حاميةً تتوقَّدُ ويَشتَدُّ التِهابُها [58] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/538)، ((تفسير القرطبي)) (19/123)، ((تفسير ابن كثير)) (8/287)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/135)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/377). قال القرطبي: (قال الحَسَنُ: إنَّ الأغلالَ لم تُجعَلْ في أعناقِ أهلِ النَّارِ لأنَّهم أعجَزوا الرَّبَّ سُبحانَه، ولكِنْ إذلالًا). ((تفسير القرطبي)) (19/124). قيل: الأغلالُ تكونُ بجَمْعِ الأيدي إلى الأعناقِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/538)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/135)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901). .
قال تعالى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر: 71] .
وقال سُبحانَه: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97] .
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
هو شُروعٌ في بيانِ حُسنِ حالِ الشَّاكرينَ، إثرَ بَيانِ سُوءِ حالِ الكافرينَ [59] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/71). ، فلَمَّا أوجز اللهُ تعالى في جزاءِ الكافِرِ؛ أتْبَعَه جزاءَ الشَّاكِرِ وأطنَبَ فيه؛ تأكيدًا للتَّرغيبِ [60] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/135). .
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5).
أي: إنَّ الطَّائِعينَ الصَّادِقينَ الَّذين يَسعَونَ في أعمالِ البِرِّ والخَيرِ يَشرَبونَ مِن كأسٍ [61] قال الزَّجَّاجُ: (الكأسُ في اللُّغةِ: الإناءُ إذا كان فيه الشَّرابُ، فإذا لم يكُنْ فيه الشَّرابُ لم يُسَمَّ كأسًا). ((معاني القرآن)) (5/258). قيل: المرادُ بقوله: مِنْ كَأْسٍ أي: مِن إناءٍ فيه شرابٌ. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، ومكِّي، والواحدي، والبغوي، وابن الجوزي، والقرطبي، والخازن، وابن عادل. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/538)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7910)، ((الوسيط)) للواحدي (4/399)، ((تفسير البغوي)) (5/190)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/375)، ((تفسير القرطبي)) (19/125)، ((تفسير الخازن)) (4/377)، ((تفسير ابن عادل)) (20/16). وقيل: المرادُ بالكأسِ هنا: الخَمرُ. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِين، والثعلبي، والماوَرْدي، والبيضاوي، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/524)، ((تفسير السمرقندي)) (3/526)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/70)، ((تفسير الثعلبي)) (10/95)، ((تفسير الماوردي)) (6/165)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 270)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 781). قال جلال الدين المحلي: (المرادُ: مِن خَمرٍ، تسميةً للحالِّ باسمِ المَحَلِّ). ((تفسير الجلالين)) (ص: 781). وقال الماوَرْدي: (قال الضَّحَّاكُ: كلُّ كأسٍ في القرآنِ فإنَّما عنى به الخمرَ). ((تفسير الماوردي)) (6/165). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/531). وقال أبو السعود: (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ هي الزُّجاجةُ إذا كانت فيها خَمرٌ، وتُطلَقُ على نفْسِ الخَمرِ أيضًا؛ فـ «مِنْ» على الأوَّلِ ابتدائيَّةٌ، وعلى الثَّاني تبعيضيَّةٌ أو بيانيَّةٌ). ((تفسير أبي السعود)) (9/71). مُمتَزِجٍ شَرابُها بالكافورِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/538، 539)، ((تفسير القرطبي)) (19/125، 126)، ((تفسير ابن كثير)) (8/287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901). قال البغوي: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يعني: المؤمنينَ الصَّادقينَ في إيمانِهم، المُطيعينَ لربِّهم واحدُهم بارٌّ، مثل شاهدٍ وأشهادٍ). ((تفسير البغوي)) (5/189). وقال السعدي: (الْأَبْرَارَ وهم الَّذين بَرَّتْ قلوبُهم بما فيها مِن محبَّةِ الله ومعرفتِه، والأخلاقِ الجميلةِ، فبَرَّتْ جَوارِحُهم، واستعمَلوها بأعمالِ البِرِّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 901). قال ابن الجوزي: (كَافُورًا فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّه الكافورُ المعروفُ، قاله مجاهدٌ، ومقاتلٌ. فعلى هذا في المرادِ بالكافورِ ثلاثةُ أقوالٍ؛ أحدُها: بَردُه، قاله الحسَنُ. والثَّاني: ريحُه، قاله قَتادةُ. والثَّالثُ: طَعمُه، قاله السُّدِّيُّ. والثَّاني: أنَّه اسمُ عَينٍ في الجنَّةِ، قاله عَطاءٌ، وابنُ السَّائبِ. والثَّالثُ: أنَّ المعنى: مِزاجُها كالكافورِ؛ لطِيبِ ريحِه. وأجازه الفرَّاءُ، والزَّجَّاجُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/376). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/524)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/215)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/258)، ((تفسير الماوردي)) (6/165). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّه يُمزَجُ بالكافورِ لِبَردِه وعُذوبتِه وطِيبِ عَرْفِه: البيضاويُّ، وابنُ كثير، والبِقاعي، والشربيني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/270)، ((تفسير ابن كثير)) (8/287)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/136)، ((تفسير الشربيني)) (4/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901). قال السعدي: (قد مُزِجَ بكافورٍ، أي: خُلِطَ به؛ ليُبَرِّدَه ويَكسِرَ حِدَّتَه، وهذا الكافورُ في غايةِ اللَّذَّةِ والسَّلامةِ مِن كُلِّ مُكَدِّرٍ ومُنَغِّصٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 901). وقال ابن كثير: (وقد عُلِمَ ما في الكافورِ مِن التَّبريدِ والرَّائِحةِ الطَّيِّبةِ، معَ ما يُضافُ إلى ذلك مِن اللَّذاذةِ في الجنَّةِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/287). وممَّن اختار أنَّ المرادَ أنَّ مِزاجَ ما في الكأسِ مِن الشَّرابِ كالكافورِ في طِيبِ رائحتِه: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/538)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7910). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمعاني)) (6/115). وممَّن اختار أنَّ الكافورَ اسمُ عَينٍ في الجنَّةِ: الزمخشريُّ، والنسفي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/667، 668)، ((تفسير النسفي)) (3/577)، ((تفسير أبي السعود)) (9/ 71). قال الزمخشري: (مِزَاجُهَا ما تُمْزَجُ به كَافُورًا ماءَ كافُورٍ، وهو اسمُ عَينٍ في الجنَّةِ ماؤُها في بَياضِ الكافُورِ ورائِحَتِه وبَرْدِه، وعَيْنًا بدَلٌ منه). ((تفسير الزمخشري)) (4/667، 668). .
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6).
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ.
أي: هذا الكافورُ هو عَينٌ جاريةٌ يَرتَوي بها عِبادُ اللهِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/539)، ((تفسير الزمخشري)) (4/667)، ((تفسير ابن عطية)) (5/409)، ((تفسير ابن كثير)) (8/287)، ((نظم الدرر)) (21/136)، ((تفسير الشوكاني)) (5/418). وقال ابنُ عطيَّة: (وعِبَادُ اللَّهِ هنا خصوصٌ في المؤمنينَ النَّاعمينَ؛ لأنَّ جميعَ الخَلقِ عِبادُه). ((تفسير ابن عطية)) (5/409، 410). وذهب ابنُ تيميَّةَ، وابنُ القَيِّم، وابنُ كَثيرٍ إلى أنَّ عِبَادُ اللَّهِ هنا عائدةٌ على المقَرَّبينَ، والمعنى: أنَّ الأبرارَ يَشرَبونَ مِن كأسٍ مُمتَزِجٍ شَرابُها بالكافُورِ، وأمَّا المقَرَّبونَ فإنَّهم يَشرَبوَن شَرابًا صافِيًا بلا مَزْجٍ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/178)، ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (ص: 184)، ((تفسير ابن كثير)) (8/287). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (6/165). .
يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا.
أي: يتصرَّفُ عِبادُ اللهِ في عَينِ الشَّرابِ بإنباعِها وإجرائِها حيث شاؤُوا [64] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/540)، ((تفسير القرطبي)) (19/126)، ((تفسير ابن كثير)) (8/287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901). !
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر جزاءَ الأبرارِ على بِرِّهم المُبَيِّنِ لِشُكرِهم؛ أتْبَعَه تَفصيلَه [65] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/137). .
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ.
أي: أولئك الأبرارُ يُوفُونَ في الدُّنيا بنُذورِهم الَّتي نَذَروها طاعةً للهِ، فألزَموا بها أنفُسَهم [66] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/541، 542)، ((تفسير القرطبي)) (19/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901). قال السعدي: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي: بما ألزَموا به أنفُسَهم لله مِن النُّذورِ والمعاهَداتِ، وإذا كانوا يُوفُونَ بالنَّذْرِ وهو لم يجِبْ عليهم إلَّا بإيجابِهم على أنفُسِهم، كان فِعْلُهم وقيامُهم بالفُروضِ الأصلِيَّةِ مِن بابِ أَوْلى وأَحْرى). ((تفسير السعدي)) (ص: 901). ويُنظر ما يأتي في الفوائد (ص: 336). .
وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا.
أي: ويَخافُونَ يومَ القيامةِ الَّذي شرُّه في غايةِ الانتِشارِ والامتِدادِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/542)، ((تفسير القرطبي)) (19/128)، ((تفسير ابن كثير)) (8/288)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/137، 138)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/383). .
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مَن خاف شيئًا سعَى في الأمنِ منه بكُلِّ ما عَساه ينفَعُ فيه، وكان قد ذكَرَ تذَرُّعَهم بالواجِبِ؛ أتْبَعَه المندوبَ؛ دَلالةً على أنَّهم لا رُكونَ لهم إلى الدُّنيا، ولا وُثوقَ بها، فقد جمَعوا إلى كرَمِ الطَّبعِ بالوفاءِ، ورِقَّةِ القَلبِ: شَرَفَ النَّفْسِ، بالانسلاخِ مِن الفاني، فقال [68] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/138). :
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8).
أي: ويُطْعِمونَ الطَّعامَ -مع محَبَّتِهم إيَّاه، واشتِهائِهم له- ويُؤْثِرونَ به المِسكينَ، والصَّغيرَ الَّذي فَقَدَ أباه، والأسيرَ [69] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/543-545)، ((تفسير القرطبي)) (19/128، 129)، ((تفسير ابن كثير)) (8/288، 289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/384). قال الماوَرْدي: (في الأسيرِ ثلاثةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: أنَّه المسجونُ المُسلِمُ. قاله مجاهِدٌ. الثَّاني: أنَّه العَبدُ. قاله عِكْرِمةُ. الثَّالثُ: أسيرُ المُشرِكينَ. قاله الحَسَنُ، وسَعيدُ بنُ جُبَيرٍ). ((تفسير الماوردي)) (6/166). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: الأسيرُ الكافرُ بيْن المسلِمينَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابن أبي زَمَنِين، وابن جُزَي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/525)، ((تفسير السمرقندي)) (3/526)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/71)، ((تفسير ابن جزي)) (2/437)، ((تفسير العليمي)) (7/235). وممَّن قال مِن السَّلفِ بأنَّ الأسيرَ هنا المرادُ به المشركُ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، وعِكْرِمةُ في روايةٍ عنه، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ في روايةٍ عنه، والحسَنُ في روايةٍ عنه، وعَطاءٌ في روايةٍ عنه، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/544)، ((تفسير الماوردي)) (6/166)، ((البسيط)) للواحدي (23/29)، ((تفسير ابن كثير)) (8/288)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/371). وذهب ابنُ جَريرٍ والثعلبيُّ إلى القَولِ الأوَّلِ والثَّالثِ، وهو أنَّه الحربيُّ مِن أهلِ دارِ الحَربِ يُؤخَذُ قَهْرًا بالغَلَبةِ، أو مِن أهلِ القِبلةِ يُؤخَذُ فيُحبَسُ بحَقٍّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/543، 544)، ((تفسير الثعلبي)) (10/96). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بالأسيرِ هنا: العبدُ: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/ 384). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عِكْرِمةُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/166). قال ابنُ عاشور: (أمَّا الأسيرُ فإذ قد كانت السُّورةُ كُلُّها مَكِّيَّةً قبلَ عِزَّةِ المُسلِمينَ، فالمرادُ بالأسيرِ: العَبدُ مِن المسلِمينَ؛ إذ كان المشركِونَ قد أجاعوا عَبيدَهم الَّذين أسلَموا، مِثلَ بلالٍ، وعَمَّارٍ وأمِّه، ورُبَّما سَيَّبوا بَعْضَهم إذا أضجَرَهم تعذيبُهم، وترَكوهم بلا نَفَقةٍ، والعبوديَّةُ تَنشَأُ مِن الأسْرِ، فالعَبدُ أسيرٌ؛ ولذلك يُقالُ له العاني أيضًا). ((تفسير ابن عاشور)) (29/384). وقال القرطبي: (عن عَطاءٍ قال: الأسيرُ مِن أهلِ القِبلةِ وغَيرِهم. قلتُ: وكأنَّ هذا القولَ عامٌّ يجمَعُ جميعَ الأقوالِ، ويكونُ إطعامُ الأسيرِ المشرِكِ قُرْبةً إلى اللهِ تعالى، غَيْرَ أنَّه مِن صَدَقةِ التَّطَوُّعِ، فأمَّا المفروضةُ فلا. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير القرطبي)) (19/129). ممَّن ذهب مِن السَّلفِ إلى أنَّ هذه الآيةَ تَشملُ أهلَ القِبلةِ وغيرَهم: سعيدُ بنُ جُبَيرٍ في روايةٍ عنه، وعَطاءٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/545)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/371). .
كما قال تعالى: وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة: 177] .
وقال سُبحانَه: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] .
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9).
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ.
أي: يَقولُ الأبرارُ: إنَّما نُطعِمُكم طلَبًا لرضا اللهِ تعالى ورجاءَ ثَوابِه [70] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/546)، ((الوسيط)) للواحدي (4/402)، ((تفسير القرطبي)) (19/130)، ((تفسير ابن كثير)) (8/289). قال ابنُ جُزَي: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ عبارةٌ عن الإخلاصِ لله؛ ولذلك فسَّروه وأكَّدوه بقَولِهم: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا). ((تفسير ابن جزي)) (2/438). وقال الزمخشري: (يجوزُ أن يكونَ قَولًا باللِّسانِ؛ مَنْعًا لهم عن المُجازاةِ بمِثْلِه أو بالشُّكْرِ؛ لأنَّ إحسانَهم مفعولٌ لِوَجهِ اللهِ، فلا معنَى لمكافأةِ الخَلْقِ، وأن يكونَ قَولُهم لهم لُطفًا وتفقيهًا وتنبيهًا على ما يَنبغي أن يكونَ عليه مَن أخلَصَ لله... ويجوزُ أن يكونَ ذلك بيانًا وكَشْفًا عن اعتِقادِهم وصِحَّةِ نِيَّتِهم، وإن لم يَقولوا شيئًا). ((تفسير الزمخشري)) (4/668). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّهم يقولونَ ذلك لهم؛ تأنيسًا لهم، ودَفعًا لانكِسارِ النَّفْسِ الحاصِلِ عندَ الإطعامِ، أي: ما نُطعِمُكم إلَّا استجابةً لِما أمَرَ اللهُ، فالمُطعِمُ لهم هو اللهُ... وعن مُجاهدٍ أنَّه قال: ما تكَلَّموا به، ولكِنْ عَلِمَه اللهُ فأثْنى به عليهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/385). .
لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.
أي: لا نَطلُبُ منكم مُكافأةً على ذلك، ولا نَطلُبُ منكم شُكْرًا ولا ثَناءً عليه [71] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/546)، ((تفسير ابن كثير)) (8/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/385). .
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ أنَّ الأبرارَ يُحسِنونَ إلى هؤلاء المحتاجِينَ، بيَّن أنَّ لهم فيه غرَضَينِ؛ أحدُهما: تحصيلُ رِضا اللهِ، وهو المرادُ مِن قَولِه: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، والثَّاني: الاحترازُ مِن خَوفِ يومِ القيامةِ، وهو المرادُ مِن قَولِه: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [72] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/748). .
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10).
أي: إنَّا نخافُ مِن رَبِّنا يومَ القيامةِ ذا الأهوالِ العظيمةِ، وذا الضِّيقِ والشِّدَّةِ [73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/546، 547)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901). قال ابنُ عاشور: (قولُه: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا مَقولٌ لِقَولٍ يَقولونَه في نُفوسِهم، أو يَنطِقُ به بعضُهم مع بعضٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/386). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَتعَوَّذُ مِن ضِيقِ المقامِ يومَ القيامةِ )) [74] أخرجه أبو داودَ (766)، والنَّسائيُّ (5535)، وابنُ ماجه (1356). قال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (766): (حَسَنٌ صحيحٌ). وحَسَّن إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (766). .
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكَى عن الأبرارِ أنَّهم أتَوا بالطَّاعاتِ لغَرَضينِ: طَلَبِ رِضا الله، والخَوفِ مِن القيامةِ؛ بيَّنَ أنَّه أعطاهم هذينِ الغَرَضينِ؛ أمَّا الحِفظُ مِن هولِ القيامةِ فهو المرادُ بقَولِه: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وأمَّا طَلَبُ رِضا اللهِ تعالى فأعطاهم بسَبَبِه نَضرةً في الوَجهِ، وسُرورًا في القَلْبِ [75] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/749). .
وأيضًا لَمَّا كان فِعلُ الأبرارِ هذا خالصًا لله؛ سَبَّب عنه جزاءَهم [76] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/141). .
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
أي: فدَفَع اللهُ عن الأبرارِ شرَّ يَومِ القيامةِ [77] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/549)، ((تفسير القرطبي)) (19/136)، ((تفسير الشوكاني)) (5/420). .
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا.
أي: وأعطاهم اللهُ حُسْنًا في وُجوهِهم، وفَرَحًا في قُلوبِهم [78] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/549)، ((تفسير القرطبي)) (19/136)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/72)، ((تفسير ابن كثير)) (8/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901). قال ابن كثير: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي: في وجوهِهم، وَسُرُورًا أي: في قلوبِهم. قاله الحسنُ البصريُّ، وقتادةُ، وأبو العاليةِ، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ. وهذه كقولِه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس: 38، 39]، وذلك أنَّ القلبَ إذا سُرَّ استنار الوجهُ، قال كعبُ بنُ مالكٍ في حديثِه الطَّويلِ: «وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهُه حتَّى كأنَّه قطعةُ قمرٍ» [البخاري «4418» ومسلم «2769»]، وقالت عائشةُ: «دخَل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مسرورًا تبرقُ أساريرُ وجهِه...» الحديث. [البخاري «6770» ومسلم «1459»]). ((تفسير ابن كثير)) (8/289) وقال الشوكاني: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا أيْ: أعْطاهم -بَدَلَ العُبوسِ في الكفَّارِ- نَضْرَةً في الوُجوهِ، وسُرورًا في القلوبِ. قال الضَّحَّاكُ: «والنَّضْرَةُ: البياضُ والنَّقاءُ في وُجوهِهم». وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: «الحُسنُ والبَهاءُ»، وقيل: النَّضْرَةُ: أثرُ النِّعمةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/420). وقال ابنُ عاشور: (جَعَلَهم يَلْقَونَ نَضْرةً وسُرورًا). ((تفسير ابن عاشور)) (29/388). .
قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة: 22].
وقال سُبحانَه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس: 38، 39].
وقال عزَّ وجَلَّ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24].
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12).
أي: وجَزاهم اللهُ تعالى بسَبَبِ صَبْرِهم جَنَّةً يَدخُلونَها، وحريرًا يَلْبَسُونَه [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/550)، ((تفسير القرطبي)) (19/136)، ((تفسير ابن كثير)) (8/290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 901). .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ... فذكَرَ سُبْحانَه مِن أعمالِ الأبرارِ ما يُنَبِّهُ سامِعَه على جَمْعِهم لأعمالِ البِرِّ كلِّها؛ فذكَرَ سُبحانَه وفاءَهم بالنَّذرِ، وخَوْفَهم مِن ربِّهم، وإطعامَهم الطَّعامَ على محبَّتِهم له، وإخلاصَهم لرَبِّهم في طاعتِهم [80] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/71). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ فيه الحَثُّ على الوَفاءِ بالنَّذرِ [81] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 279). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا فيه أنَّ مجامِعَ الطَّاعاتِ مَحصورةٌ في أمْرَينِ: التَّعظيمُ لأمرِ اللهِ تعالى، وإليه الإشارةُ بقَولِه: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، والشَّفَقةُ على خَلْقِ اللهِ، وإليه الإشارةُ بقَولِه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ [82] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/746). .
4- في قَولِه تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ذَكَر سُبحانَه الوَفاءَ بالنَّذْرِ، وهو أضعَفُ الواجباتِ؛ فإنَّ العبدَ هو الَّذي أوجَبَه على نفْسِه بالْتِزامِه، فهو دونَ ما أوجَبَه اللهُ سُبحانَه عليه، فإذا وَفَّى للهِ بأضعَفِ الواجِبَينِ الَّذي التَزَمَه هو، فهو بأنْ يُوَفِّيَ بالواجبِ الأعظَمِ الَّذي أَوجَبَه اللهُ عليه: أَوْلَى وأَحْرَى، ومِن هاهنا قال مَن قال مِن المفَسِّرينَ: المقَرَّبونَ يُوفُونَ بطاعةِ اللهِ، ويَقومُونَ بحقِّه عليهم؛ وذلك أنَّ العبدَ إذا نَذَرَ للهِ طاعةً فوَفَّى بها، فإنَّما يَفعلُ ذلك لكَونِها صارتْ حقًّا للهِ يجبُ الوفاءُ بها، وهذا موجودٌ في حُقوقِه كلِّها، فهي في ذلك سَواءٌ [83] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/71). .
5- أنَّ مَن تَعَبَّدَ للهِ خَوفًا فهو محمودٌ، وقد أَثنى اللهُ على مَن تَعَبَّدَ خَوفًا منه مِن العذابِ؛ قال تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، وقال: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 37] ، وأثنى اللهُ تعالى على مَن تعَبَّدَ طَلَبًا؛ قال تعالى: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح: 29] . وفي هذا ردٌّ على مَن ذَهَبَ مِن الصُّوفيَّةِ أو غيرِهم إلى أنَّ الأفضَلَ في التَّعَبُّدِ أَلَّا يَقصِدَ الإنسانُ حظًّا لنَفْسِه، وإنَّما يَعْبُدُ اللهَ لِذَاتِه فقط، يعني أنَّك إذا عَبَدْتَ اللهَ فلا تَقصِدْ فضْلَ اللهِ أو تحذَرْ عِقابَه، يقولون: اُعْبُدِ اللهَ للهِ! فيُقالُ لهم: لَسْتُم أكملَ حالًا مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، وقد ذَكَرَ اللهُ عنهم أنَّهم كانوا: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح: 29] ، ولستُم أكملَ حالًا ممَّن أَثنى اللهُ عليهم مِن الأبرارِ؛ قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا إلى أنْ قال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، ولا شَكَّ أنَّ الإنسانَ الَّذي يَعبُدُ اللهَ سُبحانَه لِيَنالَ فضْلَه ويَنجوَ مِن عِقابِه: هو يريدُ الوُصولَ إلى رضوانِ اللهِ وإلى رُؤيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ مِن جملةِ النَّعيمِ في الجَنَّةِ رؤيةَ اللهِ سُبحانَه وتعالى [84] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النور)) (ص: 268). .
6- في قَولِه تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا أنَّ حُبَّ المساكينِ مُستَلزِمٌ لإخلاصِ العَمَلِ للهِ تعالى، والإخلاصُ هو أساسُ الأعمالِ، الَّذي لا تَثبُتُ الأعمالُ إلَّا عليه؛ فإنَّ حُبَّ المساكينِ يَقتضي إسداءَ النَّفعِ إليهم بما يُمكِنُ مِن مَنافِعِ الدِّينِ والدُّنيا، فإذا حَصَل إسداءُ النَّفْعِ إليهم حُبًّا لهم، والإحسانُ إليهم، كان هذا العَمَلُ خالِصًا [85] يُنظر: ((اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى)) لابن رجب (ص: 95). .
7- في قَولِه تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إخبارٌ منه سُبحانَه عنهم بإطعامِ الطَّعامِ على محبَّتِهم له، وذلك يدُلُّ على نَفاسَتِه عِندَهم، وحاجتِهم إليه، وما كان كذلك فالنُّفوسُ به أَشَحُّ، والقُلوبُ به أَعْلَقُ، واليدُ له أمْسَكُ، فإذا بَذَلُوه في هذه الحالِ فَهُم لِمَا سِواه مِن حُقوقِ العِبادِ أبْذَلُ؛ فذَكَر مِن حقوقِ العِبادِ بَذْلَ قُوتِ النَّفْسِ على نفاسَتِه وشِدَّةِ الحاجةِ، مُنَبِّهًا على الوَفاءِ بما دُونَه، كما ذَكَر مِن حُقوقِه الوَفاءَ بالنَّذْرِ مُنَبِّهًا على الوَفاءِ بما هو فوقَه وأَوْجَبُ منه، ونَبَّهَ بقَولِه: عَلَى حُبِّهِ أنَّه لولا أنَّ اللهَ سُبحانَه أَحَبُّ إليهم منه لَمَا آثَرُوه على ما يُحِبُّونَه، فآثَرُوا المحبوبَ الأعلَى على الأدنَى [86] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/72). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا فيه أنَّهم يتحَرَّونَ في إطعامِهم أَولى النَّاسِ وأحوجَهم [87] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 901). .
9- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا أنَّ الإخلاصَ في الصَّدَقةِ ألَّا يَسْأَلَ عِوَضَها دُعاءً مِن المُعطَى، ولا يَرجوَ بَرَكتَه وخاطرَه ولا غيرَ ذلك مِن الأقوالِ [88] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (4/109). ، ومَن طَلَبَ مِن الفقراءِ الدُّعاءَ أو الثَّناءَ خَرَجَ مِن هذه الآيةِ؛ فإنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن أتى إليكم مَعروفًا فكافِئُوه، فإنْ لَمْ تَجِدُوا فادْعُوا له حتَّى تَعْلَموا أنَّكم قد كافَأْتُموه)) [89] أخرجه أبو داودَ (5109) واللَّفظُ له، والنسائيُّ (2567)، وأحمدُ (6106) من حديث ابنِ عُمَرَ رضيَ الله عنهما. صحَّحه النوويُّ في ((رياض الصالحين)) (1723)، وابن حجر -كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/250)-، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5109). وصحَّح إسنادَه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2/73) وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (8/233)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (10/267)، وقال الحاكمُ وشعيبٌ الأرناؤوط: (على شرط الشَّيخَينِ). ؛ ولهذا كانت عائشةُ إذا أَرسَلَتْ إلى قومٍ بهَدِيَّةٍ تقولُ للرَّسولِ: (اسمَعْ ما دَعَوا به لنا؛ حتَّى نَدْعُوَ لهم بمِثْلِ ما دَعَوْا، ويَبْقَى أَجْرُنا على اللهِ) [90] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/111). ويُنظر في الأثرِ المذكورِ عن عائشةَ رضيَ الله عنها ما أخرجه النسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (10062)، وجوَّد إسنادَه الألبانيُّ في تخريج ((الكلم الطيب)) (239). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا، أي: بسَبَبِ ما أوجَدوه مِن الصَّبرِ على العبادةِ؛ مِن لُزومِ الطَّاعةِ، واجتنابِ المعصيةِ، ومَنْعِ أنفُسِهم الطَّيِّباتِ، وبَذْلِ المحبوباتِ [91] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/142). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا لَمْ يَذْكُرِ الله عزَّ وجلَّ في الكافِرين وعذابِهم إلَّا قليلًا بالنِّسبةِ للأبرارِ، والسَّببُ أنَّه قال: لِلْكَافِرِينَ فقط، ولَمْ يَقُلْ شيئًا مِن أعمالِهم؛ فكان الجزاءُ مختصَرًا: سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا، وذَكَر الأبرارَ، وأطالَ في ذِكْرِ ما لَهم مِن نعيمٍ؛ لأنَّه ذَكَرَ عدَّةَ أعمالٍ مِن أعمالِهم: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، فلَمَّا أطالَ في ذِكْرِ أعمالِهم وأوصافِهم أطالَ في ذِكْرِ جزائِهم -بخِلافِ الكافِرين-، وهذا بلا شكٍّ مِن بلاغةِ القرآنِ الكريمِ [92] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 59). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا احْتُجَّ به على أنَّ الجَحيمَ بسَلاسِلِها وأغلالِها مخلوقةٌ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: أَعْتَدْنَا إخبارٌ عن الماضي [93] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/743). .
3- قَولُه تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا استُدِلَّ به على أنَّ المؤمِنَ وإنْ دَخَل النَّارَ بعِصيانِه وجُرْمِه، وأُحْرِقَ في النَّارِ بقَدْرِ جنايتِه؛ لَمْ يُغَلَّ، ولَمْ يُجْعَلْ في السَّلاسِلِ حتَّى يُعْتِقَه اللهُ برحمتِه، ويَذَرَ الكافِرَ في السَّلاسِلِ والأغلالِ والسَّعيرِ الَّذي يَسْتَعِرُ عليه، كُلَّما نَضِجَ له جِلدٌ اسْتَعَرَ على الجِلْدِ الَّذي يُبَدَّلُ له، خالِدًا مُخَلَّدًا [94] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/459). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا فيه سؤالٌ: أنَّ مَزجَ الكافورِ بالمشروبِ لا يكونُ لذيذًا، فما السَّبَبُ في ذِكْرِه هاهنا؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ الكافورَ اسمُ عَينٍ في الجنَّةِ، ماؤُها في بياضِ الكافورِ ورائحتِه وبَرْدِه، ولكِنْ لا يكونُ فيه طَعْمُه ولا مضَرَّتُه، فالمعنى أنَّ ذلك الشَّرابَ يكونُ ممزوجًا بماءِ هذه العَينِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ رائحةَ الكافورِ عَرَضٌ، فلا يكونُ إلا في جِسمٍ، فإذا خَلَق اللهُ تلك الرَّائحةَ في جِرْمِ ذلك الشَّرابِ، سُمِّيَ ذلك الجِسمُ كافورًا، وإن كان طَعمُه طيِّبًا.
الوَجهُ الثَّالثُ: لا بأسَ في أن يَخلُقَ اللهُ تعالى الكافورَ في الجنَّةِ، لكِنْ مِن طَعمٍ طَيِّبٍ لذيذٍ، ويَسلُبَ عنه ما فيه مِن المضَرَّةِ، ثمَّ إنَّه تعالى يمزُجُه بذلك المشروبِ، كما أنَّه تعالى سلَبَ عن جميعِ المأكولاتِ والمشروباتِ ما معها في الدُّنيا مِن المَضارِّ [95] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/744). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ يدُلُّ على وُجوبِ الوَفاءِ بالنَّذْرِ؛ لأنَّه تعالى عقَّبه بـ (يَخَافُونَ يَوْمًا)، وهذا يَقْتَضي أنَّهم إنَّما وفَّوْا بالنَّذْرِ خوفًا مِن شَرِّ ذلك اليومِ، والخَوفُ مِن شَرِّ ذلك اليومِ لا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذا كان الوفاءُ به واجِبًا [96] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/745). .
6- قولُه تعالى: وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا فيه إشعارٌ بحُسنِ عَقيدتِهم، واجتنابِهم عن المَعاصي [97] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/270). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا فيه سؤالٌ: أحوالُ القيامةِ وأهوالُها كُلُّها فِعلُ اللهِ، وكُلُّ ما كان فِعلًا لله فهو يكونُ حِكمةً وصَوابًا، وما كان كذلك لا يكونُ شَرًّا، فكيف وصَفَها اللهُ تعالى بأنَّها شَرٌّ؟
الجوابُ: أنَّها إنَّما سُمِّيَت شَرًّا؛ لِكَونِها مضَرَّةً بمَن تَنزِلُ عليه، وصعبةً عليه، كما تُسمَّى الأمراضُ وسائِرُ الأمورِ المكروهةِ شُرورًا [98] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/745). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا فيه سُؤالٌ: كيف يُمكِنُ أن يُقالَ: شَرُّ ذلك اليَومِ مُستَطيرٌ مُنتَشِرٌ، مع أنَّه تعالى قال في صِفةِ أوليائِه: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ هَولَ القيامةِ شَديدٌ؛ فالسَّمَواتُ تَنشَقُّ وتَنفَطِرُ وتَصيرُ كالمُهْلِ، وتتناثَرُ الكواكِبُ، وتتكَوَّرُ الشَّمسُ والقَمَرُ، وتَفزَعُ الملائكةُ، وتُبَدَّلُ الأرضُ غَيْرَ الأرضِ، وتُنسَفُ الجِبالُ، وتُسْجَرُ البِحارُ، وهذا الهَولُ عامٌّ يَصِلُ إلى كُلِّ المكَلَّفِينَ، على ما قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج: 2] ، وقال: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل: 17] ، إلَّا أنَّه تعالى بفَضْلِه، يؤمِّنُ أولياءَه مِن ذلك الفَزَعِ.
الوَجهُ الثَّاني: أن يكونَ المرادُ أنَّ شَرَّ ذلك اليومِ يكونُ مُستطيرًا في العُصاةِ والفُجَّارِ، وأمَّا المؤمِنونَ فهم آمِنونَ، كما قال: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] ، لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] ، إلَّا أنَّ أهلَ العِقابِ في غايةِ الكَثْرةِ بالنِّسبةِ إلى أهلِ الثَّوابِ؛ فأُجرِيَ الغالبُ مجرى الكُلِّ [99] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/745، 746). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا الأسارى مِن المشرِكين يجِبُ إطعامُهم إلى أن يَرى الإمامُ رأيَه فيهم؛ مِن قَتلٍ أو غيرِ ذلك فإن قيل: لَمَّا وَجَب قَتْلُه، فكيف يَجِبُ إطعامُه؟
الجوابُ: القَتلُ في حالٍ لا يَمنَعُ مِن الإطعامِ في حالٍ أُخرى، ولا يَجِبُ إذا عوقِبَ بوَجهٍ أن يُعاقَبَ بوَجهٍ آخَرَ؛ ولذلك لا يَحسُنُ فيمَن يَلزَمُه القِصاصُ أن يُفعَلَ به ما هو دونَ القَتْلِ [100] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/748). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ الأسيرِ.
10- في قَولِه تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ إلى قَولِه تعالى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا أنَّ إطعامَ الطَّعامِ هو مِن الأسبابِ المُوجِبةِ للجَنَّةِ ونَعيمِها [101] يُنظر: ((اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى)) لابن رجب (ص: 73). .
11- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا أنَّ مَن خافه في الدُّنيا، وأخَذ أُهْبَتَه مِن طاعةِ ربِّه؛ أمَّنَه مِن أهوالِه، ووقَاه أفزاعَه، وكذا قال في سُورةِ (النَّملِ): مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ [102] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/462). [النمل: 89] .
12- في قَولِه تعالى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا أنَّ الجَنَّاتِ فيها النَّعيمُ المطلَقُ الَّذي يَشملُ نَعيمَ البَدَنِ ونعيمَ الرُّوحِ؛ قال العلماءُ: («النَّضْرةُ» في الوَجهِ، و«السُّرورُ» في القَلْبِ) [103] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/139). .
13- في قَولِه تعالى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا جُمِعَ لهم بيْن النَّضْرةِ والسُّرورِ، وهذا جمالُ ظواهرِهم، وهذا حالُ بواطنِهم، كما جَمَّلُوا في الدُّنيا ظواهِرَهم بشَرائعِ الإسلامِ، وبواطِنَهم بحقائقِ الإيمانِ [104] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 185). .
14- في قَولِه تعالى: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا أنَّ مَن ضَيَّقَ على نفْسِه في مُخالَفةِ الهوى، فإنَّه يُوَسَّعُ عليها في قَبْرِه ومَعادِه، فلمَّا كان في الصَّبرِ -الَّذي هو حَبْسُ النَّفْسِ عن الهوى- خشونةٌ وتضييقٌ، جازاهم على ذلك نُعومةَ الحريرِ، وسَعَةَ الجَنَّةِ [105] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 480). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا لَمَّا ذُكِر الفريقانِ الشَّاكر والكَفور في قولِه تعالى: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3] أُريدَ التَّخلُّصُ إلى جزائِهِما، والجُملةُ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ قولَه: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3] يُثيرُ تَطلُّعَ السَّامِعِ إلى مَعرفةِ آثارِ هذَينِ الحالَينِ المُتردِّدِ حالُه بيْنَهما [106] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/667)، ((تفسير أبي حيان)) (10/360)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/377)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/314). .
- وابتُدِئَ بجَزاءِ الكافرِ؛ لأنَّ ذِكرَه أقرَبُ [107] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/667)، ((تفسير أبي حيان)) (10/360)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/377)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/314). . أو قُدِّمَ وَعيدُ الكافِرينَ وقد تَأخَّرَ ذِكرُهم؛ لأنَّ الإنذارَ أهَمُّ وأنفَعُ، وتَصديرُ الكلامِ وختْمُه بذِكرِ المؤمنينَ أحسَنُ، على أنَّ في وَصْفِهم تَفصيلًا رُبَّما يُخِلُّ تَقديمُه بتَجاوُبِ أطرافِ النَّظمِ الكريمِ [108] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/269)، ((تفسير أبي السعود)) (9/71). . أو قُدِّم؛ لأنَّ طريقَ النَّشرِ المُشَوَّشِ [109] اللَّف والنَّشْر: هو أن يُذكَرَ شَيئانِ أو أشياءُ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتى بلَفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ يُذكَرَ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضَ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ، مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ والنَّشرُ إمَّا مُرتَّبٌ، وإمَّا غيرُ مُرتَّبٍ؛ فاللَّفُّ والنَّشرُ المُرتَّبُ هو: أن يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ فيُؤتَى بما يُقابِلُ الأشياءَ المذكورةَ ويُضافُ إلى كلٍّ ما يَليقُ به على التَّرتيبِ، كقولِه تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73] ؛ حيث جاء اللَّفُّ بعبارةِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وجاء النَّشرُ وَفْقَ توزيعٍ مُرتَّبٍ؛ فقولُه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يتعلَّقُ باللَّيلِ، وقولُه: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يتعلَّقُ بالنَّهارِ. وغيرُ المرتَّبِ -وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوسِ»- هو: أن يأتيَ النَّشرُ على غَيرِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ مثالُه قولُه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8] ، فهذه الجُمَلُ لفٌّ مُفَصَّلٌ، وجاء بعدَها نَشْرٌ غَيرُ مُرَتَّبٍ؛ فجُملةُ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الأُولى، ومتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّالثةِ، ومُتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّانيةِ، ومتعلِّقةٌ بها. يُنظر في تفصيلِ أقسامِه وأمثلةٍ على ذلك: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 330، 331)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/403- 406). أفصَحُ، ولِيُعادلَ البُداءةَ بالشَّاكرِ في أصلِ التَّقسيمِ، لِيَتعادلَ الخَوفُ والرَّجاءُ، وليكونَ الشاكرُ أوَّلًا وآخِرًا، ولأنَّ الانقيادَ بالوعيدِ أتمُّ؛ لأنَّه أدَلُّ على القدرةِ، لا سيَّما في حقِّ أهلِ الجاهليَّةِ الَّذين بعدَتْ عنهم معرفةُ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ [110] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/135). .
- وأُكِّدَ الخبَرُ عن الوَعيدِ بحرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ لإدخالِ الرَّوعِ عليهم؛ لأنَّ المُتوعِّدَ إذا أكَّدَ كَلامَه بمُؤكِّدٍ فقدْ آذَنَ بأنَّه لا هَوادةَ له في وَعيدِه [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/377). .
- وقدَّمَ الأسهَلَ في العذابِ فالأسهَلَ؛ تَرَقِّيًا [112] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/135). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا
- هو استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن الاستِئنافِ الَّذي قبْلَه مِن قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا [الإنسان: 4] ؛ فإنَّ مَن عرَفَ ما أُعِدَّ للكَفورِ مِن الجزاءِ، يَتطلَّعُ إلى مَعرفةِ ما أُعِدَّ للشَّاكرِ مِن الثَّوابِ، وأُخِّرَ تَفصيلُه عن تَفصيلِ جَزاءِ الكَفورِ، مع أنَّ شَاكِرًا [الإنسان: 3] مَذكورٌ قبْلَ كَفُورًا [الإنسان: 3] ، على طَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ المعكوسِ [113] اللَّف والنَّشْر: هو أن يُذكَرَ شَيئانِ أو أشياءُ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتى بلَفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ يُذكَرَ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضَ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ، مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ والنَّشرُ إمَّا مُرتَّبٌ، وإمَّا غيرُ مُرتَّبٍ؛ فاللَّفُّ والنَّشرُ المُرتَّبُ هو: أن يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ فيُؤتَى بما يُقابِلُ الأشياءَ المذكورةَ ويُضافُ إلى كلٍّ ما يَليقُ به على التَّرتيبِ، كقولِه تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73] ؛ حيث جاء اللَّفُّ بعبارةِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وجاء النَّشرُ وَفْقَ توزيعٍ مُرتَّبٍ؛ فقولُه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يتعلَّقُ باللَّيلِ، وقولُه: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يتعلَّقُ بالنَّهارِ. وغيرُ المرتَّبِ -وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوسِ»- هو: أن يأتيَ النَّشرُ على غَيرِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ مثالُه قولُه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8] ، فهذه الجُمَلُ لفٌّ مُفَصَّلٌ، وجاء بعدَها نَشْرٌ غَيرُ مُرَتَّبٍ؛ فجُملةُ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الأُولى، ومتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّالثةِ، ومُتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّانيةِ، ومتعلِّقةٌ بها. يُنظر في تفصيلِ أقسامِه وأمثلةٍ على ذلك: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 330، 331)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/403- 406). ؛ ليتَّسِعَ المجالُ لإطنابِ الكلامِ على صِفةِ جَزاءِ الشَّاكرينَ وما فيه مِن الخَيرِ والكرامةِ، تَقريبًا للمَوصوفِ مِن المُشاهَدةِ المحسوسةِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/379). .
- وتَأكيدُ الخبَرِ عن جَزاءِ الشاكرينَ بـ (إنَّ)؛ لدَفْعِ إنكارِ المشرِكين أنْ يكونَ المؤمنونَ خيرًا منهم في عالَمِ الخُلودِ، ولإفادةِ الاهتمامِ بهذه البِشارةِ بالنِّسبةِ إلى المؤمنينَ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/379). .
- والأبرارُ في قولِه: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ ... همُ الشَّاكِرون، وإيرادُ الشَّاكرينَ بعُنوانِ البِرِّ؛ للإشعارِ بما استحَقُّوا به ما نالُوه مِن الكَرامةِ السَّنيَّةِ، وزِيادةً في الثَّناءِ عليهم [116] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/379). .
- ووَصْفُ (بَرٍّ) أقْوى مِن بارٍّ في الاتِّصافِ بالبِرِّ؛ ولذلك يُقال: اللهُ بَرٌّ، ولم يُقَلْ: اللهُ بارٌّ [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/380). .
- والكأسُ بالهَمزةِ: الإناءُ المَجعولُ للخمْرِ، فلا يُسمَّى كأسًا إلَّا إذا كان فيه خَمرٌ، فيَجوزُ أنْ يُرادَ هنا آنيةُ الخمْرِ؛ فتكونَ (مِن) للابتداءِ، وإفرادُ كأسٍ للنَّوعيَّةِ. ويَجوزُ أنْ تُرادَ الخمرُ، فتكونَ (مِن) للتَّبعيضِ، وعلى التَّقديرينِ فكأسٌ مُرادٌ به الجنسُ، وتَنوينُه لتَعظيمِه في نَوعِه [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/380). .
- وابتُدِئَ في وَصْفِ نَعيمِهم بنَعيمِ لذَّةِ الشُّربِ مِن خَمْرِ الجنَّةِ؛ لِما لِلَذَّةِ الخَمْرِ مِن الاشتِهارِ بيْن الناسِ، وكانوا يَتنافَسون في تَحصيلِها [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/380). .
- والمِزاجُ قيل: إنَّه هنا مُرادٌ به الماءُ، والإخبارُ عنه بأنَّه كافورٌ مِن قَبيلِ التَّشبيهِ البَليغِ، أي: في اللَّونِ، أو ذَكاءِ الرَّائحةِ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/380). .
- وإقحامُ فِعلِ (كان) في جُملةِ الصِّفةِ بقولِه: كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا؛ لإفادةِ أنَّ ذلك مِزاجُها لا يُفارِقُها؛ إذ كان مُعتادُ النَّاسِ في الدُّنيا نُدرةَ ذلك المِزاجِ؛ لغَلاءِ ثَمَنِه، وقِلَّةِ وِجْدانِه [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/381). .
3- قولُه تعالَى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا
- قولُه: يَشْرَبُ بِهَا وُصِلَ فِعلُ الشُّربِ بحرْفِ الابتداءِ (مِن) أوَّلًا، وبحرْفِ الإلصاقِ -الباء- آخِرًا؛ لأنَّ الكأسَ مَبدَأُ شُربِهم وأوَّلُ غايتِه، وأمَّا العينُ فبها يَمزُجونَ شَرابَهم، فكان المعْنى: يَشرَبُ عِبادُ اللهِ بها الخمْرَ، كما تقولُ: شَرِبْت الماءَ بالعسَلِ، أو ضُمِّن يَشْرَبُ معْنى (يَروى) فعُدِّيَ بالباءِ، وإذا قلتَ: «يَرْوى بها» فقد تَضَمَّنَ معنى «يَشْرَبُ» وزيادةً. وقيل: الباءُ زائدةٌ، والمعْنى يَشرَبُها. وقيل: الباءُ بمعْنى (مِن) التَّبعيضيَّةِ [122] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/668)، ((تفسير الرازي)) (30/744)، ((تفسير البيضاوي)) (5/270)، ((تفسير أبي حيان)) (10/360)، ((تفسير أبي السعود)) (9/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/381)، ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 368)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/316). .
- وعِبَادُ اللَّهِ مُرادٌ بهم: الأبرارُ، وهو إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ للتَّنويهِ بهم بإضافةِ عُبوديَّتِهم إلى اللهِ تعالَى إضافةَ تَشريفٍ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/381). .
4- قولُه تعالَى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا اعتِراضٌ بيْنَ جُملةِ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [الإنسان: 5] إلخ، وبيْنَ جُملةِ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان: 15] إلخ، وهذا الاعتراضُ استئنافٌ بَيانيٌّ هو جَوابٌ عن سُؤالٍ مِن شأْنِ الكلامِ السَّابقِ أنْ يُثِيرَه في نفْسِ السَّامعِ المُغتبِطِ بأنْ يَنالَ مِثلَ ما نالوا مِن النَّعيمِ والكَرامةِ في الآخرةِ، فيَهتَمَّ بأنْ يَفعَلَ مِثلَ ما فَعَلوا، فذُكِرَ بَعضُ أعمالِهم الصَّالحةِ الَّتي هي مِن آثارِ الإيمانِ، مع التَّعريضِ لهم بالاستزادةِ منها في الدُّنيا [124] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/270)، ((تفسير أبي السعود)) (9/72)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/382)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/316). .
- وجِيءَ بصِيغةِ المُضارِعِ يُوفُونَ؛ للاستحضارِ، والدَّلالةِ على الاستمرارِ، وعلى تَجدُّدِ وَفائِهم بما عَقَدوا عليه ضَمائرَهم مِن الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ [125] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/171)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/382، 383). .
- والوفاءُ بالنَّذرِ مُبالَغةٌ في وَصْفِهم بالتَّوفُّرِ على أداءِ الواجِباتِ؛ لأنَّ مَن وفَّى بما أوجَبَه هو على نفْسِه لوجْهِ اللهِ، كان بما أوجَبَه اللهُ عليه أَوفَى [126] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/668)، ((تفسير البيضاوي)) (5/270)، ((تفسير أبي حيان)) (10/361). .
- والتَّعريفُ في (النَّذر) تَعريفُ الجِنسِ؛ فهو يَعُمُّ كلَّ نَذْرٍ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/383). .
- وعُطِفَ على يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قولُه: وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا؛ لأنَّهم لَمَّا وُصِفوا بالعمَلِ بما يَنذِرونَه أُتبِعَ ذلك بذِكرِ حُسنِ نيَّتِهم، وتَحقُّقِ إخلاصِهم في أعمالِهم؛ لأنَّ الأعمالَ بالنِّيَّاتِ، فجَمَع لهم بهذا صِحَّةَ الاعتِقادِ، وحُسْنَ الأعمالِ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/383). .
- وصِيغةُ (يَخافون) دالَّةٌ على تَجدُّدِ خَوفِهِم شرَّ ذلك اليومِ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/383). .
- وفي قولِه: وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وُصِفَ اليومُ بأنَّ له شرًّا مُستطيرًا وَصْفًا مُشعِرًا بعِلَّةِ خَوفِهم إيَّاهُ، فالمعْنى: أنَّهم يَخافون شرَّ ذلك اليومِ، فيَتجنَّبونَ ما يُفْضي بهم إلى شَرِّه مِن الأعمالِ المُتوعَّدِ عليها بالعِقابِ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/383). .
- قولُه: مُسْتَطِيرًا، أي: فاشيًا مُنتشِرًا بالغًا أقْصى المَبالغِ، والسِّينُ والتَّاءُ في (استطارَ) للمُبالَغةِ [131] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/668)، ((تفسير البيضاوي)) (5/270)، ((تفسير أبي السعود)) (9/72)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/383). .
- وذِكرُ فِعلِ كَانَ؛ للدَّلالةِ على تَمكُّنِ الخبَرِ مِن المُخبَرِ عنه، وإلَّا فإنَّ شرَّ ذلك اليومِ ليس واقعًا في الماضي، وإنَّما يقَعُ بعْدَ مُستقبَلٍ بَعيدٍ. ويجوزُ أنْ يُجعَلَ ذلك مِن التَّعبيرِ عن المُستقبَلِ بلَفظِ الماضي؛ تَنْبيهًا على تَحقُّقِ وُقوعِه [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/383). .
5- قولُه تعالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا
- قولُه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا خصَّصَ الإطعامَ بالذِّكرِ؛ لِما في إطعامِ المُحتاجِ مِن إيثارِه على النَّفْسِ، كما أفادَ قولُه: عَلَى حُبِّهِ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/384). .
- والتَّصريحُ بلَفظِ الطَّعامِ معَ أنَّه مَعلومٌ مِن فِعلِ (يُطْعِمُونَ) تَوطئةٌ؛ ليُبْنى عليه الحالُ، وهو عَلَى حُبِّهِ؛ فإنَّه لو قِيل: (ويُطعِمون مِسكينًا ويَتيمًا وأسيرًا) لَفات ما في قولِه: عَلَى حُبِّهِ مِن معْنى إيثارِ المَحاويجِ على النَّفْسِ، على أنَّ ذِكرَ الطَّعامِ بعْدَ (يُطْعِمُونَ) يُفيدُ تَأكيدًا، مع استِحضارِ هَيئةِ الإطعامِ، حتَّى كأنَّ السَّامعَ يُشاهِدُ الهَيئةَ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/384). .
- قولُه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا خصَّ هؤلاء الثَّلاثةَ بالذِّكرِ؛ لأنَّ المِسكينَ عاجزٌ عن اكتِسابِ قُوتِه بنفْسِه، واليتيمَ مات أبوه، وبقِيَ عاجزًا عن الكسْبِ لصِغَرِه، والأسيرَ لا يَملِكُ لنفْسِه ضَرًّا ولا نَفْعًا ولا نَصرًا ولا حِيلةً [135] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/318). .
- قولُه: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا مَقولُ قولٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: يَقولون لهم، أي: للَّذين يُطعِمونهم، فهو في مَوضعِ الحالِ مِن ضَميرِ (يُطْعِمُونَ)، وجُملةُ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا مُبيِّنةٌ لمَضمونِ جُملةِ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/385). . أو جُملةُ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا تَعليلٌ لبَيانِ سَببِ الإطعامِ [137] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/317). .
- والقصْرُ المُستفادُ مِن (إنَّما) قصْرُ قلْبٍ [138] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). مَبنيٌّ على تَنزيلِ المُطعَمِينَ مَنزِلةَ مَن يظُنُّ أنَّ مَن أطعَمَهم يَمُنُّ عليهم، ويُريدُ منهم الجزاءَ والشُّكرَ، بِناءً على المُتعارَفِ عندَهم في الجاهليَّةِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/385). .
- قولُه: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا تقريرٌ وتأكيدٌ لِما قبْلَه [140] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/72). .
- قولُه: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا واقعٌ مَوقعَ التَّعليلِ لمَضمونِ جُملةِ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [141] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/72)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/385)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/317). [الإنسان: 9] . وهو حالٌ مِن ضَميرِ (يَخَافُونَ) [الإنسان: 7] ، أي: يَخافون ذلك اليومَ في نُفوسِهم قائِلينَ: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، فحُكِيَ قولُهم: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، وقولُهم: إِنَّا نَخَافُ ... إلخ، على طَريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ المعكوسِ [142] اللَّف والنَّشْر: هو أن يُذكَرَ شَيئانِ أو أشياءُ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتى بلَفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ يُذكَرَ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضَ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ، مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ والنَّشرُ إمَّا مُرتَّبٌ، وإمَّا غيرُ مُرتَّبٍ؛ فاللَّفُّ والنَّشرُ المُرتَّبُ هو: أن يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ فيُؤتَى بما يُقابِلُ الأشياءَ المذكورةَ ويُضافُ إلى كلٍّ ما يَليقُ به على التَّرتيبِ، كقولِه تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73] ؛ حيث جاء اللَّفُّ بعبارةِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وجاء النَّشرُ وَفْقَ توزيعٍ مُرتَّبٍ؛ فقولُه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يتعلَّقُ باللَّيلِ، وقولُه: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يتعلَّقُ بالنَّهارِ. وغيرُ المرتَّبِ -وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوسِ»- هو: أن يأتيَ النَّشرُ على غَيرِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ مثالُه قولُه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8] ، فهذه الجُمَلُ لفٌّ مُفَصَّلٌ، وجاء بعدَها نَشْرٌ غَيرُ مُرَتَّبٍ؛ فجُملةُ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الأُولى، ومتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّالثةِ، ومُتعلِّقةٌ بها. وجملةُ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّانيةِ، ومتعلِّقةٌ بها. يُنظر في تفصيلِ أقسامِه وأمثلةٍ على ذلك: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 330، 331)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/403- 406). ، والدَّاعي إلى عكْسِ النَّشرِ مُراعاةُ حُسنِ تَنسيقِ النَّظمِ؛ ليكونَ الانتقالُ مِن ذِكرِ الإطعامِ إلى ما يَقولونَه للمُطعَمينَ، والانتقالُ مِن ذِكرِ خَوفِ يومِ الحِسابِ إلى بِشارتِهم بوِقايةِ اللهِ إيَّاهم مِن شَرِّ ذلك اليومِ وما يَلْقَونه فيه مِن النَّضرةِ والسُّرورِ والنَّعيمِ [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/386). .
6- قولُه تعالَى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا
- قولُه: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا تَفريعٌ على قولِه: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ إلى قَمْطَرِيرًا [الإنسان: 7- 10] ، وفي هذا التَّفريعِ تَلوينٌ للحديثِ عن جَزاءِ الأبرارِ وأهلِ الشُّكورِ، وهذا بَرزخٌ للتَّخلُّصِ إلى عَودِ الكلامِ على حُسنِ جَزائِهم أنَّ اللهَ وَقاهُم شَرَّ ذلك اليومِ، وهو الشَّرُّ المُستطيرُ المذكورُ آنِفًا؛ وَقاهَم إيَّاهُ جَزاءً على خَوفِهم إيَّاهُ، وأنَّه لَقَّاهم نَضرةً وسُرورًا جَزاءً على ما فَعَلوا مِن خَيرٍ. وأُدمِجَ في ذلك قولُه: بِمَا صَبَرُوا الجامعُ لأحوالِ التَّقوى والعملِ الصَّالحِ كلِّه؛ لأنَّ جَميعَه لا يَخْلو عن تَحمُّلِ النَّفْسِ لتَرْكِ مَحبوبٍ، أو فِعلِ ما فيه كُلفةٌ، ومِن ذلك إطعامُ الطَّعامِ على حُبِّه [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/387، 388). .
- والفاءُ في فَوَقَاهُمُ عاطفةٌ لبَيانِ السَّببِ، أي: فبِسَبَبِ خَوفِهم وَقاهُم اللهُ، أي: دفَعَ عنهم شرَّ ذلك اليومِ ووَطْأتَه [145] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/317). .
- قوله: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا لعَلَّ اللهَ إنَّما خَصَّ الحريرَ؛ لأنَّه لِباسُهم الظَّاهِرُ الدَّالُّ على حالِ صاحِبِه [146] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 901). .