موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (24-36)

ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ

غريب الكلمات:

اشْرَحْ: أي: وسِّع ونوِّرْ، وأصلُ (شرح): يدلُّ على الفَتحِ والبَيانِ [227] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/269)، ((تفسير القرطبي)) (11/192). .
وَزِيرًا: أي: عَونًا، ومُؤازِرًا، ومُؤيِّدًا، وأصلُ الوِزارةِ مِن الوِزْرِ، كأنَّ الوَزيرَ يحمِلُ عَن السُّلطانِ الثِّقلَ والشُّغلَ، وأصلُ (وزر): يدلُّ على الثِّقلِ في الشَّيءِ [228] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 278)، ((تفسير ابن جرير)) (16/55)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 483)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 868)، ((تفسير ابن كثير)) (6/110). .
أَزْرِي: أي: ظَهْري، ومنه يُقالُ: آزَرْتُ فلانًا على الأمرِ، أي: قوَّيتُه عليه، وكنتُ له فيه ظَهيرًا، وأصلُ الأزْرِ: القوَّةُ والشِّدةُ [229] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 278)، ((تفسير ابن جرير)) (16/55)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/102)، ((المفردات)) للراغب (ص: 74). .
سُؤْلَكَ: أي: أُمنيتَك وطَلِبَتَك، والسُّؤْلُ: الحاجةُ التي تحرِصُ النَّفسُ عليها [230] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 278)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 277)، ((المفردات)) للراغب (ص: 437)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 519). .

المعنى الإجمالي:

يبينُ الله تعالى لموسى عليه السلامُ المقصود مِن تأييدِه بهاتين المعجزتين، فيقولُ آمرًا له: اذهبْ -يا موسَى- إلى فِرعَونَ؛ إنَّه قد تجاوَزَ قَدْرَه وتمرَّد على رَبِّه، فادْعُه إلى توحيدِ اللهِ وعبادتِه.
فسأل موسى عليه السلامُ المعونةَ مِن الله، ودعا قائلًا: ربِّ وسِّعْ لي صَدري، وسَهِّلْ لي القيامَ بشأنِ الرِّسالةِ، وأطلِقِ الانحِباسَ الشَّديدَ الذي في لساني؛ لِيُبينَ بفَصيحِ المَنطِقِ فيَفهَم النَّاسُ كلامي، واجعَلْ لي مُعينًا مِن أهلي: هارونَ أخي، قَوِّني به وشُدَّ به ظَهري، وأشرِكْه معي في النبُوَّةِ وتبليغِ الرِّسالةِ؛ كي نصلِّيَ لك، ونُنَزِّهَك بالتَّسبيحِ كَثيرًا، ونَذكُرَك كثيرًا فنَحمَدَك ونُثني عليك؛ إنَّك كنتَ بنا بَصيرًا، لا يخفَى عليك شَيءٌ مِن أفعالِنا، فأجاب الله تعالى دعاءَه وقال له: قد أعطيتُك كُلَّ ما سألتَ يا موسى.

تفسير الآيات:

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لمَّا أظهَر اللهُ تعالى لموسى -عليه السَّلامُ- الآيتينِ، فعَلِمَ بذلك أنَّه مؤيَّدٌ مِن الله تعالى؛ أمَرَه اللهُ بالأمرِ العَظيمِ الذي مِن شأنِه أنْ يُدخِلَ الرَّوعَ في نفسِ المأمورِ به، وهو مواجهةُ أعظَمِ ملوكِ الأرضِ يَومَئذٍ بالموعِظةِ، ومكاشَفتُه بفَسادِ حالِه [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (١٦/٢٠٩). .
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24).
أي: اذهبْ -يا موسى- إلى فِرعونَ مَلِكِ مِصرَ، فادعُه إلى توحيدِ الله وطاعتِه، وإرسالِ بني إسرائيلَ معك، وعَدَمِ تَعذيبِهم؛ لأنَّه تجاوَزَ حدَّه، فادَّعى الربوبيَّةَ، وتمرَّدَ على ربِّه، وعلا في الأرضِ، وأفسَد فيها [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/52)، ((تفسير ابن كثير)) (5/280، 281)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/283)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/210). .
كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 17 - 19] .
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25).
أي: قال موسى: يا ربِّ وسِّعْ لي صدري؛ لأعِيَ ما تُوحيه إليَّ، وأتجرَّأَ على مخاطبةِ فِرعَونَ، وأتحمَّلَ أذاه ووعيدَه، فلا يضيقَ صدري [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/52)، ((البسيط)) للواحدي (14/387)، ((تفسير القرطبي)) (11/192)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26).
أي: وسَهِّلْ عليَّ -يا ربِّ- القيامَ بشأنِ الرِّسالةِ، ودَعوةِ فِرعَونَ، واجعَلْ ما تُكَلِّفُني به مِن الطاعاتِ، وما يعتَريني مِن الشَّدائدِ في سبيلِك هيِّنًا عليَّ [234] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/52، 53)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/210، 211). .
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27).
أي: وأطلِق الانحِباسَ الشَّديدَ الذي في لِساني؛ كي ينطَلِقَ، ويسْهُلَ عليَّ الكلامُ [235] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/18)، ((تفسير ابن جرير)) (16/53)، ((تفسير ابن كثير)) (5/282)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/212). قال السعدي: (وكان في لسانِه ثقلٌ لا يكادُ يُفهَمُ عنه الكلامُ، كما قال المفسِّرونَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 504). قال ابنُ كثيرٍ: (ما سأل أنْ يزولَ ذلك بالكليَّة، بل بحيثُ يزولُ العِيُّ، ويحصُلُ لهم فَهمُ ما يُريدُ منه، وهو قَدرُ الحاجةِ. ولو سأل الجميعَ لزال، ولكنَّ الأنبياءَ لا يسألون إلا بحَسَبِ الحاجةِ، ولهذا بَقِيَتْ بقيَّةٌ، قال اللهُ تعالى إخبارًا عن فِرعَونَ أنَّه قال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف: 52] أي: يُفصِحُ بالكلام. وقال الحسنُ البصري: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي قال: حلَّ عقدةً واحدةً، ولو سأل أكثَرَ مِن ذلك أُعطي). ((تفسير ابن كثير)) (5/282). .
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28).
أي: فيفهَمَ النَّاسُ قولي حينَ أُخاطِبُهم [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/54)، ((تفسير القرطبي)) (11/193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29).
أي: واجعَلْ لي مُعينًا مِن أهلِ بيتي أعتَمِدُ عليه، فيَحمِلُ عني بعضَ ثِقَلِ أمرِ الدَّعوةِ والرِّسالةِ، ويساعِدُني على ما كلَّفتَني به [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/54)، ((البسيط)) للواحدي (14/389)، ((الهداية)) لمكي (7/4632)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
هَارُونَ أَخِي (30).
أي: اجعَلْ هارونَ أخي وزيري [238] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/178)، ((تفسير ابن جرير)) (16/55)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/356)، ((البسيط)) للواحدي (14/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ موسى: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص: 34] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا [الفرقان: 35] .
وقال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53] .
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ أَشْدُدْ بهمزةٍ مفتوحةٍ مقطوعةٍ، وَأُشْرِكْهُ بضَمِّ الهمزةِ: على وجهِ الإخبارِ، فأخبَرَ موسى عليه السلامُ بذلك عن نفسِه، فالمعنى: إن فعلتَ ذلك أَشدُدْ به أزري، وأُشرِكْه في أمري [239] قرأ بها ابنُ عامرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/320)، ((البدور الزاهرة)) لعبد الفتاح القاضي (ص: 202). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 241)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/144)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 452). .
2- قراءةُ اشْدُدْ بوَصلِ الألفِ، وَأَشْرِكْهُ بفتحِ الهمزةِ، أتَى بالكـلامِ على طريقِ الدُّعاءِ، أي: اللهُمَّ اشدُدْ به أزري، وأَشرِكْه في أمري [240] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/320)، ((البدور الزاهرة)) لعبد الفتاح القاضي (ص: 202). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 241)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/144)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 452). .
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31).
أي: قَوِّ بهارونَ ظَهري، وأعِنِّي به [241] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/55)، ((البسيط)) للواحدي (14/390)، ((تفسير القرطبي)) (11/193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/213). .
كما قال تعالى: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: 35] .
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32).
أي: واجمَعْ بيني وبينه في النبُوَّةِ، وتبليغِ الرِّسالةِ، فاجعَلْه نبيًّا مِثلَ ما جعلْتَني نبيًّا، وأرسِلْه معي إلى فِرعَونَ [242] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/56)، ((البسيط)) للواحدي (14/391)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33).
أي: اجعَلْ هارونَ أخي عضُدًا لي؛ مِن أجلِ أنْ نتعاوَنَ معًا على عبادتِك، فنصلِّيَ لك، ونعظِّمَك بالتَّسبيحِ لك كثيرًا، تنزيهًا عمَّا لا يليقُ بك [243] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/56)، ((تفسير القرطبي)) (11/194)، ((تفسير النسفي)) (2/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). قال القرطبي: (قيل: معنى نُسَبِّحَكَ: نصلِّيَ لك. ويحتمَلُ أنْ يكونَ التَّسبيحُ باللِّسانِ، أي: ننزِّهَك عما لا يليقُ بجلالك). ((تفسير القرطبي)) (11/194). وممن اختار أنَّ المرادَ بالتسبيحِ: الصلاةُ: مقاتلُ بنُ سليمان، والسمرقندي، والثعلبي، والسمعاني، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/26)، ((تفسير السمرقندي)) (2/394)، ((تفسير الثعلبي)) (6/243)، ((تفسير السمعاني)) (3/328)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/157). وممن اختار أنَّ المرادَ بالتسبيحِ: التَّسبيحُ باللِّسانِ: أبو حيان، والنيسابوري، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/329)، ((تفسير النيسابوري)) (4/539)، ((تفسير أبي السعود)) (6/13)، ((تفسير الشوكاني)) (3/429)، ((تفسير القاسمي)) (7/124). وممن جمَع بينَ المعنيينِ السابقينِ: النَّسَفي. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/363). وذهَب البقاعيُّ إلى ما هو أعمُّ مِن ذلك، فقال: (كَيْ نُسَبِّحَكَ أي: بالقولِ، والفعلِ؛ بالصلاةِ وغيرِها). ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/285). .
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34).
أي: ونذكُرَك ذِكرًا كثيرًا فنُثنيَ عليك ونحمَدَك على نِعَمِك، ونَصِفَك بما يليقُ بك من صِفاتِ كمالِك [244] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/56)، ((البسيط)) للواحدي (14/392)، ((تفسير البغوي)) (3/261)، ((تفسير العليمي)) (4/292). .
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35).
أي: إنَّك كنتَ بنا مُبصِرًا، لا يخفَى عليك شَيءٌ مِن أمْرِنا [245] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/56). قال ابنُ كثيرٍ: (قولُه: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا أي: في اصطفائِك لنا، وإعطائِك إيَّانا النبوةَ، وبعثتِك لنا إلى عدوِّك فرعونَ، فلك الحمدُ على ذلك). ((تفسير ابن كثير)) (5/283). وقال السعدي: (إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا تعلمُ حالَنا، وضعَفنا، وعجزَنا، وافتقارَنا إليك في كلِّ الأمورِ، وأنت أبصرُ بنا مِن أنفسِنا وأرحمُ، فمُنَّ علينا بما سألناك، وأجِبْ لنا فيما دعوناك). ((تفسير السعدي)) (ص: 504). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (16/214). .
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36).
أي: قال الله: قد أُعطيتَ كلَّ ما طَلَبْتَه -يا موسى- مِن شَرحِ صَدرِك، وتيسيرِ أمرِك، وحَلِّ عُقدةٍ مِن لسانِك، وجَعْلِ أخيك هارونَ وزيرًا لك، وإشراكِه في الرِّسالةِ معك [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/56)، ((تفسير ابن عطية)) (4/43)، ((تفسير القرطبي)) (11/195)، ((تفسير ابن جزي)) (2/7)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص: 33 - 35] .

الفوائد التربوية:

1- سأل موسى عليه السلامُ ربَّه المعونةَ، وتيسيرَ الأسبابِ، التي هي من تمامِ الدعوةِ، فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أي: وسِّعْه وأفسِحْه؛ لأتحمَّلَ الأذَى القوليَّ والفِعليَّ، ولا يتكَدَّرَ قلبي بذلك، ولا يضيقَ صدري؛ فإنَّ الصَّدرَ إذا ضاق لم يصلُحْ صاحِبُه لهدايةِ الخَلقِ ودَعوتِهم. وقال: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ومِن تيسيرِ الأمرِ أنْ يُيسرَ للداعي أنْ يأتيَ جميعَ الأمورِ مِن أبواِبها، ويخاطِبَ كلَّ أحدٍ بما يناسبُ له، ويدعوه بأقربِ الطرقِ الموصلةِ إلى قَبولِ قولِه [247] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٥٠٤). .
2- الاستعانةُ إذا كانت بأُولي القُربى من أهلِ النَّسَبِ أو التَّربيةِ أو الاصطناعِ القديمِ للدَّولةِ، كانت أكمَلَ؛ لِما يقعُ في ذلك من مجانسةِ خُلُقِهم لخُلُقِه، فتَتِمَّ المُشاكَلةُ في الاستعانةِ؛ قال تعالى وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [248] يُنظر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/293). .
3- قولُ الله تعالى حكايةً عن موسى: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا في ختمِ الأدعيةِ بهذه الآيةِ فيه فوائدُ:
منها: تفويضُه إلى الله تعالى بأنَّه أعلَمُ بما فيه صلاحُهم، وأنَّه ما سأل سؤالَه إلَّا بحَسَبِ ما بلَغَ إليه عِلمُه [249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/214). ، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى.
ومنها: أنَّه عرَض فقرَه واحتياجَه على علمِه سبحانَه، وأنَّه مفتقرٌ إلى التعاونِ والتعاضدِ، ولهذا سأَل ما سأَل.
ومنها: أنَّه أعلمُ بأحوالِ أخيه: هل يصلحُ لوزارتِه أم لا، وأنَّ وزارتَه هل تصيرُ سببًا لكثرةِ التسبيحِ والذكرِ.
وحينَ راعَى مِن دقائقِ الأدبِ، وأنواعِ حسنِ الطلبِ ما يجبُ رعايتُه، فلا جرمَ أجاب الله تعالى مطالبَه، وأنجحَ مآربَه، قائلًا: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [250] يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (4/539). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي هذا سؤالٌ مِن موسى عليه السَّلامُ لربِّه عزَّ وجل: أنْ يَشرَحَ له صَدْرَه فيما بعَثَه به؛ فإنَّه قد أمَرَه بأمرٍ عظيمٍ، وخَطْبٍ جسيمٍ؛ بعَثَه إلى أعظَمِ مَلِكٍ على وَجهِ الأرض إذ ذاك، وأجبَرِهم وأشَدِّهم كُفرًا، وأكثَرِهم جُنودًا، وأعمَرِهم مُلكًا، وأطغاهم وأبلَغِهم تمَرُّدًا، بلغَ مِن أمرِه أنِ ادَّعى أنَّه لا يَعرِفُ اللهَ، ولا يعلَمُ لرعاياه إلهًا غيرَه! هذا وقد مكث موسى في دارِه مُدَّةً وليدًا عندَهم في حِجرِ فِرعَونَ على فراشِه، ثمَّ قَتَل منهم نَفسًا فخافهم أنْ يقتُلوه، فهرب منهم هذه المدَّةَ بكَمالِها، ثمَّ بعد هذا بعَثَه رَبُّه عزَّ وجَلَّ إليهم نذيرًا يدعوهم إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ أنْ يَعبُدوه وَحْدَه لا شَريكَ له [251] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/282). .
2- قولُ الله تعالى حكايةً عن نبيِّه موسى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي فيه أنَّ فصاحةَ لسانِ الدَّاعيةِ إلى الدِّينِ، والواعِظِ المُنذِرِ؛ تُعينُ على تدبُّرِ ما يقولُ، وفِقهِه [252] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/353). .
3- قال الله تعالى حِكايةً عن موسى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي لَمَّا أفهَمَ سُؤالُه هذا أنَّ له فيه أغراضًا، أشار إلى أنَّها ليست مَقصودةً له لأمرٍ يَعودُ على نفسِه، بذِكرِ العلَّةِ الحَقيقيَّةِ، فقال: كَيْ نُسَبِّحَكَ... فأفصحَ عن أنَّ المرادَ بالمعاضَدةِ إنَّما هو لتمهيدِ الطَّريقِ إلى اللهِ سُبحانَه [253] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/285). .
4- قال الله تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي طلبُ موسى الوزيرَ إمَّا أنْ يكونَ لأنَّه خاف من نفسِه العَجزَ عن القيامِ بذلك الأمرِ، فطلبَ المُعينَ، أو لأنَّه رأى أنَّ للتعاونِ على الدِّينِ، والتظاهُرِ عليه مع مخالصةِ الوُدِّ، وزَوالِ التُّهمةِ؛ مَزِيَّةً عَظيمةً في أمرِ الدُّعاءِ إلى اللهِ؛ ولذلك قال عيسى بنُ مريمَ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [254] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢٢/٤٤). [آل عمران: 52] .
5- قال الله تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي سأل أنْ يكونَ مِن أهلِه؛ لأنَّه من بابِ البِرِّ، وأحَقُّ ببِرِّ الإنسانِ قَرابتُه [255] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٥٠٤). ، ولأنَّه به أوثَقُ؛ لكونِه عليه أشفَقَ [256] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/284). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى تخلُّصٌ إلى ما هو المقصودُ مِن تَمهيدِ المُقدِّماتِ السَّالفةِ، فُصِلَ عمَّا قبْلَه مِن الأوامرِ؛ إيذانًا بأصالتِه [257] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/11). .
- وخَصَّ فِرعَونَ بالذِّكرِ -مع أنَّ موسى عليه السلامُ كان مبعوثًا إلى الكُلِّ- لأنَّه ادَّعى الإلهيَّةَ وتكبَّر، وكان مَتبوعًا؛ فكان ذِكرُه أولى [258] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢٢/٢٩). .
- قولُه: إِنَّهُ طَغَى تَعليلٌ للأمْرِ أو لوُجوبِ المأمورِ به، وإنَّما صلَحَتْ للتَّعليلِ؛ لأنَّ المُرادَ ذَهابٌ خاصٌّ، وهو إبلاغُ ما أمَرَ اللهُ بإبلاغِه إليه؛ مِن تَغييرِه عمَّا هو عليه من عِبادةِ غيرِ اللهِ [259] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/11)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/210). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، وقال في (الشُّعراءِ): أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ [الشعراء: 10-11] ، وقال في (القَصصِ): إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [القصص: 32] ؛ ففي الآيةِ الأُولى ذكَرَ فِرعونَ وحْدَه؛ لأنَّ قومَه تبَعٌ له، وكأنَّهم مذكورونَ معه، وفي الآيةِ الثَّانيةِ ذكَرَ قومَ فِرعونَ من دُونِه، ومعلومٌ أنَّه منهم، ومُخاطَبٌ بمثْلِ خِطابِهم، فإذا اتَّقَوا وآمَنُوا، كان فِرعَونُ وحْدَه لا يَقدِرُ على مُخالَفَتِهم، فترَك ذِكْرَه؛ لأنَّه في هذه الحالةِ في حُكْمِ التَّابعِ لهم، وخِطابُهم خِطابُه. أمَّا الموضعِ الثَّالثُ فإنَّ الحِكايةَ أتَتْ على فِرعونَ وملَئِه، فبيَّنَت ما انطوَتْ عليه الآياتُ قبْلُ مِنْ ذكْرِ بعضٍ، والاكتفاءِ به عن بعضٍ، وهذا كما قال في موضعٍ لمُوسى وحْدَه: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [طه: 24] ، وفي موضعٍ: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الشعراء: 10] ؛ لأنَّ هارونَ تابعٌ له، وداخِلٌ في حُكْمِه، وأبانَ ذلك في موضعٍ، فقال: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] ، وقال في (طه): فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [260] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 895-896)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/314)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: ٣٦٣). [طه: 47] .
2- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ يَنساقُ إليه الذِّهْنُ؛ كأنَّه قيل: فماذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين أُمِرَ بهذا الأمْرِ الخطيرِ، والخَطْبِ العسيرِ؟ فقيل: قال مُستعِينًا بربِّه عَزَّ وجَلَّ:... [261] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/12). .
- وحُكِيَ جَوابُ مُوسى عن كلامِ الرَّبِّ بفعْلِ القولِ غيرَ معطوفٍ؛ جرْيًا على طَريقةِ المُحاوَراتِ [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/210). .
- وفائدةُ لفظةِ لِي في قولِه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي مع أنَّ الكلامَ بدُونِه مُستتِبٌّ: أنَّه قد أُبْهِمَ الكلامُ أوَّلًا، فقيل: (اشرَحْ لي ويسِّرْ لي)؛ فعُلِمَ أنَّ ثَمَّ مَشروحًا ومُيسَّرًا، ثُم بُيِّنَ ورُفِعَ الإبهامُ بذِكْرِهما؛ فكان آكَدَ لطلَبِ الشَّرحِ والتَّيسيرِ لصَدْرِه وأمْرِه من أنْ يقولَ: (اشرَحْ صَدْري، ويسِّرْ أمْري) على الإيضاحِ السَّاذجِ؛ لأنَّه تَكريرٌ للمعنى الواحدِ من طَريقيِ الإجمالِ والتَّفصيلِ [263] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/60)، ((تفسير البيضاوي)) (4/26)، ((تفسير أبي حيان)) (7/327-328)، ((تفسير أبي السعود)) (6/12). . وأيضًا زيادةُ لِي بعدَ اشْرَحْ وبعدَ (يَسِّرْ) إطنابٌ؛ لأنَّ الكلامَ مفيدٌ بدُونِه، ولكن سلَك الإطنابَ لِمَا تُفيدُه اللامُ مِن معنى العِلَّةِ، أي: اشرحْ صدري لأجْلي، ويَسِّرْ أمْري لأجلي، وهي اللامُ المُلقَّبَةُ (لامَ التَّبيينِ)، التي تُفيدُ تقويةَ البيانِ؛ فإنَّ قولَه: صَدْرِي وأَمْرِي واضحٌ أنَّ الشرحَ والتيسير متعلِّقان بِه؛ فكان قولُه: لِي فيهما زيادةَ بيانٍ، وهو هنا ضربٌ مِن الإلحاحِ [264] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/211). . أو تكونُ فائدتُها الاعترافَ بأنَّ مَنفعةَ شرْحِ الصَّدرِ، وتَيسيرِ الأمْرِ راجعةٌ إليه، وعائدةٌ عليه؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لا يَنتفِعُ بإرسالِه، ولا يَستعينُ بشرْحِ صَدْرِه، تعالى وتقدَّسَ [265] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/187). .
- وتَقديمُ هذا المجرورِ على مُتعلَّقِه في قولِه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي؛ لِيحصُلَ الإجمالُ ثُمَّ التَّفصيلُ؛ فيُفيدَ مُفادَ التَّأكيدِ من أجْلِ تَكرُّرِ الإسنادِ [266] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/211). . وأيضًا في تَقديمِ لِي وتَكريرِها: إظهارُ مَزيدِ اعتناءٍ بشأْنِ كلٍّ مِن المطلوبَيْنِ، وفضْلُ اهْتمامٍ باستدعاءِ حُصولِهما له، واختصاصِهما به [267] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/12). .
- وإضافةُ (أمْرٍ) إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ في قولِه: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي؛ لإفادةِ مَزيدِ اختصاصِه به، وهو أمْرُ الرِّسالةِ [268] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/211). .
ومن المُناسَبةِ أيضًا: أنَّ قولَه هنا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي طلَبُ أمانٍ له مِن أنْ يُقتَلَ بمَن قتَلَه، وهذا معنى قولِه: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي [الشعراء: 12-13] ؛ لأنَّهم لو صَدَّقوه لَمَا خاف أنْ يَقْتُلوه. وكذلك قولُه في السُّورةِ الثَّالثةِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص: 33] ، وقولُه: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26] ، مُشتمِلٌ على ذلك وغيرِه؛ لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ إذا يَسَّرَ له أمْرَه، لم يخَفِ القتْلَ [269] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 893-894)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) (1/315). .
3- قولُه تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي
- تَنكيرُ عُقْدَةً في قولِه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً للتَّعظيمِ، أي: عُقدةً شَديدةً. وعدَلَ عن أنْ يقولَ: (عُقدةَ لِساني) بالإضافةِ؛ ليَتأتَّى التَّنكيرُ المُشعِرُ بأنَّها عُقدةٌ شَديدةٌ [270] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/212). . أو لأنَّه طلَبَ حَلَّ بعْضِها إرادةَ أنْ يُفْهَمَ عنه فَهمًا جيِّدًا، ولم يطلُبِ الفصاحةَ الكاملةَ؛ كأنَّه قيل: عُقدةً من عُقَدِ لِساني [271] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/61)، ((تفسير البيضاوي)) (4/26)، ((تفسير أبي حيان)) (7/328)، ((تفسير أبي السعود)) (6/12)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/187). .
- في قولِه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي شَبَّه حُبْسَةَ اللِّسانِ بالعُقْدةِ في الحبْلِ أو الخيطِ ونحْوِهما؛ لأنَّها تمنَعُ سُرعةَ استعمالِه [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/211). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي، فهو معنى قولِه: وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء: 13] ، وكذلك في سُورةِ (القَصصِ): وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص: 34] ، فطلَبَ أنْ يَحُلَّ عُقدةً مِن عُقَدِ لِسانِه، وأنْ يُؤيَّدَ بأخيه، فأُجِيبَ إليهما. وسائرُ ما ذُكِرَ في سُورةٍ ولم يُذْكَرْ في أُخرى ليس من الاختلافِ الَّذي يُعابُ [273] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 894-895). .
وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّه صَرَّحَ بالعُقْدةِ هنا؛ لأنَّها السَّابقةُ، وفي (الشُّعراءِ): وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي [الشعراء: 13] ، فكَنَّى عن العُقدةِ بما يقرُبُ من الصَّريحِ، وفي (القَصصِ) قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا [القصص: 34] ، فكنَّى عن العُقدةِ كِنايةً مُبْهَمَةً؛ لأنَّ الأوَّلَ يدُلُّ على ذلك [274] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/315)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 363-364). .
4- قولُه تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي خَصَّ هارونَ عليه السَّلامُ؛ لفرْطِ ثِقَتِه به، ولأنَّه كان فَصِيحَ اللِّسانِ مِقْوالًا؛ فكونُه من أهْلِه مَظِنَّةَ النُّصحِ له، وكونُه أخاهُ أقْوى في المُناصَحةِ، وكونُه الأخَ الخاصَّ؛ لأنَّه معلومٌ عنده بأصالةِ الرَّأيِ [275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/212). .
- وقَدَّمَ وَزِيرًا على هَارُونَ؛ اعتناءً بشأْنِ الوِزارةِ [276] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/61)، ((تفسير البيضاوي)) (4/26)، ((تفسير أبي حيان)) (7/328)، ((تفسير أبي السعود)) (6/13)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/213). ، وبيانًا لاهتمامِه بالإعانةِ، كما يقتضيه الحالُ [277] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (١٢/٢٨٤). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه: 29، 30]، فصَرَّحَ بالوزيرِ؛ لأنَّه الأوَّلُ في الذِّكرِ، وكَنَّى عنه في (الشُّعراءِ)، حيث قال: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء: 13] ، أي: ليكونَ لي وزيرًا، وفي (القصصِ): فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا [القصص: 34] ، أي: اجعَلْه لي وزيرًا، فكنَّى عنه بقولِه: رِدْءًا؛ لبَيانِ الأوَّلِ [278] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 176)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/315). .
5- قولُه تعالى: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كلاهما على صِيغَةِ الدُّعاءِ، وفُصِلَ الأوَّلُ عن الدُّعاءِ السَّابقِ -أي: لم يُعْطَفْ عليه-؛ لكَمالِ الاتِّصالِ بينهما؛ فإنَّ شَدَّ الأزْرِ عبارةٌ عن جَعْلِه وزيرًا، وأمَّا الإشراكُ في الأمْرِ فحيث كان من أحكامِ الوزارةِ توسَّطَ بينهما العاطِفُ [279] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/13). .
- قولُه: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي المرادُ بالأزرِ الظَّهرُ؛ ليُناسِبَ الشدَّ؛ فيَكونَ الكلامُ تَمثيلًا لهَيئةِ المُعينِ والمُعانِ بهَيئةِ مَشدودِ الظَّهرِ بحزامٍ ونحْوِه وشادِّه [280] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/213). .
6- قولُه تعالى: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا قَدَّمَ التَّسبيحَ؛ لأنَّه تَنزيهُه تعالى في ذاتِه وصفاتِه، وبَراءتُه عن النَّقائصِ، ومَحلُّ ذلك القلْبُ، والذِّكْرُ والثَّناءُ على اللهِ بصفاتِ الكَمالِ، ومَحلُّه اللِّسانُ؛ فلذلك قَدَّمَ ما مَحلُّه القلْبُ على ما مَحلُّه اللِّسانُ [281] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/329). ، أو لأنَّ التسبيحَ لما كان ذكرًا خاصًّا؛ لكونِه بالتنزيهِ الذي أعلاه التوحيدُ؛ أتبعَه العامَّ فقال: وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [282] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (١٢/٢٨5). ، وهذان الوجهانِ بناءً على تفسيرِ التسبيحِ بالتنزيهِ.
7- قولُه تعالى: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا تَعليلٌ لسُؤالِه شرْحَ صدْرِه وما بعْدَه [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/214). .
8- قولُه تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى
- في تَكرارِ النِّداءِ يَا مُوسَى: تَشريفٌ له عليه السَّلامُ بشرَفِ الخِطابِ إثْرَ تَشريفِه بشرَفِ قَبولِ الدُّعاءِ [284] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/14). .