موسوعة التفسير

سورةُ مَريمَ
الآيات (51-58)

ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غريب الكلمات:

نَجِيًّا: أي: مُناجِيًا، وأصلُه هنا: يدلُّ على سَتْرٍ وإخْفاءٍ [542] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/559)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/397)، ((المفردات)) للراغب (ص: 792)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 224)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مادحًا نبيَّه موسى عليه السلامُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- في القُرآنِ لقومِك قِصَّةَ مُوسى عليه السَّلامُ، إنَّه كان مُصطفًى مُختارًا، وكان رسولًا نبيًّا، ونادَينا موسى مِن ناحيةِ جَبَلِ طُورِ سَيْناءَ الواقِعِ على يمينِ موسى، وقرَّبناه فشرَّفناه بمُناجاتِنا له بلا واسِطةٍ، ووهَبْنا لِموسى من رحمتِنا أخاه هارونَ نبيًّا يُعينُه ويُؤازِرُه.
ثمَّ يذكرُ سبحانَه جانبًا مِن فضائلِ إسماعيلَ عليه السلامُ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- في هذا القرآنِ لقومِك خبَرَ إسماعيلَ عليه السَّلامُ، إنَّه كان صادقًا في وَعدِه، وكان رسولًا نبيًّا، وكان يأمُرُ أهلَه بإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، وكان محمودًا عندَ اللهِ في أعمالِه.
ثمَّ يخبرُ تعالى عن نبيِّه إدريسَ عليه السلامُ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- في هذا القرآنِ لقومِك خبَرَ إدريسَ عليه السَّلامُ، إنَّه كان كثيرَ الصِّدقِ في قَولِه وعَمَلِه، ومُصَدِّقًا تصديقًا تامًّا بما أتاه من الحَقِّ، ونبيًّا يُوحى إليه، ورفَعْناه إلى السَّماءِ الرَّابعةِ.
ثم يقولُ تعالى: هؤلاء الذين قَصَصتُ عليك خبَرَهم من الأنبياءِ هم الذين أنعَمَ اللهُ عليهم بالنبُوَّةِ والعِلمِ النَّافِعِ، مِن ذُريَّةِ آدمَ، ومِن ذُريةِ مَن حمَلْنا مع نوحٍ في السَّفينةِ، ومِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ، ومِن ذُرِّيَّة يعقوبَ، وممَّن هَدَينا للإيمانِ والعملِ الصالحِ، واصطَفَينا للرِّسالةِ والنبُوَّةِ، إذا تُتلى عليهم آياتُ الرَّحمنِ، خرُّوا ساجِدينَ لله، باكينَ مِن خَشيتِه سُبحانه وتعالى.

تفسير الآيات:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه أفضَتْ مُناسَبةُ ذِكرِ إبراهيمَ ويَعقوبَ -عليهما السَّلامُ- إلى أن يُذكَرَ موسى عليه السلامُ في هذا الموضع؛ لأنَّه أشرَفُ نبيٍّ مِن ذُرِّيةِ إسحاقَ ويعقوبَ، عليهما السَّلامُ [543] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (١٦/١٢٦). .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى
أي: واتْلُ -يا محمَّدُ- في القُرآنِ على قَومِك خبَرَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/558)، ((تفسير القرطبي)) (11/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495). .
إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ مُخْلَصًا بفتحِ اللَّامِ، أي: إنَّ موسى أخلصَه اللهُ، واختاره لرسالتِه، وجعَلَه نبيًّا مُرسَلًا، خالِصًا مِن الدَّنَسِ [545] قرأ بها عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائي، وخَلَف. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/295). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (15/558)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 444). .
2- قراءةُ مُخْلِصًا بكسرِ اللَّامِ، أي: إنَّ موسى كان يُخلِصُ لله في عبادتِه، ولا يُرائي بأعمالِه أحدًا [546] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/295). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (15/558)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 445)، ((تفسير القرطبي)) (11/114). .
إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا.
أي: إنَّ موسَى كان الله تعالى قد اختاره لرسالتِه وتَكليمِه وعبادتِه، وجعَله خالصًا مِن الدَّنَسِ؛ وذلك لإخلاصِه لله في عبادتِه [547] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/558)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/333)، ((البسيط)) للواحدي (14/262)، ((تفسير ابن عطية)) (4/20)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495). قال ابنُ جرير: (الصَّوابُ من القول في ذلك عندي: أنَّه كان صلَّى الله عليه وسلم مُخلِصًا عبادةَ الله، مُخلَصًا للرِّسالةِ والنبوَّة). ((تفسير ابن جرير)) (15/558). وقال السعدي: (المعنيان متلازِمان؛ فإنَّ اللهَ أخلصه لإخلاصِه، وإخلاصُه موجِبٌ لاستخلاصِه، وأجَلُّ حالةٍ يُوصَفُ بها العبد: الإخلاصُ منه، والاستخلاصُ مِن رَبِّه). ((تفسير السعدي)) (ص: 495). وقال الرسعني: (مَن فتَح فعلى معنَى: أنَّه كان ممن أخلَصه الله مِن الدَّنَسِ. ويجوزُ عندي أن يكونَ المعنى: أنَّه كان ممن أخلَصه الله واصطفاه للقيامِ بأثقالِ النبوةِ، والنهوضِ بأعبائِها. وكأنَّ الأوَّلَ أظهرُ؛ لأنَّ المعنى حاصلٌ بقولِه: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا). ((تفسير الرسعني)) (4/427). .
كما قال تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [الأعراف: 144] .
وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا.
أي: وكان موسى رسولًا إلى بني إسرائيلَ والقِبطِ، ونبيًّا رفيعَ القَدرِ يُوحي اللهُ إليه [548] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/558)، ((تفسير ابن جزي)) (1/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495). قال ابن تيمية: (النبيُّ هو الذي ينبِّئُه الله، وهو ينبِّئُ بما أنبأ اللهُ به؛ فإنْ أُرسِلَ مع ذلك إلى مَن خالف أمرَ اللهِ؛ لِيُبلِّغَه رسالةً مِن الله إليه؛ فهو رَسولٌ، وأمَّا إذا كان إنما يعمَلُ بالشريعةِ قَبلَه، ولم يُرسَلْ هو إلى أحدٍ يُبلِّغُه عن اللهِ رسالةً؛ فهو نبيٌّ، وليس برسولٍ). ((النبوات)) (2/714-715). وقال السعدي: (فالرسالةُ تقتضي تبليغَ كلامِ المرسِلِ، وتبليغَ جميعِ ما جاء به مِن الشرعِ، دِقِّه وجِلِّه. والنبوةُ تقتضي إيحاءَ الله إليه، وتخصيصَه بإنزالِ الوحيِ إليه، فالنبوَّةُ بينه وبينَ رَبِّه، والرِّسالةُ بينه وبين الخَلقِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 495). .
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52).
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ.
أي: وكلَّمْنا موسَى بصَوتٍ يَسمَعُه مِن ناحيةِ جَبَلِ طُورِ سَيناءَ الواقِعِ على يمينِ موسى، حينَ أقبَلَ مِن مَدينَ مُتوجِّهًا إلى مِصرَ [549] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/558)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 683)، ((تفسير القرطبي)) (11/114)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/463)، ((تفسير ابن كثير)) (5/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/432). .
كما قال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه: 11- 16] .
وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا.
أي: وأدنَيْنا موسى، فسَمِع كلامَ اللهِ، وخاطَبه عن قُربٍ، بلا واسِطةٍ [550] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/229)، ((تفسير البغوي)) (3/237)، ((تفسير ابن عطية)) (4/20)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/79)، ((تفسير ابن كثير)) (5/237)، ((تفسير القاسمي)) (7/103). .
كما قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] .
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53).
أي: وآتَينا موسى مِن رَحمتِنا له [551] و(من) في قولِه: مِنْ رَحْمَتِنَا سببيَّةٌ، وأَخَاهُ مَفعولُ قولِه: وَوَهَبْنَا. وقيل: إنَّ (من) هنا للتبعيضِ، وأَخَاهُ بدلٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/482)، ((تفسير أبي حيان)) (7/275). إجابةَ سُؤالِه، فجعَلْنا أخاه هارونَ نبيًّا مِثلَه؛ لِيُعينَه [552] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/561)، ((تفسير ابن جزي)) (1/482)، ((تفسير ابن كثير)) (5/238)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/212). .
كما قال تعالى حكايةً عنه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 29 - 36] .
وقال سُبحانه حكايةً عنه: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص: 34- 35] .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان إسماعيلُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- هو الذي ساعد إبراهيمَ عليه السَّلامُ في بناءِ البَيتِ الذي كان مِن الأفعالِ التي أبقَى اللهُ بها ذِكْرَه، وشَهَر أمْرَه، وكان مُوافِقًا لِموسى عليه السَّلامُ في ظُهورِ آيةِ الماءِ الذي به حياةُ كُلِّ شَيءٍ، وإن كانت آيةُ موسى عليه السَّلامُ انقَضَت بانقضائِه، وآيتُه هو باقيةً إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها- عَقَّب ذِكْرَه بذلك [553] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (١٢/٢١2). .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ.
أي: واتْلُ -يا مُحمَّدُ- في القرآنِ على قَومِك خبَرَ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلام [554] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/561)، ((تفسير ابن كثير)) (5/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 496). .
إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ.
أي: إنَّ إسماعيلَ كان صادِقًا في وعودِه لرَبِّه وللنَّاسِ، يَفي بوَعدِه، ولا يُخلِفُه [555] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/561)، ((تفسير القرطبي)) (11/115)، ((تفسير ابن كثير)) (5/238، 239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 496). قال الشنقيطي: (ممَّا يُبَيِّنُ من القرآنِ شِدَّةَ صِدقِه في وعدِه: أنَّه وعَدَ أباه بصبرِه له على ذبحِه، ثمَّ وفى بهذا الوعدِ، ومن وفى بوَعدِه في تسليمِ نفسِه للذبحِ، فإنَّ ذلك من أعظمِ الأدلَّةِ على عظيمِ صِدقِه في وعدِه، قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] ، فهذا وعدُه، وقد بيَّن تعالى وفاءَه به في قَولِه: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] ). ((أضواء البيان)) (3/437). .
وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا.
أي: وكان رَسولًا [556] قال القرطبي: (وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا قيل: أُرسِلَ إسماعيلُ إلى جُرْهُم). ((تفسير القرطبي)) (11/116). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/129). ونبيًّا، رفيعَ القَدرِ يُوحي اللهُ إليه [557] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/377)، ((البسيط)) للواحدي (14/266)، ((تفسير ابن عطية)) (4/20)، ((تفسير النسفي)) (2/341)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/214). .
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55).
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.
أي: وكان يأمُرُ أهلَه بإقامةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ [558] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/562)، ((تفسير ابن كثير)) (5/240)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/214)، ((تفسير السعدي)) (ص: 496). .
وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا.
أي: وكان محمودًا عندَ اللهِ في أعمالِه، ارتضاه اللهُ، وجعَلَه من الخواصِّ المقَرَّبينَ؛ لاجتهادِه فيما يُرضيه، فرضِي ربُّه عنه، ورضِيَ هو عن رَبِّه [559] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/562)، ((تفسير القرطبي)) (11/116)، ((تفسير السعدي)) (ص: 496). .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56).
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ.
أي: واتلُ -يا محمَّدُ- في القُرآنِ على قَومِك خبَرَ إدريسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [560] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/562)، ((الهداية)) لمكي (7/4555)، ((تفسير السعدي)) (ص: 496). .
إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا.
أي: إنَّ إدريسَ كان كثيرَ الصِّدقِ في أفعالِه وأقوالِه، صادِقًا فيما يخبِرُ به عن اللهِ، ومُصَدِّقًا تصديقًا تامًّا بما أتاه من الحَقِّ، ونبيًّا رفيعَ القَدرِ يُوحي اللهُ إليه [561] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/562)، ((تفسير السمرقندي)) (2/378)، ((تفسير القشيري)) (2/434)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 496). .
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57).
أي: ورفَعْنا إدريسَ إلى مكانٍ ذي علوٍّ وارتفاعٍ؛ إلى السَّماءِ الرَّابعةِ [562] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/631)، ((تفسير ابن جرير)) (15/562)، ((تفسير الرازي)) (21/550)، ((تفسير القرطبي)) (11/117، 118)، ((تفسير ابن جزي)) (1/482)، ((تفسير ابن كثير)) (5/240). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: رفعُه إلى السماءِ الرابعةِ: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جريرٍ، والرازي، والقرطبي، وابنُ جُزي، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ كثيرٍ. يُنظر: المصادر السابقة. وقال الرازي: (فيه قولان: أحدهما: أنَّه مِن رِفعةِ المنزلةِ، كقَولِه تعالى لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] ... الثاني: أنَّ المرادَ به الرِّفعةُ في المكانِ إلى موضعٍ عالٍ، وهذا أَولى؛ لأنَّ الرِّفعةَ المقرونةَ بالمكانِ تكونُ رِفعةً في المكانِ لا في الدَّرَجةِ). ((تفسير الرازي)) (21/550). وممن قال بأنَّ المعنى: رفَعَ الله منزلتَه، وشرَّفَه بالنبوَّةِ والزلفَى عندَ الله: الزمخشري، والألوسي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/24)، ((تفسير الألوسي)) (8/423)، ((تفسير السعدي)) (ص: 496). قال السعدي: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا أي: رفَعَ اللهُ ذِكْرَه في العالَمينَ، ومَنزِلتَه بين المقَرَّبينَ، فكان عاليَ الذِّكرِ، عاليَ المنزلةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 496). .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: ((... ثمَّ عُرِج بنا إلى السَّماءِ الرَّابعةِ، فاستفْتَح جبريلُ عليه السَّلامُ، قِيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: محمَّدٌ، قال: وقد بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه، فَفُتِح لنا فإذا أنا بإدريسَ، فرَحَّب ودعا لي بخيرٍ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم: 57] )) [563] أخرجه مسلم (162). وأخرجه البخاري (3207)، ومسلم (164) مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ، عن مالكِ بنِ صَعْصَعة بنحوِه دونَ ذكرِ الآيةِ. .
وعن قتادةَ في قَولِه تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا قال: حدَّثَنا أنسُ بنُ مالكٍ أنَّ نبيَّ اللهَ صلَّى اللهُ عليه وسلم قال: ((لَمَّا عُرِجَ بي رأيتُ إدريسَ في السَّماءِ الرَّابعةِ)) [564] أخرجه الترمذي (3157) واللفظ له، وأحمد (13739). حسَّنه الترمذي، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3157). .
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا انقضى كَشفُ هذه الأخبارِ العَليَّةِ المِقدارِ، الجليلةِ الأسرارِ؛ شرَعَ سُبحانَه وتعالى ينسُبُ أهلَها بأشرَفِ نَسَبِهم، ويذكُرُ المِنَنَ بينهم، فقال عزَّ مِن قائلٍ [565] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (٢/٤٣٤). :
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ.
أي: أولئك الأنبياءُ المذكورونَ في هذه السورةِ هم الذين أنعَمَ اللهُ عليهم بالهدايةِ والنُّبـُوَّةِ، والعِلمِ النَّافِعِ، والعَمَلِ الصَّالحِ؛ مِنَ النبيِّينَ مِن ذُرِّيةِ آدَمَ، وهو إدريسُ عليه السلامُ [566] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/565)، ((تفسير القرطبي)) (11/120)، ((تفسير البيضاوي)) (4/14)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/231)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/442). قال البيضاوي: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأنواعِ النِّعمِ الدينيةِ والدنيويةِ). ((تفسير البيضاوي)) (4/14). وعلى القولِ بأنَّ المرادَ بقولِه تعالى: أُولَئِكَ الأنبياءُ المذكورون في السورةِ، فالمرادُ بقولِه: مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ: إدريسُ عليه السلامُ وحدَه. وممن اختار ذلك: ابنُ جرير، ومكي، والسمعاني، وابنُ الجوزي، والرازي، والقرطبي، وابنُ تيمية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/565)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (7/4558)، ((تفسير السمعاني)) (3/301)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/137)، ((تفسير الرازي)) (21/550)، ((تفسير القرطبي)) (11/120)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/231). قال الرازي: (والَّذي يختصُّ بأنَّه مِن ذُرِّيَّةِ آدمَ دونَ مَن حُمِل معَ نوحٍ هو إدريسُ عليه السَّلامُ؛ فقد كان سابقًا على نُوحٍ على ما ثَبَت في الأخبارِ). ((تفسير الرازي)) (21/550). وقال ابن كثير: (هذا هو الأظهرُ أنَّ إدريسَ في عمودِ نَسبِ نوحٍ، عليهما السَّلامُ. وقد قيلَ: إنَّه مِن أنبياءِ بني إسرائيلَ، أخذًا مِنْ حديثِ الإسراءِ، حيثُ قال في سلامِه على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: «مرحبًا بالنَّبيِّ الصَّالحِ، والأخِ الصَّالحِ»، ولم يَقلْ: «والولدِ الصَّالحِ»، كما قال آدمُ وإبراهيمُ، عليهما السَّلامُ). ((تفسير ابن كثير)) (5/242). وقيل: المرادُ: إدريسُ ونوحٌ عليهما السلامُ. وممن اختار ذلك: ابنُ عطية، والرسعني، والخازن، والعُليمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/21)، ((تفسير الرسعني)) (4/433)، ((تفسير الخازن)) (3/191)، ((تفسير العُليمي)) (4/261). قال الرسعني: (مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ... يريدُ به: إدريسَ ونوحًا؛ لقربِهما مِن آدمَ عليه السلامُ). ((تفسير الرسعني)) (4/433). وذهَب ابنُ كثيرٍ إلى أنَّ الإشارةَ في هذه الآيةِ ليست للأنبياءِ المذكورينَ في هذه السورةِ فقط، بل الإشارةُ إلى جنسِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/241). .
وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ.
أي: ومِن ذُرِّيَّةِ مَن حَملْنا معَ نوحٍ في السَّفينةِ، وهو إبراهيمُ عليه السلامُ [567] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/565)، ((تفسير ابن عطية)) (4/21)، ((تفسير القرطبي)) (11/120)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/231). قال ابن الجوزي: (وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ يعني: إبراهيمَ؛ لأنَّه مِن ولدِ سامِ بنِ نوحٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/137). ويُنظر: ((تفسير العُليمي)) (4/261). .
وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ.
أي: ومِن ذُرِّيةِ إبراهيمَ، وهم: إسماعيلُ، وإسحاقُ، ويعقوبُ عليهم السلامُ، ومِن ذُرِّيةِ إسرائيلَ -أي: يعقوبَ عليه السلامُ-، وهم موسَى، وهارونُ، وزكريَّا، ويحيى، وعيسَى بنُ مريمَ- عليهم السلامُ [568] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/565، 566)، ((تفسير ابن عطية)) (4/21)، ((تفسير القرطبي)) (11/120)، ((تفسير البيضاوي)) (4/14). ومِن المفسِّرينَ مَن زاد مريمَ عليها السلامُ. ومنهم: ابنُ جرير، ومكي، وابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/565)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (7/4558)، ((تفسير ابن عطية)) (4/21). قال السمعاني: (وقولُه تعالَى: وَإِسْرَائِيلَ، أي: مِن ذُرِّيَّةِ إسرائيلَ، والمرادُ منه: موسَى، وداوُدُ، وسليمانُ، ويوسفُ، وعيسَى، وكلُّ أنبياءِ بني إسرائيلَ). ((تفسير السمعاني)) (3/301). .
وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا.
أي: وممَّن هدينا للإيمانِ، والعمَلِ الصَّالحِ، وممَّن اختَرْناهم للنُّبوَّةِ [569] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/565)، ((الوسيط)) للواحدي (3/187)، ((تفسير ابن عطية)) (4/22)، ((تفسير القرطبي)) (11/120)، ((تفسير البيضاوي)) (4/14). قال الرازي: (فرَتَّب اللَّهُ سبحانَه وتعالَى أحوالَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ الَّذينَ ذكرَهم على هذا التَّرتيبِ؛ مُنَبِّهًا بذلك على أنَّهم كما فُضِّلوا بأعمالِهم فلهم مزيدٌ في الفضلِ بوِلادَتِهم مِن هؤلاءِ الأنبياءِ). ((تفسير الرازي)) (21/550). .
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا.
أي: إذا تُتلى على أولئك القومِ -الذين هَدَينا مِن النبيِّينَ- آياتُ الرَّحمنِ التي أنزلها عليهم في كُتُبِه؛ بادروا إلى السُّجودِ لله باكينَ مِن خَشيتِه تعالى [570] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/566)، ((تفسير ابن عطية)) (4/22)، ((تفسير القرطبي)) (11/120)، ((تفسير ابن كثير)) (5/242)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/222)، ((تفسير السعدي)) (ص: 496). قال البيضاوي: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا خبَرٌ لـ أُولَئِكَ إنْ جَعَلْتَ الموصولَ صِفَتَه، واستئنافٌ إن جعَلْتَه خبَرَه؛ لبيانِ خَشيتِهم مِن اللهِ وإخباتِهم له، مع ما لهم مِن علوِّ الطبقةِ في شَرَفِ النَّسَبِ، وكمالِ النَّفسِ، والزُّلفَى مِن الله تعالى). ((تفسير البيضاوي)) (4/14). وقال ابنُ كثير: (أجمع العُلَماءُ على شرعيَّةِ السجودِ هاهنا؛ اقتداءً بهم، واتِّباعًا لمِنوالِهم). ((تفسير ابن كثير)) (5/242). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/133-134). .

الفوائد التربوية:

1- قول الله تعالى: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا فيه أنَّ حَقَّ الصَّالحِ ألَّا يألوَ نُصحًا للأجانبِ، فضلًا عن الأقاربِ والمتَّصِلينَ، وأن يُحظِيَهم بالفوائِدِ الدِّينيةِ، ولا يفرِّطَ في شَيءٍ مِن ذلك [571] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/23). .
2- قال الله تعالى: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ذكَرَ اللهُ تعالى عن إسماعيلَ عليه السَّلامُ أنَّه كان يأمُرُ أهلَه بالصَّلاةِ والزكاة، وكان عندَ ربِّه مَرضيًّا؛ فالإنسانُ مَسؤولٌ عن أهلِه، مسؤولٌ عن تربيتِهم، حتى ولو كانوا صِغارًا إذا كانوا مميِّزينَ، أمَّا غيرُ الممَيِّزِ فإنَّه يُؤمَرُ بما يتحمَّلُه عَقلُه [572] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/168). .
3- عن الحَسَنِ قال: (من كان له واعِظٌ مِن نَفسِه، كان له مِنَ اللهِ حافِظٌ، فرَحِمَ اللهُ مَن وعَظَ نَفسَه وأهلَه، فقال: يا أهلي، صلاتَكم صلاتَكم، زكاتَكم زكاتَكم، جيرانَكم جيرانَكم، مساكينَكم مساكينَكم؛ لعلَّ الله أن يرحَمَكم يومَ القيامةِ؛ فإنَّ الله عزَّ وجَلَّ أثنى على عبدٍ كان هذا عَمَلَه، فقال: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [573] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((النفقة على العيال)) (333) (1/506). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- وصفَ اللهُ تعالى نفسَه بالمناداةِ والمُناجاةِ، في قولِه: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، وقَولِه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ [القصص: 62] ، وقَولِه: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا [الأعراف: 22] ، ووصفَ عبدَه بالمناداةِ والمناجاةِ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] ، وقال: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة: 12] ، وقال: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المجادلة: 9] ، وليست المناداةُ كالمناداةِ، ولا المناجاةُ كالمناجاةِ [574] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 27). .
2- قال الله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ذَكَر مناداتَه لموسى عليه السَّلامُ ومناجاتَه إيَّاه في مواضِعَ مِن القرآنِ، ولم يَذكُرْ أنَّه فعَل ذلك بغيرِه مِن الأنبياءِ، وهذا ممَّا أجمع عليه المُسلِمونَ وأهلُ الكتابِ: أنَّ تكليمَ اللهِ تعالى لموسى من خصائِصِه التي فضَّله بها على غَيرِه من الأنبياءِ والرُّسُلِ [575] يُنظر: ((بغية المرتاد)) لابن تيمية (ص: 382). وقد كلَّم الله تعالى نبيَّنا محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم ليلةَ الإسراءِ. يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (9/354، 355). .
3- في قَولِه تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ حُجَّةٌ على مَن يقولُ بخَلْقِ القُرآنِ؛ إذْ لا يمكنُه أنْ يقولَ في المناداةِ ما يتأوَّلُه في الكلامِ -وإنْ كان ما يتأوَّلُه فيه خطأً- وقولُه: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا أَكَّدَه بلا إشكالٍ؛ لأنَّ النَّجِيَّ لا يكونُ إلَّا مَن يُكَلَّمُ ويُحاوَرُ [576] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/253). .
4- في قَولِه تعالى: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا حُجَّةٌ على مَن يُنْكِرُ أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه بنَفسِه على العَرشِ، وأنَّ عِلْمَه في الأرضِ؛ إذ لو كان بنَفسِه في كلِّ مَوضعٍ -كما يزعُمونَ- ما كان لقَولِه: وَقَرَّبْنَاهُ مَعنًى، ولَمَا كان لموسى فضيلةٌ على غَيرِه؛ إذِ المعنى الذي يَذهَبُ إليه يستوي جميعُ النَّاسِ فيه -كافِرُهم ومُؤمِنُهم- وليس لِمَا يتأوَّلُه مِن أنَّ القُرْبَ قُربُ الطَّاعةِ -لَمَّا قَرَّبَه بالمناجاة- خَصيصةٌ؛ ولذا رُوِيَ في الخبر: (أنَّه قَرَّبَه حتى سَمِعَ صريفَ القَلَمِ) [577] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/254). والخبر أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (15/559) من قول ابن عباس رضي الله عنهما. ويُنظر ما أخرجه البخاري (349) من حديث أبي ذر، رضي الله عنه، ومسلمٌ (163) من حديث عبدالله بن عباس، وأبي حبة الأنصاري، رضي الله عنهم. .
5- قال الله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا هذه الآيةُ مِمَّا يدُلُّ على أنَّ اللهَ يتكَلَّمُ كيف شاء، مُناداةً كان الكَلامُ أو مُناجاةً [578] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/422). ، وأنَّ اللهَ تعالى يتكلمُ بصوتٍ، فالنداءُ في لغةِ العربِ هو صوتٌ رفيعٌ، ولا يُطْلَقُ النداءُ على ما ليس بصوت -لا حقيقةً ولا مجازًا- وإذا كان النداءُ نوعًا مِن الصوتِ؛ فالدالُّ على النوعِ دالٌّ على الجنسِ بالضرورةِ [579] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/531). ، وموسى عليه السَّلامُ سَمِعَ كلامَ الله تعالى بحَرفٍ وصَوتٍ، كما تدُلُّ عليه النُّصوصُ التي بلَغَت في الكثرةِ مَبلغًا لا ينبغي معه تأويلٌ، ولا يناسِبُ في مقابلتِه قال وقيل؛ فقد قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] ، وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [الشعراء: 10] ، نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ [القصص: 30] ، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات: 16] ، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا [النمل: 8] ، واللائقُ بمقتضى اللُّغةِ والأحاديثِ أن يُفسَّرَ النِّداءُ بالصَّوتِ، بل قد ورَد إثباتُ الصَّوتِ لله تعالى شأنُه في أحاديثَ لا تُحصى، وأخبارٍ لا تُستَقصَى [580] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (1/18). .
6- قال اللهُ تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا النِّداءُ والنِّجاءُ أخَصُّ مِنَ التَّكليمِ؛ لأنَّه تكليمٌ خاصٌّ؛ فالنِّداءُ تكليمٌ مِن البُعدِ يَسمَعُه المنادي، والنِّجاءُ تَكليمٌ مِن القُربِ [581] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/79). .
7- قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا، وإنَّما جُعِلَتْ تلك الهِبةُ من رحمةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ رحِمَ مُوسى؛ إذ يسَّرَ له أخًا فصيحَ اللِّسانِ، وأكمَلَه بالإنباءِ حتَّى يُعْلَمَ مُرادُ مُوسى ممَّا يُبلِّغُه عن اللهِ تعالى [582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/129). .
8- قال اللهُ تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا قَولُه: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا يدُلُّ على أنَّ الرَّسولَ لا يَلزَمُ أن يكونَ صاحِبَ شَريعةٍ؛ فإنَّ أولادَ إبراهيمَ كانوا على شريعتِه [583] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/13). .
9- قَولُه تعالى: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا في هذا دلالةٌ على شَرفِ إسماعيلَ على أخيه إسحاقَ؛ لأنَّه إنما وُصِفَ بالنبُوَّةِ فقط، وإسماعيلُ وُصِفَ بالنبُوَّةِ والرِّسالةِ [584] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/239-240). .
10- قال الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا فرَّق تعالى ذِكْرُه أنسابَهم، وإن كان يجمَعُ جميعَهم آدمُ؛ لأنَّ فيهم من ليس مِن ولَدِ مَن كان مع نوحٍ في السَّفينةِ، وهو إدريسُ [585] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (15/566). ، على القَولِ بأنَّه كان قَبلَ نوحٍ عليه السَّلامُ.
11- قال الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا لإدريسَ ونوحٍ شَرَفُ القُربِ مِن آدَمَ -على القَولِ بأنَّ إدريسَ قبلَ نوحٍ- ولإبراهيمَ شَرَفُ القُربِ مِن نوحٍ، ولإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ شَرَفُ القُربِ مِن إبراهيمَ [586] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/120). .
12- قال الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ أي: وَمِن ذُرِّيَّةِ إسرائيلَ، وكان منهم موسى وهارونُ وزكريَّا ويحيى وعيسى، وفيه دَليلٌ على أنَّ أولادَ البَناتِ مِن الذُّرِّيَّةِ [587] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/14). ؛ لأنَّ عيسى مِن مريمَ، وهى مِن نَسلِ يَعقوبَ [588] يُنظر: ((روح البيان)) للخلوتي (5/343). قال الشنقيطي: (وذكرُ عِيسَى هنا أخذَ العلماءُ منه حُكمًا فِقهيًّا معروفًا، وهو أنَّه إذا قال رجلٌ: «هذا وَقْفٌ على ذُرِّيَّتِي»، أو أوصَى لذُرِّيَّتِه- أنَّ أولادَ البناتِ يدخلونَ؛ لأَنَّ عيسى ولدُ بنتٍ... لا أبَ له. فاللَّهُ جلَّ وعلا أدرَجَه في اسمِ الذريَّةِ، ومِن هنا يُعرَفُ أنَّ أولادَ البناتِ مِنَ الذرِّيةِ، وهذه المسألةُ التي هدَّدَ الحَجَّاجُ عليها يحيَى بنَ يَعمرَ، قال له: أتقولُ: إنَّ الحَسنَ والحُسينَ رضي الله عنهما مِن ذُرِّيَّةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: نَعَمْ. وأنَّه قالَ له: إنْ لم تَجِئْني بدَليلٍ من كتابِ اللَّهِ فعلْتُ بك وفعلْتُ. قال: أتقرأُ في سورةِ الأنعامِ؟ قال: نَعَمْ، قال: قال اللَّهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ إلى أن قالَ: وَعِيسَى وعيسَى ابنُ بنتٍ. وهذا صريحٌ في دُخولِ ابنِ البنتِ في الذريةِ. وعلى هذا أكثرُ العلماءِ؛ على أنَّه لو أوصى للذرِّيةِ أو وَقَفَ عليهم- أنَّ أولادَ البناتِ يدخُلونَ؛ لهذه الآيةِ). ((العذب النمير)) (1/459). لكن قال ابنُ عثيمين: (ليس في الآيةِ دَلالةٌ؛ لأنَّ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أمُّه أبوه، يعني: ليس له نسَبٌ مِن قِبَلِ الأبُوَّةِ، منقطِعٌ؛ ولهذا: المرأةُ الملاعِنةُ -أو المُلاعَنةُ- إذا نفى زوجُها ولَدَها منه، صارت هي أمًّا أبًا، فالصوابُ أنَّ الذريَّةَ لا يدخُلُ فيها أولادُ البناتِ، هذا من حيثُ ناحية اللُّغةِ والشَّرعِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 326). .
13- قَولُ الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ في إضافةِ الآياتِ إلى اسمِه الرَّحْمَنِ دَلالةٌ على أنَّ آياتِه تعالى مِن رَحمتِه بعِبادِه وإحسانِه إليهم؛ حيثُ هداهم بها إلى الحَقِّ، وبصَّرَهم مِن العَمى، وأنقَذَهم من الضَّلالةِ، وعَلَّمَهم مِن الجَهالةِ [589] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 496). .
14- في قَولِه تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا حُجَّةٌ في جوازِ البُكاءِ في السُّجودِ، والاقترابِ به مِن المعبودِ [590] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/255). ، وأنَّه لا يقطعُ الصَّلاةَ؛ لأنَّ اللَّه تعالَى قد مَدَحهم بالبكاءِ في السُّجودِ، ولم يُفَرِّقْ بينَ سجودِ الصَّلاةِ وسُجودِ التِّلاوةِ وسَجدةِ الشُّكرِ [591] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (5/37). .
15- قَولُ الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا استُدِلَّ بهذه الآيةِ على مشروعِيَّةِ سُجودِ التِّلاوةِ [592] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/400). .
16- قَولُ الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا فيه استِحبابُ البكاءِ عندَ تلاوةِ القُرآنِ [593] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: ١٧٤). ، وعن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه: (أنَّه قرأ سورةَ مريمَ فسجَد، وقال: هذا السجودُ، فأين البكيُّ؟) يريدُ: فأين البكاءُ [594] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الرقة والبكاء)) (418)، وابن جرير في ((تفسيره)) (15/567)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1897). .
17- قَولُ الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا استُدِلَّ به علَى أنَّ سامِعَ السَّجدةِ وتالِيَها سَواءٌ في حكمِها، وأنَّهم جميعًا يسجُدونَ؛ لأنَّه مَدَح السَّامعينَ لها إذا سَجَدوا [595] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (5/47). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا
- قولُه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى قُدِّمَ ذِكرُ مُوسى على ذكْرِ إسماعيلَ عليهما السَّلامُ؛ لئلَّا ينفصِلَ عن ذكْرِ يعقوبَ عليهما السَّلامُ [596] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/269). .
- قولُه: إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا فيه تَخصيصُ مُوسى بعُنوانِ (المُخلص) -بفتْحِ اللَّامِ وكسْرِها-؛ لأنَّ ذلك مَزيَّتُه، فإنَّه أخلَصَ في الدَّعوةِ إلى اللهِ، فاستخَفَّ بأعظمِ جبَّارٍ وهو فرعونُ، وجادَلَه مُجادلةَ الأكْفَاءِ، وكذلك ما حكاهُ اللهُ عنه بقولِه: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [القصص: 17] ؛ فكان الإخلاصُ في أداءِ أمانةِ اللهِ تعالى ميزتَه، ولأنَّ اللهَ اصطفاهُ لكلامِه مُباشرةً قبْلَ أنْ يُرسِلَ إليه الملَكَ بالوحيِ؛ فكان مُخلَصًا بذلك، أي: مُصطفًى [597] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/127). .
- قولُه: وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا قَدَّمَ رَسُولًا مع كونِه أخصَّ وأعْلى؛ لأنَّ اللهَ تعالى أرسَلَه إلى الخلْقِ، فأنبَأَهم عنه [598] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/13)، ((تفسير أبي السعود)) (5/269). ، والجمْعُ بين رَسُولًا نَبِيًّا هنا لتأكيدِ الوصفِ؛ إشارةً إلى أنَّ رسالتَه بلَغَتْ مَبلغًا قويًّا؛ فقولُه: نَبِيًّا تأكيدٌ لوصْفِ رَسُولًا [599] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/127). .
2- قولُه تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا فيه إيجازٌ بالحذفِ، وتَقديرُ الكلامِ: وناديناهُ حينَ أقبَلَ مِن مدينَ، ورأى النَّارَ مِن الشَّجرةِ، وهو يُريدُ مَن يَهْديه إلى طريقِ مصرَ [600] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/274). .
- وقولُه: وَنَادَيْنَاهُ صِيغَةُ المُفاعَلةِ للمُبالغةِ؛ فليس هنا حُصولُ فعْلٍ من جانبينِ [601] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/128). .
3- قوله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا
- فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال تعالى هنا: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا، وقال في سُورةِ الفُرقانِ: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا [الفرقان: 35] ؛ اختلَفَ الوصْفُ بالنُّبوَّةِ والوزارةِ مع اتِّحادِ المقصودِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ السُّورَ المُتردِّدَ فيها ذِكْرُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ مَنوطٌ فيها ذكْرُهم بذكْرِ أُمَمِهم، وما كان من مُعاندةِ الأُمَمِ وتَكذيبِهم، وأخْذِ المُكذِّبينَ بمُرتكباتِهم، ثمَّ إنَّ سُورةَ مريمَ تضمَّنَت طائفةً عظيمةً؛ فُصِّلَ ذِكْرُ بعضِهم، وأُجْمِلَ ذِكْرُ البعضِ، وقد تجرَّدَ فيها من الإخبارِ بأحوالِهم ذِكْرُ التَّعريفِ بخصائصَ مِن مِنَحِهم، وعَليِّ أقْدارِهم، وما أُيِّدوا به من ذلك، ثمَّ إنَّ النُّبوَّةَ أعظَمُ خصائصِهم الَّتي تَساوَوا في تحمُّلِ أمانتِها، وأُفْرِدوا عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بها، ولم يُشارِكْهم فيها غيرُهم، أمَّا اسمُ الوزارةِ والوصْفُ بها فليس ممَّا يخُصُّهم، ولا ممَّا أُفْرِدوا به، فلم يكُنْ وصْفُ هارونَ عليه السَّلامُ هنا بها لِيُناسِبَ هذا القصْدَ العليَّ، ولا لِيُلائمَه. وأمَّا قولُه تعالى في سُورةِ الفُرقانِ: وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا [الفرقان: 35] فمُرتَّبٌ على سُؤالِ موسى عليه السَّلامُ في سُورةِ طه في قولِه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ [طه: 29، 30]؛ فأُعْطِيَ عليه السَّلامُ مَطْلبَه، ورَدَ هذا على التَّرتيبِ المُتقرِّرِ في المصحفِ. ثمَّ إنَّ ما اتَّصلَ بهذه الآيةِ وآيةِ سُورةِ مريمَ ممَّا قبْلَهما وبعْدَهما يَسْتدعي التَّناسُبَ في مقاطعِ الآيِ وفواصلِها، فلم يكُنْ وُرودُ الآيتينِ في السُّورتينِ على غيرِ ما ورَدَ لِيُناسِبَ؛ فجاء ذلك على ما يجِبُ من الوَجهينِ المذكورينِ، واللهُ أعلمُ بما أراد [602] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/328-330). .
4- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا
- قولُه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ فُصِلَ ذِكْرُ إسماعيلَ عن ذكْرِ أبيه وأخيه عليهم السَّلامُ؛ لإبرازِ كَمالِ الاعتناءِ بأمْرِه بإيرادِه مُستقِلًّا [603] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/270). ؛ فتَخصيصُ إسماعيلَ بالذِّكرِ هنا تَنبيهٌ على جَدارتِه بالاستقلالِ بالذِّكرِ عقِبَ ذكْرِ إبراهيمَ وابنِه إسحاقَ؛ لأنَّ إسماعيلَ صار جَدَّ أُمَّةٍ مُستقِلَّةٍ قبْلَ أنْ يصيرَ يعقوبُ جَدَّ أُمَّةٍ، ولأنَّ إسماعيلَ هو الابنُ البِكْرُ لإبراهيمَ، وشريكُه في بناءِ الكعبةِ [604] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/129). .
- قولُه: إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ تعليلٌ لمُوجِبِ الأمرِ [605] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/270). ، وذكَرَ إسماعيلَ عليه السَّلامُ بصِدْقِ الوعدِ -وإنْ كان ذلك موجودًا في غيرِه من الأنبياءِ-؛ تَشريفًا له وإكرامًا، كالتَّلقيبِ بنحوِ: الحليمِ، والأوَّاهِ، والصِّدِّيقِ، ولأنَّه المشهورُ مِن خِصالِه [606] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/23)، ((تفسير البيضاوي)) (4/13)، ((تفسير أبي حيان)) (7/275)، ((تفسير أبي السعود)) (5/270)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/129). .
5- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا
- قولُه: نَبِيًّا خبرٌ آخرُ لـ (كان) مُخصِّصٌ للأوَّلِ؛ إذ ليس كلُّ صِدِّيقٍ نَبِيًّا [607] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/270). .
6- قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا
- اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ إشارةٌ إلى المَذكورينَ في السُّورةِ من زكريَّا إلى إدريسَ عليهم السَّلامُ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتبِهم ومَنزلَتِهم في الفضْلِ [608] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/25)، ((تفسير أبي حيان)) (7/276-277)، ((تفسير أبي السعود)) (5/271). . والإتيانُ به دونَ الضَّميرِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُشارَ إليهم جديرونَ بما يُذكَرُ بعدَ اسمِ الإشارةِ لأجْلِ ما ذُكِرَ مع المُشارِ إليهم مِن الأوصافِ، أي: كانوا أحرياءَ بنعمةِ اللهِ عليهم، وكونِهم في عدادِ المَهديينَ المُجْتبينَ، وخَليقينَ بمحبَّتِهم للهِ تعالى، وتَعظيمِهم إيَّاهُ [609] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/132). .
- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تلك وإنْ كانت نِعمًا وهدايةً واجتباءً؛ فقد زادت هذه الآيةُ بإسنادِ تلك العَطايا إلى اللهِ تعالى تَشريفًا لها؛ فكان ذلك التَّشريفُ هو الجزاءَ عليها؛ إذ لا أزْيَدَ من المُجازَى عليه إلَّا تَشريفُه [610] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/133). .
- قولُه: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا استئنافٌ مسوقٌ لبَيانِ خشيتِهم مِن اللهِ تعالى، وإخباتِهم له، معَ حالِهم مِن عُلوِّ الرُّتبةِ، وسُموِّ الطَّبقةِ في شرَفِ النَّسَبِ، وكَمالِ النَّفسِ، والزُّلفى من اللهِ عَزَّ سُلطانُه [611] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/14)، ((تفسير أبي السعود)) (5/271). . وقيل: مُستأنَفٌ دالٌّ على شُكرِهم نِعمَ اللهِ عليهم، وتَقريبِه إيَّاهم بالخُضوعِ له بالسُّجودِ عندَ تلاوةِ آياتِه وبالبُكاءِ [612] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/133). .
- وعبَّر بالاسمِ في كلٍّ مِن السجودِ والبكاءِ في قولِه: سُجَّدًا وَبُكِيًّا؛ إشارةً إلى أنَّ خَوفَهم دائِمٌ،كما أنَّ خُضوعَهم دائِمٌ لِعَظمةِ الكبيرِ الجَليلِ؛ لأنَّ تلك الحَضرةَ لا تَغيبُ عنهم أصلًا [613] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (١٢/222). .