موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (19-25)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

فَوَسْوَسَ: فألقى وحَدَّث، والوَسْوَسَةُ: الخَطْرةُ الرَّديئةُ، وحَدِيثُ النَّفسِ والشَّيطانِ بِمَا لَا نفْعَ فيه؛ مِنَ الوَسْوَاسِ، وهو صَوتُ الحُلِيِّ، والهَمْسُ الخَفيُّ، أو القَوْلُ الْخَفيُّ لِقَصدِ الإضلالِ، وأصل (وسوس): يدُلُّ عَلَى صَوْتٍ غَيْرِ رَفِيعٍ [196] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/188)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/76)، ((المفردات)) للراغب (ص:869)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/111)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 941). .
وُورِيَ: أي: سُتِرَ أو غُطِّي، وأصلُ (وري): سَتر [197] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 166)، ((المفردات)) للراغب (ص: 866)، ((تفسير القرطبي)) (7/178)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 950). .
سَوْآتِهِمَا: أي: عَوْراتِهما، أو كنايةٌ عَنِ الفَرْج، وسُمِّيَت العورةُ سوأةً؛ لأنَّه يَسوءُ صاحِبَها انكشافُها مِن جَسَدِه، وأصلُ (سوء): كلُّ ما يَقبُحُ [198] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/119، 132)، ((المفردات)) للراغب (ص:441، 442)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 521). .
وَقَاسَمَهُمَا: أي: حَلَف لهما، وأصلُه مِنَ القَسامَةِ، وهي أيمانٌ تُقْسَمُ على أولياءِ المَقتولِ، ثم صار اسمًا لكلِّ حَلِفٍ [199] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 375)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 670). .
فَدَلَّاهُمَا: أي: فخَدَعَهما، أو أوْقَعَهما في الهلاكِ، أو جَرَّأهما على المعصيةِ، ويُقال لكُلِّ مَن ألقى إنسانًا في بليَّةٍ: قد دلَّاه في كذا، مأخوذٌ من تَدْليةِ الرجلِ العطشانِ في البِئرِ؛ لِيَرْوَى مِن مائِها، فلا يجِدُ فيها ماءً؛ فيكونُ مُدَلًّى فيها بغُرورٍ؛ فوُضِعَتِ التَّدليةُ مَوضِعَ الإطماعِ فيما لا يُجْدي نفعًا، وأصلُ (دلي): يدُلُّ على مُقارَبةِ الشَّيءِ، ومُداناتِه بسُهولَةٍ ورِفقٍ [200] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/110)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 218)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/293)، ((تفسير القرطبي)) (7/180)، ((تفسير ابن كثير)) (3/397)، ((تاج العروس)) للزبيدي (38/61). .
بِغُرُورٍ: الغُرور- بضمِّ الغينِ- مصدر غَرَّه يغرُّه غُرورًا، أي: أصاب غِرَّتَه، أي: غفلتَه في اليَقَظةِ، ونال منه ما يُريد، حتَّى يُدخِلَه مِن معصيةِ اللهِ فيما يستوجِبُ به عُقوبتَه، وأصلُ (غرر) يدلُّ على النُّقْصانِ [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/289)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/380)، ((المفردات)) للراغب (ص:603-604). .
وَطَفِقَا: أي: أقبلَا وجعَلَا، وظلَّا وأخذَا، وفِعلُ (طفق) يُستعمَلُ في الإيجابِ دون النَّفيِ، فلا يُقال: ما طَفِقَ [202] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 166)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 317)، ((الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (4/1517)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/413)، ((المفردات)) للراغب (ص: 521). .
يَخْصِفَانِ: أي: يَرْقَعان، ويُلزِقان، أو يَجعلان وَرَقةً على وَرَقةٍ، أو يَصِلانِ الوَرَقَ بَعضَه ببعضٍ، ويُلصقانِ بعضَه على بعضٍ، ومنه يقال: خَصَفْتُ نَعلِي: إذا طبَّقْتَ عليها رُقعةً، وأصل (خصف): اجْتِمَاعُ شَيءٍ إلى شَيْءٍ [203] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 166)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 317)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/186)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 109)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .
مُسْتَقَرٌّ: أي: موضِعُ استقرارٍ؛ قرارٌ تستقرُّونَه، وفراشٌ تَمتهِدونه، وأصل (قرر): يدلُّ على تَمَكُّنٍ [204] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 46)، ((تفسير ابن جرير)) (10/117)، مقاييس اللغة (5/7). .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ
وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ: (إنْ) حرْفُ شَرطٍ، وقَبْلَه لامُ التَّوطئةِ للقَسَمِ مُقدَّرة، والتقديرُ: (لَئِنْ)، وقوله: لَنَكُونَنَّ جوابُ القَسمِ المُقدَّرِ الذي وطَّأتْ له اللامُ، وجوابُ الشَّرطِ محذوفٌ؛ لدلالةِ جَوابِ القَسمِ عليه؛ كقوله تعالى: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ [205] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/285)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/285). [المائدة: 73] .

المعنى الإجمالي:

أمرَ اللهُ تعالى آدَمَ وزوجَه حوَّاءَ أن يسكُنا الجنَّةَ، ويأكُلا مِن حيثُ أرادا منها، وألَّا يَقْرَبا شجرةً مُعَيَّنةً حَدَّدَها لهما تعالى، فيكونا مِنَ الظَّالِمينَ.
فوَسْوَس الشَّيطانُ لآدَمَ وحوَّاءَ؛ ليخدَعَهما، فيُظهِرَ لهما ما سُتِرَ مِن عَوْراتِهما، زاعمًا لهما كذِبًا أنَّ الله تعالى لم يَنْهَهما عن أكلِ ثَمَرِ هذه الشَّجَرةِ، إلَّا كراهةَ أن يكُونا مِن جِنسِ الملائكةِ، أو يكونَا مِنَ الخالِدينَ، وأقسَمَ لهما باللهِ إنَّه ناصِحٌ لهما في ذلك.
فخَدَعَهما وغَرَّهما وجَرَّأَهما على الأكلِ مِن تلك الشَّجَرةِ، فلمَّا أكَلَا منها انكشَفَت عَوْرَاتُهما، فجَعلا يَشُدَّانِ على جَسَدَيهما مِن وَرَقِ الجنَّةِ؛ ليستُرا ما ظهَرَ مِن عَوْرَاتِهما، وناداهما ربُّهما معاتبًا لهما: ألمْ أنهَكُما عن تلك الشَّجرةِ، وأخُبِرْكما أنَّ الشَّيطانَ عدوٌّ لكما ظاهِرُ العَداوةِ.
فاعتَرَفا بالعِصْيانِ، وقالا: رَبَّنا ظَلَمْنا أنفُسَنا، وإنْ لم تَغفِرْ لنا وتَرْحَمْنا لنكونَنَّ مِنَ الهالكينَ.
فأمر اللهُ تعالى آدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ بالهُبوطِ إلى الأرضِ، بعضُهم لبعضٍ عَدُوٌّ، هم وذُرِّيَّتُهم، ولهم في الأرضِ مكانٌ يَستقِرُّونَ فيه على ظَهْرِها في حياتِهم، وفي بَطنِها بَعد مَوتِهم، ولهم فيها مَتاعٌ يَستَمتِعونَ به إلى أن يأتِيَهم الموتُ، وأخبَرَهم تعالى أنَّهم في الأرضِ يَعيشونَ، وفيها يَموتونَ، ومنها يُخرَجونَ مِن قُبورِهم لِيومِ الجَزاءِ.

تفسير الآيات:

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا
أي: قال اللهُ تعالى لآدَمَ عليه السَّلامُ بعد أن أخرَجَ إبليسَ مِنَ الجنَّةِ: اتَّخِذْ أنت وزَوجُك حوَّاءُ الجنَّة مَنزِلًا، وكُلَا مِن أيِّ مكانٍ فيها، مِن جَميعِ ثِمارهِا [206] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/105)، ((البسيط)) للواحدي (2/377)، ((تفسير ابن كثير)) (3/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). .
وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
أي: ولا تَأكُلَا من هذه الشَّجَرةِ؛ فتَصِيرا مِمَّنْ ظَلَم نفسَه بمُخالَفةِ أمرِ رَبِّه [207] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/105)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/513). قال ابنُ عطية: (وهذه الشَّجرةُ، الظَّاهِرُ أنَّه أشار إلى شخصِ شَجَرةٍ واحدةٍ مِن نوعٍ وأرادَها، ويَحتَمِل أن يشيرَ إلى شجرةٍ مُعَيَّنةٍ، وهو يريدُ النَّوعَ بجُملَتِه). ((تفسير ابن عطية)) (2/382). وقال السعدي: (عيَّن لهما شجرةً، ونهاهما عن أكْلِها، واللهُ أعلمُ ما هي، وليس في تعيينِها فائدةٌ لنا). ((تفسير السعدي)) (ص: 285). .
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا
أي: فألقى إبليسُ لآدَمَ وحوَّاءَ قَولًا [208] قال ابنُ جرير: (يعني جلَّ ثناؤه بقَولِه: فَوَسْوَسَ لَهُمَا [الأعراف: 20] : فوَسوسَ إليهما، وتلك الوسوسةُ كانت قولَه لهما: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف: 20] ، وإقسامَه لهما على ذلك. وقيل: (وَسوسَ لهما)، والمعنى ما ذكَرْتُ، كما قيل: غَرِضْتُ له، بمعنى: اشتقْتُ إليه، وإنَّما يعني: غَرِضْتُ من هؤلاء إليه، فكذلك معنى ذلك: فوَسْوَس مِن نَفسِه إليهما الشَّيطانُ بالكَذِبِ مِنَ القِيلِ لِيُبْدِيَ لَهُمَا ما وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا، ومعنى الكلام: فجَذَبَ إبليسُ إلى آدَمَ حوَّاءَ، وألقى إليهما: ما نهاكما ربُّكما عن أكلِ ثَمَر هذه الشَّجَرةِ إلَّا أن تكونا مَلَكينِ، أو تكونَا مِنَ الخالِدِينَ). ((تفسير ابن جرير)) (10/106-107). وقال الشنقيطيُّ في قوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ: (أي: كَلَّمَه كلامًا خَفِيًّا فسَمِعَه منه آدَمُ وفَهِمَه. والدليلُ على أنَّ الوسوسةَ المذكورةَ في هذه الآيةِ الكريمةِ كلامٌ مِن إبليسَ سَمِعَه آدمُ وفَهِمَه أنَّه فَسَّرَ الوسوسةَ في هذه الآيةِ بأنَّها قولٌ، وذلك في قوله: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ، فالقولُ المذكورُ هو الوسوسةُ المذكورة. وقد أوضح هذا في سورة «الأعراف» وبيَّنَ أنَّه وَسْوَسَ إلى حوَّاءَ أيضًا مع آدَمَ، وذلك في قَولِه: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ إلى قولِه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لِمَنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ؛ لأنَّ تصريحه تعالى في آية «الأعراف» هذه بأنَّ إبليسَ قاسَمَهما أي: حلَفَ لهما على أنَّه ناصِحٌ لهما فيما ادَّعاه مِنَ الكَذِبِ؛ دليلٌ واضِحٌ على أنَّ الوَسْوسةَ المذكورةَ كلامٌ مَسموعٌ). ((أضواء البيان)) (4/110). ليخدَعَهما به، فيُظهِرَ [209] اللامُ في قولِه: لِيُبْدِيَ لامُ الصَّيرورةِ والعاقبةِ؛ وذلك لأنَّ الشيطانَ لم يقصِدْ بالوسوسةِ ظهورَ عوراتِهما، ولم يعلمْ أنَّهما إنْ أكلَا مِن الشَّجرةِ بدَتْ عوراتُهما، وإنَّما كان قصدُه أن يحملَهما على المعصيةِ، فكانت عاقبةُ تلك الوسوسةِ أن بدَتْ لهما سوآتُهما. ويجوزُ أن تكونَ لامَ التعليلِ، بحَسَبِ قَصدِ إبليسَ إلى حَطِّ مَرتَبَتِهما، وإلقائِهما في العقوبةِ، وربَّما يكونُ علِم بعقوبةِ ذلك فقصَد إليه. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (2/356)، ((تفسير ابن عطية)) (2/384)، ((تفسير الرازي)) (14/218)، ((تفسير القرطبي)) (7/187)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/57). لهما ما ستَرَه اللهُ عنهما مِن عَوْراتِهما [210] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/106-107)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). قال القرطبي: (سُمِّيَ الفَرجُ عَورةً؛ لأنَّ إظهارَه يَسوءُ صاحِبَه. ودلَّ هذا على قُبحِ كَشْفِها، فقيل: إنَّما بَدَت سوءاتُهما لهما لا لغيرِهما). ((تفسير القرطبي)) (7/178). .
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
أي: وقال لهما كَذِبًا وافتراءً: ما نهاكُما ربُّكما عن أكلِ ثَمَرِ هذه الشَّجَرةِ، إلَّا كراهةَ أن تكونَا ملَكينِ مِن جِنسِ الملائكةِ، أو تكونَا مِنَ الخالِدينَ في الجنَّةِ [211] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/107)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/112)، ((تفسير ابن كثير)) (3/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). .
كما قال تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [طه:120] .
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
أي: وحَلَفَ لهما باللهِ إنِّي ناصِحٌ لكما في الأكلِ مِن ثَمَرِ هذه الشَّجَرةِ التي نهاكما اللهُ عنها [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/108)، ((تفسير ابن كثير)) (3/397). .
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ
أي: فخَدَعَهما وأطمَعَهما بالقَولِ الباطِلِ، وجرَّأهما على الأكلِ مِن تلك الشَّجَرةِ، فنزَّلَهما عن رُتبَتِهما العاليةِ، التي هي البُعدُ عن المعاصي إلى التَّلوُّثِ بها [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/110)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (14/121-122)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/61). .
فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
أي: فلمَّا طَعِمَ آدمُ وحوَّاءُ ثَمَرَ الشَّجرةِ، انكشَفَتْ عورةُ كُلٍّ منهما، بعد ما كانت مَستورةً [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/110)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). .
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ
أي: خَجِلا، وجَعَلا يشُدَّانِ على جَسَدِهما مِن وَرَقِ الجنَّةِ؛ ليستُرَا به عَوْراتِهما [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/110، 112)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). .
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
أي: وقال اللهُ لآدَمَ وحوَّاءَ، مُوَبِّخًا ومُعاتِبًا لهما: ألم أنْهَكما عن أكلِ ثَمَرِ تلك الشَّجَرةِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/114)، تفسير القرطبي (7/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). ؟
وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ
أي: وأُعْلِمْكما أنَّ إبليسَ عدوٌّ بيِّنُ العَداوةِ لكما؛ فلِمَ اقتَرَفْتُما ما نهيتُكما عنه، وأطَعْتُما عدوَّكُما [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/114)، ((تفسير البغوي)) (2/185)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). قال ابن عباس: (بيِّنُ العداوةِ؛ حيث أبى السُّجودَ، وقال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16] ). ((البسيط)) للواحدي (9/72). ؟!
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
أي: قال آدَمُ وحوَّاءُ اعترافًا بالعِصيانِ [218] قال ابنُ جرير: (عن الضَّحَّاك، في قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا الآية، قال: «هي الكَلِماتُ التي تلقَّاها آدَمُ مِن رَبِّه»). ((تفسير ابن جرير)) (10/116). : يا رَبَّنا أسأَنْا إلى أنفُسِنا، وأضْرَرْنا بها بمَعصِيَتِك، وبِطاعَتِنا عَدُوَّنا وعَدُوَّك [219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/115)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/67). .
وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
أي قالَا في تَوبَتِهما: وإنْ لم تستُرْ علينا ذَنْبَنا، وتتجاوَزْ عن عُقوبَتِنا، وتَرحَمْنا بقَبولِ تَوبَتِنا، والمُعافاةِ مِن هذه الخَطايا، لنَكونَنَّ مِنَ الهالكينَ [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/115-116)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). .
وقد قَبِلَ اللهُ تعالى هذه التَّوبةَ، كما قال: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122] .
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
أي: قال اللهُ لآدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ [221] قال ابنُ كثير: (قيل: المرادُ بالخِطابِ في اهْبِطُوا آدَمُ، وحَوَّاءُ، وإبليسُ، والحيَّة. ومنهم من لم يذكُرِ الحيَّة، والله أعلمُ. والعُمدةُ في العداوةِ آدَمُ وإبليسُ؛ ولهذا قال تعالى في سورة «طه» قال: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا [الآية: 123] وحوَّاءُ تبَعٌ لآدَمَ. والحيَّةُ- إن كان ذِكْرُها صحيحًا- فهي تبَعٌ لإبليسَ). ((تفسير ابن كثير)) (3/399). وضعَّف ابنُ القيِّم القولَ بأنَّ الخطابَ لهم وللحيةِ؛ لأنَّه يحْتاجُ الى نقلٍ ثَابتٍ؛ إذ لا ذكرَ للحيَّةِ في شيءٍ مِن قصةِ آدمَ عليه السلام، ولا في السِّياقِ ما يدلُّ عليها. يُنظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 28)، ((مفتاح دار السعادة)) (1/15). : اهبِطوا مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ، بعضُكم لبعضٍ عَدُوٌّ أنتم وذُرِّيَّتُكم [222] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/116)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 29)، ((تفسير ابن كثير)) (3/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). قال ابنُ تيميَّةَ: (هذا خبَرٌ عمَّا سيكونُ مِن عداوةِ بعضِهم بعضًا). ((مجموع الفتاوى)) (8/493). وقال ابن عاشور: (يَحتمِلُ أن يرادَ بالبعضِ بعضَ الأنواعِ، وهو عداوةُ الإنسِ والجِنِّ، ويحتمل أن يُرادَ عداوةُ بعضِ أفرادِ نوعِ البَشَرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (1/435). .
كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] .
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 168، 169].
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
أي: ولَكم أنتم وذُرِّيَّتِكم في الأرضِ قرارٌ، تَستقِرُّونَه في حياتِكم على ظَهْرِها، وبعد وَفاتِكم في بَطنِها، ولكم فيها مَتاعٌ تَستَمتِعونَ به حتى يأتِيَكم الموتُ [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/117، 118)، ((تفسير ابن كثير)) (3/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). .
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
أي قال اللهُ: في الأرضِ تَعيشونَ أيَّامَ حَياتِكم، وتكونُ فيها وفاتُكم، ثم يُخرِجُكم منها رَبُّكم مِن قُبورِكم أحياءً يومَ القيامةِ؛ ليُجازِيَ كلًّا بعَمَلِه [224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/119)، ((تفسير ابن كثير)) (3/399). .
كما قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55].
وقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق:43-44] .

الفوائد التربوية:

قال تعالى: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا... ممَّا يُستفادُ مِن قِصَّةِ آدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ: أنَّه ينبغي لنا أن نَعرِفَ أنفُسَنا بغرائِزِها واستعدادِها للكَمالِ، وما يَعرِضُ لها دُونَه مِن الموانِعِ، فيصرِفُها عنه إلى النَّقائِصِ، وأنَّ أنفَعَ ما يُعِينُنا على تَربِيَتِها عَهدُ اللهِ إلينا بأنْ نَعبُدَه وَحدَه، وألَّا نعبُدَ معه الشَّيطانَ ولا غَيرَه، وأنْ نَذكُرَه ولا ننساه؛ فننسى أنفُسَنا، ونَغفُلُ عَن تزكِيَتِها، وصَقْلِها بصِقالِ التَّوبةِ، كلَّما عَرَضَ لها مِن وِسواسِ الشَّيطانِ ما يُلَوِّثُها؛ فإنَّه إن يُترَكْ صار صَدَأً وطَبْعًا مُفسِدًا لها، وما أفسَدَ أنفُسَ البَشَرِ ودسَّاها إلَّا غفلةُ عُقُولِهم وبصائِرِهم عنها، وترْكُها كالرِّيشةِ في مهابِّ أهواءِ الشَّهواتِ، ووساوسِ شَياطينِ الضَّلالاتِ، فعلى العاقِلِ أن يعرِفَ قِيمَتَها، ويحرِصَ عليها أشَدَّ مِن حِرصِه على ما عساه يملِكُ مِن نفائِسِ الجواهِرِ، وأعلاقِ الذَّخائِرِ [225] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/315). .
قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ النَّهيُ عن قُربِ الشَّيءِ أبلَغُ مِنَ النَّهيِ عنه؛ فهو يَقتضي البُعدَ عن موارِدِ الشُّبُهاتِ التي تُغرِي به، وتُفضِي إليه، وَرَعًا واحتياطًا؛ فإنَّ مَن حام حَولَ الحِمَى أوشَكَ أن يُواقِعَه؛ فقولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ أشَدُّ في التَّحذيرِ مِن أن يَنهى عن الأكلِ مِنَ الشَّجَرةِ، لأنَّ النَّهيَ عن قِربانِها سَدٌّ لذريعةِ الأكلِ منها [226] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/372)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/54)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/308). .
قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا المعصيةُ تَهتِكُ سِترَ ما بين اللهِ والعَبدِ، فلمَّا عصَيَا انهتَكَ ذلك السِّترُ، فبَدَت لهما سوآتُهما، فالمعصيةُ تُبدِي السَّوأةَ الباطِنَةَ والظَّاهِرةَ، فإنَّ الله سبحانه أنزَلَ لِباسَينِ: لباسًا ظَاهرًا يوارِي العورةَ ويَستُرُها، ولباسًا باطِنًا مِنَ التقوى، يُجَمِّلُ العبدَ ويَستُرُه، فإذا زالَ عنه هذا اللِّباسُ انكشَفَتْ عَورَتُه الباطنةُ، كما تنكشِفُ عَورَتُه الظَّاهِرةُ بنَزْعِ ما يستُرُها [227] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/111-112). .
الحَذَرُ مِن خداعِ إبليسَ، بإظهارِه النُّصحَ، وإبطانِه الغِشَّ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قولُ الله تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [228] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/26). .
قولُ الله تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.. إلى قَولِه تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.. يُرشِدُنا إلى أنَّ مَن خالَفَ أمرَه تعالى، ثُلَّ عَرشُه، وهُدِمَ عِزُّه، وإن كان في غايةِ المَكِنَةِ، ونهايةِ القُوَّةِ، كما أخرَجَ مَن أعظَمَ له المَكِنَةَ بإسجادِ مَلائِكَتِه، وإسكانِ جَنَّتِه، وإباحَةِ كلِّ ما فيها غيرَ شَجَرةٍ واحدةٍ [229] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/371). .
في قَولِه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا إشارةٌ إلى الأدبِ في دُعاءِ اللهِ تعالى؛ حيث نسبَ آدمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المعصيةَ إلى نَفسِه؛ ولم يقُلْ: ربِّ قَدَّرْتَ عليَّ، وقَضَيتَ عليَّ ذلك [230] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/360). .

الفوائد العلمية واللطائف:

في قَولِه تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ دلالةٌ على أنَّ تَعرُّضَ الشَّيطانِ للأنبياءِ، لا يَقدَحُ في نبوَّتِهم عليهم السَّلامُ [231] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/272). .
في قَولِه تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ دلالةٌ على أنَّه ليس مِن شَرطِ المُوَسوِسِ أنْ يكون مُستَتِرًا عن البَصَرِ- بل قد يُشاهَدُ- فالكلامُ هنا هو كلامُ مَن يُعْرَفُ قائلُه، ليس شيئًا يُلقى في القَلبِ، لا يُدرى ممَّن هو [232] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/509). .
في قَولِه تعالى: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ حكايةٌ لابتداءِ عَمَلِ الإنسانِ لِسَترِ نقائِصِه، وتحَيُّلِه على تجنُّبِ ما يكرَهُه، وعلى تَحسينِ حالِه بحَسَبِ ما يُخَيِّلُ إليه خيالُه، وهذا أوَّلُ مَظهرٍ مِن مظاهِرِ الحضارةِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/64). .
قولُ الله تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ تأخَّرَ نداءُ الرَّبِّ إيَّاهما إلى أن بدَتْ لهما سَوآتُهما، وتحيَّلَا لِسَترِ عَوْراتِهما؛ ليَكونَ للتَّوبيخِ وَقعٌ مَكينٌ مِن نُفوسِهما، حين يقَعُ بعد أن تظهَرَ لهما مفاسِدُ عِصْيانِهما، فيعلَمَا أنَّ الخَيرَ في طاعةِ اللهِ، وأنَّ في عِصيانِه ضُرًّا [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/65). .
قولُ الله تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ دلَّ على أنَّ كَشْفَ العَورةِ مِنَ المُنكَراتِ [235] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/218). .
في قَولِه تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ دلالةٌ على أنَّ العُريانَ يلزَمُه سَترُ عَورتِه، فإنْ لم يجِدْ إلَّا حَشيشًا أو وَرَقًا يربِطُه عليه؛ فإنَّه يلزَمُه السَّترُ به؛ لأنَّه مُغَطٍّ للبَشَرةِ مِن غَيرِ ضَررٍ، فأشبَهَ الجُلودَ والثِّيابَ [236] يُنظر: ((شرح العمدة - كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 340). .
قولُ اللهِ تعالى: وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ فيه نُكتةٌ لَطيفةٌ، وهي أنَّه لَمَّا كان وَقتُ الهَناءِ شُرِّفَ بالتَّصريحِ باسْمِه في النِّداءِ، فقيلَ: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ، وحين كان وَقْتُ العِتابِ أخبَرَ أنَّه ناداه، ولم يُصَرِّحْ باسْمِه [237] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/28). .
في قَولِه تعالى: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا دلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى لم يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذا شاءَ، وهو يتكَلَّمُ بمَشِيئَتِه وقُدرَتِه، فيتكَلَّمُ بشيءٍ بعدَ شيءٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه سُبحانه ناداهما حين أكَلَا منها، ولم ينادِهما قبلَ ذلك [238] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/588). .
يُستفادُ مِن قَولِه تعالى عن آدَمَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وقَولِه عن إبليسَ: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أنَّ مَن تاب أشبهَ أباه آدمَ، ومَن أَصَرَّ واحتجَّ بالقَدَر على المعاصِي أشبهَ إبليسَ [239] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/134). .
في قَولِه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ دلالةٌ على أنَّ الاعترافَ بالذَّنبِ يتضَمَّنُ طلبَ المغفرةِ؛ فإنَّ الطَّالبَ السَّائلَ تارةً يَسألُ بصيغةِ الطَّلَب؛ وتارةً يَسألُ بصيغةِ الخَبَرِ- إمَّا بوصْفِ حالِه، وإمَّا بِوَصفِ حالِ المَسؤولِ، وإمَّا بوَصفِ الحالَينِ-، وأيضًا الإخبارُ عَنِ اللهِ تعالى أنَّه إنْ لم يغفرْ لهما ويَرحَمْهما خَسِرَا؛ يتضَمَّنُ سُؤالَ المَغفرةِ كذلك [240] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/244). ، فقوله تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ فيه دلالةٌ على أنَّ السُّؤالَ والطَّلَبَ قد يكون بصيغةِ الشَّرطِ [241] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/175). .
إنَّما كَمُلَتْ فضائِلُ آدَمَ باعترافِه على نَفسِه، فقال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا  فكُلَّما أوقَدَ إبليسُ نارَ الحَسَدِ لآدَمَ، فاح بها رِيحُ طِيبِ آدَمَ، واحترَقَ إبليسُ بحَسَدِه [242] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 57). .
في قَولِه تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ دلالةٌ على جوازِ وُقوعِ الصَّغائِرِ مِنَ الأنبياءِ، وإنَّما ابتلى اللهُ الأنبياءَ بالذُّنوبِ؛ رفعًا لدَرَجاتِهم بالتَّوبةِ، وتبليغًا لهم إلى مَحَبَّتِه وفَرَحِه بهم؛ فإنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوابِينَ، ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ، ويَفرَحُ بتَوبةِ التَّائبِ أشَدَّ فَرَحٍ، فالمقصودُ كَمالُ الغايةِ، لا نَقصُ البِدايةِ؛ فإنَّ العَبدَ يكونُ له الدَّرجةُ لا يَنالُها إلَّا بما قَدَّرَه اللهُ له مِنَ العَمَلِ أو البَلاءِ [243] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/89). .
قال تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ طوى القرآنُ هنا ذِكرَ التَّوبةِ على آدَمَ؛ لأنَّ المقصودَ مِن القِصَّةِ في هذه السُّورةِ: التَّذكيرُ بِعَداوةِ الشَّيطانِ، وتحذيرُ النَّاسِ مِنِ اتِّباعِ وَسْوَسَتِه، وإظهارُ ما يُعقِبُه اتِّباعُه مِنَ الخُسرانِ والفَسادِ، ومقامُ هذه الموعظةِ يقتضي الإعراضَ عن ذِكرِ التَّوبةِ؛ للاقتصارِ على أسبابِ الخَسَارةِ [244] يُنظر: تفسير ابن عاشور)) (8-ب/68). .
قولُه تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ذكَر فيه الإهباطَ بلفظِ الجمعِ اهْبِطُوا، وتارةً يذكرُه بلفظِ التثنيةِ اهْبِطَا [طه: 123] ، وتارةً بلفظِ الإفرادِ (اهْبِطْ)، فحيث ورَد بصيغة الجمعِ فهو لآدمَ وزوجِه وإبليسَ؛ إذ مدارُ القصةِ عليهم، وحيثُ ورَد بلفظ التثنيةِ فإمَّا أن يكونَ لآدمَ وزوجِه؛ إذ هما اللذان باشَرا الأكلَ مِن الشَّجرةِ، وأقْدَما على المعصيةِ، وإمَّا أن يكونَ لآدمَ وإبليسَ؛ إذ هما أبَوَا الثَّقلينِ، وأصْلَا الذُّريةِ، فذكَر حالَهما ومآلَ أمرِهما؛ ليكونَ عظةً وعبرةً لأولادهما، ولم يذكُرِ الزوجةَ؛ لأنَّها تبعٌ لآدمَ، وجاء الإهباطُ بالإفرادِ في قولِه تعالى لإبليسَ: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [245] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 30). [الأعراف: 13] .

بلاغة الآيات:

قولُه: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فيه: تصديرُ الكلامِ بالنِّداءِ؛ للتَّنبيهِ على الاهتمامِ بتلَقِّي المأمورِ به. وتَخصيصُ الخِطابِ به عليه السَّلامُ؛ للإيذانِ بأصالَتِه في تلَقِّي الوَحْيِ، وتعاطِي المأمورِ به [246] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/220). .
وقوله: اسْكُنْ أَنْتَ فيه الإتيانُ بالضَّميرِ المنفصِلِ بعدَ الأمرِ؛ لقَصدِ زِيادةِ التَّنكيلِ بإبليسَ؛ لأنَّ ذِكْرَ ضَميرِه في مقامِ العَطفِ يُذَكِّرُ غَيرَه بأنَّه ليس مِثلَه؛ إذ الضَّميرُ، وإن كان مِن قَبيلِ اللَّقَبِ، وليس له مفهومُ مخالفةٍ؛ فإنَّه قد يُفيدُ الاحترازَ عَن غَيرِ صاحبِ الضَّميرِ بالقَرينةِ على طريقةِ التَّعريضِ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/53). .
قوله: فَوَسْوَسَ تجسيدٌ حَيٌّ، وتصويرٌ بليغٌ لدَأَبِ إبليسَ على الإغواءِ، وإجهادِه نَفْسَه لِحَمْلِها على أن تَزِلَّ بهما القَدَمُ، ويرتَطِما في مزالِقِ الشَّرِّ؛ فهو يُوسوِسُ إليهما المرَّةَ بعد المرَّةِ؛ فإنَّه كُلَّما تكَرَّرَتِ الحروفُ في اللَّفظِ الواحِدِ، كان ذلك إيذانًا بتكريرِ العَمَلِ [248] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/320) .
قوله: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ جاءتْ قَاسَمَهُمَا على زِنَةِ المُفاعلة للمُبالغةِ؛ ليدُلَّ على أنَّه حَصَلت بينهما في ذلك مُراوغاتٌ ومُحاولاتٌ بُذِلَ فيها الجُهدُ، وفيه تأكيدُ إخبارِ إبليسَ عَن نَفسِه بالنُّصحِ لآدَمَ وزَوجِه بثلاثِ مُؤَكِّداتٍ- إنَّ واللَّامُ في لَمِنَ والجُملة الاسميَّة- مِمَّا يَدُلُّ على مَبلَغِ شَكِّهِما في نُصحِه لَهما، وما رأى عَلَيهما مِن مَخائِلِ التَّرَدُّدِ في صِدْقِه [249] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/9)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/373)، ((تفسير الشربيني)) (1/467)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/60). .
قولُه: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فيه تمثيلُ حالِ مَن يطلُبُ شَيئًا مِن مَظِنَّتِه فلا يجِدُه، بِحالِ مُن يُدَلِّي دَلْوَه أو رِجْلَيه في البِئرِ؛ ليَسْتَقيَ مِن مائِها فلا يَجِدُ فيها ماءً، فيُقال: دلَّى فلانٌ، كما يُقالُ: أَدْلَى [250] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/61). .
قوله تعالى: وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ عَطَفَ جُملةَ: وَأَقُلْ لَكُمَا على جملةِ: أَنْهَكُمَا؛ للمبالغةِ في التَّوبيخِ؛ لأنَّ النَّهيَ كان مشفوعًا بالتَّحذيرِ مِنَ الشَّيطانِ الذي هو المُغْرِي لهما بالأكلِ مِنَ الشَّجَرةِ، فهُما قد أضاعَا وَصِيَّتينِ [251] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/67). .
والاستفهامُ في قَولِه: أَلَمْ أَنْهَكُمَا للتَّقريرِ والتَّوبيخِ، وأُولِيَ هذا الاستِفهامُ حرْفَ النَّفيِ زيادةً في التَّقريرِ؛ لأنَّ نَهيَ اللهِ إيَّاهما واقِعٌ، فانتفاؤُه مُنتَفٍ، فإذا أُدخِلَتْ أداةُ التَّقريرِ، وأَقَرَّ المُقَرِّرُ بضِدِّ النَّفيِ، كان إقرارُه أقوى في المؤاخَذةِ بِمُوجِبِه؛ لأنَّه قد هُيِّئَ له سَبيلُ الإنكارِ، لو كان يستطيعُ إنكارًا؛ ففِي هذا الاستفهامِ عِتابٌ مِنَ اللهِ تعالى وتوبيخٌ، وتنبيهٌ على الخَطأِ؛ حيثُ لم يَتحَذَّرا ما حَذَّرَهما اللهُ مِن عداوةِ إبليسَ [252] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/96)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/66). .
قوله: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ فيه تَقديمُ المَجْروراتِ الثَّلاثةِ (فيها - فيها - منها) على مُتَعَلِّقاتِها (تَحْيَون - تَمُوتون - تُخرَجون)؛ للاهتمامِ بالأَرضِ التي جُعِلَ فيها قَرارُهم ومتاعُهم؛ إذ كانتْ هي مَقَرَّ جَميعِ أحوالِهم [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/71). .