موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (10-18)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات:

مَكَّنَّاكُمْ: أي: وطَّأْنا لكم الأرضَ، أو جَعَلْناها قرارًا لكم، وأصلُ (مكن): الموضِعُ الحاوي للشَّيءِ [93] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/73)، ((المفردات)) للراغب (ص: 773)، ((تفسير ابن كثير)) (3/390). .
مَعَايِشَ: أي: أسبابًا تعيشونَ بهَا مِن مَطاعِمَ ومَشارِبَ، مُفرَدُها مَعِيشةٌ، وَهِي مَا يُعاشُ بِهِ مِنَ النَّباتِ والحيوانِ وغيرِ ذلك، والعَيْشُ: أخصُّ مِنَ الحَياةِ [94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/73)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 415)، ((المفردات)) للراغب (ص: 596)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .
صَوَّرْنَاكُمْ: أي: صَوَّرْنا أباكُم آدَمَ بَشَرًا سَوِيًّا، وقيل: صَوَّرْنا الذُّرِّيةَ، وصُورةُ كُلِّ مَخلوقٍ: هَيئةُ خِلْقَتِه، وما يَتميُّز به عن غيره [95] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/317-322)، ((تفسير ابن كثير)) (3/391)، ((مقاييس اللغة)) (3/320)، ((المفردات)) للراغب (ص: 497). .
إِبْلِيسَ: هو أبو الشَّياطينِ، وأصلُ الإبلاسِ: اليَأسُ، والحُزنُ المعترِضُ مِن شِدَّةِ اليأسِ، ومنه اشتُقَّ إبليسُ، وقيل: هو اسمٌ أعجميٌّ؛ ولذلك لم يَنصرِفْ [96] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 23)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 97)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 143)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/364). .
الصَّاغِرِينَ: أي: الـمُهانِينَ، أو الـمُبعَدينَ، جمْعُ صاغرٍ، والصَّغَارُ: الذِّلَّةُ، وأصلُ (صغر): يدُلُّ على قِلَّةٍ وَحَقَارَةٍ [97] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/290)، ((المفردات)) للراغب (ص: 485)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 201)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 567). .
أَنْظِرْنِي: أي: أخِّرْني وأجِّلْني، وأصلُ (نظر): تأمُّلُ الشَّيءِ ومعاينتُه، ومنه: نَظَرْتُه، أي: انتَظَرْتُه، كأنَّه ينظُرُ إلى الوَقتِ الذي يأتي فيه [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/90)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/444)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 108). .
أَغْوَيْتَنِي: أي: أضْلَلْتَني، والغَيُّ: جَهلٌ مِن اعتقادٍ فاسدٍ، وأصلُ (غوي): يدُلُّ على خِلافِ الرُّشدِ، وإِظْلامِ الْأَمْرِ، ويدلُّ على فَسادٍ في شَيْءٍ [99] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/399)، ((المفردات)) للراغب (ص: 620)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 108)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 153). .
مَذْؤُومًا: أي: مَذمومًا بأبلَغِ الذَّمِّ، أو مَلُومًا، وأَصْل (ذأم): يدلُّ على كَرَاهَةٍ وَعَيْبٍ [100] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 166)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/368)، ((المفردات)) للراغب (ص: 335)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 876). .
مَدْحُورًا: أي: مُقْصًى مطرودًا مُبْعَدًا؛ يُقَال: ادْحَرْ عنكَ الشَّيطانَ، أي: أَبعِدْه، وأصل الدَّحْرِ: الطَّردُ والإبعادُ [101] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 166، 255)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 416)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/331)، ((المفردات)) للراغب (ص: 308). .

مشكل الإعراب:

قوله: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي: في هذه الباءِ وَجهانِ؛ أحدُهما: أنْ تكونَ للقَسَمِ، أي: فأُقسِمُ بإغوائِكَ لأقعُدَنَّ. والثاني: أن تكون سَببيَّةً، تعلَّقَتْ بفعلِ القَسَمِ المحذوفِ، تقديرُه: فبما أغوَيتَني أُقسِمُ باللهِ لأَقعُدَنَّ، أي: فبسَبَبِ إغوائِك أُقسِمُ.
صِراطَكَ: (صِراطَ) مَنصوبٌ على نزْعِ الخافِضِ (على)، والتقديرُ: لأقعُدَنَّ لهم على صراطِك، أو منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به للفِعل أَقْعُدَنَّ على تَضمينِ الفِعلِ (قعَدَ) معنَى فِعلٍ مُتعدٍّ، والتقديرُ: لألزَمَنَّ صراطَك المستقيمَ بقُعودِي عليه، وقيلَ غيرُ ذلك [102] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/284)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/559)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/266-268). .

المعنى الإجمالي:

يمتَنُّ اللهُ على عبادِه بأنْ هيَّأَ لهم الأرضَ، وأقدَرَهم على الانتفاعِ بما فيها، ويَسَّرَ لهم فيها ما يعيشونَ به في حياتِهم، ومع ذلك فإنَّ قليلًا منهم مَن يَشكُرُه تعالى على نِعَمِه.
ثم خاطَبَ اللهُ بني آدَمَ قائلًا لهم إنَّه خلَقَ أباهم آدَمَ، ثمَّ صَوَّرَه بَشَرًا سَوِيًّا في أحسَنِ تَقويمٍ، ثمَّ قال للملائكةِ: اسجُدُوا لآدَمَ، فكُلُّهم امتَثَلَ الأمرَ وسجَدَ؛ إلَّا إبليسَ؛ استكبَرَ ورفَضَ السُّجودَ.
فسأله اللهُ تعالى عمَّا منَعَه مِنَ السُّجودِ حين أمَرَه، فأجاب أنَّ ما منَعَه مِن ذلك هو أنَّه أفضَلُ مِن آدَمَ؛ إذ خلَقَه اللهُ تعالى مِن نارٍ، بينما خلَقَ آدَمَ مِن طينٍ.
فأمَرَه اللهُ تعالى حينَها أن يَهبِطَ مِنَ الجنَّةِ؛ فليس له أن يتكبَّرَ فيها، وأمره أن يخرُجَ مِنَ الجنَّةِ، فهو من الذين قد نالهم مِن الله الصَّغارُ والذلُّ والمَهانةُ.
فطلب إبليسُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ أن يُمهِلَه إلى يومِ بَعثِ الخَلائِقِ، فأخبَرَه أنَّه مِنَ الـمُمهَلينَ. فأقسَمَ إبليسُ لِرَبِّه إنَّه بسبَبِ إغوائِه له، ليَلْزَمَنَّ لبني آدَمَ الطَّريقَ القَويمَ، ويَصُدُّهم عنه، مُزَيِّنًا لهم طريقَ الباطِلِ، وإنَّه سيَأتِيهم مِن جَميعِ الوُجوهِ، ومِن مُختَلِف الطُّرُق؛ لِيَصُدَّهم عن الحَقِّ، ولن يجِدَ تعالى أكثَرَهم شاكرينَ له.
فأمَرَه اللهُ أن يَخرُجَ مِنَ الجنَّةِ مَذمومًا مَمقوتًا مَطرودًا مِن رحمتِه، وأقسَم أنَّ مَن اتَّبعه مِن بني آدمَ، أنْ يملأَ جهنَّمَ مِن جميعِهم: مِن الكفرةِ أتباعِ إبليسَ، ومِنه وذرِّيتِه.

تفسير الآيات :

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ الخَلقَ بمتابَعةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وبقَبولِ دَعوَتِهم، ثمَّ خَوَّفَهم بعذابِ الدُّنيا، ثمَّ خَوَّفَهم بعذابِ الآخِرَةِ- رغَّبَهم في قَبولِ دَعوةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ في هذه الآيةِ بطَريقٍ آخَرَ، وهو أنَّه كَثُرَت نِعَمُ اللهِ عليهم، وكَثرةُ النِّعَمِ تُوجِبُ الطَّاعةَ [103] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/33). .
وأيضًا لَمَّا كان الدِّينُ الذي أمَرَ تعالى باتِّباعِ التَّنزيلِ فيه، هو دينَ الفِطرةِ، الـمُبَيِّنَ لكُلِّ ما يُوصِلُها إلى كمالِها، والنَّاهيَ لها عن كُلِّ ما يَحُولُ بينها وبين هذا الكَمالِ، وكان افتتانُ النَّاسِ بأمْرِ المَعيشةِ مِن أسبابِ إفسادِ الفِطرةِ، بالإسرافِ في الشَّهَواتِ، مِن حيثُ إنَّه يجِبُ أن تكونَ نِعَمُ اللهِ عليهم بما يحتاجونَ إليه مِن أمرِ المَعيشةِ، سببًا لإصلاحِها بشُكرِ اللهِ عليه، الموجِبِ للمَزيدِ منه - لَمَّا كان الأمرُ كذلك، ذكَّرَ سبحانه النَّاسَ في هذه الآيةِ بنِعَمِه عليهم في التَّمكينِ في الأرضِ، وخَلْقِ أنواعِ المعايشِ فيها [104] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/289). ، فقال:
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ
أي: ولقد هيَّأْنا لكم الأرضَ- أيُّها النَّاسُ- وأقدَرْناكم عليها، وجَعَلْناها لكم قرارًا تستَقِرُّونَ فيها، وفِراشًا تفتَرِشونَها، وأبَحْنا لكم منافِعَها [105] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/73)، ((تفسير ابن كثير)) (3/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/33). .
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ
أي: ويسَّرْنا لكم في الأرضِ ما تعيشونَ به أيامِ حياتِكم؛ مما يخرُجُ مِنَ الأشجارِ والنَّباتاتِ، ومِنَ المعادِنِ والحيواناتِ، والصَّنائِعِ والتِّجاراتِ، وغيرِ ذلك مِن أسبابِ المعيشةِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/73)، ((تفسير القرطبي)) (7/167)، ((تفسير ابن كثير)) (3/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284). .
قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
أي: وأنتم مع ذلك قليلٌ شكرُكم على هذه النِّعَمِ التي أنعَمْتُها عليكم [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/73)، ((تفسير البغوي)) (1/330). قال السمعاني: (أمَّا الكُفَّارُ فلا يشكُرونَ، وأمَّا المؤمنونَ فلم يبلُغُوا غايةَ الشُّكرِ). ((تفسير السمعاني)) (1/246). وقال ابنُ عاشور: (الخِطابُ للمُشركينَ خاصَّةً؛ لأنَّهم الذين قلَّ شُكرُهم لله تعالى؛ إذ اتَّخَذوا معه آلهةً، ووَصفُ قليلٍ يستعمَلُ في معنى المَعدومِ، ويجوز أن يكون على حقيقَتِه، أي: إنَّ شُكرَكم اللهَ قليلٌ؛ لأنَّهم لَمَّا عرفوا أنَّه رَبُّهم، فقد شَكَروه، ولكنَّ أكثَرَ أحوالِهم هو الإعراضُ عن شُكرِه، والإقبالُ على عبادةِ الأصنامِ وما يَتبَعُها). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/35). .
كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] .
 وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243] .
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
مناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر سبحانَه ما منَحَ العبادَ مِنَ التَّمكينِ؛ ذكَّرَهم بنعمةِ الإيجادِ، وهي نعمةُ عنايةٍ، بعد ما كانوا عليه مِنَ العَدَمِ، وذكَرَ تفضيلَه لهم؛ حيث خلَقَ أباهم آدَمَ، وأمَرَ الملائكةَ بالسُّجودِ له؛ فإنَّ الإنعامَ على الأبِ يَجرِي مَجرى الإنعامِ على الابنِ، ثمَّ ذكَرَ لهم أنَّ أباهم لَمَّا خالفَ الأمرَ أهبَطَه مِنَ الجنَّةِ؛ وفي ذلك تحذيرٌ لذُرِّيتِه [108] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/205)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/362)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/35-36). .
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
أي: ولقد خَلَقْنا أباكم آدَمَ عليه السَّلامُ، ثمَّ صَوَّرْناه بشرًا سَوِيًّا في أحسَنِ تَقويمٍ [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/79)، ((تفسير ابن كثير)) (3/391)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284). واختار كونَ المرادِ بقَولِه: خَلَقْنَاكُمْ وصَوَّرْنَاكُمْ آدَمَ عليه السَّلامُ: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثيرٍ، والسَّعديُّ، وابنُ عاشور، والشِّنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/79)، ((تفسير ابن كثير)) (3/391)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/36-37)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/102-109). قال ابنُ كثير: (وإنَّما قيل ذلك بالجَمعِ؛ لأنَّه أبو البَشَر، كما يقول اللهُ تعالى لبني إسرائيلَ الذينَ كانوا في زَمَنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى والمراد: آباؤُهم الذين كانوا في زَمَنِ موسى عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن كثير)) (3/391). وقال ابنُ عاشور: (ونظيرُه قولُه تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ أي: حَمَلْنا أصولَكم، وهُمُ الذينَ كانوا مع نوحٍ، وتناسَلَ منهم النَّاسُ بعد الطُّوفانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/36-37). وقد ذهَبَ بعضُ السَّلَفِ إلى أنَّ المعنى: ولقد خَلَقْناكم في ظَهرِ آدَمَ- أيُّها النَّاسُ- ثمَّ صَوَّرْناكم في أرحامِ النِّساءِ.  وقال بعضُهم: معنى ذلك: ولقد خَلَقْناكم في أصلابِ آبائِكم، ثمَّ صَوَّرْناكم في بُطُونِ أُمَّهاتِكم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/75، 77). .
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
أي: لَمَّا خَلَقْنا آدَمَ وصَوَّرناه، قُلْنا للملائكةِ ابتلاءً منَّا واختبارًا لهم: اسجُدُوا لآدَمَ؛ إكرامًا له، وإظهارًا لفَضْلِه عليه السَّلامُ [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284). .
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ
أي: فسجَدَ الملائكةُ كُلُّهم إلَّا إبليسَ، لم يكُنْ مِنَ السَّاجدينَ لآدَمَ عليه السَّلامُ؛ تكبُّرًا عليه، وإعجابًا بنَفسِه [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284). وقد اختلف أهلُ العِلمِ في إبليسَ: هل كان مِنَ الملائكةِ أو لم يكُنْ منهم، على قولين: القول الأول: أنَّه كان مِنَ الملائكةِ، وهو قولُ الجُمهورِ، واختارَه ابنُ جريرٍ، والبَغَويُّ، وابن عطيةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/542)، ((تفسير البغوي)) (1/104)، ((تفسير ابن عطية)) (1/124). القول الثاني: أنَّه لم يكُنْ مِنَ الملائكةِ، وهو قولُ الحَسَن البصريِّ، واختاره ابنُ كثير، وابنُ عاشور، والشِّنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/230) و(5/167)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/41)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/290). .
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ
أي: قال اللهُ تعالى لإبليسَ: ما منَعك مِن السُّجودِ، فأحوجَك ألَّا تسجدَ لآدَمَ حين أمَرْتُك بالسُّجُودِ له [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/82)، ((تفسير ابن كثير)) (3/392).  قال الشنقيطي: (في (لا) هنا وجهان: أحدُهما: أنَّمَا مَنَعَكَ مضمَّنةٌ معنى فِعل [آخر، هو ألجأ] و (لا) في بابها ليسَتْ زائدة، أي: ما ألجأَكَ وأحوَجَك إلى أنْ لا تسجُدَ؟ [أي:] ما المانِعُ الذي ألجأَك وأحوَجَك إلى أن لا تسجُدَ؟! وتضمينُ الفِعلِ معنى فعلٍ، معروفٌ، قال به عامَّةُ عُلماءِ النَّحو من البَصريين. وأظهَرُ القولين في هذا: أنَّ (لا) هنا جيءَ بها لتأكيدِ النَّفيِ؛ لأنَّ (منعك) في معنى الجُحودِ والنَّفي، وإتيانُ (لا) زائدةً في الكلامِ الذي فيه معنى الجَحدِ، مطَّرِدٌ،... ومن أساليبِ اللُّغة العربية زيادةُ لَفظِ (لا) لتوكيدِ الكلام). ((العذب النمير)) (3/112، 114). ويُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 263). ؟
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
أي: قال إبليسُ لله سبحانه: منعني من السُّجودِ له أنَّني أفضَلُ منه؛ لأنَّك خَلَقْتَني مِن النَّارِ، وخَلَقْتَه مِن الطِّينِ، والنَّارُ أفضَلُ مِنَ الطِّينِ، فكيف أسجُدُ له [113] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/353)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/41-42)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/119-121). قال الشنقيطي: (قولُه تعالى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ذُكِرَ في هذه الآيةِ الكَريمةِ: أنَّ إبليسَ لعَنَه اللهُ خُلِقَ مِن نارٍ، وعلى القولِ بأنَّ إبليسَ هو الجانُّ الذي هو أبو الجِنِّ، فقد زاد في مواضِعَ أُخَرَ أوصافًا للنَّارِ التي خلَقَه منها؛ من ذلك أنَّها نارُ السَّمُومِ، كما في قوله: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27]، ومِن ذلك أنَّها خُصوصُ المارِج، كما في قوله: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15]، والمارِجُ أخَصُّ مِن مُطلَق النَّار؛ لأنَّه اللَّهَب الذي لا دُخَان فيه. وسُمِّيَت نارَ السَّمومِ؛ لأنَّها تَنفُذُ في مسامِّ البَدَنِ؛ لشِدَّةِ حَرِّها). ((أضواء البيان)) (2/10). وقال الشنقيطي أيضًا: (قولُه جلَّ وعلا حكايةً عن إبليسَ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ كأنَّ اللهَ لَمَّا سألَ إبليسَ- وهو عالِمٌ؛ لأنَّه جلَّ وعلا أعلَمُ بالموجِبِ الذي بسبَبِه امتنَعَ إبليسُ من السجود- قال له: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ وهو أعلَمُ، فأجاب إبليسُ- عليه لعائن الله- بما كان يُضمِرُه مِنَ الكِبر، وكأنَّه اعتَرَض على ربِّه، وواجه ربَّه جلَّ وعلا بأنَّ تكليفَه إيَّاه أمرٌ لا ينبغي ولا يصلُحُ!! فخَطَّأَ ربَّه جلَّ وعلا، سبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا! وجعل ذلك ذريعةً له ومُبَرِّرًا في زَعمِه الباطِلِ لعَدَمِ السُّجود). ((العذب النمير)) (3/119). ؟
كما قال تعالى: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 75-76] .
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَتِ الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارجٍ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم )) [114] رواه مسلم (2996). .
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا
أي: قال اللهُ تعالى لإبليسَ: فاهبِطْ مِنَ الجنَّةِ؛ بسبَبِ عصيانِك لأمرِي، وخُروجِك عن طاعَتي؛ فليس لك أن تستكبِرَ في الجَنَّةِ عن طاعتي وأمرِي [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/88)، ((تفسير ابن كثير)) (3/393). وقد اختلف المُفَسِّرون: هل المرادُ الهبوطُ مِنَ الجنَّة أو الهبوطُ مِنَ السَّماء أو مِنَ المنزِلَة والمكانةِ؟ على أقوال: الأوَّل: أنَّ المعنى: فاهبِطْ مِنَ الجنَّة؛ فليس لك أن تستكبِرَ في الجنَّة. اختاره ابنُ جرير وابن عطية والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/88)، ((تفسير ابن عطية )) (2/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284). وينظر أيضًا: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 28). الثاني: أنَّ المعنى: فاهبِطْ من السَّماءِ؛ فليس لك أن تستكبِرَ في السَّماءِ. اختاره الواحدي والقرطبي. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/354)، ((تفسير القرطبي)) (7/173). الثالث: أنَّ المرادَ المنزلةُ التي كان فيها في المَلَكوتِ الأعلى. ذكره ابنُ كثير احتمالًا. ((تفسير ابن كثير)) (3/393). .
فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
أي: فاخرُجْ مِنَ الجنَّةِ؛ إنَّك مِنَ الذَّلِيلينَ الحَقيرينَ [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/89)، ((تفسير ابن كثير)) (3/393). .
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
أي: قال إبليسُ: أخِّرْني وأمهِلْني إلى أن يُبعَثَ الخَلقُ يومَ القِيامةِ [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/90)، ((البسيط)) للواحدي (9/47)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/106). قال الشنقيطي: (قولُه تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ لم يُبَيِّنْ هنا في سُورةِ الأعرافِ الغايةَ التي أنظَرَه إليها، وقد ذَكَرَها في «الحِجْر» و«ص»، مُبَيِّنًا أنَّ غايةَ ذلك الإنظارِ هو يومُ الوَقتِ المَعلومِ؛ لِقَولِه: في سورة «الحِجر» و «ص»: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ فقد طلَبَ الشَّيطانُ الإنظارَ إلى يومِ البَعثِ، وقد أعطاه اللهُ الإنظارَ إلى يَومِ الوَقتِ المَعلومِ. وأكثَرُ العُلماءِ يقولون: المُرادُ به وَقتُ النَّفخةِ الأولى، والعِلمُ عندَ اللهِ تعالى). ((أضواء البيان)) (2/11). .
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
أي: قال اللهُ لإبليسَ: إنَّك مِنَ المؤخَّرينَ الذين لا يُميتُهم اللهُ إلَّا وَقتَ النَّفخةِ الأولى، حين يموتُ الخَلقُ كُلُّهم [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/90-91)، ((تفسير البغوي)) (2/182-183)، ((تفسير القرطبي)) (7/173-174)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/11). .
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
أي: قال إبليسُ مُخاطبًا رَبَّه: فبسَبَبِ إضلالِك لي، أُقسِمُ بك لألزَمَنَّ الجلوسَ لذُرِّيَّةِ آدَمَ على طريقِكَ الحَقِّ القَويمِ، المُوصِلِ إلى الجنَّة- وهو الإسلامُ وشرائِعُه- فأَصُدُّهم عن عبادَتِك وطاعَتِك، وأُزَيِّنُ لهم الباطِلَ؛ لئلَّا يُوَحِّدوك ويَعبُدوك [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/91، 93)، ((تفسير القرطبي)) (7/175)، ((تفسير ابن كثير)) (3/393-394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/46-47). قال ابن القيم: (أفضَلُ ما يُقَدِّرُ اللهُ لعَبدِه وأجَلُّ ما يَقسِمُه له: الهُدى، وأعظَمُ ما يبتليه به ويُقَدِّرُه عليه: الضَّلالُ، وكلُّ نعمةٍ، دونَ نِعمةِ الهدى، وكلُّ مُصيبةٍ، دُونَ مُصيبةِ الضَّلالِ، وقد اتَّفَقَت رُسُلُ اللهِ مِن أوَّلِهم إلى آخِرِهم، وكُتُبُه المُنَزَّلةُ عليهم، على أنَّه سبحانه يُضِلُّ مَن يشاءُ، ويَهدي مَن يشاء، وأنَّه مَن يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِيَ له، وأنَّ الهُدى والإضلالَ بِيَدِه لا بِيَدِ العَبدِ، وأنَّ العَبدَ هو الضَّالُّ أو المُهتدي؛ فالهدايةُ والإضلالُ فِعلُه سبحانه وقَدَرُه، والاهتداءُ والضَّلالُ فِعلُ العَبدِ وكَسْبُه). ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 65). .
كما قال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82-83] .
وعن سَبْرةَ بنِ أبي فاكهٍ رَضِيَ الله عنه، قال: سمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ الشَّيطانَ قعَدَ لابنِ آدَمَ بأطرُقِه، فقعد له بِطَريقِ الإسلامِ، فقال له: أتُسلِمُ وتَذَرُ دِينَك، ودينَ آبائِك، وآباءِ أبيك؟! قال: فعصاه، فأسلَمَ، ثمَّ قعَدَ له بطريقِ الهِجرةِ، فقال: أتُهاجِرُ وتَذَرُ أرضَك، وسماءَك؟! وإنَّما مَثَلُ المُهاجِرِ كمَثَلِ الفَرَسِ في الطِّوَلِ [120] الطِّوَل: هو الحَبلُ الذي يُشَدُّ أحَدُ طَرَفيهِ في وَتِدٍ، والطَّرَفُ الآخَرُ في يَدِ الفَرَسِ، وهذا من كلامِ الشَّيطانِ، ومقصودُه: أنَّ المُهاجِرَ يصيرُ كالمُقَيَّدِ في بلادِ الغُربةِ؛ لا يدورُ إلَّا في بَيتِه، ولا يُخالِطُه إلَّا بعضُ مَعارِفِه، فهو كالفَرَسِ في طِوَلٍ، لا يدورُ ولا يرعى إلَّا بقَدْرِه، بِخِلافِ أهلِ البِلادِ في بلادِهم؛ فإنَّهم مَبسوطونَ لا ضِيقَ عليهم، فأحَدُهم كالفَرَسِ المُرسَلِ. يُنظر: ((حاشية السِّندي على سنن النسائي)) (6/22). ، قال: فعَصَاه فهاجَرَ، قال: ثمَّ قعَدَ له بِطَريقِ الجِهادِ، فقال: هو جَهْدُ النَّفسِ والمالِ، فتُقاتِلُ فتُقتَلُ، فتُنكَحُ المرأةُ، ويُقسَمُ المالُ، قال: فعصاه فجاهَدَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فمَن فعَلَ ذلك منهم فمات، كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ ، أو قُتِلَ كان حَقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ، وإن غَرِقَ كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ ، أو وَقَصَتْه [121] الوَقْصُ: كَسْرُ العُنُقِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/214)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/206). دابَّةٌ كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ )) [122] أخرجه النسائي (3134) واللفظ له، وأحمد (16000)، وابن حبان (4593). قال المِزِّي في ((تهذيب الكمال)) (7/49): في إسنادِه اختلافٌ، وذكر أنَّ له متابَعةً، وصحَّحَ إسنادَه العراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (3/35)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3134). .
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ
أي: ثمَّ لآتِينَّ بني آدَمَ مِن جَميعِ الوُجوهِ، ومُختَلِفِ الطُّرُق، فأصُدُّهم عن الحَقِّ، وأُحَسِّنُ لهم الباطِلَ [123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284). .
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا عَلِمَ الخبيثُ إبليسُ أنَّهم ضُعفاءُ، قد تغلِبُ الغفلةُ على كثيرٍ منهم، وكان جازمًا ببَذلِ مجهودِه على إغوائِهم- ظَنَّ وصَدَّق ظَنَّه، فقال [124] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 285). :
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
أي: ولا تجِدُ أكثَرَ بني آدَمَ شاكرينَ لك، بل يُشرِكونَ بك، ولا يُوَحِّدونَك، ويعصُونَك، ولا يُطيعونَك [125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/101)، ((الوسيط)) للواحدي (2/355)، ((تفسير ابن عطية)) (2/381)، ((تفسير القرطبي)) (7/176). .
وقولُ إبليسَ هذا إنَّما هو ظنٌّ منه وتوَهُّم، وقد وافَقَ في هذا الواقِعَ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [126] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/395). [سبأ:20-21] .
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا
أي: قال اللهُ عزَّ وجلَّ لإبليسَ: اخرُجْ مِنَ الجنَّةِ مَذمومًا ممقوتًا، مطرودًا مِن رحمةِ اللهِ سبحانه [127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/101-102)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/11). وتقدَّمَ قريبًا في تفسيرِ قَولِه تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [الأعراف:13] خلافُ المفَسِّرين في عَودِ الضَميرِ في قولِه: منها .
كما قال تعالى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 77-78] .
لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ
أي: أُقسِمُ على أنَّ مَنِ اتَّبَعك مِن بَني آدَمَ أنْ أمَلأَ نارَ جهنَّمَ يومَ القيامةِ منهم ومِنك ومِن ذُرِّيتِك [128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/105)، ((الوسيط)) للواحدي (2/356)، ((تفسير السعدي)) (ص: 285). قال النحَّاس: (قال أبو إسحاقَ: من قرأ لَمَنْ تَبِعَكَ بفَتحِ اللَّامِ؛ فهي عِندَه لامُ قَسمٍ، وهي توطِئَةٌ لِقَوله: لَأَمْلَأَنَّ، وقال غيرُه: لَمَنْ تَبِعَكَ هي لامُ توكيدٍ، لَأَمْلَأَنَّ لامُ قسمٍ، الدليلُ على هذا أنَّه يجوزُ في غيرِ القُرآنِ حَذفُ اللامِ الأولى، ولا يجوزُ حَذفُ الثَّانية). ((إعراب القرآن)) (2/47). .
كما قال تعالى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 63-65] .
وقال سبحانه: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84-85] .

الفوائد التربوية:

1- في التَّعقيبِ بهذه الآيةِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ على آيةِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا إيماءٌ إلى أنَّ إهمالَ شُكْرِ النِّعمةِ يُعَرِّضُ صاحِبَها لِزَوالِها، وهو ما دلَّ عليه قَولُه: أَهْلَكْنَاهَا [1210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9-ب/36) .
2- قولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ... فيه التَّذكيرُ بنِعمةِ الإيجادِ؛ ليشكُرُوا مُوجِدَهم [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9-ب/37). .
3- قولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فيه تنبيهٌ وإيقاظٌ إلى عَداوةِ الشَّيطانِ لِنَوعِ الإنسانِ مِنَ القِدَمِ؛ ليكون ذلك تحذيرًا مِن وَسوَسَتِه وتَضليلِه، وإغراءً بالإقلاعِ عمَّا أوقَعَ فيه النَّاسَ مِن الشِّركِ والضَّلالةِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9-ب/38). .
4- جعْلُ امتثالِ أمْرِ الرَّبِ تعالى مشروطًا باستحسانِ العَبدِ له، ومُوافَقَتِه لرَأيِه وهواه؛ هو رفضٌ لطاعةِ الرَّبِّ، وترَفُّعٌ عن مرتبةِ العبد [132] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/2103).
5- في قَولِه تعالى عن إبليسَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إشارةٌ إلى أنَّ العُجْبَ هو الذي أَهلَكَه [134] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 68). .
6- الاحتجاجُ على فضلِ الإِنسانِ على غيرِه بفضلِ أصْلِه على أصلِه حَجَّةٌ فاسِدَةٌ، احتجَّ بها إبليسُ حيثُ قال: أَنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، وهي حجَّةُ الَّذين يفخرونَ بأنسابِهم، وقد قال النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: ((مَن بطَّأ به عملُه لم يُسرِعْ به نَسَبُه )) [136] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/7). والحديث أخرجه مسلم (271010) من حديث أبي هريرة. .
7- التكبُّرُ على اللهِ تعالى يوجِبُ العِقابَ الشَّديدَ، والإخراجَ مِن زُمرةِ الأولياءِ، والإدخالَ في زُمرةِ المَلْعونينَ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [137] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/2010). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ فيه تنبيهٌ على أنَّه ليس لِمَن في الجنَّةِ أنْ يتكبَّرَ، وأنَّ التكبُّرَ لا يليقُ بأهلِ الجنَّةِ والسَّماءِ، وأنَّه تعالى إنَّما طرَدَ إبليسَ لتكبُّرِه، لا لمجرَّدِ المعصيةِ، وكما في الحديثِ: ((لا يَدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قَلْبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبْرٍ )) [138] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/314)، ((تفسير الشربيني)) (1/476). والحديثُ أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (101) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا. .
9- قال الله تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ حكمةُ إنظارِ اللهِ تعالى لإبليسَ- وإن كان ذلك سَببًا للغَوايةِ والفِتنةِ- أنَّ في ذلك ابتلاءَ العبادِ بمُخالَفَتِه وطَواعِيَتِه، وما يترتَّبُ على ذلك مِن إعظامِ الثَّوابِ بالمُخالفةِ، وإدامةِ العِقابِ بالطَّواعِيَةِ [139] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/110). .
10- قال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ إنَّما نَبَّهَنا اللهُ تعالى على ما قال إبليسُ وعَزَم على فِعْلِه؛ لِنأخُذَ منه حِذْرَنا، ونستَعِدَّ لعَدُوِّنا، ونحترِزَ منه بعِلْمِنا بالطَّريقِ التي يأتي منها، ومَداخِلِه التي ينفُذُ منها [1310] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:294). .
11- في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ إشارةٌ إلى منزلةِ الشُّكرِ؛ حيث إنَّ ابليسَ لَمَّا عَرَفَ قدْرَ مقامِ الشُّكرِ، وأنَّه مِن أجَلِّ المقاماتِ وأعلاها، جَعَلَ غايَتَه أنْ يسعَى في قَطْعِ النَّاسِ عنه [140] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 118). .

الفوائد العلمية واللطائف:

في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ إثباتُ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ للهِ تعالى- كصِفةِ الكَلامِ هنا- فهذا بَيِّنٌ في أنَّه إنَّما أَمَرَ الملائكةَ بالسُّجودِ بعد خَلْقِ آدمَ، ولم يَأمُرْهُم في الأزَلِ [142] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/222). .
قولُه تعالى: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ استُدلَّ به على أنَّ صِيغةَ (افْعَلْ) تأتي -في أصلِ وضعِها- للوُجوبِ، وكذلك قولُه: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ استُدِلَّ به على أنَّ مُطلَقَ الأمرِ يدلُّ على الوُجوبِ؛ لذمِّ إبليسَ على امتناعِه مِنَ السُّجُودِ، ولو لم يَدُلَّ على الوُجوبِ لم يَستوجِبِ الذَّمَّ والتوبيخَ [143] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/207)، ((تفسير أبي حيان)) (5/18)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/115). .
استُدِلَّ بقَولِه تعالى: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ على تفضيلِ النبيِّ على المَلَك؛ لأنَّ اللهَ أَمَرَ الملائكةَ بالسُّجودِ لآدَمَ على سبيلِ التَّكريمِ له؛ حتى قال إبليسُ: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [144] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/386). [الإسراء: 62] .
قولُ الله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ استُدِلَّ به على أنَّ مُطلَقَ الأمرِ يدلُّ على الفَورِ؛ لِذَمِّ إبليسَ على امتناعِه مِنَ السُّجودِ في الحالِ، ولو لم يدُلَّ على الفَورِ لم يستوجِبِ الذَّمَّ في الحالِ [145] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/207-208)، ((تفسير أبي حيان)) (5/18). .
قوله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قال الله هنا في سورةِ الأعرافِ: مَا مَنَعَكَ وفي سورةِ الحِجر قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَالَكَ أَلَّا تُكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ وقال في سورةِ ص: أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ واختلافُ العباراتِ عندَ الحكايةِ يدلُّ على أنَّ اللعينَ قد أَدْرج في معصيةٍ واحدةٍ ثلاثَ معاصٍ: مخالفةُ الأمرِ، ومفارقةُ الجماعةِ، والاستكبارُ معَ تحقيرِ آدمَ، وقد وُبِّخ على كلِّ واحدةٍ منها، لكن اقتصر عندَ الحكايةِ في كلِّ موطنٍ على ما ذكر فيه؛ اكتفاءً بما ذكر في موطنٍ آخرَ [146] ((فتح البيان في مقاصد القرآن)) لمحمد صديق خان (4/310). .
قولُ الله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ استُدِلَّ به على أنَّ القِياسَ في مَورِدِ النَّصِّ فاسِدٌ [147] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/18). ، فقد كانت حُجَّةُ إبليسَ باطلة؛ لأنَّه عارضَ النصَّ بالقِياسِ [148] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/5). وقال ابن تيمية: (ويظهرُ فسادُها بالعقلِ مِن وُجوهٍ خمسةٍ: أحدُها: أنَّه ادَّعَى أنَّ النارَ خَيْرٌ مِن الطينِ، وهذا قد يُمنعُ؛ فإنَّ الطِّينَ فيه السَّكينَةُ والوَقارُ والاستقرارُ والثَّباتُ والإمساكُ ونحوُ ذلك، وفي النارِ الخِفَّةُ والحِدَّةُ والطَّيْشُ، والطينُ فيه الماءُ والتُّرابُ. الثاني: أنَّه وإن كانت النارُ خَيْرًا مِن الطينِ، فلا يَجِبُ أن يَكونَ المخلوقُ مِن الأفضلِ أفضلَ؛ فإنَّ الفرعَ قَد يختصُّ بما لا يكونُ في أصْلِه، وهذا التُّرابُ يُخْلَقُ منه مِن الحيوانِ والمعادنِ والنَّباتِ ما هو خيرٌ منه. الثالثُ: أنَّه وإن كان مخلوقًا من طينٍ، فقد حَصَل له بنفْخِ الروحِ المقدَّسةِ فيه ما شُرِّف به، فلهذا قال: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فعُلِّق السُّجودُ بأن ينفُخَ فيه مِن روحِه، فالموجِبُ للتَّفْضيلِ هذا المعنَى الشَّريفُ، الَّذي ليس لإبليسَ مِثْلُه. الرابِعُ: أنَّه مخلوقٌ بيدَي اللَّهِ تعالَى، كما قال تعالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الخامسُ: أنَّه لو فُرِضَ أنَّه أفضلَ فقد يُقالُ: إكْرامُ الأفضلِ للمفضولِ ليس بمُستنكَرٍ). ((مجموع الفتاوى)) (15/5) بتصرف. .
قولُ الله تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ أصلٌ في ثُبُوتِ الحَقِّ لأهلِ المحَلَّةِ أن يُخرِجُوا مِن مَحَلَّتِهم مَن يُخشَى مِن سِيرَتِه فُشُوُّ الفَسادِ بينهم [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/44). .
قولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أفاد التَّأكيدُ بـ (إنَّ) والإخبارُ بصيغةِ (مِنَ المُنْظَرينَ) أنَّ إنظارَه أمرٌ قد قضاه اللهُ وقَدَّرَه مِن قَبلِ سُؤالِه؛ أي: تحقَّقَ كَونُك مِن الفَريقِ الذين أُنظِرُوا إلى يومِ البَعثِ، وأنَّ اللهَ ليس بمُغَيِّرٍ ما قدَّرَه له، فجوابُ اللهِ تعالى لإبليسَ إخبارٌ عن أمرٍ تحَقَّقَ، وليس إجابةً لطَلِبَةِ إبليسَ [150] قال ابنُ جريرٍ: (فإنْ قال قائلٌ: فإنَّ اللَّه قد قال له إذْ سأَله الإنظارَ إلى يومِ يُبْعَثونَ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ في هذا الموضعِ، فقد أجابَه إِلى ما سَأل؟ قِيل له: ليس الأمرُ كذلك، وإنَّما كان مُجيبًا له إِلى ما سأل لو كان قال له: إِنَّك مِنَ المُنظَرينَ إلى الوقتِ الَّذي سألتَ، أو إلى يومِ البعثِ، أو إلى يومِ يُبعثون، أو ما أشْبَه ذلك ممَّا يدلُّ على إجابَتَه إِلى ما سأَلَ مِنَ النَّظِرَةِ). ((تفسير ابن جرير)) (10/90). ؛ لأنَّه أهونُ على اللهِ مِن أن يُجيبَ له طلبًا، وهذه هي النُّكتةُ في العدولِ عَن أن يكونَ الجوابُ: أنظَرْتُك، أو أجبْتُ لك؛ ممَّا يدُلُّ على تَكرُمةٍ باستجابةِ طَلَبِه، ولكنَّه أعلَمَه أنَّ ما سألَه أمرٌ حاصِلٌ، فسؤالُه تحصيلُ حاصلٍ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/46). .
إن قال قائل: فهل أحَدٌ مُنْظرٌ إلى ذلك اليومِ سِوى إبليسَ، فيُقال له: (إنك منهم)؟
قيل: نعم، مَنْ لم يقبضِ الله رُوحَه مِن خلقِه إلى ذلك اليومِ، ممَّن تقومُ عليه الساعةُ، فهم مِن المنظرين بآجالِهم إليه، ولذلك قِيل لإبليسَ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، بمعنى: إنَّك ممَّن لا يميتُه الله إلا ذلك اليومَ [152] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/90). .
قال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.. استخدَمَ لفظَ القُعودِ؛ لأنَّ المرادَ مِنَ الآيةِ أنَّه يُواظِبُ على الإفسادِ مُواظبةً لا يفتُرُ عنها، فإنَّ مَن أراد أن يبالِغَ في تكميلِ أمرٍ مِنَ الأمورِ، قعدَ حتى يصيرَ فارِغَ البالِ، فيُمكِنه إتمامُ المقصودِ [153] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/212). .
قولُه تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ يدلُّ على أنَّ إبليسَ عَلِمَ أنَّ اللهَ خلَقَ البَشَر للصَّلاحِ والنَّفعِ، وأنَّه أودَعَ فيهم معرفةَ الكَمالِ، وأعانهم على بلوغِه بالإرشادِ، وبهذا الاعتبارِ كان إبليسُ عَدُوًّا لبني آدمَ؛ لأنَّه يطلُبُ منهم ما لم يُخلَقوا لأجلِه، وما هو مُنافٍ للفِطرةِ التي فطرَ اللهُ عليها البشَرَ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/48). .
قولُ الله تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ إبليسَ كان عالِمًا بالدِّينِ الحقِّ، والمنهجِ الصَّحيحِ؛ لأنه قال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وصراطُ اللهِ المستقيمُ هو دِينُه الحقُّ، ودلَّ أيضًا على أنَّ إبليسَ كان عالِمًا بأنَّ الذي هو عليه مِنَ المذهَبِ والاعتقادِ هو مَحضُ الغَوايةِ والضَّلالِ؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك لَمَا قال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي [155] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/212). .
قال اللهُ تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ في هذا بيانٌ واضِحٌ على فسادِ ما يقولُ القَدَريَّةُ مِن أنَّ كُلَّ مَن كفَرَ أو آمَنَ فبِتَفويضِ اللهِ أسبابَ ذلك إليه، وأنَّ السَّبَبَ الذي به يَصِلُ المؤمِنُ إلى الإيمانِ، هو السبَبُ الذي به يصِلُ الكافِرُ إلى الكُفرِ، وذلك أنَّ ذلك لو كان كما قالوا لكان الخَبيثُ قد قال بقَولِه: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي فبما أصلَحْتَني، إذ كان سببُ الإغواءِ هو سببَ الإصلاحِ، وكان في إخبارِه عن الإغواءِ إخبارٌ عَنِ الإصلاحِ، ولكِنْ لَمَّا كان سَبَباهما مختلفينِ، وكان السَّبَبُ الذي به غوى وهلك، مِن عندِ اللهِ؛ أضاف ذلك إليه فقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي [156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/92، 93). ، فخالف القَدَريَّة وغيرُهم شيخَهم إبليسَ الذي طاوَعُوه في كلِّ ما زَيَّنَه لهم، ولم يطاوِعوه في هذه المسألةِ، ويقولون: أخطأ إبليسُ، وهو أهلٌ للخَطَأِ؛ حيث نسَبَ الغَوايةَ إلى ربِّه، تعالى اللهُ عَن ذلك. فيُقال لهم: وإبليسُ وإن كان أهلًا للخطأِ، فما تصنعونَ في نَبيٍّ مُكَرَّمٍ مَعصومٍ، وهو نوحٌ عليه السَّلامُ؛ حيث قال لِقَومِه: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [157] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/175). [هود: 34] .
وَجهُ جَمعِ اليَمينِ والشِّمالِ في قَولِه تعالى عن إبليسَ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ أنَّه جاءَ في مُقابلةِ كَثرةِ مَن يريدُ إغواءَهم، فكأنَّه أَقسمَ أنْ يأتيَ كلَّ واحدٍ مِن بَينِ يَدَيه ومِن خَلْفِه، وعن يمينِه وعَن شِمالِه، ولا يحسُنُ هنا عن يَمينِهم وعن شِمالِهم، بل الجمعُ هنا مِن مُقابلةِ الجُملةِ بالجملةِ، المقتضي توزيعَ الأفرادِ، ونظيرُه: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [158] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/120). .
ذكَرَ اللهُ تعالى عن آدَمَ عليه السَّلامُ أنَّه لَمَّا فعَلَ ما فَعَل، قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وعن إبليسَ أنه قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، فمَن تاب أشبَهَ أباه آدَمَ، ومن أصَرَّ واحتَجَّ بالقَدَرِ، أشبَهَ إبليسَ [159] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/134)، ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/240). .
كان إبليسُ أوَّلَ مَن قَدَّمَ القَدَرَ على الأمرِ، وعارَضَه به، وقال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، وقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فرَدَّ أمرَ اللهِ بقَدَرِه، واحتجَّ على ربِّه بالقَدَر [160] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 62). .
قَولُه تعالى: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا دلَّ على أنَّ ذلك الوَصْفَ لا يُغتفَرُ منه؛ لأنَّ النَّفيَ بصيغةِ (ما يكونُ لك كذا) أشَدُّ مِنَ النَّفيِ بـ (ليس لك كذا)، وهو يستلزِمُ هنا نهيًا؛ لأنَّه نفاه عنه مع وقوعِه [161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/44). .

بلاغة الآيات:

قولُه تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ
قوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ فيه تأكيدُ الخبَرِ باللَّامِ و (قد) المفيدِ للتَّحقيقِ؛ تنزيلًا للمقصودِينَ مِنَ الخطابِ مَنزلةَ مَن يُنكِرُ مَضمونَ الخَبَر؛ لأنَّهم لَمَّا عَبَدوا غيرَ اللهِ كان حالُهم كحالِ مَن يُنكِرُ أنَّ الله هو الذي مكَّنَهم مِنَ الأرضِ، أو كحالِ مَن يُنكِرُ وُقوعَ التَّمكينِ مِن أصلِه [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/33). .
قوله: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ فيه تقديمُ لَكُمْ فِيهَا على المفعولِ به مَعَايِشَ مع أنَّ الأصلَ أنْ يُقَدَّمَ المفعولُ به على غَيرِه مِن مُتعَلِّقاتِ الفِعلِ؛ لأنَّ القاعدةَ في تَقديمِ بعضِ الكَلامِ على بعضٍ، هي أن يُقَدَّمَ المقصودُ بالذَّاتِ، والأهَمُّ فالأهَمُّ منه؛ فهَاهُنا ثلاثةُ أشياءَ: المعايشُ، وكونُها في الوَطَنِ الذي يعيش فيه المَرءُ، وكَونُ المرءِ مالكًا لها، ومُتَصرِّفًا فيها، ولا مُشاحَّةَ في أنَّ الأهمَّ عند كلِّ إنسانٍ: أن يكون مالكًا لِمَا يَعيشُ به، ويتلوه أن يكونَ ذلك في وَطَنِه، ويتلوه أنواعُه وأن تكونَ كثيرةً، وهو ما أفاده تركيبُ الكَلِماتِ في الآيةِ، ولا تَجِدُ هذه الدِّقَّةَ في تقديمِ ما ينبغي وتأخيرِ ما ينبغي، مُطَّرِدةً إلَّا في كتابِ الله تعالى [163] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/290). .
قولُه: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ تذييلٌ مَسوقٌ لِبيانِ سوءِ حالِ المُخاطَبينَ، وتَحذيرِهم [164] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/214)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/33). ، ويجوز أنْ تكون القِلَّةُ كنايةً عَنِ العَدَمِ على طريقَةِ الكَلامِ المُقتَصَد؛ استنزالًا لتذَكُّرِهم [165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/33). .
قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ تصديرُ جُملةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ بالقَسَمِ وحرفِ التَّحقيقِ؛ لإظهار كَمالِ العِنايةِ بِمَضمونِهما [166] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/214). .
وفيه نُسِبَ الخلقُ والتَّصويرُ إلى المُخاطَبينَ مع أنَّ المُرادَ بهما خَلْقُ آدَمَ عليه السَّلامُ وتَصويرُه؛ توفيةً لِمَقامِ الامتنانِ حَقَّه، وتأكيدًا لِوُجوبِ الشُّكرِ عَليهم [167] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/214). .
وعُطِفَتْ جُملةُ صَوَّرْنَاكُمْ على خَلَقْنَاكُمْ بحَرفِ (ثُمَّ) الدالِّ على تراخي رُتبةِ التَّصويرِ عن رُتبةِ الخَلقِ؛ لأنَّ التَّصويرَ حالةُ كَمالٍ في الخَلقِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/36).
قوله: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ في اختيارِ الإخبارِ عن نَفيِ سُجُودِه بجَعْلِه مِن غَيرِ السَّاجدينَ: إشارةٌ إلى أنَّه انتَفَى عنه السُّجودُ انتفاءً شديدًا؛ لأنَّ قَولَك: (لم يكُنْ فُلانٌ مِن المُهتدينَ) يفيدُ مِنَ النَّفيِ أشَدَّ مِمَّا يُفيدُه قولُك: (لم يكُنْ مُهتَديًا) [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/39). ، وأيضًا فنفيُ كَونِ إبليسَ مِنَ السَّاجدينَ أخصُّ مِن نَفيِ السُّجودِ عنه؛ لأنَّ نَفيَ الكونِ يقتَضي نفيَ الأهليَّةِ والاستعدادِ، فهو أبلغُ في الذَّمِّ مِن أنْ يُقالَ: لم يسجُدْ [170] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/57). .
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
قوله: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ استئنافٌ مَسوقٌ للجَوابِ عَن سؤالٍ نَشأَ مِن حكايةِ عَدَمِ سُجُودِه؛ كأنَّه قيل: فماذا قال اللهُ تعالى حينئذٍ؟ وكان مقتضى الظَّاهِرِ أن يُقال: (قُلْنا)، فكان العدولُ إلى ضميرِ الغائِبِ الْتِفاتًا نُكتَتُه تحويلُ مَقامِ الكَلامِ؛ إذ كان المقامُ مَقامَ أمرٍ للمَلائكةِ ومَن في زُمرَتِهم، فصار مقامَ تَوبيخٍ لإبليسَ خاصَّةً [171] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/39). .
والاستفهامُ في قولِه: مَا مَنَعَكَ للتَّوبيخِ، ولإظهارِ معانَدَتِه وكُفْرِه، وكِبْرِه، وافتخارِه بأصلِه، وازدرائِه بأصلِ آدَمَ، وأنَّه خالَفَ أمرَ رَبِّه معتقدًا أنَّه غيرُ واجبٍ عليه، لَمَّا رأى أنَّ سُجودَ الفاضِلِ للمَفْضولِ خارجٌ مِنَ الصَّوابِ [172] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/89). .
و(لا) في قوله: أَلَّا تَسْجُدَ مَزيدةٌ للتَّأكيدِ والتَّحقيقِ، ولا تُفيدُ نَفيًا؛ لأنَّ الحرفَ المَزيدَ للتَّأكيدِ لا يُفيدُ معنًى غيرَ التَّأكيدِ؛ كأنَّه قيل: ما منَعَك أن تُحقِّقَ السُّجودَ وتُلزِمُه نَفسَك إِذْ أَمَرْتُكَ؟ لأنَّ أمري لك بالسُّجودِ أُوجِبُه عليك إيجابًا، وأُحَتِّمُه عليك حَتمًا لا بدَّ لك منه [173] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/89)، ((تفسير أبي حيان)) (5/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/40). ، وذلك على أحدِ القولينِ في (ألَّا).
قولُه تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مَسوقٌ مَساقَ التَّعليلِ للامتناعِ، وجُملةُ: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ بيانٌ لِجُملةِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؛ فلذلك فُصِلَتْ-أي: لم تُعطَفْ بالواوِ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/41). .
وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ الأعراف: مَا مَنَعَكَ من غيرِ نِدائِه باسِمه، وقال تعالى في سورةِ الحِجر: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ [الحجر: 32] ، وقال في سُورة ص: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ [ص: 75] بزيادةِ يَا إِبْلِيسُ فيهما؛ وذلك لأنَّ خِطابَه قَالَ مَا مَنَعَكَ قَرُبَ مِن ذِكرِه في هذه السُّورةِ، وهو قولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ؛ فحَسُنَ حذْفُ حرْفِ النِّداء والمُنادَى، ولم يقرُبْ في سورةِ ص قُربَه منه في هذِه السُّورةِ؛ لأنَّه قال في ص: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص: 74] بزِيادةِ اسْتَكْبَرَ؛ فزادَ حرْف النِّداءِ والمنادَى فقال: يَا إِبْلِيسُ، وكذلك في الحِجر؛ فإنَّ فيها: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [175] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:116)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:187). [الحجر: 31] .
وقيل: إنَّه لَمَّا تَقدَّم في الأعرافِ ذِكرُ خَلْق الإنسانِ وتصويرِه مِن غيرِ ذِكرِ المادَّة التي خُلِق منها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، والخِطاب لبَنِي آدَم، ولم يُذْكَر خَلْقُ غيرِهم مِن مَلَك أو جِن، ثم إنَّ الأمرَ بالسُّجود ورَد للملائكةِ، ولم يرِدْ إشعارٌ بأنَّ إبليسَ مِن غيرهم، فسَبَق من ظاهِرِ الكلامِ أنَّه منهم ومأمورٌ معهم؛ فناسَبَ هذا قوله: مَا مَنَعَكَ؛ لأنَّه مأمورٌ بظاهرِ ما تقدَّم، وناسَب ذلك أيضًا وعضَّدَه قولُه تعالى: إِذْ أَمَرْتُكَ، أمَّا آيةُ الحِجرِ فقدْ تقدَّم قَبْلَها قولُه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] ، وقال في سُورة ص: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [ص: 71] ، فلمَّا لم يكُن في أصلِ الخِلقةِ والمادَّة منهم، وكان الأمرُ بظاهِرِ العِبارةِ لهم، وإنْ كان مُرادًا أنَّه معهم، فبحسَبِ ذلك استُؤنِفَ نِداؤُه، فقِيل: يَا إِبْلِيسُ؛ فنُودي باسمِه المشعِرِ بطَرْدِه ومغايرتِه لهم [176] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/177-178). . وقيل: ذلك الاختلافُ تَفنُّنٌ؛ جريًا على عادةِ العربِ في تَفنُّنهم في الكلامِ [177] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:187). .
وأيضًا قال تعالى هنا في سُورةِ الأعرافِ: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، وقال تعالى في سُورةِ الحجر: أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 32] ، فلم يَذكُرِ المعيَّةَ في سورة الأعراف وذَكَرَها في الحِجرِ؛ وذلك لمُناسَبةٍ حسَنةٍ؛ فإنَّه لَمَّا تقدَّم في الأعرافِ ذِكرُ خَلقِ الإنسانِ وتَصويرِه من غيرِ ذِكرِ المادَّة التي خُلِق منها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ولم يَذكُر خَلْق غيرِهم مِن مَلَك أو جِنٍّ، ثم إنَّ الأمرَ بالسُّجودِ ورَدَ للملائكةِ، ولم يَرِدْ إشعارٌ بأنَّ إبليس مِن غيرهم؛ فسَبَق من ظاهرِ الكلامِ أنَّه منهم، ومأمورٌ معهم، فناسَب هذا قولُه: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ؛ لأنَّه مأمورٌ بظاهرِ ما تَقدَّم. أمَّا آيةُ الحجرِ فقدْ تقدَّم قبلها قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ *  وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ إلى قوله: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 26- 29] ؛ فأشارتِ الآياتُ بظاهرِها إلى أنَّ إبليسَ لم يَكُن في أصلِ الخِلقةِ والمادَّةِ من الملائكةِ، وكان الأمرُ بظاهرِ العبارةِ لهم، وإنْ كان مرادًا أنَّه معهم؛ فبَحسَبِ هذا وردتِ المعيةُ في قولِه: يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [178] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/177-178). [الحجر: 32] .
وأيضًا قال تعالى هنا في سُورة الأعرافِ، وكذا في سورة ص: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12، ص: 28]، فاستُوفِيَ ذِكرُ المادَّتينِ: الطِّين والنار، وقال في سُورةِ الحجر: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 33] ، فلم يَذكُرِ النَّارَ؛ وذلك لمُناسَبةٍ حَسنةٍ؛ إذ إنَّه لم يقَعْ ذِكرٌ لخَلقٍ غيرِ الآدميِّين في سورة الأعراف؛ فناسَبَ ذلك ما ذَكَره سبحانه عن إبليس من قولِه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فاسْتُوفي ذِكرُ المادَّتَينِ، وبَنَى على ذلِك إبليسُ ما توهَّم مِن فَضلِ النَّارِ على الطِّينِ [179] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/177). .
قوله: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الفاءُ في فَما يَكُونُ... للسَّببيَّةِ والتَّفريعِ؛ تعليلًا للأمرِ بالهُبوط، وهو عُقوبةٌ خاصَّةٌ: عُقوبةُ إبعادٍ عَنِ المَكانِ المُقَدَّسِ؛ لأنَّه قد صار خُلُقُه غيرَ ملائمٍ لِمَا جَعَلَ اللهُ ذلك المكانَ له [180] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/44). .
قَولُه: فَاخْرُجْ فيه تأكيدٌ لجُملةِ فَاهْبِطْ بِمُرادِفِها، وأُعيدَتِ الفاءُ مع فَاخْرُجْ؛ لزيادةِ تأكيدِ تَسَبُّبِ الكِبرِ في إخراجِه مِنَ الجنَّةِ [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/44). .
وجملةُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ واقعةٌ مَوقِعَ التَّعليلِ للإخراجِ، على طَريقةِ استعمالِ (إنَّ) في مِثلِ هذا  المَقامِ استعمالَ فاءِ التَّعليلِ، وقوله: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أشَدُّ في إثباتِ الصَّغارِ له مِن نحو: (إنَّك صاغِرٌ)، أو (قد صَغُرْتَ) [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/44-45). .
وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَاهْبِطْ مِنْهَا، وقال في سورةِ الحجر: فَاخْرُجْ مِنْهَا [الحجر: 34] ؛ وذلك لأنَّ ما ورَدَ في سورة الحجر مِن تَبيينِ خَلْقِ إبليسَ مِن النارِ، وفَصْله عن الملائكةِ أَعْقَبَ به قولَه تعالى: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر:34] ، أمَّا في آية الأعراف- فاهْبِطْ مِنْهَا- فلمْ  يَتقدَّم فيها أنَّ إبليس ليس من الملائكةِ، كالذي تَقدَّم في سورة الحجر، بل ظاهرُ ما في الأعرافِ أنَّه منهم، فجرَى الأمرُ مناسبًا لهذا الظاهرِ فعَبَّر بالهُبوط، ولَمَّا تَقدَّم في الحِجرِ أنَّه ليس مِن الملائكةِ لخَلْقِه من نارِ السَّموم، وأَشعرَ ذلك بشَرِّ المادَّة؛ ناسَبه قولُه: فَاخْرُجْ مِنْهَا، وإتْباعُ ذلك بما يُلائِمُه من الوصفِ ويُناسبِه من قوله: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، ثم بما كُتِب عليه مِن الطَّردِ واللَّعنةِ، ولم يَرِدْ في الأعرافِ هكذا، بل رُوعي فيه مُناسَبةُ ما تَقدَّم؛ ولئلَّا يَتنافَرَ الكلامُ ويَتنافرَ المعنى؛ فقيل: فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [183] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/178). [الأعراف: 13] .
قوله تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
قولُه تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: قَالَ أَنْظِرْنِي... استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشأ مِمَّا قَبلَه؛ كأنَّه قيل: فماذا قال اللَّعيُن بعدَما سَمِعَ هذا الطَّردَ المُؤَكَّد؟، فقيل: قَالَ أَنْظِرْنِي... [184] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/217). .
وقوله تعالى: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: أَنْظِرْنِي، وقال في سورةِ الحجر وسورة ص: فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79]؛ ووجه هذه المناسبةِ: أنَّ قوله: أَنْظِرْنِي في سورةِ الأعراف ورَد مُستأنفًا، غيرَ مقصودٍ به عطفٌ على ما يَقعُ به هذا السؤالُ عقيبَه؛ فلم يُحْتَجْ إلى الفاءِ، وأمَّا في الآيتين في سورتي الحجر وص فإنَّ قولَه تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79] جاءَ بعدَ إخبارِ اللهِ تعالى بلَعْنِه إبليسَ، فكأنَّه قال: يا ربِّ إنْ لعَنْتَني وآيَسْتَني من الجنَّةِ فأَخِّرْ أَجلي إلى يومِ يُبعثون؛ فاقتَضَى إضمارَ (إنْ لعَنْتَني يا ربِّ) أن يأتي بالفاءِ [185] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/576-577). . وقيل: حَذَف الفاء في الأعرافِ؛ موافقةً لحَذفِ يَا إِبْلِيسُ، وقال في الحجر و ص بذِكرِها؛ موافقةً لذِكرِه قبلُ [186] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:188). . وقيل: قال في الحجر وص بذِكر الفاءِ؛ لِمَا تَضمَّنه النداءُ في قوله تعالى: قَالَ رَبِّ مِن أَدعوك وأُناديك، كما في قوله تعالى رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [187] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:117)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:188). [آل عمران: 193] .
وأيضًا قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: قَالَ أَنْظِرْنِي مِن غير ذِكر كلمة (رَبِّ)، وقال في سورةِ الحجر وسورة ص: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79] بذِكرِها؛ وذلك لمُناسبةٍ حَسنةٍ؛ فإنَّه سبحانه لَمَّا اقتصرَ في السؤالِ على الخِطابِ دون صريحِ الاسم في هذه السُّورة في قوله: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ اقتصَر في الجوابِ أيضًا على الخِطابِ دون ذِكرِ المُنادَى [188] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:117). .
وأيضًا قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ مِن غير فاءِ في إِنَّكَ، وفي السُّورتينِ الحجر وص: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الحجر: 37، ص: 80] بفاء؛ وذلك لأنَّ الجوابَ يُبنَى على السُّؤال، ولَمَّا خلَا سؤالُه أَنْظِرْنِي في هذه السُّورةِ عن الفاءِ، خلا الجوابُ عنه، ولَمَّا ثَبتتِ الفاءُ في السُّؤالِ فأَنْظِرْنِي في السُّورتَينِ  ثَبتَتْ في الجوابِ [189] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:118). .
وقيل في كلِّ ما مَضَى مِن زِياداتٍ في آيَتَيِ الحِجر وص لم تَرِدْ في الأعراف: إنَّه قُصِدَ في سورة الأعرافِ إيجازُ الأخبارِ في القِصَّة، وقُصِدَ في السُّورتَينِ الإطنابُ؛ ليحصُلَ مِن ذلك الاطِّلاعُ على البَلاغةِ وجلالةِ النَّظمِ وعلى فَصاحتِه في طرَفَيِ الإيجازِ والإطنابِ، ويُشيرُ إلى هذا الغرضِ: أنَّ مجموعَ الكلمِ الواقع مِن لدن قولِه في سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [الأعراف: 11] - وهو ابتداءُ القِصَّة- إلى قولِه: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف: 14] بِضعٌ وأربعونَ كلمةً، والواردَ في الحِجرِ مِن لَدُن قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ [الحجر: 26] إلى قولِه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36] بِضعٌ وسَبعون كلمةً، وفي سورةٍ ص من لَدُن قوله: إِذْ قَالَ رَبُّكَ [ص: 71] إلى آخِرِ الآياتِ بِضعٌ وسِتُّون كلمهً؛ فقدْ وضَحَ ما قُصِد في الأعراف مِن إيجازِ الأخبارِ في القِصَّة، وما في السُّورتَينِ بَعدُ مِن الإطنابِ [190] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/179). .
قوله تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ اللام في قَولِه: لَأَقْعُدَنَّ لامُ القَسَمِ؛ قَصَدَ اللَّعينُ تأكيدَ حُصُولِ ذلك، وتحقيقَ العَزمِ عليه [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/46). .
وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي، وقال في سورةِ الحجر: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر: 39] ؛ فزادَ هنا في هذه السُّورةِ الفاءَ في قوله: فَبِمَا وحَذَفها في الحِجر؛ وذلِك لأنَّ الفاءَ في الأعرافِ مُتسبِّبةٌ عمَّا قَبْلها؛ فهي للعطفِ ليكونَ الثاني مربوطًا بالأوَّلِ، ومُوافقًا له في الاقتصارِ على الخِطابِ دونَ النِّداءِ، ولم تَدخُل الفاءُ في سورة الحِجرِ؛ لوقوعِ النِّداءِ، والنداءُ يُوجِبُ القطعَ، واستئنافَ الكلامِ، لا سيَّما في قِصَّةٍ لا يَقتضيها ما قَبْلَها؛ فلمْ يَحسُنْ مجيءُ الفاءِ [192] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/583)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:118)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:189). .
وأيضًا قال هنا في سُورةِ الأعراف: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، وقال في سورةِ الحِجرِ: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، فاخْتَلَف التعبيرُ في المَوضِعينِ؛ وذلك لمناسبةٍ حَسنةٍ بحسَب ما تَقدَّم في كلِّ واحدةٍ مِن السُّورتَينِ؛ فإنَّه لـمَّا تَقدَّم في الأعرافِ قولُه تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3] ، والإشارةُ إلى القرآنِ بأنَّه يُوضِّح الصِّراطَ المستقيمَ، والإشارةُ بهذا إلى المنزلِ قُرآنًا أنَّه مُبيِّنٌ للصِّراطِ المستقيمِ الذي طَمِع اللَّعينُ في الاستيلاءِ عليه، فقِيل عِبارة عن غَرَضِه مِن ذلك: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ولَمَّا كان قد ورَدَ في سُورةِ الحِجر مَنْعُه، ومَنْعُ جُنودِه عن تَعرُّف خبَرِ السَّماءِ، واستراقِ السَّمعِ في قولِه عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16- 18] ، وصُدَّ مِن هذه الجِهةِ، عدَل إلى الأُخرى فقال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] ، أي: رجعتُ إلى إغوائِهم مِن جِهةٍ لم تَمنعْنِي عنها؛ فلأَجْلِ اختلافِ المتقدِّمِ في كلٍّ مِن السُّورَتينِ، اختَلَفَ المبنيُّ عليه مِن المحكيِّ عن إبليسَ مِن طَمَعِه، ووَرَدَ كلٌّ على ما يُناسِبُ [193] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/179-180). .
قولُه تعالى حاكيًا عن إبليسَ أنَّه قال: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ في هذه الآيَةِ فَنُّ المُخالَفةِ بينَ حَرفَيِ الجَرِّ؛ فقد ذَكَرَ الجِهاتِ الأربَعَ؛ لأنَّها هي التي يأتي منها العَدُوُّ عَدُوَّه؛ ولهذا ترَكَ جِهةَ الفَوقِ والتَّحتِ، وعَدَّى الفِعلَ إلى الجِهَتينِ الأُولَيَينِ بـ (مِن)، وإلى الأُخرَيَينِ بـ (عن)؛ لأنَّ الغالِبَ فيمَن يأتي مِن قُدَّام وخَلْف أنْ يكون مُتوجِّهًا بكُلِّيتِه، والغالِبَ فيمَن يأتي مِن جِهَةِ اليَمينِ والشِّمال أن يكونَ مُنحرِفًا، فناسب في الأوَّلَينِ التَّعديَةَ بحرْفِ الابتداء (مِن)، وفي الآخَرَينِ التَّعديةَ بحَرْفِ المُجاوَزة (عَن) [194] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/316). .
قوله: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ فيه التأكيدُ بقوله: أَجْمَعِينَ؛ للتَّنصيصِ على العُمومِ؛ لئلَّا يُحمَلَ على التَّغليبِ؛ وذلك أنَّ الكَلامَ جَرى على أمَّةٍ بعُنوانِ كَونِهم أتباعًا لواحدٍ [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/52). .