موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (61-65)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات :

أَرَأَيْتَكَ: أي: أخبِرْني، وهي كَلِمةٌ تُقالُ عندَ الاستِخبارِ [821] يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (3/694)، ((المفردات)) للراغب (ص: 374)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 205)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/178).   .
لَأَحْتَنِكَنَّ: أي: لَأستَولِيَنَّ عليهم بالإغواءِ، ولَأستأصِلَنَّهم؛ مَأْخوذٌ منِ قولِهم: احتَنَكَ الجرادُ الأرضَ: إذا أتى على نَبْتِها، وجرَد ما عليها أكلًا. وقيل: هو مِن قَولِهم: حَنَك الدَّابَّةَ يَحنُكُها: إذا ربطَ حَبلًا في حَنَكِها الأسفَلِ، يَقودُها به حيثُ يشاءُ، وأصلُ الحَنَكِ: حَنَكُ الإنسانِ، أقصَى فَمِه [822] يُنظر: ((معاني القرآن)) للنحاس (4/171)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 258)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/112)، ((المفردات)) للراغب (ص: 261)، ((تفسير الزمخشري)) (2/677)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 205)، ((لسان العرب)) لابن منظور (10/416).   .
مَوْفُورًا: أي: متمَّمًا، أو تامًّا وافيًا، وأصلُ (وفر): يدُلُّ على كَثرةٍ وتمامٍ [823] يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (6/2019)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/129)، ((البسيط)) للواحدي (13/389)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 213).   .
وَاسْتَفْزِزْ: أي: أزعِجْ واستَخِفَّ، وأصلُ (فزز): يدُلُّ على خِفَّةٍ وما قارَبَها [824] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 258)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/439)، ((المفردات)) للراغب (ص: 635)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 206)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 267).   .
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ: أي: اجْمَعْ عليهم ما قَدَرْتَ عليه، وأصلُ (جلب): يدُلُّ على سَوقِ الشَّيءِ [825] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/469)، ((الغريبين)) للهروي (1/350)، ((المفردات)) للراغب (ص: 198)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 206)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 267).   .
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ: أي: بأعوانِك مِن راكبٍ وماشٍ، والرَّجِلُ والراجِلُ: الماشي، مشتقَّةٌ مِن الرِّجْلِ [826] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/658)، ((المفردات)) للراغب (ص: 344)، ((تفسير القرطبي)) (10/289)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 437).   .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصةِ آدمَ وإبليسَ، مسلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم فيقولُ: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حين قُلْنا للمَلائِكةِ: اسجُدوا لآدَمَ، فسَجَدوا جميعًا إلَّا إبليسَ، عصى وامتنَعَ عن السُّجودِ قائِلًا باستِكبارٍ: أأسجُدُ له وهو مخلوقٌ مِن طينٍ؟ وقال جُرأةً وكُفرًا: أخبِرْني عن هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ، لِمَ كَرَّمْتَه عَليَّ، وقد خلقْتَني من نارٍ وخلَقْتَه من طينٍ؟! لئِنْ أخَّرْتني حَيًّا إلى يومِ القيامةِ لأستولِيَنَّ على ذُرِّيَّتِه بالإضلالِ والإغواءِ إلَّا المُخلَصِينَ منهم.
قال اللهُ تعالى لإبليسَ: اذهَبْ، فمَن أطاعك مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فإنَّ جهنَّمَ جزاؤُكم جميعًا جزاءً مُتمَّمًا لا نَقصَ فيه، واستَخْفِفْ مَن تَستطيعُ استِخفافَه منهم بدَعوتِه إلى مَعصِيتي، واجمَعْ عليهم جُنودَك مِن كُلِّ راكبٍ وماشٍ، ولْيكُنْ لك نَصيبٌ معهم في كُلِّ مالٍ أو ولَدٍ تعَلَّقَت به مَعصيةُ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعِدْهم بالوُعودِ الكاذِبةِ، وما تَعِدُهم إلَّا وعودًا باطِلةً.
إنَّ عِباديَ المُخلَصِينَ الصَّالحينَ ليس لك تسلُّطٌ عليهم ولا قُدرةٌ على إغوائِهم، وكفى برَبِّك -يا مُحمَّدُ- حافِظًا وعاصِمًا للمُؤمِنينَ مِن كيدِ الشَّيطانِ ومَكْرِه.

تفسير الآيات:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في مِحنةٍ عَظيمةٍ مِن قَومِه وأهلِ زَمانِه؛ بيَّنَ أنَّ حالَ الأنبياءِ مع أهلِ زَمانِهم كذلك؛ وأوَّلُهم هو آدَمُ، ثمَّ إنَّه كان في مِحنةٍ شديدةٍ مِن إبليسَ [827] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/365). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (15/149).   .
وأيضًا فإنَّ القَومَ إنَّما نازَعوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعانَدوه، واقتَرَحوا عليه الاقتِراحاتِ الباطِلةَ لأمرَينِ: الكِبْرِ والحَسَدِ؛ أمَّا الكِبْرُ فلِأنَّ تكَبُّرَهم كان يَمنَعُهم مِن الانقيادِ، وأمَّا الحسَدُ فلِأنَّهم كانوا يَحسُدونَه على ما آتاه اللهُ مِن النبُوَّةِ والدَّرَجةِ العاليةِ، فبيَّنَ تعالى أنَّ هذا الكِبرَ والحَسَدَ هما اللَّذانِ حَمَلا إبليسَ على الخُروجِ مِن الإيمانِ، والدُّخولِ في الكُفرِ، فهذه بَلِيَّةٌ قَديمةٌ، ومِحنةٌ عَظيمةٌ للخَلقِ [828] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/365).   .
وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا وصف الكافرينَ بقَولِه: فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء: 60] ؛ بيَّن ما هو السَّبَبُ لحُصولِ هذا الطُّغيانِ، وهو قَولُ إبليسَ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62] ، فلأجلِ هذا المقصودِ ذكَرَ اللهُ تعالى قِصَّةَ إبليسَ وآدمَ [829] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/365).   .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ.
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حين قُلْنا للمَلائِكةِ: اسجُدوا لآدَمَ، فسجَدَ الملائِكةُ كُلُّهم له إلَّا إبليسَ، عصَى أمْرَ اللهِ فلم يَسجُدْ؛ حَسَدًا له وكِبْرًا، مع رُؤيتِه لآياتِ اللهِ وعَظَمتِه وقُدرتِه، فلم يَنفَعْه ما عَلِمَه ورآه [830] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/653)، ((تفسير القرطبي)) (10/286)، ((تفسير ابن كثير)) (5/93)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/462).   .
كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34] .
قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا.
أي: قال إبليسُ مُخاطِبًا ربَّه باستِنكارٍ: أتأمُرُني أن أسجُدَ لِمَن خَلقْتَه مِن طِينٍ [831] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/653)، ((تفسير القرطبي)) (10/287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 462).   ؟!
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62).
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ.
أي: قال إبليسُ مُخاطِبًا ربَّه بكُلِّ جُرأةٍ: أخبِرْني أهذا هو الذي فضَّلْتَه عليَّ؟ فلِمَ تأمُرُني بالسُّجودِ له وأنا خَيرٌ منه [832] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/654)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/249)، ((تفسير القرطبي)) (10/287)، ((تفسير ابن كثير)) (5/93)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/463)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/150-151)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/166).   ؟!
كما قال تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] .
لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.
أي: قال إبليسُ: أُقسِمُ بك لَئِنْ أخَّرْتَ إهلاكي إلى يومِ القيامةِ لأَستولِينَّ على ذرِّيَّةِ آدَمَ، فأُضِلَّنَّهم عن طريقِ الحَقِّ، وأقودَنَّهم إلى حيثُ أشاءُ مِن طُرُقِ الباطلِ، إلَّا قليلًا منهم [833] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/654)، ((تفسير القرطبي)) (10/287)، ((تفسير ابن كثير)) (5/93)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/166، 167). قال القُرطبيُّ: (وإنَّما قال إبليسُ ذلك ظَنًّا، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] ، أو عَلِمَ مِن طَبعِ البَشَرِ ترَكُّبَ الشَّهوةِ فيهم، أو بنى على قَولِ الملائكةِ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة: 30] . وقال الحسَنُ: ظَنَّ ذلك؛ لأنَّه وَسْوَس إلى آدَمَ عليه السَّلامُ فلم يَجِدْ له عَزمًا). ((تفسير القرطبي)) (10/287).   .
كما قال تعالى: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: 118- 119] .
وقال سُبحانَه: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 14 - 17] .
وقال عزَّ وجلَّ: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 36 - 40] .
وقال جلَّ جلالُه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 79 - 83] .
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63).
أي: قال اللهُ لإبليسَ: اذهَبْ [834] قال ابن جزي: (اذْهَبْ قال ابنُ عطيةَ: وما بعدَه مِن الأوامرِ: صيغةُ أمرٍ على وجهِ التهديدِ، وقال الزمخشري: ليس المرادُ الذهابَ الذي هو ضدُّ المجيءِ، وإنَّما معناه: امضِ لشأنِك الذي اخترتَه خذلانًا له وتخليةً، ويحتملُ عندي أن يكونَ معناه للطردِ والإبعادِ). ((تفسير ابن جزي)) (1/450). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/677)، ((تفسير ابن عطية)) (3/470). وقال الواحدي: (قولُه تعالى: قَالَ اذْهَبْ أي قال اللهُ تعالى لإبليسَ: اذهبْ، وهذا اللَّفظُ يتضَمَّنُ معنى إنظارِه، وتأخيرِ أجَلِه). ((البسيط)) (13/389).   فقد أخَّرتُ إهلاكَك، فمن أطاعَك مِنْ ذُرِّيةِ آدَمَ فإنَّ جهنَّمَ جزاؤُكم على أعمالِكم جزاءً مُتمَّمًا، مُكمَّلًا، لا نَقْصَ فيه [835] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/655)، ((تفسير ابن كثير)) (5/93)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/152)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/168). قال القرطبي: (مَوْفُورًا أي: وافِرًا، عن مُجاهِدٍ وغيرِه). ((تفسير القرطبي)) (10/288). وقال الشنقيطي: (والَّذي يظهرُ لي: أنَّ قولَ مَن قالَ: إنَّ مَوْفُورًا بمعنَى «وافِرٍ» لا داعِيَ له. بَلْ مَوْفُورًا اسمُ مفعولٍ على بابِه، مِن قولِهم: وَفَر الشَّيءَ يَفِرُه، فالفاعلُ وافِرٌ، والمفعولُ موفورٌ). ((أضواء البيان)) (3/168). .
كما قال تعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84- 85] .
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64).
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ.
أي: قال اللهُ تعالى لإبليسَ آمِرًا له على سَبيلِ التَّهديدِ بعاقِبتِه الوَخيمةِ [836] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/168).   : واستَخِفَّ وأزعِجْ -يا إبليسُ- مَن استطَعْتَ أن تَستخِفَّه مِن بني آدَمَ بدُعائِك لهم إلى مَعصيةِ اللهِ [837] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/658)، ((تفسير القرطبي)) (10/288)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/641، 642) و (15/314)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/255، 256)، ((تفسير ابن كثير)) (5/93)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/153)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/168). قال ابن الجوزي: (وفي المرادِ بصَوتِه قولان: أحدُهما: أنَّه كُلُّ داعٍ دعا إلى معصيةِ الله، قاله ابن عباس. والثاني: أنَّه الغِناءُ والمزاميرُ، قاله مجاهد). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/37). وقال ابن تيمية: (استفزازُه إيَّاهم بصوتِه يكونُ بالغناء -كما قال من قال من السلف- وبغيرِه من الأصواتِ، كالنياحة وغيرِ ذلك؛ فإن هذه الأصواتَ كُلَّها توجِبُ انزعاجَ القلبِ والنَّفسِ الخبيثةِ إلى ذلك، وتوجِبُ حركَتَها السريعةَ واضطرابَها، حتى يبقى الشيطانُ يلعب بهؤلاء أعظَمَ مِن لَعبِ الصبيان بالكرةِ!). ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/314). وقال ابنُ جرير: (وأولى الأقوالِ في ذلك بالصِّحَّةِ أن يُقالَ: إنَّ الله تبارك وتعالى قال لإبليسَ: واستفزِزْ مِن ذريَّةِ آدَمَ مَن استطَعْتَ أن تستَفِزَّه بصَوتِك، ولم يَخْصُصْ من ذلك صوتًا دونَ صَوتٍ؛ فكلُّ صوتٍ كان دعاءً إليه وإلى عملِه وطاعتِه، وخلافًا للدعاءِ إلى طاعةِ الله، فهو داخلٌ في معنَى صوتِه). ((تفسير ابن جرير)) (14/658). وقال ابن القيم: (وصوتُ الشيطانِ كُلُّ صوتٍ في غيرِ طاعةِ الله، نُسِبَ إلى الشيطانِ لأمرِه به ورضاه به، وإلَّا فليس هو الصوتَ نَفسَه). ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (1/256). وقال ابن تيمية: (وصوتُ الشيطان ما يُحِبُّه ويأمرُ به وإن كان قائمًا بإنسانٍ أو جمادٍ كأصواتِ الملاهي وغيرها). ((جامع المسائل)) (8/83). .
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ.
أي: واجمَعْ -يا إبليسُ- على بني آدَمَ جُنودَك -الركبانَ منهم والمشاةَ- الذين يَدعُونَهم إلى مَعصيةِ اللهِ، فيَحمِلوا عليهم بكُلِّ ما يَقدِرونَ عليه مِن وَسائِلِ الفِتنةِ والكَيدِ لإضلالِهم [838] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/658)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/250)، ((تفسير القرطبي)) (10/288، 289)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/153، 154). قال القرطبي: (وقال أكثَرُ المفَسِّرينَ: يريدُ كُلَّ راكبٍ وماشٍ في معصيةِ الله تعالى. وقال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقَتادةُ: «إنَّ له خيلًا ورَجِلًا مِن الجِنِّ والإنسِ، فما كان من راكبٍ وماشٍ يُقاتِلُ في معصيةِ اللهِ، فهو من خَيلِ إبليسَ ورَجَّالتِه». وروى سعيدُ بنُ جُبَير ومجاهِدٌ عن ابنِ عَبَّاس قال: «كلُّ خيلٍ سارت في معصيةِ الله، وكلُّ رِجْلٍ مَشَتْ في معصيةِ الله»). ((تفسير القرطبي)) (10/289). وقال ابنُ القَيِّم: (كلُّ ساعٍ في معصيةِ الله على قَدَميه فهو مِن رَجِلِه، وكلُّ راكبٍ في معصيةِ اللهِ فهو مِن خَيَّالتِه، كذلك قال السَّلَفُ). ((إغاثة اللهفان)) (1/256). وقال ابنُ كثير: (معناه: تسلَّطْ عليهم بكُلِّ ما تقدِرُ عليه، وهذا أمرٌ قَدَريٌّ). ((تفسير ابن كثير)) (5/94). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .
وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ إبليسَ يَضَعُ عَرشَه على الماءِ، ثمَّ يَبعَثُ سَراياه، فأدْناهم منه مَنزِلةً أعظَمُهم فِتنةً، يجيءُ أحَدُهم فيَقولُ: فعَلْتُ كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعْتَ شَيئًا! قال: ثم يجيءُ أحَدُهم فيقولُ: ما تركْتُه حتى فَرَّقتُ بينَه وبينَ امرأتِه، قال: فيُدنيه منه، ويَقولُ: نِعْمَ أنتَ !!)) [839] رواه مسلم (2813).   .
وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ.
أي: ولْيكُنْ لك نَصيبٌ معهم في كُلِّ مالٍ أو ولَدٍ تعَلَّقَت به مَعصيةُ اللهِ عزَّ وجلَّ [840] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/663، 665)، ((تفسير القرطبي)) (10/289)، ((تفسير ابن كثير)) (5/94، 95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 462)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/154)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/169، 170). قال ابنُ جرير: (أولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قَولُ مَن قال: عنى بذلك كلَّ مالٍ عُصِيَ اللهُ فيه؛ بإنفاقٍ في حرامٍ، أو اكتِسابٍ مِن حرامٍ، أو ذَبْحٍ للآلهةٍ، أو تَسْييبٍ، أو بَحْرٍ للشَّيطانِ، وغيرِ ذلك ممَّا كان مَعصِيًّا به أو فيه؛ وذلك أنَّ اللهَ قال: وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ؛ فكلُّ ما أُطيعَ الشَّيطانُ فيه مِن مالٍ وعُصِيَ اللهُ فيه، فقد شارك فاعِلُ ذلك فيه إبليسَ، فلا وجهَ لخُصوصِ بَعضِ ذلك دُونَ بَعضٍ... وأولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ أن يقال: كلُّ وَلَدٍ ولدَتْه أنثى عُصِيَ اللهُ بتَسمِيَتِه ما يَكرَهُه الله، أو بإدخالِه في غيرِ الدِّينِ الذي ارتضاه الله، أو بالزِّنا بأمِّه، أو قَتْلِه ووَأْدِه، أو غيرِ ذلك من الأمورِ التي يُعصى اللهُ بها أو فيها؛ فقد دخلَ في مُشاركةِ إبليسَ فيه مَن وُلِدَ ذلك المولودُ له أو منه؛ لأنَّ اللهَ لم يَخْصُصْ بَقولِه: وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ معنى الشَّرِكةِ فيه بمعنًى دونَ معنًى، فكلُّ ما عُصِيَ اللهُ فيه أو به، وأُطيعَ به الشَّيطانُ أو فيه؛ فهو مُشاركةُ مَن عُصِيَ اللهُ فيه أو به إبليسَ فيه). ((تفسير ابن جرير)) (14/663-666). وقال ابنُ كثير: (وهذا الذي قاله مُتَّجِهٌ، وكلٌّ مِن السَّلَف -رَحِمَهم اللهُ- فسَّرَ بعضَ المُشاركةِ). ((تفسير ابن كثير)) (5/95). وقال السعدي: (ذلك شامِلٌ لكُلِّ مَعصيةٍ تعَلَّقَت بأموالِهم وأولادِهم؛ مِن مَنْعِ الزَّكاةِ، والكفَّاراتِ، والحُقوقِ الواجبةِ، وعَدَمِ تأديبِ الأولادِ وتَربيتِهم على الخَيرِ، وتَرْكِ الشَّرِّ، وأخذِ الأموالِ بغَيرِ حَقِّها أو وَضْعِها بغَيرِ حَقِّها، أو استعمالِ المكاسِبِ الرَّدِيَّةِ، بل ذَكَر كثيرٌ مِن المفَسِّرينَ أنَّه يدخُلُ في مُشاركةِ الشَّيطانِ في الأموالِ والأولادِ تَركُ التَّسميةِ عند الطَّعامِ والشَّرابِ والجِماعِ، وأنَّه إذا لم يُسَمِّ اللهَ في ذلك شارك فيه الشَّيطانُ كما ورد فيه الحَديثُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 462). .
كما قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام: 136 - 140] .
وقال سُبحانَه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس: 59] .
وعن عِياضِ بنِ حِمارٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألَا إنَّ رَبِّي أمَرَني أن أعَلِّمَكم ما جَهِلتُم مِمَّا عَلَّمَني يومي هذا: كُلُّ مالٍ نَحَلْتُه [841] نَحَلْتُه: أي: أعطيتُه. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 306).   عبدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أتَتْهم الشَّياطينُ فاجتالَتْهم [842] فاجتالَتْهم: أي: استخفُّوهم فذَهَبوا بهم وأزالوهم عمَّا كانوا عليه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/197).   عن دِينِهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلطانًا ) ) [843] رواه مسلم (2865).   .
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لو أنَّ أحَدَكم إذا أتى أهْلَه قال: جَنِّبْني الشَّيطانَ وجَنِّبِ الشَّيطانَ ما رزَقْتَني؛ فإنْ كان بينهما ولَدٌ لم يَضُرَّه الشَّيطانُ، ولم يُسلَّطْ عليه )) [844] رواه البخاري (3283) واللفظ له، ومسلم (1434).   .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إذا دخَلَ الرَّجُلُ بَيتَه فذكَرَ اللهَ عند دُخولِه وعندَ طعامِه، قال الشَّيطانُ: لا مَبيتَ لكم ولا عَشاءَ، وإذا دخَلَ فلم يَذكُرِ اللهَ عند دُخولِه، قال الشَّيطانُ: أدرَكْتُم المَبيتَ، وإذا لم يَذكُرِ اللهَ عند طَعامِه، قال: أدرَكْتُم المَبيتَ والعَشاءَ )) [845] رواه مسلم (2018).   .
وعن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كنَّا إذا حَضَرْنا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طعامًا، لم نضَعْ أيديَنا حتى يبدأَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَضَعَ يَدَه، وإنَّا حَضَرْنا معه مرَّةً طعامًا، فجاءَتْ جاريةٌ كأنَّها تُدفَعُ، فذهَبَت لِتَضَعَ يَدَها في الطَّعامِ، فأخَذ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِها، ثمَّ جاء أعرابيٌّ كأنَّما يُدفَعُ، فأخَذَ بِيَدِه، فقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ الشَّيطانَ يَستَحِلُّ الطَّعامَ أنْ لا يُذكَرَ اسمُ اللهِ عليه، وإنَّه جاء بهذه الجاريةِ لِيَستَحِلَّ بها، فأخَذْتُ بيَدِها، فجاء بهذا الأعرابيِّ ليَستَحِلَّ به فأخذْتُ بيَدِه، والذي نفسي بيَدِه إنَّ يَدَه في يَدِي مع يَدِها )) [846] رواه مسلم (2017).   .
وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.
أي: وعِدْهم [847] قال القُرطبيُّ: (وهذا الأمرُ للشَّيطانِ تهَدُّدٌ ووَعيدٌ له. وقيل: استِخفافٌ به وبمن اتَّبَعَه). ((تفسير القرطبي)) (10/290).   -يا إبليسُ- بالوُعودِ الكاذِبةِ، وما يَعِدُهم الشَّيطانُ البَعيدُ عن الرَّحمةِ وكُلِّ خيرٍ إلَّا أمانيَّ باطلةً في الحَقيقةِ [848] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/666)، ((تفسير القرطبي)) (10/290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 462)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/154، 155)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/171). قال ابن عاشور: (ومعنى عِدْهُمْ أعطِهم المواعيدَ بحصولِ ما يرغبونَه، كما يسَوِّل لهم بأنَّهم إن جعلوا أولادَهم للأصنامِ سَلِم الآباءُ مِن الثُّكلِ والأولادُ مِن الأمراض، ويسَوِّلُ لهم أنَّ الأصنام تشفعُ لهم عند الله في الدنيا، وتضمنُ لهم النصرَ على الأعداء، كما قال أبو سفيان يوم أحد: «اعلُ هُبَلُ». ومنه وعدُهم بأنَّهم لا يخشون عذابًا بعد الموت لإنكار البعث، ووعْد العصاة بحصول اللذَّاتِ المطلوبة من المعاصي، مثل الزنا والسرقة والخمر والمقامرة... والمعنى: أن ما سوَّله لهم الشيطانُ في حصول المرغوب إما باطلٌ لا يقع، مثل ما يسَوِّلُه للناس من العقائدِ الفاسدة؛ وكونُه غرورًا لأنَّه إظهار لِما لا يقع في صورة الواقعِ، فهو تلبيسٌ، وإما حاصِلٌ لكنَّه مكروه غيرُ محمود بالعاقبة، مثل ما يسَوِّلُه للناس من قضاء دواعي الغضَبِ والشهوة ومحبَّة العاجل دون تفكيرٍ في الآجل، وكلُّ ذلك لا يخلو عن مقارنةِ الأمر المكروهِ، أو كونه آيلًا إليه بالإضرارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/154-155).   .
كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء: 120] .
وقال سُبحانَه: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عَمَّا يريدُ الشَّيطانُ أن يَفعَلَ بالعبادِ، ذكَرَ ما يُعتَصَمُ به مِن فِتنَتِه، وهو عُبوديَّةُ اللهِ، والقيامُ بالإيمانِ، والتوكُّلُ [849] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 461).   ، فقال تعالى:
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.
أي: إنَّ عبادي الصَّالحينَ الذين يَعبُدونَني وَحدي مُخلِصينَ لي الدِّينَ، ليس لك عليهم -يا إبليسُ- تَسَلُّطٌ ولا حُجَّةٌ، ولا تَستطيعُ إغواءَهم أو إضلالَهم؛ فاللهُ يَحفَظُهم ويَحرُسُهم ويُؤَيِّدُهم [850] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/666)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/332، 333)، ((تفسير ابن كثير)) (5/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 462)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/171).   .
كما قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] .
وقال سُبحانَه: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99- 100] .
وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا.
أي: وكفى برَبِّك -يا مُحمَّدُ- حافِظًا مِن كيدِ الشَّياطينِ ومَكْرِهم، وناصِرًا ومُؤَيِّدًا للمُتوَكِّلينَ [851] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/666)، ((تفسير القرطبي)) (10/290)، ((تفسير ابن كثير)) (5/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 462).   .

الفوائد التربوية :

1- قال تعالى للشَّيطانِ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ فالصَّوتُ الشَّيطانيُّ يَستفِزُّ بني آدَمَ، وصَوتُ الشَّيطانِ كُلُّ صَوتٍ في غيرِ طاعة الله؛ فصَوتُ الغناءِ، وصَوتُ النَّوحِ، وصَوتُ المعازِفِ: كُلُّها من أصواتِ الشَّيطانِ، التي يَستفِزُّ بها بني آدمَ فيَستخِفُّهم ويُزعِجُهم؛ ولهذا قال السَّلَفُ في هذه الآية: (إنَّه الغِناءُ). ولا ريبَ أنَّه مِن أعظَمِ أصواتِ الشَّيطانِ التي يَستفِزُّ بها النُّفوسَ ويُزعِجُها ويُقلِقُها، وهو ضدُّ القرآنِ الذي تطمَئِنُّ به القلوبُ وتَسكُنُ وتُخبِتُ إلى رَبِّها؛ فصَوتُ القرآنِ يُسكِّنُ النفوسَ ويُطَمئِنُها ويُوقرُها، وصوتُ الغناءِ يَستفِزُّها ويُزعِجُها ويُهيِّجُها، وكذلك صوتُه الذي يَستفِزُّ به النفوسَ عند المصيبةِ، وهو النَّوحُ، فيستفزُّها بهذا الصَّوتِ إلى الحُزنِ والأسَفِ والسَّخَطِ بما قضى الله، ويستفزُّها بذلك الصَّوتِ إلى الشَّهوةِ والإرادةِ والرَّغبةِ فيما يُبغِضُه الله، فينهاها بصَوتِ النَّوحِ عَمَّا أمرَها الله به، ويأمُرُها بصَوتِ الغِناءِ بما نهاها اللهُ عنه، وهذا الصَّوتُ هو أحدُ الأسبابِ الخَمسةِ التي أقسم الشَّيطانُ أن يَحتنِكَ بها ذريةَ آدمَ ويستأصِلَهم إلَّا قليلًا، وهي استِفزازُهم بصَوتِه [852] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (1/256).   ؛ فصوتُ الشيطانِ يَستفِزُّ الناسَ، أي: يُحرِّكهم ويُزعِجُهم ويُثِيرُهم، وهذا أثرُ الصَّوتِ، وهو التَّحريكُ، كما أنَّه صادِرٌ عن الحَركةِ، فسبَبُه الحركةُ، وغايتُه الحَركةُ [853] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (8/83).   .
2- قال تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الإسراء: 64] فكُلُّ راكبٍ في مَعصيةِ اللهِ فهو خَيَّالةُ الشَّيطانِ، وكُلُّ ماشٍ في معصيةِ اللهِ فمِن رَجَّالتِه، وكلُّ مالٍ أُخِذ من غيرِ حِلِّه وأُخرِجَ في غيرِ حَقِّه، فهو شَريكُ صاحِبِه فيه، وكُلُّ ولدٍ مِن نطفةِ زِنًا، فهو شريكُ أبيه فيه [854] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (1/256).   .
3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا هذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّ المعصومَ مَن عَصَمَه اللهُ تعالى، وأنَّ الإنسانَ لا يُمكِنُه أن يَحتَرِزَ بنَفسِه عن مواقِعِ الضَّلالةِ؛ لأنَّه لو كان الإقدامُ على الحَقِّ والإحجامُ عن الباطِلِ إنَّما يَحصُلُ للإنسانِ مِن نَفسِه، لوجَبَ أن يُقالَ: وكفى الإنسانَ نَفسُه في الاحترازِ عن الشَّيطانِ، فلمَّا لم يَقُلْ ذلك بل قال: وَكَفَى بِرَبِّكَ، عَلِمْنا أنَّ الكُلَّ مِنَ الله؛ ولهذا قال المُحَقِّقونَ: لا حَولَ عن مَعصيةِ اللهِ إلَّا بعِصمةِ اللهِ، ولا قُوَّةَ على طاعةِ اللهِ إلَّا بتَوفيقِ اللهِ [855] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/370).   .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قَولُه تعالى: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ، وبَراءةٌ لإبليسَ اللَّعينِ ممَّا يَنسُبونَه إليه مِن القُدرةِ على تَضليلِ الخَلقِ؛ ألَا تَراه كيف ألقى اللهُ الاستِثناءَ على لِسانِه حتى استَثنى القليلَ؟! عِلْمًا منه بأنَّ المعصومَ ومَن سبَقَ له الخَيرُ مِن رَبِّه لا سبيلَ له عليه، إنَّما سبيلُه على مَن حَقَّت عليه كَلِمةُ رَبِّه، فتَبِعَه وتوَلَّاه، وسبَقَ القَضاءُ عليه أن يكونَ معه في دارِ الهوانِ؛ قال اللهُ تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وهذا السُّلطانُ منه على مُتَولِّيه المُشرِكينَ برَبِّهم، سُلطانُ تَسليطٍ لا اقتدارٍ بقُوَّتِه، ألا ترى أنَّ مِن الكُفَّارِ مَن قد سبَقَ له في عِلمِ اللهِ إيمانٌ، وانتِقالٌ مِن الكُفرِ إليه، فيَذهَبُ سُلطانُه حينَئذٍ عنه؟! فلو كان سُلطانًا بغَيرِ تَسليطٍ، لدام له عليه، أو كان على الجَميعِ، ولا يُستثنى القَليلُ، فهذا واضِحٌ لا بُعْدَ فيه، ومِمَّا يُؤَيَّدُ به أنَّه يُسَلَّطُ: قَولُه تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وليس يخلو قَولُه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ مِن أنْ يكونَ واقِعًا على الجَميعِ مُؤمِنِهم وكافِرِهم، أو على المؤمِنِ دُونَ الكافِرِ؛ فإنْ كان واقِعًا على مُؤمِنِهم خاصَّةً فهم المُستَثنَونَ بالقَليلِ، وسُلطانُه زائِلٌ عنهم بكُلِّ حالٍ، وإن كان واقِعًا على جَميعِهم فقد صَحَّ أنَّ سُلطانَه على الكافِرِ سُلطانُ تَسليطٍ، وعِدَتَه عِدَةُ غُرورٍ [856] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/176).   .
2- إنَّ المولودَ مِن حينِ يخرُجُ إلى الدُّنيا يبتَدِرُه الشَّيطانُ، ويضمُّه إليه ويحرِصُ على أن يَجعَلَه في قَبضتِه وتحت أسْرِه، ومن جُملةِ أوليائِه وحِزبِه؛ فهو أحرصُ شَيءٍ على هذا، وأكثَرُ المولودينَ مِن أقطاعِه وجُندِه، كما قال تعالى: وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَالَ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] فكان المولودُ بصَدَدِ هذا الارتِهانِ، فشرعَ اللهُ سُبحانَه للوالدينِ أن يفكَّا رِهانَه بذِبْحٍ يكونُ فِداه، فإذا لم يُذبَحْ عنه بقِيَ مُرتَهَنًا به؛ فلهذا قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مع الغلامِ عَقيقةٌ، فأهريقُوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى)) [857] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (5472)، وأخرجه موصولًا: أبو داود (2839)، والترمذي (1515)، وابن ماجه (3164)، والنسائي (4214)، وأحمد (16238). قال الترمذي: (حسنٌ صحيح)، وذكر ابن عبد البَرِّ في ((التمهيد)) (4/306)، وابن العربي في ((القبس)) (2/649) أنَّه حديث ثابت. وصحَّحه البغوي في ((شرح السنة)) (6/53)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3164).   ، فأمرَ بإراقةِ الدَّمِ عنه، الذي يخلُصُ به مِن الارتهانِ [858] يُنظر: ((تحفة المودود بأحكام المولود)) لابن القيم (ص: 74).   .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا
- قولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا استفهامُ إنكارٍ وتعجُّبٍ [859] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/260)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/149).   . وبينَ قولِه: أَأَسْجُدُ وما قبلَه كلامٌ محذوفٌ، وكأنَّ تَقديرَه: قال: لِمَ لمْ تسجُدْ لآدمَ؟ [860] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/260)، ((تفسير أبي حيان)) (7/77).  
- وجُملةُ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ استثناءَ إبليسَ مِن حُكْمِ السُّجودِ لم يُفِدْ أكثَرَ من عدَمِ السُّجودِ، وهذا يُثيرُ في نفْسِ السَّامعِ أنْ يسأَلَ عن سبَبِ التَّخلُّفِ عن هذا الحُكمِ منه. وقولُه: طِينًا إنَّما جعَلَ جنْسَ الطِّينِ حالًا منه؛ للإشارةِ إلى غَلبةِ العُنصرِ التُّرابيِّ عليه؛ لأنَّ ذلك أشدُّ في تَحقيرِه في نظَرِ إبليسَ [861] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/150).   .
- قولُه: لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا فيه التَّعبيرُ عن آدمَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالموصولِ (مَن)؛ لتَعليلِ إنكارِه بما في حيِّزِ الصِّلةِ [862] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/183).   .
2- قَولُه تعالى: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا أُعيدَ إنكارُ التَّفضيلِ بقولِه: أَرَأَيْتَكَ المُفيدِ الإنكارَ، وعلَّلَ الإنكارَ بإضمارِ المكْرِ لذُرِّيَّتِه؛ ولذلك فُصِلَت جُملةُ قَالَ أَرَأَيْتَكَ عن جُملةِ قَالَ أَأَسْجُدُ [863] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/150).   .
- قولُه: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ في الكلامِ حذْفٌ، والمعنى: أخبِرني عن هذا الَّذي كرَّمْتَه عليَّ، لِمَ كرَّمْتَه عليَّ، وقد خلَقْتَني من نارٍ وخلقْتَه من طينٍ؟ وحُذِفَ هذا؛ لِمَا في الكلامِ من الدَّليلِ عليه [864] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/77-78).   .
- اسمُ الإشارةِ هَذَا مُستعملٌ في التَّحقيرِ [865] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/151).   .
- قولُه: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا فيه الاقتصارُ على إغواءِ ذُرِّيَّةِ آدمَ، ولم يذكُرْ إغواءَ آدمَ وهو أوْلى بالذِّكرِ -إذ آدمُ هو أصْلُ عَداوةِ الشَّيطانِ النَّاشئةِ عن الحسَدِ من تَفضيلِه عليه-؛ لأنَّ هذا الكلامَ قاله بعدَ أنْ أَغوى آدمَ، وأُخْرِجَ من الجنَّةِ، فقد شَفى غليلَه منه، وبقِيَت العداوةُ مُسْترِسلةً في ذُرِّيَّةِ آدمَ [866] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/151).   .
- قولُه: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ... الكافُ في أَرَأَيْتَكَ لتأكيدِ الخِطابِ، ومُبالغةً في التَّنبيهِ [867] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/260)، ((تفسير أبي حيان)) (7/78).   ، وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قاله هنا بتَكريرِ الخطابِ، كنظيرِه في أَرَأَيْتَكُمْ في (الأنعامِ)؛ لدَلالتِه على أنَّ المُخاطَبَ به أمْرٌ عظيمٌ، وهو هنا كذلك؛ لأنَّ إبليسَ -لعنَهُ اللهُ- ضمِنَ بقولِه: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا إغواءَ أكثرِهم [868] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 331-332). ويُنظر أيضًا: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 166).   .
3- قَولُه تعالى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا
- قولُه: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا من حَقِّ الضَّميرِ في الجزاءِ جَزَاؤُكُمْ أنْ يكونَ على لفْظِ الغَيبةِ (جزاؤهم)؛ ليرجِعَ إلى مَنْ تَبِعَكَ، ولكنَّ التَّقديرَ: فإنَّ جهنَّمَ جزاؤُهم وجزاؤُك، ثمَّ غُلِّبَ المُخاطَبُ على الغائبِ، فقيل: جَزَاؤُكُمْ، فجُعِلَ الغائِبُ تَبَعًا للمخاطبِ، كما كان تَبَعًا له في المَعصيةِ والعُقوبةِ؛ فحَسُنَ أنْ يُجعَلَ تَبَعًا له في اللَّفظِ، وهذا مِن حُسْنِ ارتباطِ اللَّفظِ بالمَعنى واتِّصالِه به. ويجوزُ أنْ يكونَ للتَّابعينَ على طريقِ الالتِفاتِ [869] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/677)، ((تفسير البيضاوي)) (3/260)، ((تفسير أبي حيان)) (7/79)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/185)، ((تفسير أبي السعود)) (5/183).   .
- وفي قولِه: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا أُعيدَ جَزَاءً للتَّأكيدِ؛ اهتمامًا وفصاحةً، ولأنَّه أحسنُ في جريانِ وصْفِ الموفورِ على موصوفٍ مُتَّصلٍ به دونَ فصْلٍ [870] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/152).   .
4- قَولُه تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
- قولُه: وَاسْتَفْزِزْ السِّينُ والتَّاءُ فيه للجَعلِ النَّاشئِ عن شِدَّةِ الطَّلبِ والحَثِّ [871] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/153).   . والأمْرُ في قولِه: وَاسْتَفْزِزْ، وقولِه: وَأَجْلِبْ، وقولِه: وَشَارِكْهُمْ، وقولِه: وَعِدْهُمْ؛ كلُّها بمعنى التَّهديدِ، كقولِه: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [872] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/79)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/168).   [فصلت: 40] .
- وفي قولِه: وَعِدْهُمْ حُذِفَ المفعولُ؛ للتَّعميمِ في الموعودِ به، والمقامُ دالٌّ على أنَّ المقصودَ أنْ يعِدَهم بما يَرْغبون؛ لأنَّ العِدَةَ هي التزامُ إعطاءِ المرغوبِ. وسمَّاهُ وعْدًا؛ لأنَّه يُوهِمُهم حُصولَه فيما يُسْتقبَلُ، فلا يَزالون يَنْتظِرونَه، كشأْنِ الكذَّابِ أنْ يَحتزِرَ عن الإخبارِ بالعاجلِ لقُربِ افتضاحِه، فيجعَلَ مواعيدَه كلَّها للمُستقبَلِ؛ ولذلك اعترَضَ بجُملةِ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [873] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/155).   .
- قولُه: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا اعتراضٌ لبَيانِ شأْنِ مواعيدِه الباطلةِ [874] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/261).   ، وفيه التِفاتٌ إلى الغَيبةِ؛ لتَقويةِ معنى الاعتراضِ، مع ما فيه من صرْفِ الكلامِ عن خطابِه، وبيانِ شأْنِه للنَّاسِ، ومن الإشعارِ بعِلِّيَّةِ شَيطنتِه للغُرورِ، وهو تَزيينُ الخطأِ بما يُوهِمُ أنَّه صوابٌ [875] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/184).   . وكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (وما تَعِدُهم إلَّا غُرورًا)، ولكنَّه عُدِلَ عن ذلك؛ تَهوينًا لأمْرِه واستصغارًا لأمْرِ الغُرورِ الَّذي يعِدُهم به من جِهَةٍ، وليتولَّى الكلام على طريقِ الغَيبةِ، مُتحدِّثًا إلى النَّاسِ جميعًا؛ ليعلَمَ الجاهلُ، ويخلُدَ المُبْطِلُ إلى الصَّوابِ [876] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (5/480).   .
- قولُه: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا فيه إظهارُ اسمِ الشَّيطانِ دونُ أنْ يُؤْتَى بضَميرِه المُستتِرِ؛ لأنَّ هذا الاعتراضَ جُملةٌ مُستقِلَّةٌ؛ فلو كان فيها ضَميرٌ عائدٌ إلى ما في جُملةٍ أُخرى، لكان في النَّثرِ شِبْهُ عيبِ التَّضمينِ في الشِّعرِ، ولأنَّ هذه الجُملةَ جاريةٌ مَجْرى المثَلِ، فلا يحسُنُ اشتمالُها على ضَميرٍ ليس من أجزائِها [877] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/155).   .
5- قَولُه تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا
- قولُه: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا ناشئًا عن قولِه: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، وقولِه: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ؛ فإنَّ مفهومَ فَمَنْ تَبِعَكَ ومَنِ اسْتَطَعْتَ ذُرِّيةٌ، من قَبيلِ مفهومِ الصِّفةِ، فيُفيدُ أنَّ فريقًا من ذُرِّيَّةِ آدمَ لا يتبَعُ إبليسَ، فلا يَحْتنِكُه. وهذا المفهومُ يُفيدُ أنَّ اللهَ قد عصَمَ أو حفِظَ هذا الفريقَ من الشَّيطانِ، وذلك يثيرُ سُؤالًا في خاطرِ إبليسَ؛ ليعلَمَ الحائلَ بينَه وبينَ ذلك الفريقِ بعدَ أنْ علِمَ في نفْسِه عِلْمًا إجماليًّا أنَّ فريقًا لا يحتنِكُه؛ لقولِه: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، فوقعَتِ الإشارةُ إلى تَعيينِ هذا الفريقِ بالوصفِ وبالسَّببِ؛ فأمَّا الوصفُ ففي قولِه: عِبَادِي، وأمَّا السَّببُ ففي قولِه: وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [878] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/156).   .
- والإضافةُ إليه تَعالى في قولِه: إِنَّ عِبَادِي إضافةُ تَشريفٍ [879] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/81).   .
- وجُملةُ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يجوزُ أنْ تكونَ تَكمِلةً لتَوبيخِ الشَّيطانِ؛ فيكونُ كافُ الخطابِ ضَميرَ الشَّيطانِ تَسجيلًا عليه بأنَّه عبدُ اللهِ، ويجوزُ أنْ تكونَ مُعترِضةً في آخرِ الكلامِ؛ فتكونُ كافُ الخطابِ ضَميرَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَقريبًا للنَّبيِّ بالإضافةِ إلى ضَميرِ اللهِ [880] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/157).   .