موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (58-60)

ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

مَسْطُورًا: أي: مَكتوبًا مَحفوظًا، وأصْلُ (سطر): يدُلُّ على اصطِفافِ الشَّيءِ [783] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 348)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409).   .
فِتْنَةً: أي: اختِبارًا وابتِلاءً، مِن الفَتنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه مِن رداءتِه [784] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76، 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472 - 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139 - 140).   .
طُغْيَانًا: أي: تماديًا وغَيًّا، والطُّغيانُ: مُجاوزةُ الحَدِّ في العِصيانِ [785] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/652)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520).   .

المعنى الإجمالي:

يتوعَّدُ اللهُ الكفَّارَ بأنَّه ما من قريةٍ كافرةٍ مُكَذِّبةٍ للرُّسُلِ إلَّا وسيُنزِلُ بها عقابَه بالهلاكِ في الدُّنيا قبلَ يومِ القيامةِ، أو بالعذابِ الشَّديدِ لأهلِها، كتابٌ كتَبَه اللهُ وقَضاءٌ أبرَمَه لا بُدَّ مِن وقوعِه، وهو مَسطورٌ في اللَّوحِ المحفوظِ.
ثم يُبيِّنُ الله تعالى بعضَ مظاهرِ فضلِه على هذه الأُمةِ، فيقولُ: وما منعَنا مِن إنزالِ المُعجِزاتِ التي سألها المُشرِكون إلَّا تكذيبُ مَن سبَقَهم من الأُمَم، فقد أجابهم اللهُ إلى ما طَلَبوا فكذَّبوا وهَلَكوا.
ثمَّ ذكَر الله تعالى مثالًا على ذلك؛ قومَ صالحٍ، فقال: وأعطَينا ثمودَ -وهم قَومُ صالحٍ- النَّاقةَ مُعجِزةً واضِحةً لهم، فكَفَروا بها فأهلَكْناهم. وما نرسِلُ بالآياتِ إلَّا تخويفًا للعبادِ؛ لِيَعتَبِروا ويتذَكَّروا.
ثمَّ ذكَر تعالى ما يزيدُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثباتًا، ويقينًا، فقال: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حين قُلْنا لك: إنَّ رَبَّك أحاط بالنَّاسِ عِلمًا وقُدرةً، وما جعَلْنا الرُّؤيا التي أريناكها عِيانًا ليلةَ الإسراءِ والمعراجِ إلَّا اختِبارًا وبلاءً للنَّاسِ؛ ليتمَيَّزَ كافِرُهم مِن مُؤمِنِهم، وما جعَلْنا شَجَرةَ الزقُّومِ الملعونةَ التي ذُكِرَت في القرآنِ إلَّا ابتلاءً للنَّاسِ، ونخوِّفُ المُشرِكين بأنواعِ العذابِ والآياتِ، ولا يزيدُهم التَّخويفُ إلَّا تماديًا في الكُفرِ والضَّلالِ.

تفسير الآيات:

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قال الله تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57] ، بيَّن أنَّ كُلَّ قريةٍ من قرى الكفارِ مع أهلِها فلا بدَّ أن يرجِعَ حالُها إلى أحَدِ أمرَينِ: إمَّا الإهلاكِ، وإمَّا التَّعذيبِ [786] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/358).   .
وأيضًا لما عَرَّض بالتَّهديدِ للمشركينَ في قولِه: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57] ، وتحدَّاهم بقولِه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ [الإسراء: 56] جاء بصريحِ التَّهديدِ على مَسْمَعٍ منهم [787] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/141).   ، فقال:
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا.
أي: وما مِن قَريةٍ مِن القُرَى إلَّا سنُهلِكُ أهلَها بعذابِ الاستِئصالِ قبلَ وُقوعِ يومِ القيامةِ، أو نعَذِّبُهم عذابًا شَديدًا بتَسليطِ عَدُوٍّ عليهم، أو بإصابتِهم بالجُوعِ أو بالخَوفِ أو بالأمراضِ وغَيرِها؛ وذلك بسَببِ كُفرِهم أو عِصيانِهم [788] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/89)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/451)، ((تفسير الشوكاني)) (3/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 461). ممن اختار أنَّ المرادَ بالقرَى هنا: القُرى الكافرةُ الظالمةُ: القصَّاب، والخازن، وابنُ كثير، والبقاعي، وأبو السعودِ، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/173)، ((تفسير الخازن)) (3/134)، ((تفسير ابن كثير)) (5/89)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/451)، ((تفسير أبي السعود)) (5/179)، ((تفسير الشوكاني)) (3/282)، ((تفسير القاسمي)) (6/471)، ((تفسير السعدي)) (ص: 461). قال الشنقيطي: (قال بعضُ أهلِ العلمِ: في هذه الآيةِ الكريمةِ حذفُ الصِّفةِ، أي: وإِنْ مِنْ قريةٍ ظالمةٍ إلَّا نحنُ مُهْلِكوها. وهذا النعتُ المحذوفُ دَلَّتْ عليه آياتٌ مِنْ كتابِ الله تعالَى؛ كقولِه: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] ، وقولِه: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] ، أي: بل لا بُدَّ أنْ تُنذِرَهم الرُّسلُ فيكفُروا بهم وبربِّهم، وقولِه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117] ، وقولِه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 8، 9] إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ). ((أضواء البيان)) (3/163). وممن اختار أنَّ المرادَ عمومُ القرى: ابن جرير، والزجاج، والسمعاني، وابن عطية، والرازي، والرسعني، والبيضاوي، وأبو حيان، والثعالبي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/633)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/247)، ((تفسير السمعاني)) (3/251)، ((تفسير ابن عطية)) (3/466)، ((تفسير الرازي)) (20/358)، ((تفسير الرسعني)) (4/190)، ((تفسير البيضاوي)) (3/259)، ((تفسير أبي حيان)) (7/71)، ((تفسير الثعالبي)) (3/481)، ((تفسير الألوسي)) (8/96). قال مقاتلُ بنُ سليمان، والسمعاني، وابنُ الجوزي: القريةُ الصالحةُ هلاكُها بالموت، والعاصيةُ بالعذابِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/537)، ((تفسير السمعاني)) (3/251)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/33). وقال ابنُ عطية: (وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ... الآية: أخبَر الله تعالى في هذه الآيةِ أنَّه ليس مدينةٌ مِن المدنِ إلا هي هالكةٌ قبلَ يومِ القيامةِ بالموتِ والفناءِ، هذا مع السلامةِ وأخذِها جزءًا جزءًا، أو هي معذبةٌ مأخوذةٌ مرةً واحدةً، فهذا عمومٌ في كلِّ مدينةٍ. ومِنْ لبيان الجنس). ((تفسير ابن عطية)) (3/466). وقال ابنُ جزي: (يحتمِلُ هذا الهلاكُ وجهينِ: أحدهما: أن يكونَ بالموتِ والفناءِ الذي لا بدَّ منه، والآخرُ أن يكونَ بأمرٍ مِن الله، يأخذُ المدينةَ دفعةً فيهلكُها، وهذا أظهرُ؛ لأن الأولَ معلومٌ لا يفتقرُ إلى الإخبارِ به، والهلاكُ والتعذيبُ المذكورانِ في الآيةِ هما في الحقيقةِ لأهلِ القرى، أي: مهلكو أهلِها أو معذِّبوهم).  ((تفسير ابن جزي)) (1/449). .
كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11 - 15].
وقال سُبحانَه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 8، 9].
كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.
أي: إنَّ هَلاكَ كُلِّ قَريةٍ أو تعذيبَها بعذابٍ شَديدٍ قبلَ يومِ القيامةِ أمرٌ مَكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ، لا بُدَّ مِن وُقوعِه لا محالةَ [789] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/634)، ((تفسير الرازي)) (20/358)، ((تفسير القرطبي)) (10/280)، ((تفسير السعدي)) (ص: 461)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/164).   .
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ الدَّليلَ على فسادِ قَولِ المُشرِكين، وأتبَعَه بالوَعيدِ؛ أتبَعَه بذِكرِ مَسألةِ النبُوَّةِ [790] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/359).   .
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
سبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((سأل أهلُ مكَّةَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أن يَجعلَ لهم الصَّفا ذهبًا، وأن يُنَحِّيَ الجبالَ عنهم فيَزدَرِعوا، فقيل له: إنْ شِئتَ أن تَستأنِيَ بهم، وإن شِئتَ أن تُؤتيَهم الذي سألوا، فإن كفَروا أُهلِكوا كما أهلكْتُ مَن قبلَهم، قال: لا، بل أستأني بهم، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً )) [791] أخرجه أحمد (2333)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11290). صحَّحه الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (1/213)، وجوَّد إسنادَه ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (3/49)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (4/96)، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/1159): (رجالُه ثقاتٌ رِجالُ الشيخين، فهو على شرطِهما).   .
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
أي: وما منَعَنا أن نأتيَ بالآياتِ التي يقتَرِحُها كُفَّارُ قَومِك -يا مُحمَّدُ- إلَّا تكذيبُ الأوَّلينَ بها بعدَ أن سألوها، فكَذَّبوا فعَجَّلْنا بهلاكِهم، فإذا كذَّبَ بها قَومُك -يا محمَّدُ- استحَقُّوا ما استحَقَّه أولئك مِن الهلاكِ والعذابِ؛ فليس لهم مَصلحةٌ في الإرسالِ بها، بل حِكمتُه سُبحانَه تأبى ذلك [792] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/635)، ((تفسير القرطبي)) (10/281)، ((تفسير ابن كثير)) (5/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 461).   .
وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا.
مناسبتُها لما قبلَها:
لَمَّا أخبَرَ الله تعالى بأنَّ الأوَّلينَ كذَّبوا بالآياتِ المُقترَحةِ؛ عيَّنَ منها ناقةَ صالحٍ؛ لأنَّ آثارَ ديارِهم الهالكةِ باقيةٌ في بلادِ العربِ، قَريبةٌ من حُدودِهم، يُبْصِرُها صادِرُهم ووارِدُهم [793] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 330)، ((تفسير ابن عاشور)) ( 15/144).   .
وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا.
أي: وآتَينا ثمودَ النَّاقةَ آيةً وحُجَّةً واضِحةً مُوجِبةً للتبصُّرِ واليقينِ، ودالَّةً على وحدانيَّةِ الله تعالى وقُدرتِه، وصِدقِ رَسولِه صالحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فكَفَروا باللهِ، ووقَعوا في الظُّلمِ بقَتلِها، فلمَّا لم يُؤمِنوا كان في إجابتِهم إلى ما سألوا من الآياتِ هلاكُهم واستِئصالُهم [794] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/637، 638)، ((تفسير القرطبي)) (10/281)، ((تفسير ابن كثير)) (5/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 461)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/143، 144). قال ابنُ جرير: (يقول تعالى ذِكرُه: وقد سأل الآياتِ -يا محمَّدُ- مِن قَبلِ قَومِك ثمودُ، فآتيناها ما سألَتْ). ((تفسير ابن جرير)) (14/637). وقال السمعاني: (مُبْصِرَةً أي: آيةً نيِّرةً مُضيئةً، أَو: آيَة يُبصَرُ بها الحقُّ). ((تفسير السمعاني)) (3/253). !
كما قال تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف: 77، 78].
وقال سُبحانَه: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [الشمس: 13، 14].
وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا.
أي: وما نُرسِلُ بالآياتِ الموجبةِ للعِبَرِ والعِظاتِ إلَّا تَخويفًا للعبادِ؛ ليُؤمِنوا، ويرتَدِعوا عمَّا هم عليه [795] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/ 638)، ((تفسير ابن عطية)) (3/467)، ((تفسير الرسعني)) (4/191)، ((منهاج السنة)) لابن تيمية (5/445)، ((تفسير أبي حيان)) (7/73)، ((تفسير ابن كثير)) (5/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 461). واختُلِف في المرادِ بالآياتِ هنا؛ فقيل: هي معجزاتُ الرسلِ. وقيل: هي آياتٌ معها إمهالٌ لا معاجلةٌ، فمِن ذلك الكسوفُ والرعدُ والزلزلةُ. وقيل: هي الموتُ الذريعُ. وقيل: هي تقلُّبُ أحوالِ الإِنسانِ مِن الصغرِ إلى المشيبِ. وذلك على اعتبارِ أن هذه الآياتِ غيرُ الآياتِ المقترحةِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/ 34)، ((تفسير ابن عطية)) (3/ 467). قال ابنُ القيم: (هذا يعمُّ آياتِه التي تكونُ مع الرسُلِ، والتي تقع بعدَهم في كلِّ زمان؛ فإنَّه سبحانه لا يزالُ يُحدِثُ لعبادِه من الآياتِ ما يخوِّفُهم بها ويذكِّرُهم بها، ومن ذلك قَولُه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الأنعام: 37]). ((شفاء العليل)) (ص: 197). وقيل: المرادُ بالآياتِ هنا: الآياتُ المقترحةُ، أي: لا نرسلُ الآياتِ المقترحةَ إلَّا تخويفًا مِن نزولِ العذابِ، فإن لم يخافوا وقَع عليهم. وممَّن اختار هذا القولَ: الخازنُ، والشوكاني، والقاسمي، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ عاشورٍ. ينظر: ((تفسير الخازن)) (3/135)، ((تفسير الشوكاني)) (3/283)، ((تفسير القاسمي)) (6/471)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/ 144) وقيل: المرادُ: الآياتُ المقترحاتُ وغيرُها، وممن اختاره البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (11/456). .
عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((خَسَفَت الشَّمسُ فقام النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَزِعًا، يخشَى أن تكونَ السَّاعةُ! فأتَى المسجِدَ فصَلَّى بأطوَلِ قيامٍ ورُكوعٍ وسُجودٍ رأيتُه قطُّ يفعَلُه، وقال: هذه الآياتُ التي يُرسِلُ اللهُ لا تكونُ لِموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، ولكِنْ يخَوِّفُ اللهُ به عِبادَه، فإذا رأيتُم شيئًا مِن ذلك فافزَعوا إلى ذِكرِه، ودُعائِه، واستِغفارِه )) [796] رواه البخاري (1059) واللفظ له، ومسلم (912).   .
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لمَّا طالبوا الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالآياتِ المقترحةِ، وأخبَر الله بالمصلحةِ في عدمِ المجيءِ بها طعَن الكفارُ فيه، وقالوا: لو كان رسولًا حقًّا لأتَى بالآياتِ المقترحةِ؛ فبيَّن الله أنَّه ينصرُه ويؤيِّدُه، وأنَّه أحاطَ بالناسِ [797] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/360)، ((تفسير أبي حيان)) (7/73).   ، فقال تعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ.
أي: وإذْ قُلْنا لك [798] قال الشوكاني: (الظَّرفُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: اذكُرْ إذ قُلْنا لك). ((تفسير الشوكاني)) (3/283).   - يا محمَّدُ: إنَّ رَبَّك مُحيطٌ بالنَّاسِ بقُدرتِه وعِلمِه؛ فهم في قَبضتِه، وتحتَ مَشيئتِه، واللهُ يعصِمُك منهم حتى تبَلِّغَ رِسالتَه؛ فلا تَخشَ منهم أحدًا، وامضِ لِما أمَرْناك به مِن تبليغِ رِسالتِنا [799] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/639، 640)، ((تفسير ابن كثير)) (5/91، 92)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/165).   .
كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .
وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.
أي: وما جعَلْنا رُؤيا عَينيك -يا محمَّدُ- التي أريناكَ ليلةَ الإسراءِ والمعراجِ مِن الغَرائبِ والعَجائِبِ إلَّا اختِبارًا وبلاءً للنَّاسِ؛ ليتبيَّنَ مَن يُصَدِّقُك ومَن يُكَذِّبُك [800] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/646، 647)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/510)، ((تفسير ابن كثير)) (5/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 461)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/165). قال البقاعي: (ليتبيَّنَ بذلك في عالَمِ الشهادة المتَّقي المحسِنُ، والجاهِلُ المسيءُ، كما هو عندنا في عالَمِ الغيبِ، فنقيمَ بها عليهم الحُجَّةَ، لا ليؤمِنَ أحدُ مَن حَقَّت عليهم الكَلِمةُ، ولا لنزدادَ نحن علمًا بسرائرِهم). ((نظم الدرر)) (11/457-458).   .
كما قال تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 11 - 18] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما في قَولِه تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: (هي رُؤيا عينٍ، أُريَها رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةَ أُسرِيَ به إلى بيتِ المقدِسِ) [801] رواه البخاري (3888).   .
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ.
أي: وما جعَلْنا الشَّجَرةَ الملعونةَ [802] قال البقاعي: (الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ بكونِها ضارَّةً، والعرَبُ تسَمِّي كُلَّ ضارٍّ مَلعونًا، وبكونِها في دارِ اللَّعنةِ، وكُلُّ مَن له عَقلٌ يريدُ بُعْدَها عنه). ((نظم الدرر)) (11/459). وقال ابن عاشور: (والملعونة، أي: المذمومة في القرآنِ، في قَولِه: طَعَامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 44] ، وقَولِه: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات: 65] ، وقولِه: كَالْمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 45- 46] . وقيل: معنى الملعونة: أنَّها موضوعةٌ في مكانِ اللعنةِ، وهي الإبعادُ مِن الرحمة؛ لأنَّها مخلوقةٌ في موضِعِ العذابِ. وفي «الكشاف»: قيل: تقولُ العرَبُ لكُلِّ طعامٍ ضارٍّ: ملعونٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/148). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/676).   في القُرآنِ -وهي شَجرةُ الزقُّومِ النابتةُ في الجَحيمِ- إلَّا فِتنةً للنَّاسِ أيضًا؛ ليتبيَّنَ مَن يُصَدِّقُ بها، ومَن يكَذِّبُ ويَستهزِئُ بها؛ إذ قال المُشرِكون: يخبِرُنا مُحمَّدٌ أنَّ في النَّارِ شَجرةً نابتةً، والنَّارُ تأكُلُ الشَّجَرَ، فكيف تَنبُتُ فيها [803] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/652)، ((تفسير القرطبي)) (10/283)، ((تفسير ابن كثير)) (5/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 461)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/147، 148)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/165). قال البقاعي: (ولم يقولوا ما هم أعلَمُ النَّاسِ به من أنَّ الذي جعل لهم من الشَّجَرِ الأخضَرِ نارًا قادِرٌ على أن يجعَلَ في النَّارِ شجرًا!!). ((نظم الدرر)) (11/460).   ؟!
كما قال تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: 62 - 67] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43 - 46] .
وقال عزَّ وجلَّ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 51 - 56] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قال: (هي شَجرةُ الزقُّومِ) [804] رواه البخاري (3888).  
وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا.
أي: ونُخوِّفُ المُشرِكين بما نتوعَّدُهم به مِن العَذابِ، فما يَزيدُهم تخويفُنا لهم إلَّا تماديًا في الكُفرِ والضَّلالِ [805] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/652)، ((تفسير ابن كثير)) (5/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 461).   !
كما قال تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [المائدة: 64] .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا، أي: ما مِن قَريةٍ مِن القُرى المكَذِّبةِ للرُّسُلِ إلَّا لا بُدَّ أن يُصيبَهم هلاكٌ قَبلَ يَومِ القيامةِ، أو عَذابٌ شَديدٌ، كِتابٌ كَتَبه اللهُ وقَضاءٌ أبرَمَه لا بدَّ مِن وُقوعِه؛ فلْيُبادِرِ المكَذِّبون بالإنابةِ إلى اللهِ، وتَصديقِ رُسُلِه قبل أن تَتِمَّ عليهم كَلِمةُ العَذابِ، ويحِقَّ عليهم القَولُ [806] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 461).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ دَليلٌ على تشريفِ هذه الأمَّةِ، وتفضيلِ رسولِها على سائرِ الرُّسُلِ -صلواتُ الله عليه وعليهم-؛ وذلك أنَّه جلَّ جلالُه كان مِن حُكْمِه في الأممِ السالفةِ أنْ نَزَّلَ العذابَ بكلِّ مَن كَفَر بآياتِه، فصرفَه عن هذه الأُمَّةِ بتركِ إرسالِ الآياتِ المُوجِبةِ للعذابِ على مَن كَفَر بها [807] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/174).   .
2- قوله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ إن قال قَائِلٌ: كَيفَ يجوزُ ألا يُرْسِلَ الله الآياتِ لأنَّ الأوَّلينَ كذَّبوا بها؟ وما وَجهُ الامتناعِ عن إرسالِ الآياتِ بتكذيبِ الأوَّلينَ؟
والجوابُ مِن وَجهينِ:
أحدهما: -وهو المعروفُ- وما منعَنا أن نرسلَ بالآياتِ التي اقترَحها الكفَّارُ.
والجوابُ الثَّاني: أنَّ «إِلَّا» محذوفٌ، ومَعْناهُ: وما منعَنا من إرسالِ الآياتِ، وإن كذَّب بها الأولونَ، يعني: أنَّ تكذيبَ الأوَّلينَ لا يمنعُنا مِن إرسالِ الآياتِ [808] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/253).   .
3- قَولُ الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا فيه سُؤالٌ: المقصودُ الأعظَمُ مِن إظهارِ الآياتِ أن يُستَدَلَّ بها على صِدقِ المدَّعي، فكيف حصَرَ المقصودَ مِن إظهارِها في التَّخويفِ؟
الجوابُ: المقصودُ أنَّ مُدَّعي النبُوَّةِ إذا أظهر الآيةَ فإذا سَمِع الخَلقُ أنَّه أظهَرَ آيةً فهم لا يَعلَمون أنَّ تلك الآيةَ مُعجِزةٌ أو مَخُوفةٌ، إلَّا أنَّهم يجوِّزون كَونَها معجزةً، وبتقديرِ أن تكونَ مُعجِزةً فلو لم يتفَكَّروا فيها، ولم يستَدِلُّوا بها على الصِّدقِ، لاستحَقُّوا العِقابَ الشَّديدَ، فهذا هو الخَوفُ الذي يحمِلُهم على التفَكُّرِ والتأمُّلِ في تلك المُعجِزاتِ [809] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/359-360).   .
4- قولُه: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إنْ قيل: ليس في القُرآنِ لعْنُ شجرةٍ؟
قيل: فيه إضمارٌ تَقديرُه: والشَّجرةَ الملعونةَ المذكورةَ في القُرآنِ، أو معناه: المَلْعونُ آكِلُوها وهم الكفَرةُ. أو الْمَلْعُونَةَ بمعنى المذمومةِ، وهي مَذمومةٌ في القُرآنِ بقولِه تعالى: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 43، 44]، وبقولِه تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات: 65]. أو الْمَلْعُونَةَ بمعنى المُبْعَدةِ؛ لأنَّ اللَّعنَ لُغَةً: الطَّردُ والإبعادُ، وهذه الشَّجرةُ مُبعَدةٌ عن مكانِ رحمةِ اللهِ تَعالى وهو الجنَّةُ؛ لأنَّها في قَعْرِ جهنَّمَ، وهذا الإبعادُ مذكورٌ في القُرآنِ بقولِه تَعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [810] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/676)، ((تفسير أبي حيان)) (7/76)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 330 - 331).   [الصافات: 64] .
5- قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ والمعنى: إذا كان هذان الأمران قد صارا فتنةً للناسِ حتى استلجَّ الكفارُ بكفرِهم، وازداد شرُّهم، وبعضُ مَن كان إيمانُه ضعيفًا رجَع عنه بسببِ أنَّ ما أخبرهم به مِن الأمورِ التي كانت ليلةَ الإسراءِ ومِن الإسراءِ مِن المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصَى كان خارقًا للعادةِ، والإخبارُ بوجودِ شجرةٍ تنبتُ في أصلِ الجحيمِ أيضًا مِن الخوارقِ، فهذا الذي أوجَب لهم التكذيبَ، فكيفَ لو شاهدوا الآياتِ العظيمةَ، والخوارقَ الجسيمةَ، أليس ذلك أولَى أن يزدادَ بسببِه شرُّهم؟! فلذلك رحِمهم الله وصرَفها عنهم، ومِن هنا تعلمُ أنَّ عدمَ التصريحِ في الكتابِ والسنةِ بذكرِ الأمورِ العظيمةِ التي حدثَتْ في الأزمنةِ المتأخرةِ أولَى وأحسنُ؛ لأنَّ الأمورَ التي لم يشاهدِ الناسُ لها نظيرًا ربما لا تقبلُها عقولُهم، لو أُخبِروا بها قبلَ وقوعِها، فيكونُ ذلك ريبًا في قلوبِ بعضِ المؤمنينَ، ومانعًا يمنعُ مَن لم يدخُلِ الإسلامَ ومنفرًا عنه، بل ذكَر الله ألفاظًا عامةً تتناولُ جميعَ ما يكونُ [811] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 461).   .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا
- قولُه: مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فيه التَّقييدُ بكونِه قبلَ يومِ القيامةِ؛ زيادةً في الإنذارِ والوعيدِ [812] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) ( 15/141).   .
2- قوله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا
- قوله: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً خُصَّت ثمودُ مِن ذلك الهُدى والبصيرةِ بمزيدٍ؛ ولهذا لَمَّا قرَنَهم بقومِ عادٍ قال: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، ثمَّ قال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى؛ ولهذا أمكن عادًا المكابرةُ وأن يقولوا لنبيِّهم: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ولم يمكِنْ ذلك ثمودَ، وقد رأوا البيِّنةَ عِيانًا، وصارت لهم بمنزلةِ رُؤيةِ الشَّمسِ والقَمَرِ، فردُّوا الهدى بعدَ تيقُّنِه والبصيرةِ التَّامَّةِ، فكان في تخصيصِهم بالذِّكرِ تحذيرٌ لكُلِّ من عرف الحَقَّ ولم يتَّبِعْه، وهذا داءُ أكثَرِ الهالكين، وهو أعَمُّ الأدواءِ وأغلَبُها على أهلِ الأرضِ، والله أعلمُ [813] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 27).   .
وأيضًا: خَصَّ آيةَ ثمودَ بالذِّكرِ؛ تحذيرًا بسبَبِ أنَّهم عربٌ اقتَرَحوا ما كان سَببًا لاستِئصالِهم، ولشُهرةِ أمرِهم بين العَرَبِ؛ لأنَّ لهم مِن عِلمِها وعِلمِ مَساكنِهم بقُربها إليهم وكَونِها في بلادِهم ما ليس لهم مِن عِلمِ غَيرِها [814] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/456)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/144).   .
- في قولِه: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا فيه قصْرُ الإرسالِ بالآياتِ على علَّةِ التَّخويفِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ، أي: لا مُباراةً بين الرُّسلِ وأقوامِهم، أو لا طمعًا في إيمانِ الأقوامِ؛ فقد علِمْنا أنَّهم لا يُؤمِنون [815] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) ( 15/145).   .
3- قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا
- في قولِه: إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ أَحَاطَ بمعنى يُحيطُ، عُبِّرَ عن المُستقبلِ بالماضي؛ لأنَّه واقعٌ لا مَحالةَ [816] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/259)، ((تفسير أبي حيان)) (7/74)، ((تفسير ابن عاشور)) ( 15/145).   .
- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ فيه مجِيءُ المُسنَدِ إليه بلفظِ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضميرِ الرَّسولِ؛ إشارةً إلى أنَّ هذا القولَ مَسوقٌ مَساقَ التَّكرِمَةِ للنَّبيِّ وتَصبيرِه، وأنَّه بمَحَلِّ عِنايةِ اللهِ به؛ إذ هو ربُّه وهو ناصرُه [817] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) ( 15/145).   .
- قولُه: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ لعلَّه إنَّما سمَّاه رؤيا -وهي للمنامِ- على وجهِ التشبيهِ، لما فيه مِن الخوارقِ التي هي بالمنامِ أليقُ في مجاري العاداتِ [818] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/458-459).   .
- وفي قولِه: وَنُخَوِّفُهُمْ أُوثِرَ صِيغَةُ المُضارعةِ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ [819] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/182).   . وفي قولِه: يَزِيدُهُمْ أنَّه كلَّما تجدَّدَ التَّخويفُ تجدَّدَ طُغيانُهم وعظُمَ [820] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) ( 15/149).   .