موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (98-100)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: فإذا أردتَ- يا مُحمَّدُ- أن تقرأَ شَيئًا مِن القُرآنِ، فاستَجِرْ باللهِ مِن شَرِّ الشَّيطانِ المَطرودِ مِن رَحمةِ اللهِ، قائِلًا: أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ؛ إنَّ الشَّيطانَ ليس له تسلُّطٌ على المُؤمِنينَ باللهِ ورَسولِه، المُعتَمِدين على ربِّهم وحدَه، إنَّما تَسَلُّطُه على الذينَ اتخذوه وليًّا فأطاعُوه فيما يأمرُهم به، والذين هم مُشرِكونَ باللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما منَّ اللهُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإنزالِ كتابٍ جامعٍ لصفاتِ الكمالِ، وأنَّه تبيانٌ لكلِّ شيءٍ، فقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وذكَرَ أشياءَ مِمَّا بُيِّنَ في الكِتابِ؛ قال بعد ذلك: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي: إذا شرَعْتَ في قراءةِ هذا الكتابِ الشريفِ الجامعِ الذي نبَّهتُ على بعضِ ما اشتَمل عليه، ونازَعك فيه الشيطانُ بهمزِه ونفثِه فاستعِذْ بالله منه [1179] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/593)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/274-275). .
وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَرَ العمَلَ الصَّالِحَ، ووَعَدَ عليه، وصَلَ به قَولَه تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ؛ إيذانًا بأنَّ الاستِعاذةَ مِن جُملةِ الأعمالِ الصَّالحةِ التي يُجزِلُ اللهُ عليها الثَّوابَ [1180] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/633). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه العمَلَ الصَّالِحَ والجَزاءَ عليه؛ أتبَعَه بذِكرِ الاستعاذةِ التي تَخلُصُ بها الأعمالُ الصَّالحةُ عن الوَساوِسِ الشَّيطانيَّةِ، فقال تعالى [1181] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/231). :
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98).
أي: فإذا أردْتَ قِراءةَ القُرآنِ- يا مُحمَّدُ- فالْتَجِئْ إلى المَعبودِ الحقِّ سُبحانَه، واستَجِرْ به [1182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/109)، ((تفسير ابن كثير)) (1/114). مِنْ كُلِّ جانٍّ مُتمَرِّدٍ، مَطرودٍ عن كلِّ خَيرٍ؛ حتى لا يَصرِفَك بوَساوِسِه عن تدبُّرِ القُرآنِ، والانتفاعِ به [1183] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/357)، ((تفسير ابن عطية)) (3/420)، ((تفسير القرطبي)) (10/174، 175)، ((تفسير البيضاوي)) (3/240)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/283)، ((تفسير ابن كثير)) (4/602)، ((تفسير السعدي)) (ص: 449). .
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالاستعاذةِ مِن الشَّيطانِ، وكان ذلك يُوهِمُ أنَّ للشَّيطانِ قُدرةً على التصَرُّفِ في أبدانِ النَّاسِ، فأزال اللهُ تعالى هذا الوَهمَ، وبيَّنَ أنَّه لا قُدرةَ له البتَّةَ إلَّا على الوَسْوسةِ، فقال تعالى [1184] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/269). :
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99).
أي: إنَّ الشَّيطانَ ليس له طَريقٌ يتسَلَّطُ بها على المُؤمِنينَ المُعتَمِدينَ على رَبِّهم وَحْدَه، الذينَ استعاذُوا برَبِّهم مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، فلا قُدرةَ له عليهم، ولا حُجَّةَ له فيما يَدعوهم [1185] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/357)، ((تفسير القرطبي)) (10/175)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/98)، ((تفسير السعدي)) (ص: 449). .
كما قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 65] .
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100).
أي: إنَّما تَسَلُّطُ الشَّيطانِ واقِعٌ على الذينَ يتَّخِذونَه وَلِيًّا لهم مِن دُونِ الله تعالى، فيَتَّبِعونَه ويُطيعونَه فيما يأمُرُهم به [1186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/357)، ((تفسير القرطبي)) (10/176)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 449)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/444). ، وعلى الذين يُشرِكونَ باللهِ تعالى [1187] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/357)، ((تفسير القرطبي)) (10/176)، ((تفسير ابن كثير)) (4/603). وممن اختار أنَّ مرجعَ الضميرِ في: بِهِ [النحل: 100] يعودُ إلى الله تعالى: ابنُ جرير، والقرطبي، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: المصادر السابقة. وممن اختار ذلك أيضًا: ابنُ أبي زمنين، والرسعني، والعليمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (2/418)، ((تفسير الرسعني)) (4/91)، ((تفسير العليمي)) (4/55)، ((تفسير الشوكاني)) (3/232). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: مجاهدٌ، والضحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/360)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/583). قال الرسعني: (وهو مِن بابِ ما جاء في التنزيلِ مِن الضميرينِ المختلفينِ). ((تفسير الرسعني)) (4/91). وقيل: الضميرُ يعودُ إلى الشيطانِ، أي: بسببِه ومن أجلِه صاروا مشركين بالله. وممن فسَّره بذلك: ابنُ عطيةَ، وابنُ جزي، والسمين الحلبي، وابنُ عاشورٍ، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/420)، ((تفسير ابن جزي)) (1/435)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/286)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/279)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/444). وقال الشنقيطي: (معنَى كونِهم مشركينَ به هو طاعَتُهم له في الكفرِ والمعاصي). ((أضواء البيان)) (2/444). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: الربيعُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/361). قال السمين الحلبي: (قوله تعالى: بِهِ مُشْرِكُونَ يجوزُ أن يعودَ الضميرُ على الشيطان، وهو الظَّاهِرُ؛ لتتَّحِدَ الضمائِرُ). ((الدر المصون)) (7/286)، ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/594). والقاعدةُ: أنَّه إذا تعاقَبت الضمائرُ فالأصلُ أن يتَّحِدَ مرجعُها. يُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (1/414). قال ابن تيمية: (قوله: الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ صفتان لموصوفٍ واحد، فكُلُّ من تولَّاه فهو به مُشرِكٌ، وكلُّ من أشرك به فقد تولَّاه). ((مجموع الفتاوى)) (14/283). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فإذا أراد العبدُ القراءةَ لكتابِ الله الذي هو أشرفُ الكتبِ وأجلُّها، وفيه صلاحُ القلوبِ، والعلومُ الكثيرةُ، فإنَّ الشَّيطانَ أحرَصُ ما يكونُ على العَبدِ عندَ شُروعِه في الأمورِ الفاضِلةِ، فيَسعَى في صَرْفِه عن مَقاصِدِها ومَعانيها، فالطَّريقُ إلى السَّلامةِ مِن شَرِّه: الالتجاءُ إلى اللهِ، والاستعاذةُ به مِن شَرِّه، فيقولُ القارئُ: (أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ) مُتدَبِّرًا لمعناها، مُعتَمِدًا بقَلبِه على اللهِ في صَرفِه عنه، مُجتَهِدًا في دَفْعِ وَساوِسِه، وأفكارِه الرَّديئةِ [1188] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 449). ؛ ليكونَ الشيطانُ بعيدًا عن قلبِ المرءِ وهو يتلو كتابَ الله حتى يحصلَ له بذلك تدبرُ القرآنِ، وتفهمُ معانيه، والانتفاعُ به؛ فلهذا شُرِع تقديمُ الاستعاذةِ على القراءةِ في الصلاةِ، وخارج الصلاةِ [1189] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (3/53). .
2- نفيُ سُلطانِ الشَّيطانِ مَشروطٌ بأمرَينِ: الإيمانِ، والتوَكُّلِ؛ قال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فالإيمانُ مَبدأٌ أصيلٌ لِتَوهينِ سُلطانِ الشَّيطانِ في نَفسِ المُؤمِنِ، فإذا انضَمَّ إليه التوكُّلُ على اللهِ، اندفَعَ سُلطانُ الشَّيطانِ عن المُؤمِنِ المتوكِّلِ [1190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/278-279). .
3- الإخلاصُ يَمنَعُ مِن تسَلُّطِ الشَّيطانِ؛ قال تعالى فيما قَصَّه مِن قِصَّةِ آدمَ وإبليسَ أنَّه قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82- 83] ، وقال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] ، وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فبَيَّنَ أنَّ سُلطانَ الشَّيطانِ وإغواءَه إنَّما هو لِغَيرِ المُخلَصينَ [1191] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/222)، (10/50). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فيه الأمرُ بالاستعاذةِ عندَ القِراءةِ [1192] قال ابنُ كثيرٍ: (وجمهورُ العلماءِ على أنَّ الاستعاذةَ مستحَبَّةٌ ليست بمتحَتِّمةٍ يأثمُ تارِكُها). ((تفسير ابن كثير)) (1/113). وقال ابنُ عاشورٍ: (ومحملُ الأمرِ في هذه الآيةِ عندَ الجمهورِ على الندبِ؛ لانتفاءِ أماراتِ الإيجابِ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/277). ، وذلك شامِلٌ للصَّلاةِ وغَيرِها [1193] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 164). .
2- قَولُ الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إنَّما لم تُشرَعْ لذلك كَلِمةُ (باسْمِ الله)؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ تَخَلٍّ عن النَّقائِصِ، لا مَقامُ استِجلابِ التيَمُّنِ والبَرَكةِ؛ لأنَّ القُرآنَ نَفسَه يُمنٌ وبَرَكةٌ وكَمالٌ تامٌّ، فالتيَمُّنُ حاصِلٌ، وإنما يُخشَى الشَّيطانُ أن يغشَى بركاتِه فيُدخِلَ فيها ما يَنقُصُها، فإنَّ قِراءةَ القُرآنِ عِبارةٌ مُشتَمِلةٌ على النُّطقِ بألفاظِه والتفهُّمِ لِمَعانيه، وكلاهما مُعَرَّضٌ لوَسْوسةِ الشَّيطانِ: وَسْوَسةً تتعلَّقُ بألفاظِه مثل الإنْساءِ؛ لأنَّ الإنساءَ يُضَيِّعُ على القارئِ ما يحتوي عليه المِقدارُ المَنسِيُّ من إرشادٍ، ووَسوسةً تتعَلَّقُ بمعانيه، مثل أن يُخطِئَ فهمًا، أو يقلبَ عليه مُرادًا؛ وذلك أشَدُّ مِن وَسوَسةِ الإنساءِ [1194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/277). .
3- قال الله تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فإذا كان الشَّيطانُ ليس له سُلطانٌ إلَّا على من أشرَكَ به، فكُلُّ من أطاع الشَّيطانَ في معصيةِ اللهِ، فقد تسَلَّطَ الشَّيطانُ عليه، وصار فيه مِن الشِّركِ بالشَّيطانِ بقَدرِ ذلك [1195] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/291). ، وذلك على أحدِ وجهي تفسيرِ بِهِ.
4- قَولُه تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ هذه الآيةُ الكَريمةُ فيها التَّصريحُ بأنَّ الشَّيطانَ له سُلطانٌ على أوليائِه، ونَظيرُها الاستثناءُ في قَولِه تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] ، وقد جاء في بعضِ الآياتِ ما يدُلُّ على نَفيِ سُلطانِه عليهم، كقَولِه تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ: 20- 21] ، وقَولِه تعالى حاكيًا عنه مُقَرِّرًا له: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] ؟
والجوابُ: أنَّ السُّلطانَ الذي أثبَتَه له عليهم غيرُ السُّلطانِ الذي نفاه، وذلك مِن وَجهينِ:
الأول: أنَّ السُّلطانَ الثَّابتَ هو سُلطانُ التمكُّنِ منهم، وتلاعُبِه بهم، وسَوقِه إيَّاهم كيفَ أراد، بتمكينِهم إيَّاه مِن ذلك بطاعتِه ومُوالاتِه، والسُّلطانَ الذى نفاه سُلطانُ الحُجَّةِ، فلم يكُنْ لإبليسَ عليهم مِن حُجَّةٍ يتسَلَّطُ بها، غيرَ أنَّه دعاهم فأجابوه بلا حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ، وإطلاقُ السُّلطانِ على البُرهانِ كثيرٌ في القُرآنِ.
الثاني: أنَّ الله لم يجعَلْ له عليهم سُلطانًا ابتداءً البتَّةَ، ولكِنْ هم سَلَّطوه على أنفُسِهم بطاعتِه ودُخولِهم في جُملةِ جُندِه وحِزبِه، فلم يتسَلَّطْ عليهم بقُوَّتِه؛ فإنَّ كَيدَه ضَعيفٌ، وإنَّما تسَلَّطَ عليهم بإرادتِهم واختيارِهم، والمقصودُ أنَّ مَن قصَدَ أعظَمَ أوليائِه وأحبابِه ونُصَحائِه فأخذَه، وأخَذَ أولادَه وحاشِيتَه، وسَلَّمَهم إلى عَدُوِّه؛ كان مِن عُقوبتِه أن يُسَلَّطَ عليه ذلك العَدُوُّ نَفسُه [1196] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 26)، ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) لابن القيم (1/100)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 134-135). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ جملةٌ مُعترِضةٌ، والمقصودُ بالتَّفريعِ الشُّروعُ في التَّنويهِ بالقُرآنِ، وإظهارُ اسْمِ القُرآنِ دونَ أن يُضمَرَ للكِتابِ المَذكورِ في قولِه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ؛ لأجْلِ بُعدِ الكَلامِ المُعادِ؛ فإنَّه قَبْلَه بتِسعِ آياتٍ [1197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/275). .
- قولُه: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فيه التَّعبيرُ بالقراءةِ عن إرادتِها، على طريقةِ إطْلاقِ اسْمِ المسبَّبِ على السَّببِ؛ إيذانًا بأنَّ المرادَ هي الإرادةُ المتَّصِلةُ بالقراءةِ [1198] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/139). .
2- قَولُه تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ تعليلٌ للأمرِ بالاستِعاذةِ مِن الشَّيطانِ عندَ إرادةِ قِراءةِ القرآنِ، أو لِجَوابِه المنْوِيِّ، أي: يُعِذْك، أو نَحوُه؛ وهذا التَّعليلُ لزِيادةِ الحَثِّ على الامْتِثالِ للأمرِ بأنَّ الاستعاذةَ تَمنَعُ تَسلُّطَ الشَّيطانِ على المستعيذِ؛ لأنَّ اللهَ منَعَه مِن التَّسلُّطِ على الَّذين آمَنوا المتوكِّلينَ، والاستعاذةُ مِنه شُعبةٌ مِن شُعَبِ التَّوكُّلِ على اللهِ؛ لأنَّ اللَّجَأَ إليه تَوكُّلٌ عليه، ففي الإعلامِ بالعِلَّةِ تنشيطٌ للمأمورِ بالفعلِ على الامتثالِ؛ إذْ يَصيرُ عالِمًا بالحِكْمةِ [1199] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/278). . وقيل: هي أيضًا بيانٌ لصِفةِ الاستعاذةِ؛ لِمَا تضَمَّنَته مِن ذِكْرِ التَّوكُّلِ على اللهِ؛ لِيُبيِّنَ أنَّ الاستعاذةَ إعرابٌ عن التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى لِدَفعِ سُلطانِ الشَّيطانِ؛ لِيَعقِدَ المستعيذُ نيَّتَه على ذلك، وليسَت الاستعاذةُ مُجرَّدَ قولٍ بدونِ استحضارِ نيَّةِ العَوْذِ باللهِ [1200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/278). .
- قولُه: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيه إيثارُ صيغةِ الماضي في الصِّلَةِ الأُولى آمَنُوا؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ، وفي التَّعرُّضِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ عِدَةٌ كريمةٌ بإعاذةِ المتوكِّلينَ [1201] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/140). .
- جملةُ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صفةٌ ثانيةٌ للموصولِ، وقدَّم المجرورَ على الفعلِ للقَصْرِ، أي: لا يتَوكَّلون إلَّا على ربِّهم، وجعَل فِعلَها مُضارِعًا؛ لإفادةِ تَجدُّدِ التَّوكُّلِ واستِمْرارِه [1202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/278). .
- وإنَّما عطَف وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ دونَ إعادةِ اسمِ الموصولِ كما سيأتي في الآيةِ الَّتي بعدَها؛ للإشارةِ إلى أنَّ الوصفَيْنِ كصِلَةٍ واحدةٍ لِمَوصولٍ واحدٍ؛ لأنَّ المقصودَ اجتماعُ الصِّلتَينِ [1203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/279). .
3- قَولُه تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ جملةٌ مستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ مَضمونَ الجملةِ قَبْلَها يُثيرُ سُؤالَ سائلٍ يَقولُ: فسُلْطانُه على مَن؟ والقَصْرُ المستفادُ مِن إِنَّمَا قَصرٌ إضافيٌّ بقرينةِ المقابَلةِ، أي: دونَ الَّذين آمَنوا، وعلى ربِّهم يتَوكَّلون؛ فحصَل به تأكيدُ جُملةِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا؛ لزِيادةِ الاهتمامِ بتَقْريرِ مَضمونِها، فلا يُفهَمُ مِن القصرِ أنَّه لا سُلطانَ له على غيرِ هذَينِ الفَريقينِ، وهم المؤمِنون الَّذين أهمَلوا التَّوكُّلَ، والَّذين انخَدَعوا لبعضِ وَسوَسةِ الشَّيطانِ [1204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/279). .
- قولُه: الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ إيثارُ الجملةِ الفعليَّةِ الاستقباليَّةِ في الصِّلةِ الأُولى: يَتَوَلَّوْنَهُ؛ لإفادةِ الاستمرارِ التَّجدُّديِّ، كما أنَّ اختيارَ الجُملةِ الاسميَّةِ في الثَّانيةِ: هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ [1205] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/140). ؛ فعبَّر بالمضارِعِ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ التَّولِّي، أي: الَّذين يُجدِّدون تَولِّيَه؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم كلَّما تَولَّوْه بالميلِ إلى طاعتِه تَمكَّنَ مِنهم سُلطانُه، وأنَّه إذا انقطَع التَّولِّي بالإقلاعِ أو بالتَّوبةِ انسلَخَ سُلطانُه عليهِم، وجُعِلَت الصِّلةُ جُملةً اسميَّةً؛ لِدَلالتِها على الدَّوامِ والثَّباتِ؛ لأنَّ الإشراكَ صِفةٌ مُستمِرَّةٌ؛ لأنَّ قَرارَها القَلبُ، بخِلافِ المعاصي؛ لأنَّ مَظاهِرَها الجَوارِحُ، للإشارةِ إلى أنَّ سُلطانَ الشَّيطانِ على المشرِكين أشدُّ وأدوَمُ؛ لأنَّ سبَبَه ثابتٌ ودائمٌ [1206] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/279- 280). .
- وتقديمُ المجرورِ في بِهِ مُشْرِكُونَ؛ لإفادةِ الحصرِ، أي: ما أشرَكوا إلَّا بسَببِه، ردًّا عليهم إذْ يَقولون: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام: 148] وقولُهم: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف: 28] [1207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/280). ، وذلك على أحدِ وجهي تأويلِ بِهِ.
- وتكريرُ الموصولِ (الَّذين - والَّذين)؛ للاحترازِ عن تَوهُّمِ كَونِ الصِّلةِ الثَّانيةِ حالِيَّةً مُفيدةً لعدَمِ دُخولِ غيرِ المشرِكين مِن أولياءِ الشَّيطانِ تحتَ سُلطانِه [1208] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/140). ، وتقديمُ الأُولى على الثَّانيةِ الَّتي هي بمُقابَلةِ الصِّلةِ الأُولى فيما سلَف؛ لرِعايةِ المقارَنةِ بينَها وبينَ ما يُقابِلُها مِن التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى، ولو رُوعي التَّرتيبُ السَّابقُ لانفصَل كلٌّ مِن القَرينتَينِ عمَّا يُقابِلُها [1209] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/140). .