موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (37-41)

ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ

غريب الكلمات:

التَّابُوتِ: أي: الصُّندوقِ، قيل: وزنُه فَعْلوتٌ من التَّوْبِ، فإنَّه لا يزالُ يَرجِعُ إِليه ما يخرُجُ منه [285] يُنظر: ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 112)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 323)، ((تاج العروس)) للزبيدي (2/78). .
بِالسَّاحِلِ: أي: شاطئِ البَحرِ، قيل: أصلُه من: سَحَلَ الحديدَ، أي: بَرَدَه وقَشَرَه؛ لأنَّ الماءَ يفعلُ به ذلك، فقيل: أصلُه أنْ يكونَ مَسْحولًا، لكن جاء على لفظِ الفاعلِ، وقيل: بل هو على بابِه، وتُصوِّر منه أنَّه يَسْحَلُ الماءَ، أي: يُفرِّقه ويُضيِّعه [286] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/140)، ((المفردات)) للراغب (ص: 402)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/180). .
يَكْفُلُهُ: أي: يَضُمُّه، والكَفالةُ: الضَّمانُ، وأصلُه يدُلُّ على تَضَمُّنِ الشَّيءِ لِلشَّيءِ [287] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 279)، ((تفسير ابن جرير)) (16/61)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 717). .
تَقَرَّ عَيْنُهَا: أي: تطيبَ نَفسُها، قيل: أصلُه من القُرِّ، أي: البَردِ، فَقَرَّتْ عينُه، قيل: معناه بَرَدَت فصحَّت، وقيل: هو من القَرارِ، والمعنى: أعطاه اللهُ ما تَسكُنُ به عينُه، فلا يطمَحُ إلى غيرِه [288] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/7)، ((المفردات)) للراغب (ص: 663)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 733، 739). .
وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا: أي: اختَبَرناك اختبارًا، والفتنةُ في الأصْلِ: الاختِبارُ والابتِلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ من الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهَبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه مِن رداءتِه [289] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76، 101)، ((تفسير ابن جرير)) (16/63)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472 - 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139 - 140). .
قَدَرٍ: أي: ميقاتٍ ووَقتٍ ومِقدارٍ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مبلغِ الشَّيءِ وكُنهِه ونهايتِه [290] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/71)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 229)، ((تفسير ابن كثير)) (5/293). .
وَاصْطَنَعْتُكَ: أي: اصطفيتُك، واختَرتُك، والاصطِناعُ: المبالغةُ في إصلاحِ الشَّيءِ [291] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/313)، ((المفردات)) للراغب (ص: 493)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 229)، ((تفسير القرطبي)) (11/198)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 131). .

المعنى الإجمالي:

 يقولُ الله تعالى مذكِّرًا موسى عليه السلامُ ببعضِ مِنَنِه عليه: ولقد أنعَمْنا عليك يا موسى -قبلَ هذه المرَّةِ- بنِعمةٍ أُخرى، حين كنتَ رَضيعًا، إذ ألهَمْنا أمَّك ما ألهمْناها مِن أمرٍ عظيمٍ يتعلَّقُ بنجاتِك، وهو أنْ تضَعَك في الصُّندوقِ، ثمَّ تَقذِفَك في النِّيلِ، وبأمرِنا وقدرتِنا يُلقيك النِّيلُ على الشَّاطئِ، فيأخُذُك فِرعَونُ الذي هو عدوِّي وعَدُوُّك، وأحببتُك، ووضعْتُ لك القَبولَ بينَ النَّاسِ، فصِرتَ بذلك مَحبوبًا بينهم، ولِتُرَبَّى على عيني وفي حِفظي.
 ومِن مظاهِرِ هذه العنايةِ والحِفظِ والمنَّةِ عليك ما يجِبُ تذكُّرُه، وذلك حينَ كانت أختُك تمشي تتَّبِعُك ثمَّ تقولُ لِمَن أخذوك: هل أدلُّكم على مَن يكفُلُه، ويُرضِعُه لكم؟ فرَدَدْناك إلى أمِّك بعدما صِرْتَ في يدِ فِرعَونَ؛ كي تطيبَ نَفسُها بسَلامتِك، ولا تحزَنَ على فَقْدِك، وقتَلْتَ الرَّجُلَ القِبطيَّ خطأً، فنجَّيناك مِن الغمِّ، واختَبرناك اختبارًا بإيقاعِك في المحنِ، وتخليصِك منها، فخرَجْتَ خائِفًا إلى أهلِ «مَدْينَ»، فمَكَثْتَ سِنينَ فيهم، ثمَّ جِئْتَ إلى الوادِ المقَدَّسِ في الموعدِ الذي قدَّرناه لِمَنحِك النبوَّةَ، مجيئًا مُوافِقًا لقَدَرِ اللهِ وإرادتِه، وأنعَمْتُ عليك -يا مُوسى- بهذه النِّعَمِ الكثيرةِ؛ لتكونَ لي حبيبًا مختَصًّا، ورسولًا لتبليغِ رِسالتي.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى مِنَّتَه على موسى -عليه السَّلامُ- في الدينِ والوَحيِ، والرِّسالةِ وإجابةِ سُؤالِه؛ ذكَرَ نِعمَتَه عليه وقتَ التَّربيةِ، والتنَقُّلاتِ في أطوارِه [292] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37).
أي: ولقد أحسنَّا إليك -يا موسى- وأنْعَمْنا عليك قبلَ هذه المرَّة -أي: قبلَ نِعمةِ الوحيِ والرِّسالةِ وإجابةِ الدُّعاءِ- مرَّةً أخرى، وأنت طفلٌ صغيرٌ [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/56)، ((البسيط)) للواحدي (14/393)، ((تفسير القرطبي)) (11/195)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/8). .
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38).
أي: وذلك قد وقع حينَ ألهَمْنا أمَّك في شأنِك ما يُلْهَمُ [294] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/56)، ((تفسير السمعاني)) (3/329)، ((تفسير القرطبي)) (11/196)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/286)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/216)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/8). قال الواحدي: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ، قال المفسرونَ: وَحْي إلهامٍ). ((البسيط)) (14/393). وقال ابن عاشور: (الوحيُ هنا: وحيُ الإلهامِ الصادقِ. وهو إيقاعُ معنًى في النفسِ ينثَلِجُ له نفسُ المُلقَى إليه، بحيثُ يجزمُ بنجاحِه فيه، وذلك مِن توفيقِ الله تعالى. وقد يكونُ بطريقِ الرُّؤيا الصالحةِ التي يُقذَفُ في نفسِ الرَّائي أنها صِدقٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/216). .
كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] .
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39).
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ.
أي: فأوحَينا إليها أنْ ألْقِ ابنَك موسى في الصُّندوقِ [295] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/56، 57)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 694)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/286)، ((تفسير القاسمي)) (7/125)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/8). قال الشنقيطي: (الضميرُ في قوله: أَنِ اقْذِفِيهِ راجعٌ إلى موسى بلا خلافٍ). ((أضواء البيان)) (4/9). .
فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ.
أي: فاطرَحيه وهو في الصُّندوقِ في نهرِ النِّيلِ [296] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/57)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 694)، ((تفسير القرطبي)) (11/195)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/8، 9). قال الرازي: (اليمُّ هو البحرُ، والمرادُ به هاهنا نيلُ مِصرَ في قولِ الجميعِ، واليمُّ: اسمٌ يقع على البحرِ وعلى النَّهرِ العظيمِ). ((تفسير الرازي)) (22/47). .
فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ.
أي: فلْيُلقِ [297] قال الشنقيطي: (صيغةُ الأمرِ في قولِه: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ فيها وجهانِ معروفانِ عند العُلَماءِ: أحدُهما: أنَّ صيغةَ الأمر معناها الخبَرُ؛ قال أبو حيان في «البحر المحيط»: فَلْيُلْقِهِ: أمرٌ معناه الخبَرُ، وجاء بصيغةِ الأمر مُبالغةً؛ إذ الأمرُ أقطَعُ الأفعالِ وأوجَبُها. الوجهُ الثاني: أنَّ صيغةَ الأمرِ في قَولِه: فَلْيُلْقِهِ أريدَ بها الأمرُ الكونيُّ القَدَريُّ، كقَولِه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] فالبَحرُ لا بدَّ أنْ يُلقيَه بالسَّاحِلِ؛ لأنَّ اللهَ أمَرَه بذلك كَونًا وقَدَرًا). ((أضواء البيان)) (4/9). نهرُ النِّيلِ موسى وهو في داخِلِ الصُّندوقِ بالشَّاطئِ [298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/57)، ((تفسير أبي السعود)) (6/15)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/216)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/8، 9). .
يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ.
أي: وحينئذٍ يأخُذُ موسى فِرعَونُ الذي هو عدوٌّ لي وعدوٌّ لموسى [299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/57)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 694)، ((تفسير الرازي)) (22/48)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/678)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/9). .
كما قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] .
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي.
أي: أحبَبْتُكَ وجعلتُك محبوبًا لكلِّ من يراك، ووضعتُ لك القَبولَ بينَ النَّاسِ [300] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/58)، ((البسيط)) للواحدي (14/397، 398)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 694)، ((تفسير ابن عطية)) (4/44)، ((تفسير البيضاوي)) (4/27)، ((تفسير ابن كثير)) (5/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/217). قال الواحدي: (قال في روايةِ سعيدِ بنِ جُبَير: «ألقى عليه منها [أي: امرأةِ فرعونَ] محبَّةً لم يُلقَ منها على أحدٍ مِن البشَرِ» وهذا كلامُ المفَسِّرينَ، فأمَّا ظاهِرُ اللَّفظِ فإنَّه يقتضي أنَّ الله تعالى أحبَّه، وحُبُّ الله تعالى إيَّاه أعظَمُ نِعمةٍ وأجملُ إحسانٍ). ((البسيط)) (14/397). وقال ابنُ عثيمين: (فقَولُه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي: اختلفَ المفَسِّرونَ في معناها؛ فمِنهم من قال: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، يعني: أنِّي أحبَبْتُك. ومنهم مَن قال: ألقيتُ عليك محبَّةً مِنَ النَّاسِ، والإلقاءُ مِنَ اللهِ، أي: أنَّ من رآك أحبَّك، وشاهِدُ هذا أنَّ امرأةَ فِرعَونَ لَمَّا رأتْه أحبَّتْه وقالت: لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص: 9]. ولو قال قائلٌ: أيمكِنُكم أن تَحمِلوا الآيةَ على المعنَيَينِ؟ لقُلْنا: نعمْ، بناءً على القاعدةِ، وهي: أنَّ الآيةَ إذا كانت تَحمِلُ مَعنيَينِ لا مُنافاةَ بينهما، فإنَّها تُحمَلُ عليهما جميعًا؛ فموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ محبوبٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، ومحبوبٌ مِن النَّاسِ، إذا رآه الناسُ أحبُّوه، والواقِعُ أنَّ المعنَيَينِ متلازمانِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى إذا أحبَّ عبدًا ألقى في قُلوبِ العبادِ محبَّتَه، ويُروى عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: أحَبَّه اللهُ، وحَبَّبه إلى خَلقِه). ((شرح العقيدة الواسطية)) (1/319). وقال الثعلبي: (قولُه سبحانه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي قال ابنُ عباسٍ: أحبَّه وحبَّبه إلى خلقِه). ((تفسير الثعلبي)) (6/244). وقال البقاعي: (... لتكونَ أهلًا لما أريدُك له). ((نظم الدرر)) (12/287). .
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.
أي: ولتُغذَّى وتُربَّى في قصر فِرعَون على ما أُريدُ بمرأًى منِّي، وتحت حِفْظي ورعايتي [301] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/60)، ((البسيط)) للواحدي (14/398)، ((تفسير ابن كثير)) (5/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). قال ابنُ عاشور: (قرأه الجُمهورُ بكَسرِ اللَّامِ، على أنَّها لامُ كي، وبنَصبِ فِعلِ «لِتُصنَعَ»، وقرأه أبو جعفرٍ بسكونِ اللَّامِ، على أنَّها لامُ الأمرِ، وبجَزمِ الفِعلِ على أنَّه أمرٌ تكوينيٌّ، أي: وقلنا: لِتُصنَعْ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/218). ويُنظر: ((الدر المصون)) للحلبي (8/36). وقال الشوكاني: (قيل: واللامُ مُتعَلِّقةٌ بمحذوفٍ، أي: فعَلْتُ ذلك لِتُصنَعَ. وقيل: متعلِّقةٌ بـ «ألقيتُ». وقيل: متعلقةٌ بما بعده، أي: ولِتُصنَعَ على عيني قدَّرْنا مشيَ أُختِك). ((تفسير الشوكاني)) (3/431). قال ابنُ عثيمين: (ظاهِرُ الكلامِ: أنَّ تربيةَ موسى تكونُ على عَينِ اللهِ يرعاه ويكلؤُه بها. وهذا معنى قَولِ بَعضِ السَّلَفِ: «بمرأًى منِّي»؛ فإنَّ الله تعالى إذا كان يكلؤُه بعَينِه لزم من ذلك أنْ يراه، ولازِمُ المعنى الصَّحيحِ جُزءٌ منه، كما هو معلومٌ مِن دَلالةِ اللَّفظِ؛ حيث تكونُ بالمطابقةِ والتضَمُّنِ والالتزامِ). ((القواعد المثلى)) (ص: 67) بتصرف. .
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40).
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ.
أي: حينَ [302] قال الشنقيطي: (اختُلِف في العاملِ الناصبِ للظرفِ الذي هو «إذ» من قولِه: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فقيل: هو «ألقيت» أي: ألقيتُ عليك محبةً مني حينَ تمشي أختُك. وقيل: هو «تصنع» أي «تصنع على عيني» حينَ تمشي أختُك. وقيل: هو بدلٌ مِن «إذ» في قولِه: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ [طه: 38] . قال الزمخشري: فإن قلتَ: كيف يصحُّ البدلُ، والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلتُ: كما يصحُّ وإن اتَّسَع الوقتُ، وتباعَد طرفاه أنْ يقولَ لك الرجلُ: لقيتُ فلانًا سنةَ كذا. فتقولُ: وأنا لقيتُه إذ ذاك. وربما لقِيه هو في أوَّلِها، وأنت في آخرِها). ((أضواء البيان)) (4/10). وقال ابنُ عطية: (العاملُ في إِذْ فعلٌ مضمرٌ تقديرُه ومَنَنَّا إذْ). ((تفسير ابن عطية)) (4/45). كانت أختُك تمشي لِتتَّبِعَك حتى وجدَتْك في أيدي آلِ فِرعَونَ يَطلُبونَ لك مُرضِعًا فتَقولُ لهم: هل أدلُّكم على من يضُمُّ هذا الطِّفلَ إليه، ويقومُ بمَصالحِه وخِدمتِه، فيُرضِعُه ويُرَبِّيه ويحفَظُه [303] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/60، 61، 62)، ((تفسير ابن كثير)) (5/284)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/288). ؟
كما قال تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص: 10 - 12] .
فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ.
أي: فرَدَدْناك إلى أمِّك بعدَما صرتَ في أيدي آلِ فِرعَون؛ لكي تفرَحَ بلُقياك وسَلامتِك، ولا تحزَنَ على فَقدِك وفِراقِك [304] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/62)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 695)، ((تفسير ابن كثير)) (5/284)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/11، 12). .
وَقَتَلْتَ نَفْسًا.
أي: وقتلتَ الرجُلَ القبطيَّ من آلِ فِرعَونَ حينَ استغاثَك الإسرائيليُّ عليه، وكانَ قتلُه له خطأً [305] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/62)، ((البسيط)) للواحدي (14/400)، ((تفسير ابن كثير)) (5/284)، ((تفسير الشوكاني)) (3/432)، ((تفسير القاسمي)) (7/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
كما قال تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص: 15] .
فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ.
أي: فنجَّيناك من غمِّك لَمَّا أراد آلُ فِرعَون قَتْلَك اقتصاصًا للقبطيِّ، ففَرَرتَ منهم خائفًا إلى مَدْينَ [306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/62)، ((تفسير القرطبي)) (11/198)، ((تفسير ابن كثير)) (5/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/220). .
كما قال تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 20، 21].
وقال سُبحانَه: فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25].
وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا.
أي: واختَبرناك اختبارًا بإيقاعِك في المحنِ، وتخليصِك منها [307] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/401)، ((تفسير الرسعني)) (4/508)، ((تفسير العُليمي)) (4/295). وقال الشوكاني: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا الفتنةُ تكونُ بمعنَى المحنةِ، وبمعنَى الأمرِ الشَّاقِّ، وكُلِّ ما يبتلَى به الإنسانُ، والفتونُ يجوزُ أنْ يكونَ مصدرًا... أي: ابتليناكَ ابتلاءً، واختبرناكَ اختبارًا، ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ فِتْنَةٍ... أيْ: خَلَّصناكَ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ مِمَّا وَقَعْتَ فيه مِنَ المحَنِ الَّتي سَبَق ذكرُها قبلَ أنْ يصطفيَه اللَّهُ لرسالَتِه). ((تفسير الشوكاني)) (3/432). ويُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/126)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/13). وممَّن اختار أنَّ قوله تعالى: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا يعني: اختبرناك وامتحنَّاك: ابنُ جريرٍ، والقرطبي، وابنُ القيم، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/63، 70، 71)، ((تفسير القرطبي)) (11/198)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 167)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). قال ابنُ عطية: (وقالت فِرقةٌ: معناه: اختبرناك. وعلى هذا التأويلِ لا يُرادُ إلَّا ما اختُبِرَ به موسى بعد بلوغِه وتكليفِه، وما كان قبل ذلك فلا يدخُلُ في اختبارِ موسى). ((تفسير ابن عطية)) (4/45). وممَّن اختار أنَّ المعنى: خلَّصناك من المحَنِ تخليصًا: ابنُ عطية -ونسَبه لجمهورِ المفسرينَ-، والبقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/45)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/288). قال ابنُ عباسٍ فِي روايةِ سعيد بن جبير، ومجاهدٌ فِي روايةِ ابنِ أبي نَجِيحٍ: (الفُتونُ وقوعُه في محنةٍ بعدَ محنةٍ، خلَّصه اللهُ منها). يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/206). وقال ابنُ القيمِ: (لفظُ الفِتنةِ في كتابِ الله تعالى يُراد بها الامتِحانُ الذي لم يُفتَتَنْ صاحِبُه، بل خَلَص مِن الافتِتانِ، ويُرادُ بها الامتحانُ الذي حصَلَ معه افتِتانٌ؛ فمِنَ الأوَّلِ: قَولُه تعالى لموسى عليه السَّلامُ: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه: 40] ). ((إغاثة اللهفان)) (2/159). .
فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ.
أي: فلمَّا خرجتَ من مصرَ خائفًا إلى مَدْينَ أقمتَ سنينَ كثيرةً عندَ أهلِها [308] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/71)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 695)، ((تفسير القرطبي)) (11/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
كما قال تعالى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص: 21-22] .
وقال سُبحانَه: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص: 27 - 29] .
ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى.
أي: ثم حَضَرتَ الآن -يا موسى- إلى الوادِ المقَدَّسِ في الوقتِ المحدَّدِ الذي قدَّرتُه، وأردتُ فيه منْحَك النبوَّةَ، وتكليفَك بإبلاغِ الرِّسالةِ إلى فِرعَونَ، بلا تقدُّمٍ ولا تأخُّرٍ [309] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/71)، ((تفسير القرطبي)) (11/198)، ((تفسير ابن كثير)) (5/293)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/222)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/13). قال الواحدي: (يعني: على رأسِ أربعينَ سنةً، وهو القَدرُ الذي يُوحَى فيه إلى الأنبياءِ، هذا قولُ المفسِّرينَ، والمعنى: على الوعدِ الذي وعَدَه الله وقَدَّره في عِلمِه أنْ يوحى إليه بالرِّسالةِ، وهو أربعون سنة). ((الوسيط)) (3/207). وقال السعدي: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى أي: جئتَ مجيئًا قد مضى به القدرُ، وعلمه الله وأراده في هذا الوقتِ وهذا الزمانِ وهذا المكانِ، ليس مجيئُك اتفاقًا من غيرِ قصدٍ ولا تدبيرٍ منا، وهذا يدلُّ على كمالِ اعتناءِ الله بكليمِه موسى عليه السلام). ((تفسير السعدي)) (ص: 504). .
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41).
أي: واصطفيتُك وأنعمتُ عليك بالنِّعَم الكثيرةِ؛ لأجل أنْ تكونَ لي حبيبًا مختَصًّا، ورسولًا لتبليغ رسالتي [310] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/72)، ((تفسير القرطبي)) (11/198)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/276)، ((تفسير السعدي)) (ص: 504). قال ابن تيمية: (لفظُ النفسِ في حقِّ الله تعالى ليس إلا الذَّاتَ والحقيقةَ؛ فقَولُه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي كالتأكيدِ الدَّالِّ على مزيدِ المبالغةِ؛ فإنَّ الإنسان إذا قال: جعلت هذه الدارَ لنفسي وعَمَرتُها لنفسي؛ فُهِمَ منه المبالغةُ). ((بيان تلبيس الجهمية)) (7/425). .
كما قال تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ الله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى فيه سؤالٌ: لمَ قال تعالى: مَرَّةً أُخْرَى مع أنَّه تعالى ذكَرَ مِننًا كثيرة؟
الجوابُ: أنَّه لم يَعنِ بـ مَرَّةً أُخْرَى مرةً واحدةً مِن المِنَنِ؛ لأنَّ ذلك قد يُقالُ في القليلِ والكثيرِ [311] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢٢/46). .
2- قولُ الله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أصلٌ في الحضانةِ [312] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 176). .
3- قولُ الله تعالى: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فيه سؤالٌ: أنَّ الله تعالى عدَّد أنواعَ مِنَنِه على موسى عليه السَّلامُ في هذا المقامِ، فكيف يليقُ بهذا الموضِعِ قَولُه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا؟
والجوابُ مِن وُجوهٍ، منها:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الفِتنةَ تَشديدُ المحنةِ، ولَمَّا كان التَّشديدُ في المحنةِ مِمَّا يُوجِبُ كثرةَ الثوابِ، لاجرمَ عدَّه اللهُ تعالى من جملةِ النِّعَمِ.
الوجهُ الثاني: أنَّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا أي: خَلَّصناك تخليصًا، مِن قَولِهم: فتَنْتُ الذَّهَبَ مِن الفِضَّةِ: إذا أردْتَ تخليصَه [313] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/49-50). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَقريرِ ما قبْلَه، وزيادةِ تَوطينِ نفْسِ مُوسى عليه السَّلامُ بالقَبولِ، ببَيانِ أنَّه تعالى حيثُ أنعَمَ عليه بتلك النِّعمِ التَّامَّةِ من غيرِ سابقةِ دُعاءٍ منه وطلَبٍ، فلأَنْ يُنعِمَ عليه بمثْلِها وهو طالبٌ له وداعٍ أَوْلى وأحْرى [314] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/14). . وقيل: إنَّها معطوفةٌ على جُملةِ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36] ؛ لأنَّ جُملةَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ تتضمَّنُ مِنَّةً عليه، فعُطِفَ عليها تَذكيرٌ بمِنَّةٍ عليه أُخرى في وقْتِ ازديادِه؛ ليَعلَمَ أنَّه لمَّا كان بمَحلِّ العنايةِ من رَبِّه من أوَّلِ أوقاتِ وُجودِه؛ فهذا طَمأنةٌ لفُؤادِه، وشَرْحٌ لصَدْرِه؛ ليَعلَمَ أنَّه سيكونُ مُؤيَّدًا في سائرِ أحوالِه المُستقبَلةِ [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/215). .
- قولُه: وَلَقَدْ تَصديرُه بالقسَمِ؛ لكَمالِ الاعتناءِ، أي: وباللهِ لقد أنعَمْنا [316] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/14). ، وتأكيدُ الخبرِ بلامِ القسَمِ و(قد)؛ لتَحقيقِ الخبرِ [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/215). .
- وقولُه: مَرَّةً أُخْرَى إجمالٌ يُفسِّرُه قولُه: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ ... [318] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/329). .
2- قولُه تعالى: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى هذا كَلامٌ مُجمَلٌ؛ فائدتُه: الإشارةُ إلى أنَّه ليس كلُّ الأُمورِ ممَّا يُوحَى إلى النِّساءِ، كالنُّبوَّةِ ونحْوِها، أو التَّعظيمُ والتَّفخيمُ أوَّلًا، كما في قولِه تعالى: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [النجم: 54] ، والبَيانُ ثانيًا بقولِه: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [319] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 364). .
- والتَّعبيرُ بالموصولِ مَا يُوحَى مُفيدٌ أهميَّةَ ما أُوحِيَ إليها، ومُفِيدٌ تأكيدَ كونِه إلهامًا من قِبَلِ الحقِّ [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/216). .
- وفيه تَفسيرٌ بعْدَ الإبهامِ [321] التفسيرُ بعدَ الإبهامِ: هو ذِكرُ الشيءِ الذي يقعُ عليه مُحتملاتٌ كثيرةٌ (المُبْهَم)، ثم يُفسَّرُ ويُوضَّحُ بإيقاعِه على واحدٍ منها، وهو كالتفصيلِ بعدَ الإجمالِ. وقريبٌ منه: الإيضاحُ بعدَ الإبهامِ، وهو أنْ يَذكُرَ المتكلِّمُ كلامًا في ظاهرِه لبسٌ، ثمَّ يوضِّحُه في بقيةِ كلامِه. وهذا النوعُ لا يُعمَدُ إلى استعمالِه إلا لضربٍ من المبالغةِ؛ لتفخيمِ أمرٍ مُبهَمٍ وإعظامِه؛ لأنه هو الذي يَطرُقُ السَّمعَ أولًا، كقولِه تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر: 66] ، ففسَّر ذَلِكَ الْأَمْرَ بقولِه: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ، وفي إبهامِه أولًا وتفسيرِه بعدَ ذلك: تفخيمٌ للأمرِ، وتعظيمٌ لشأنِه؛ فإنَّه لو قال: (وقضينا إليه أنَّ دابر هؤلاء مقطوع)، لما كان بهذه المكانة من الفخامة؛ فإنَّ الإبهامَ أولًا يُوقِعُ السامعَ في حَيرةٍ وتفكُّرٍ، واستعظامٍ لِمَا قرَع سَمْعَه، وتشوُّفٍ إلى معرفتِه، والاطلاعِ على كنهِه. يُنظر: ((المثل السائر)) لابن الأثير (2/157-162)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 559-561)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/190- 192). ، وهذا النَّوعُ يُؤْتَى به لتَفخيمِ أمْرِ المُبْهَمِ وإعظامِه، وذلك في قولِه تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى؛ ففي الآيةِ أبهَمَ الكلامَ، وأتى به مُجْملًا؛ ليتعلَّقَ الذِّهنُ، ويتطلَّعَ ما عسى أنْ يكونَ السُّؤالُ؟ وما هي المِنَّةُ الأُخرى؟ وما عسى أنْ يَرْدَفَها من مِنَنٍ وآلاءٍ، فيأتي قولُه بعْدَ ذلك مُفسِّرًا ما أُبْهِمَ، فيقولُ: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [322] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/192). .
3- قولُه تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.
- قد أُبْهِمَ مَا يُوحَى، ثمَّ فُسِّرَ بالأمْرِ بقذْفِه في التَّابوتِ وقذْفِه في البحرِ؛ أُبْهِمَ أوَّلًا؛ تَهويلًا له وتَفخيمًا لشأْنِه، ثمَّ فُسِّرَ؛ ليكونَ أقَرَّ عندَ النَّفسِ [323] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/330)، ((تفسير أبي السعود)) (6/14). .
- وقولُه: فَلْيُلْقِهِ قِيلَ: أمْرٌ معناهُ الخبَرُ، وجاء بصِيغَةِ الأمْرِ مُبالَغةً؛ إذ الأمْرُ أقطَعُ الأفعالِ وأوجَبُها. وقيل: إنَّما ذكَرَهُ بلفظِ الأمْرِ لِسَابِقِ عِلْمِه بوُقوعِ المُخبَرِ به على ما أخبَرَ به، فكأنَّ البحرَ مأمورٌ مُمتثِلٌ للأمْرِ. أو فيه معنى المُجازاةِ، أي: اقْذفيهِ يُلْقِه الْيَمُّ [324] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/331). .
- في قولِه: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ كرَّرَ عَدُوٌّ؛ للمُبالَغةِ والتَّصريحِ بالأمْرِ، والإشعارِ بأنَّ عَداوتَه له مع تحقُّقِها لا تُؤثِّرُ فيه ولا تضُرُّه، بل تُؤدِّي إلى المحبَّةِ. وقيل: إنَّ الأوَّلَ العدُوُّ باعتبارِ الواقعِ، والثَّاني باعتبارِ المُتوقَّعِ [325] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/27)، ((تفسير أبي السعود)) (6/15). .
- وفي قولِه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي نكَّرَ المحبَّةَ وأسْنَدَها إليه سُبحانَه؛ لأمْرينِ؛ الأوَّلِ: ما في التَّنكيرِ من الفَخامةِ الذَّاتيَّةِ، كأنَّها مَحبَّةٌ تَعْلو على الحُبِّ المُتعارَفِ المُتبادَلِ بين المخلوقاتِ. الثَّاني: ما في إسنادِها إليه من الفَخامةِ الإضافيَّةِ، أي: مَحبَّةً عظيمةً مِنِّي، وقد زرعْتُها في القُلوبِ، وركزْتُها في السَّرائرِ ومُنطوياتِ الضَّمائرِ؛ فسُبحانَ المُتكلِّمِ بهذا الكلامِ [326] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/15)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/193-194). !
- والتعبيرُ بالإلقاءِ في قولِه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، يعني خَلْقَ المحَبَّةِ في قلبِ المحبِّ بدونِ سببٍ عاديٍّ حتَّى كأنَّه وضعٌ باليدِ لا مُقتَضٍ له في العادةِ [327] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/217). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي فأُفْرِدَتِ العينُ، خلافًا للجمْعِ في مِثْلِ قولِه تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48].
ووجْهُه: أنَّ قولَه سُبحانَه: بِأَعْيُنِنَا مُضافٌ إلى ضَميرِ جَمْعٍ، والمُرادُ به اللهُ وحْدَه بلا نزاعٍ، ومِثْلُ هذا كثيرٌ في القُرآنِ؛ يُسمِّي الرَّبُّ نفْسَه مِن الأسماءِ المُضمرَةِ بصِيغَةِ الجَمْعِ على سَبيلِ التَّعظيمِ لنفْسِه، كقولِه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1] ، وقولِه: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 32] ، فلَمَّا كان المُضافُ إليه لفْظُه لَفْظُ الجَمْعِ، جاء المُضافُ كذلك، فقيل: بِأَعْيُنِنَا، أمَّا في قِصَّةِ مُوسى فإنَّه لمَّا أَفْرَدَ المُضافَ إليه أَفْرَدَ المُضافَ؛ فقيل: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [328] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (5/476). .
وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ الإفرادَ هنا سَبَبُهُ الاختصاصُ الَّذي خُصَّ به مُوسى في قولِه تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، فاقْتَضى هذا الاختصاصُ الاختصاصَ الآخرَ في قولِه: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي؛ فإنَّ هذه الإضافةَ إضافةُ تَخصيصٍ، وأمَّا قولُه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] وقولُه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] ، فليس فيه مِن الاختصاصِ ما في صُنْعِ مُوسى على عَينِه سُبحانه وتعالى، واصْطناعِه إيَّاهُ لنفْسِه، وما يُسْنِدُهُ سُبحانَه إلى نفْسِه بصِيغَةِ ضَميرِ الجَمْعِ قد يُرِيدُ به ملائكتَه، كقولِه تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ [القيامة: 18] ، وقولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [يوسف: 3] ونظائرِه؛ فتأمَّلْهُ [329] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/6). .
- ومن المُناسبةِ أيضًا في قولِه تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي عُدِّيَ الفِعْلُ بـ (على)، خِلافًا للتَّعديةِ بالباءِ في مِثْلِ قولِه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وقولِه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] .
ووجْهُه: أنَّ الآيةَ الأُولى وردتْ في إظهارِ أَمْرٍ كان خَفِيًّا؛ وإبْداءِ ما كان مَكْتومًا؛ فإنَّ الأطفالَ إذ ذاك كانوا يُغْذَونَ، ويُصنعونَ سِرًّا، فلمَّا أراد أنْ يُصْنَعَ مُوسى عليه السَّلامُ ويُغْذَى ويُرَبَّى على حالِ أمْنٍ وظُهورٍ، لا تحْتَ خَوفٍ واستسرارٍ، دخلَتْ (على) في اللَّفظِ؛ تَنبيهًا على المعنى؛ لأنَّها تُعْطِي الاستعلاءَ -والاستعلاءُ: ظُهورٌ وإبْداءٌ-، فكأنَّه يقولُ سُبحانَه وتعالى: (ولِتُصْنَعَ على أمْنٍ، لا تحتَ خوفٍ)، وذِكْرُ العينِ لِتَضَمُّنِها معنى الرِّعايةِ والكِلاءةِ، وأمَّا قولُه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وقولُه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] ، فإنَّه إنَّما يُرِيدُ: برِعايةٍ مِنَّا وحِفْظٍ، ولا يريدُ إبْداءَ شَيءٍ، ولا إظْهارَه بعْدَ كَتْمٍ، فلم يُحْتَجْ في الكلامِ إلى معنى (على) بخلافِ ما تقَدَّمَ [330] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/5). .
4- قولُه تعالى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى
- قولُه: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ عبَّرَ بصِيغَةِ المُضارعِ في الفعلينِ؛ لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ [331] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/16). ، والاستفهامُ في هَلْ أَدُلُّكُمْ للعرْضِ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/219). .
- والفاءُ في قولِه: فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ فَصيحةٌ مُعرِبةٌ عن مَحذوفٍ قبْلَها يُعطَفُ عليه ما بعْدَها، أي: فقالوا: دُلِّينا عليها، فجاءت بأُمِّك، فرَجعْناك إليها [333] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/16). .
- قولُه: كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ عطَفَ نفْيَ الحُزنِ على قُرَّةِ العينِ؛ لتَوزيعِ المِنَّةِ؛ لأنَّ قُرَّةَ عَينِها برُجوعِه إليها، وانتفاءَ حُزْنِها بتَحقُّقِ سَلامتِه من الهَلاكِ ومن الغَرقِ، وبُوصولِه إلى أحسَنِ مأوًى. وتَقديمُ قُرَّةِ العينِ على انتفاءِ الحُزْنِ، مع أنَّها أخَصُّ فيُغْني ذِكْرُها عن ذِكْرِ انتفاءِ الحُزْنِ؛ رُوعِيَ فيه مُناسبةُ تَعقيبِ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ بما فيه من الحِكمةِ، ثمَّ أكمَلَ بذِكْرِ الحِكمةِ في مَشْيِ أُخْتِه، فتقولُ: هل أدُلُّكم على مَن يَكفُلُه في بَيتِها؟ كما كانتِ العادةُ في ذلك الوقتِ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/219). .
- وجُملةُ: وَقَتَلْتَ عطْفٌ على جُملةِ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى؛ لأنَّ المذكورَ في جُملةِ وَقَتَلْتَ نَفْسًا مِنَّةٌ أُخْرى ثالثةٌ، وقُدِّمَ ذِكْرُ قتْلِه النَّفسَ على ذِكْرِ الإنجاءِ من الغَمِّ؛ لتَعظيمِ المِنَّةِ، حيث افتُتِحَتِ القصَّةُ بذِكْرِ جِنايةٍ عظيمةِ التَّبِعَةِ، وهي قتْلُ النَّفسِ؛ ليكونَ لقولِه: فَنَجَّيْنَاكَ موقعٌ عظيمٌ منَ المِنَّةِ؛ إذ أنجاهُ من عُقوبةٍ لا يَنْجو مِن مثْلِها مثْلُه [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/219-220). .
- قولُه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا إجمالٌ لِمَا نالهُ في سفَرِه من الهجرةِ عنِ الوطنِ، ومُفارَقةِ الأحبابِ، والمَشْيِ راجلًا على حذَرٍ، وفَقْدِ الزَّادِ، وأجْرِ نفْسِه، إلى غيرِ ذلك. أوْ له ولِمَا سبَقَ ذِكْرُه [336] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/28)، ((تفسير أبي السعود)) (6/16). ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ، والتَّقديرُ: وفتنَّاكَ فُتونًا، فخرجْتَ خائفًا إلى أهْلِ مَدْينَ، فلبِثْتَ سِنينَ... [337] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/333). .
- وأيضًا قولُه: فُتُونًا مفعولٌ مُطلَقٌ -على أحدِ القولينِ- لتأكيدِ عامِلِه، وهو قولُه: (فَتَنَّاكَ)، وتَنكيرُه للتَّعظيمِ، أي: فُتونًا قوِيًّا عظيمًا. والتَّنوينُ في فُتُونًا للتَّقليلِ -فيما يظهرُ- وتكونُ جُملةُ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا كالاستدراكِ على قولِه: فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ، أي: نجَّيناك وحصَلَ لك خوفٌ [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/220-221). .
- قولُه: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى فيه كِنايةٌ عن العِنايةِ بتَدبيرِ إجراءِ أحوالِه على ما يُسفِرُ عن عاقِبَةِ الخيرِ [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/222). .
- وفي كَلمةِ التَّراخي ثُمَّ إيذانٌ بأنَّ مَجيئَه عليه السَّلامُ كان بعْدَ اللَّتَيَّا والَّتي [340] بعْدَ اللَّتَيَّا والَّتي: أي: بعدَ جَهدٍ وشِدَّةٍ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (15/455). ؛ من ضَلالِ الطَّريقِ، وتفرُّقِ الغنَمِ في اللَّيلةِ المُظْلمةِ الشَّاتيةِ، وغيرِ ذلك [341] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/16). .
- وعَلَى للاستعلاءِ، بمعنى التَّمكُّنِ؛ جعَلَ مَجِيئَه في الوقْتِ الصَّالحِ للخيرِ بمَنزِلَةِ المُسْتعلي على ذلك الوقْتِ المُتمكِّنِ منه [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/222). .
- وقولُه: يَا مُوسَى تَشريفٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتَنبيهٌ على انتهاءِ الحكايةِ الَّتي هي تَفصيلُ المرَّةِ الأُخرى الَّتي وقعَتْ قبْلَ المرَّةِ المَحْكيَّةِ أوَّلًا [343] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/28)، ((تفسير أبي السعود)) (6/16). .
5- قولُه تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي خُتِمَ الامتنانُ بما هو كالفذلكة، وذلك جُملةُ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي الَّذي هو بمَنزِلَةِ رَدِّ العجُزِ على الصَّدرِ [344] رَدُّ العَجُز على الصَّدر -ويُعرَف أيضًا بـ (التصديرِ)-: هو أنْ تكونَ اللَّفظةُ بعينِها تقدَّمتْ في أوَّلِ الكَلامِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِه، وبتعبيرٍ آخَرَ: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظينِ المُكرَّرينِ، أو المتجانسَينِ، أو المُلحقَينِ بهما في أوَّل الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامِ؛ الأوَّل: أنْ يُوافِقَ آخِرُ الفاصلةِ آخِرَ كَلمةٍ في الصَّدرِ، كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] ، والثاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلَ كَلمةٍ منه، كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ، والثالث: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلماتِه، كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة (2/514). على قولِه: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ  ... الآيةَ، وهو تخلُّصٌ بَديعٌ إلى الغرَضِ المقصودِ، وهو الخِطابُ بأعمالِ الرِّسالةِ، المُبتدأُ من قولِه: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه: 13] ، ومن قولِه: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/222-223). [طه: 24] .
- والعُدولُ في وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عن نُونِ العَظمةِ الواقعةِ في قولِه: وَفَتَنَّاكَ ونَظيرَيه السَّابقينِ: تَمهيدٌ لإفرادِ لفْظِ (النَّفسِ) اللَّائقِ بالمَقامِ؛ فإنَّه أدخَلُ في تَحقيقِ معنى الاصطناعِ والاستخلاصِ، أي: اصْطفيتُك برِسالاتي وبِكَلامِي [346] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/17). .