موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (51-56)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غريب الكلمات:

مَهِينٌ: أي: ضَعيفٌ ذَليلٌ، وأصلُ (هون) هنا: يدُلُّ على احتقارٍ [563] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 506)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 423)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/283)، ((تفسير القرطبي)) (16/99). .
أَسْوِرَةٌ: جَمعُ سِوارٍ، والسِّوارُ: حَلْقةٌ عريضةٌ مِن ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ تُحيطُ بالرُّسغِ، وأصلُ (سور): يدُلُّ على عُلُوٍّ وارتِفاعٍ [564] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 68)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/115)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 273)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/232). .
مُقْتَرِنِينَ: أي: مُتَتابِعينَ، يُقارِنُ بَعضُهم بَعضًا، يَشهَدونَ له بصِدقِه، ويُعينونَه على أمْرِه، وأصلُ (قرن) هنا: يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [565] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 448)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((تفسير البغوي)) (7/217)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 374). .
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ: أي: أزعَجَهم، وحَمَلهم على الخِفَّةِ والجَهلِ بكَيدِه وغُرورِه، يقالُ: استخَفَّه عن رأيِه: إذا حمَلَه على الجَهلِ، وأزاله عن الصَّوابِ، وأصلُ (خفف): يدُلُّ على خِلافِ الثِّقَلِ والرَّزانةِ [566] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/154)، ((البسيط)) للواحدي (20/61)، ((المفردات)) للراغب (ص: 289)، ((تفسير البغوي)) (7/217). .
آَسَفُونَا: أي أغضَبونا، والأَسَفُ يكونُ على وَجهَينِ: الغَضَبِ، والحُزنِ، وأصلُ (أسف): يدُلُّ على الفَوتِ والتَّلَهُّفِ وما أشْبَهَ ذلك [567] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 399)، ((تفسير ابن جرير)) (10/450)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 59)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/103)، ((المفردات)) للراغب (ص: 75)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 346)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 374)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 82). .
سَلَفًا: أي: مُتَقَدِّمينَ لِيَتَّعِظَ بهم الآخِرونَ، جَمعُ سالفٍ، مِثلُ: حارِسٍ وحَرَسٍ، يُقالُ: سَلَف يَسلُفُ: إذا تقَدَّم ومَضى، وأصلُ (سلف): يدُلُّ على تقَدُّمٍ وسَبْقٍ [568] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 399)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/416)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/95)، ((البسيط)) للواحدي (20/62)، ((المفردات)) للراغب (ص: 420)، ((تفسير البغوي)) (7/218). .
وَمَثَلًا: أي: عِبرةً وعِظةً تجري مَجرى المَثَلِ لِمَن بَقِيَ بَعْدَهم، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [569] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/296)، ((المفردات)) للراغب (ص: 758)، ((تفسير البغوي)) (7/218). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف: 51، 52]
في أَمْ هنا أوجُهٌ؛ أحَدُها: أنَّها «أم» المُنقَطِعةُ المقدَّرةُ بـ «بل» للإِضرابِ الانتِقاليِّ، والهَمزةِ الَّتي للإِنكارِ أو للتَّقريرِ، أي: بل أأنا خَيرٌ. الثَّاني: أنَّها بمعنى «بل» فقط، أي: بلْ أنا خيرٌ، فيكونُ قد انتَقَل مِن ذلك الكَلامِ إلى إخبارِه بأنَّه خَيرٌ. الثَّالثُ: أنَّها مُتَّصِلةٌ، والمُعادِلُ محذوفٌ تقديرُه: «أم تُبصِرونَ»؛ لأنَّ المعنى: أفلا تُبصِرونَ أم تُبصِرونَ، إلَّا أنَّه وَضَع قَولَه: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مَوضِعَ «أم تُبصِرونَ»؛ لأنَّهم إذا قالوا له: أنت خيرٌ، فهم عندَه بُصَراءُ، وهذا مِن إنزالِ السَّبَبِ مَنزِلةَ المُسَبَّبِ [570] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/597)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 64)، ((تفسير الألوسي)) (13/89). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن طُغيانِ فِرعونَ وغُرورِه وعِنادِه، واستِخفافِه بعقولِ قَومِه، فيقولُ: ونادى فِرعَونُ في قَومِه فقال: يا قَومِ أليس لي مُلكُ مِصرَ، وهذه الأنهارُ تجري بيْنَ يَدَيَّ في بَساتيني وقُصوري، أفلا تُبصِرونَ؟! بل أنا خيرٌ مِن هذا الَّذي هو ضَعيفٌ ذليلٌ، ولا يَكادُ يُفهَمُ كلامُه؛ لقِلَّةِ فَصاحتِه! فهلَّا أُلقِيَت عليه أساوِرُ مِن ذَهَبٍ، أو جاء معه الملائِكةُ مُؤيِّدينَ له!
 فحَمَل فِرعَونُ قَومَه على الخِفَّةِ والجَهلِ، فصَدَّقوه وأطاعوه؛ لأنَّهم كانوا قومًا كافِرينَ باللهِ.
ثمَّ يقولُ تعالى مُبيِّنًا سوءَ عاقِبَتِهم: فلمَّا أغضَبونا انتَقَمْنا منهم، فأغرَقْناهم جميعًا في البَحرِ، فجعَلْناهم متقدِّمينَ في الهلاكِ قُدوةً لِمَن عَمِل بعمَلِهم مِن الكفَّارِ في استِحقاقِ العذابِ، وعِبرةً وعِظةً لِمَن يأتي بعدَهم، فمَن عَمِل بمثلِ عمَلِهم جُوزِيَ بجزائِهم.

تفسير الآيات:

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كُشِفَ عنهم العَذابُ بدَعوةِ موسى، وأضمَرَ فِرعَونُ ومَلَؤُه نَكْثَ الوَعدِ الَّذي وَعَدوه مُوسى بأنَّهم يَهتَدون؛ خَشِيَ فِرعَونُ أنْ يَتَّبِعَ قَومُه دَعوةَ مُوسَى ويُؤمِنوا برِسالَتِه، فأعلَن في قَومِه تَذكيرَهم بعَظَمةِ نَفْسِه؛ لِيُثَبِّتَهم على طاعتِه، ولِئَلَّا يُنقَلَ إليهم ما سأَله مِن مُوسى، وما حَصَل مِن دَعوتِه بكَشفِ العَذابِ، ولِيَحسَبوا أنَّ ارتِفاعَ العَذابِ أمْرٌ اتِّفاقيٌّ؛ إذ قَومُه لم يَطَّلِعوا على ما دار بيْنَه وبيْنَ مُوسَى مِن سُؤالِ كَشْفِ العَذابِ [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/229). .
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ.
أي: ونادى فِرعَونُ في قَومِه القِبطِ مُفتَخِرًا مُتبَجِّحًا، فقال: يا قَومِ أليس لي وَحْدي مُلكُ مِصرَ كُلِّها، لا يُنازِعُني أحَدٌ في التَّصَرُّفِ فيها [572] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/610)، ((تفسير القرطبي)) (16/98)، ((تفسير ابن كثير)) (7/231)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/446)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767). قال ابنُ عطية: (نِداءُ فِرعَونَ يحتمِلُ أن يكونَ بلِسانِه في ناديه، ويحتمِلُ أن يكونَ بأنْ أمَرَ مَن يُنادي في النَّاسِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/59). وقال البقاعي: (قَالَ أي: خَوفًا مِن إيمانِ القِبطِ لَمَّا رأى مِن أنَّ ما شاهَدوا مِن باهِرِ الآياتِ مِثلُه يُزلزِلُ ويأخُذُ بالقُلوبِ). ((نظم الدرر)) (17/446). ؟!
وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.
أي: وهذه الأنهارُ المتفَرِّعةُ مِن نَهرِ النِّيلِ تَجري بيْنَ يَدَيَّ في البَساتينِ والقُصورِ وغَيرِها [573] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/610)، ((تفسير القرطبي)) (16/98)، ((تفسير ابن كثير)) (7/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/229، 230). (قال الخازن: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني أنهارَ النِّيلِ الكبارَ، وكانت تَجْري تحتَ قصرِه، وقيل: معناه: تَجْري بينَ يديْ جِناني وبَساتيني، وقيل: تجري بأمري). ((تفسير الخازن)) (4/111). ؟!
أَفَلَا تُبْصِرُونَ.
أي: أفلا تُبصِرونَ -يا قَومِ- ما أنا فيه مِنَ المُلْكِ والعَظَمةِ، والقُوَّةِ والنَّعيمِ [574] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/610)، ((تفسير القرطبي)) (16/99)، ((تفسير ابن كثير)) (7/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767). ؟!
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان المقصودُ تَصغيرَ شَأنِ موسَى في نُفوسِهم بأشياءَ هي عَوارِضُ ليست مُؤثِّرةً؛ انتَقَل فِرعَونُ مِن تَعظيمِ شأنِ نَفْسِه إلى إظهارِ البَونِ بيْنَه وبيْنَ موسى الَّذي جاء يحَقِّرُ دينَه وعِبادةَ قَومِه إيَّاه، فقال [575] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/230، 231). :
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ.
أي: بل أنا خَيرٌ مِن هذا الَّذي هو ضَعيفٌ ذَليلٌ [576] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/611 - 613)، ((تفسير القرطبي)) (16/99)، ((تفسير ابن كثير)) (7/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/230، 231). ممَّن اختار أنَّ (أمْ) هنا بمعنى (بلْ): ابنُ أبي زَمَنين، والواحدي، والبغوي -ونسَبَه لأكثَرِ المفسِّرينَ-، والرَّسْعَنيُّ، والخازن، وأبو حيَّان، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/188)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 976)، ((تفسير البغوي)) (4/164)، ((تفسير الرسعني)) (7/132)، ((تفسير الخازن)) (4/111)، ((تفسير أبي حيان)) (9/381)، ((تفسير العليمي)) (6/227)، ((تفسير الشوكاني)) (4/640). قال ابن عاشور: (أَمْ مُنقطِعةٌ بمعنَى «بل» لِلإضرابِ الانتِقاليِّ، والتَّقديرُ: بل أأنا خَيرٌ، والاستِفهامُ اللَّازِمُ تقديرُه بعدَها تقريريٌّ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/230). وقال الرَّسْعَني: (كأنَّه لَمَّا عَدَّد عليهم أسبابَ فَضلِه قال: قد تقَرَّر عِندَكم أنِّي أنا خيرٌ مِن هذا الَّذي هو مَهينٌ... وقيل: هي متَّصِلةٌ؛ لأنَّ المعنى: أفلا تُبصِرونَ أم تُبصِرونَ، إلَّا أنَّه وَضَع قَولَه تعالى: أَنَا خَيْرٌ مَوضِعَ «تُبصِرونَ»؛ لأنَّهم إذا قالوا له: أنت خيرٌ، فهُم عِندَه بُصَراءُ. وهذا الوَجهُ حكاه الزَّجَّاجُ عن الخَليلِ وسِيبَوَيْهِ. وقال الفَرَّاءُ وجماعةٌ مِن أهلِ المعاني: الوَقفُ على قَولِه: أَمْ، وفيه إضمارٌ مَجازُه: أفلا تُبصِرونَ أمْ تُبصِرونَ؟! ثمَّ ابتدأ فقال: «أنا خَيرٌ مِن هذا الَّذي هو مَهينٌ»). ((تفسير الرسعني)) (7/132). قيل: عنى بقَولِه: مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ مِن هذا الَّذي هو ضَعيفٌ؛ لقِلَّةِ مالِه، وأنَّه ليس له مِنَ المُلكِ والسُّلطانِ مِثلُ ما له. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/613). وقيل: أراد أنَّه غَريبٌ ليس مِن أهلِ بُيوتِ الشَّرَفِ في مِصرَ، وليس له أهلٌ يَعتَزُّ بهم. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/231). .
وَلَا يَكَادُ يُبِينُ.
أي: ولا يَكادُ يُعرِبُ عمَّا يُريدُ بوُضوحٍ؛ لِعِيِّ مَنطِقِه، وقِلَّةِ فَصاحتِه [577] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/611، 613)، ((تفسير ابن عطية)) (5/59)، ((تفسير القرطبي)) (16/99)، ((تفسير ابن كثير)) (7/231)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/448)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767). قال ابنُ الجوزي: (قَولُه: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ أشار إِلى عُقدةِ لِسانِه الَّتي كانت به ثمَّ أذهَبَها اللهُ عنه، فكأنَّه عيَّرَه بشَيءٍ قد كان وزال، ويدُلُّ على زوالِه قَولُه تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36] ، وكان في سؤالِه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي [طه: 27] ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/80). وقال ابنُ جُزَي: (وقَولُه: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ يَقتَضي أنَّه كان يُبِينُ؛ لأنَّ كاد إذا نُفِيَت تَقتضي الإثباتَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/261). !
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا تضَمَّن وصْفُ فِرعَونَ لِموسى بـ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ أنَّه مُكَذِّبٌ له دَعواه الرِّسالةَ عن الله؛ فرَّعَ عليه قَولَه: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ؛ ترَقِّيًا في إحالةِ كَونِه رَسولًا مِن اللهِ، يُخَيِّلُ لِقَومِه -جَهلًا أو تَجاهُلًا- أنَّ للرِّسالةِ شِعارًا كشِعارِ المُلوكِ [578] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/232). !
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ.
أي: فهَلَّا أُلقِيَت على موسى -إن كان رَسولًا مِن رَبِّ العالَمينَ كما يَزعُمُ- أساوِرُ مِن ذَهَبٍ يَتحَلَّى بلُبسِها في يَدَيه [579] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/614)، ((تفسير ابن كثير)) (7/232)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/232). قال البقاعي: (لِيَكونَ ذلك أمارةً على صِدقِ صِحَّةِ دَعواه، كما نَفعلُ نحن عندَ إنعامِنا على أحدٍ مِن عَبيدِنا بالإرسالِ إلى ناحيةٍ مِن النَّواحي لِمُهِمٍّ مِن المهِمَّاتِ). ((نظم الدرر)) (17/449). وقال الثعلبي: (قال مجاهدٌ: كانوا إذا سَوَّدوا رَجُلًا سَوَّروه بسِوارٍ، وطَوَّقوه بطَوقٍ مِن ذَهَبٍ؛ يكونُ ذلك دَلالةً لسيادتِه، وعلامةً لرئاستِه). ((تفسير الثعلبي)) (8/339). وقال ابن عاشور: (السِّوارُ: حَلْقةٌ عَريضةٌ مِن ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ تُحيطُ بالرُّسْغِ، هو عندَ مُعظَمِ الأُمَمِ مِن حِليةِ النِّساءِ الحرائرِ... وكان السِّوارُ مِن شِعارِ الملوكِ بفارِسَ ومِصرَ، يَلبَسُ المَلِكُ سِوارَينِ، وقد كان مِن شِعارِ الفراعنةِ لُبسُ سِوارَينِ أو أَسوِرةٍ مِن ذَهَبٍ، ورُبَّما جَعَلوا سِوارَينِ على الرُّسغَينِ، وآخَرَينِ على العَضُدَينِ، فلمَّا تخيَّل فِرعَونُ أنَّ رُتبةَ الرِّسالةِ مِثلُ المُلْكِ، حَسِبَ افتقادَها -وهو مِن شِعارِ الملوكِ عِندَهم- أمارةً على انتِفاءِ الرِّسالةِ!). ((تفسير ابن عاشور)) (25/232). !
أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ.
أي: أو هلَّا جاء الملائِكةُ مُتتابِعينَ قد اقتَرن بعضُهم ببعضٍ، يَشهَدون لموسَى بصِدقِه، ويُعِينونَه على أمرِه [580] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/615)، ((تفسير ابن عطية)) (5/60)، ((تفسير القرطبي)) (16/100)، ((تفسير ابن كثير)) (7/232)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767). قال الماوَرْدي: (مُقْتَرِنِينَ فيه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: مُتتابِعينَ، قاله قَتادةُ. الثَّاني: يُقارِنُ بعضُهم بعضًا في المَعونةِ، قاله السُّدِّيُّ. الثَّالثُ: مُقْتَرِنِينَ أي: يَمشُون معًا، قاله مجاهِدٌ). ((تفسير الماوردي)) (5/231) ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ معنى مُقْتَرِنِينَ أي: مُتتابِعينَ يَتْلو بعضُهم بعضًا: الهَرَوي، والسَّمْعاني. يُنظر: ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (5/1535)، ((تفسير السمعاني)) (5/109). وممَّن اختار أنَّ المعنى: مُتتابِعينَ، يُقارِنُ بعضُهم بعضًا، يُعِينوه على أمرِه الَّذي بُعِث له، ويَشْهَدون له بصِدْقِه: ابنُ جرير، والبغوي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/615)، ((تفسير البغوي)) (4/164)، ((تفسير الخازن)) (4/111)، ((تفسير الشوكاني)) (4/641). وقال الزَّجَّاج: (مُقْتَرِنِينَ أي: يَمشون معه فيَدُلُّونَ على صِحَّةِ نُبُوَّتهِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/415). قال الواحدي معقِّبًا على قولِ الزَّجاجِ: (وقد جمَع بيْن هذه الأقوالِ كلِّها؛ لأنَّه فسَّر الاقتِرانَ ومُوجبَه). ((البسيط)) (20/60). وقال البقاعي: (مُقْتَرِنِينَ أي: يُقارِنُ بَعضُهم بَعضًا بحيثُ يَملؤونَ الفَضاءَ، ويكونونَ في غايةِ القُربِ منه، بحيث يكونُ مُقارِنًا لهم؛ لِيُجابَ إلى هذا الأمرِ الَّذي جاء يَطلُبُه، كما نفعلُ نحن إذا أرسَلْنا رَسولًا إلى أمرٍ يَحتاجُ إلى دِفاعٍ وخِصامٍ ونِزاعٍ). ((نظم الدرر)) (17/449، 450). وقال ابن جُزَي: (مُقْتَرِنِينَ أي: مُقتَرنِينَ به لا يُفارِقونَه، أو مُتقارنِينَ بعضُهم مع بعضٍ؛ لِيَشهَدوا له، ويُقيموا الحُجَّةَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/261). وقال القرطبي: (المعنى: هلَّا ضَمَّ إليه الملائِكةَ الَّتي يزعُمُ أنَّها عندَ رَبِّه؛ حتَّى يَتكثَّرَ بهم، ويُصَرِّفَهم على أمرِه ونَهْيِه، فيَكونَ ذلك أهْيَبَ في القُلوبِ!). ((تفسير القرطبي)) (16/100). وقال ابن عاشور: (مُقْتَرِنِينَ حالٌ مِن الملائكةِ، أي: مُقترِنينَ معه؛ فهذه الحالُ مُؤكِّدةٌ لِمَعنى مَعَهُ؛ لئلَّا يُحمَلَ معنى المعيَّةِ على إرادةِ أنَّ الملائكةَ تُؤيِّدُه بالقولِ، مِن قولِهم: قرَنْتُه به فاقتَرَنَ، أي: مُقترِنينَ بمُوسى، وهو اقتِرانُ النَّصيرِ لِنَصيرِه). ((تفسير ابن عاشور)) (25/233). !
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54).
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ.
أي: فاستَخَفَّ فِرعَونُ عُقولَ قَومِه، فصدَّقوا باطِلَه وشُبَهَه، واستَجابوا له [581] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/617)، ((تفسير ابن كثير)) (7/232)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767). قال ابن عطيَّة: (أخبر تعالى عن فِرعَونَ أنَّه استخفَّ قَومَه بهذه المَقالةِ، أي: طلَب خِفَّتَهم وإجابتَهم إلى غرَضِه، فأجابوه إلى ذلك وأطاعوه في الكفرِ؛ لِفِسْقِهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/60). وقال السعدي: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ أي: استَخَفَّ عُقولَهم بما أبدى لهم مِن هذه الشُّبَهِ الَّتي لا تُسمِنُ ولا تُغْني مِن جوعٍ، ولا حقيقةَ تحتَها، وليست دليلًا على حَقٍّ ولا على باطِلٍ، ولا تَرُوجُ إلَّا على ضُعَفاءِ العُقولِ! فأيُّ دَليلٍ يدُلُّ على أنَّ فِرعَونَ مُحِقٌّ لِكَونِ مُلكِ مِصرَ له، وأنهارِه تجري مِن تحتِه؟! وأيُّ دليلٍ يدُلُّ على بُطلانِ ما جاء به موسى لقِلَّةِ أتْباعِه، وثِقلِ لِسانِه، وعدَمِ تَحليةِ الله له؟! ولكِنَّه لَقِيَ مَلأً لا عُقُولَ عندَهم، فمهما قال اتَّبَعوه؛ مِن حَقٍّ وباطلٍ!). ((تفسير السعدي)) (ص: 767). !
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ.
أي: لأنَّهم كانوا قَومًا كافِرينَ باللهِ تعالى، خارِجينَ عن طاعتِه، خَذَلهم اللهُ فأطاعوا فِرعَونَ حيثُ زَيَّن لهم الشَّرَّ [582] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/617)، ((تفسير القرطبي)) (16/101)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/450، 451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/234). .
فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه عقَّب ما مضَى مِن القِصَّةِ بالمقصودِ، وهو هذه الأمورُ الثَّلاثةُ المترتِّبةُ المتفَرِّعُ بَعضُها على بَعضٍ؛ وهي: الانتِقامُ، فالإغراقُ، فالاعتِبارُ بهم في الأُمَمِ بَعْدَهم [583] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/234). .
فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ.
أي: فلمَّا أغضَبَنا فِرعَونُ وقومُه أوقَعْنا بهم عُقوبَتَنا العاجِلةَ في الدُّنيا [584] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/617، 618)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/442)، ((تفسير ابن كثير)) (7/232)، ((تفسير السعدي)) (ص: 767)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/122). قال ابن عطية: (آَسَفُونَا معناه: أغضَبونا، بلا خِلافٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/60). .
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
أي: فأغرَقْناهم جميعًا في البَحرِ، فلم نُنْجِ منهم أحَدًا [585] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/617، 618)، ((تفسير السمرقندي)) (3/261)، ((تفسير البيضاوي)) (5/93). .
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان إهلاكُهم بسَبَبِ إغضابِهم لله تعالى، وبالكِبْرِ على رُسُلِه؛ كانوا سَبَبًا لِأنْ يَتَّعِظَ بحالِهم مَن يأتي بَعْدَهم [586] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/452). .
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56).
أي: فجعَلْناهم متقدِّمينَ في الهلاكِ، قُدوةً لِمَن عَمِل بعمَلِهم مِن الكفَّارِ في استِحقاقِ العذابِ، وعِبرةً وعِظَةً لِمَن يأتي بعدَهم، فمَن عَمِل بمِثلِ عمَلِهم جُوزِيَ بجزائِهم [587] يُنظر: ((معاني القرآن)) للنحاس (6/374)، ((تفسير الثعلبي)) (8/340)، ((تفسير الزمخشري)) (4/259)، ((تفسير القرطبي)) (16/102)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/15)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/452، 453)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/235). قال النَّحَّاسُ: (وقولُه جلَّ وعزَّ: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ قال لاحِقُ بنُ حُمَيْدٍ: أي: جعَلْناهم سَلَفًا لِمَن عَمِل بعمَلِهم، ومَثَلًا لِمَن لم يَعمَلْ بعمَلِهم. وقال مجاهِدٌ: هم قومُ فِرعونَ، سلَفٌ لِكُفَّارِ أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: وَمَثَلًا أي: عِبْرةً. وقال قَتادةُ: سَلَفًا إلى النَّارِ وَمَثَلًا أي: عِظَةً... قال أبو جعفرٍ [النَّحَّاسُ]: هذه الأقوالُ مُتقارِبةٌ). ((معاني القرآن)) (6/373، 374). وقال الرَّسْعَني: (وَمَثَلًا عِبرةً لهم. وقيل: «مَثَلًا»: حديثًا عجيبَ الشأنِ، يَجري فيهم مَجرَى المثَلِ). ((تفسير الرسعني)) (7/135). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ؛ أنَّ (مَثَلًا) أي: عِبرةً وعِظةً: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، والواحدي، والبغوي، والرازي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/798)، ((تفسير ابن جرير)) (20/620)، ((تفسير السمرقندي)) (3/261)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 976)، ((تفسير البغوي)) (4/165)، ((تفسير الرازي)) (27/638)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/235). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ؛ أي: حديثًا عجيبَ الشَّأنِ، يَجري فيهم مجرَى المثَلِ: الزمخشريُّ، والنسفي، وأبو حيَّان، وهو ظاهرُ اختيارِ البِقاعي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/259)، ((تفسير النسفي)) (3/277)، ((تفسير أبي حيان)) (9/384)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/452). .
قال الله تبارك وتعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات: 25، 26].

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ تعَزَّز فِرعَونُ بمُلكِ مِصرَ، وجَرْيِ النِّيلِ بأمْرِه -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وكان في ذلك هَلاكُه؛ لِيُعلَمَ أنَّه قد يَتعزَّزُ المرءُ بشَىءٍ مِن دُونِ اللهِ فيَكونُ حَتْفُه وهلاكُه في ذلك الشَّيءِ [588] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/370). !
2- قَولُ الله تعالى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ استصغَرَ فِرعَونُ موسى وحديثَه، وعابه بالفَقرِ والعِيِّ؛ فسَلَّطَه الله عليه، وكان هَلاكُه بيَدَيه، فلا يَستصغِرْ أحدٌ أحدًا فيُسَلِّطَه اللهُ عليه [589] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/370). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الشربيني)) (3/568). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فيه سُؤالٌ: أليس أنَّ موسى عليه السَّلامُ سأل اللهَ تعالى أن يُزيلَ الرُّتَّةَ [590] الرُّتَّةُ: حُبْسةٌ وعُقدةٌ في اللِّسانِ، مع عَجَلةٍ في الكلامِ وقِلَّةِ أناةٍ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (4/524). عن لِسانِه، بقَولِه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 27، 28]، فأعطاه اللهُ تعالى ذلك، بقَولِه: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36]، فكيف عابَه فِرعَونُ بتلك الرُّتَّةِ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ فِرعَونُ أراد بقَولِه: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ: حُجَّتَه الَّتي تدُلُّ على صِدقِه فيما يَدَّعي، ولم يُرِدْ أنَّه لا قُدرةَ له على الكلامِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه عابَه بما كان عليه أوَّلًا؛ وذلك أنَّ موسى كان عندَ فِرعَونَ زَمانًا طَويلًا، وفي لِسانِه حُبْسةٌ، فنَسَبَه فِرعَونُ إلى ما عَهِدَه عليه مِنَ الرُّتَّةِ؛ لأنَّه لم يَعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى أزال ذلك العَيبَ عنه [591] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/637). .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ فِرعَونَ قد كَذَب في جميعِ قَولِه؛ فقد كان موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أبلَغَ أهلِ زَمانِه قَولًا وفِعلًا، ولكِنَّ الخَبيثَ أسنَدَ هذا إلى ما بَقِيَ في لسانِه مِن الحُبْسةِ؛ تَخييلًا لأتْباعِه؛ لأنَّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما دعا بإزالةِ حُبْستِه، بل بعُقدةٍ منها [592] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/448). .
2- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ حُجَّةٌ على الجَهميَّةِ فيما يَنفُونَ عن اللهِ تعالى مِن كُلِّ صِفةٍ يُشارِكُه فيها خَلْقُه؛ إذ قد أخبَرَ تعالى عن نَفْسِه أنَّهم قد أغضَبوه [593] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/135). .
3- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ دَلالةٌ على بُطلانِ تأويلِ الغَضَبِ بالانتِقامِ؛ فإنَّ معنى آَسَفُونَا: أغضَبونا، فجَعَلَ الانتِقامَ غيرَ الغَضَبِ، فقال: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ، جعَلَ الانتِقامَ أثَرًا مُتَرَتِّبًا على الغَضَبِ؛ فدلَّ هذا على بُطلانِ تفسيرِ الغَضَبِ بالانتِقامِ [594] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (9/419). .
4- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ إثباتُ الأسبابِ [595] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 188). .
5- المَقصودُ مِن قِصَّةِ مُوسَى عليه السَّلامُ هو قَولُه فيها: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ [الزخرف: 55، 56]؛ فإنَّ المُرادَ بـ (الآخِرِين): المُكَذِّبون صَناديدُ قُرَيشٍ، و(مِن) المَقصودُ منها بالخُصوصِ هنا قَولُه: وَمَلَئِهِ [الزخرف: 46]، أي: عُظماءِ قَومِه؛ فإنَّ ذلك شَبيهٌ بحَالِ أبي جَهلٍ وأَضرابِه، وقَولُه: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف: 47] ؛ لأنَّ حالَهُم في ذلك مُشابِهٌ لحالِ قُرَيشٍ، وقَولُه بعْدَ ذلك: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [الزخرف: 52] ؛ لأنَّهُم أشبَهُوا بذلك حالَ أبي جَهلٍ ونَحوِه في قَولِهم: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ؛ إلَّا أنَّ كَلِمةَ سادَةِ قُرَيشٍ كانتْ أقرَبَ إلى الأدَبِ مِن كَلِمةِ فِرعَونَ؛ لأنَّ هَؤلاءِ كان رَسولُهم مِن قَومِهم، فلم يَتركُوا جانِبَ الحَياءِ بالمَرَّةِ، وفِرعَونُ كان رَسولُه غَريبًا عنهم، وقَولُه: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف: 53] ؛ لأنَّه مُشابِهٌ لِمَا تَضَمَّنَه قَولُ صَناديدِ قُرَيشٍ: عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ؛ فإنَّ عَظَمةَ ذَيْنِكَ الرَّجُلَينِ كانتْ بوَفرةِ المالِ؛ ولذلك لم يُذكَرْ مِثلُه في غَيرِ هذه القِصَّةِ مِن قَصَصِ بَعثةِ مُوسَى عليه السَّلامُ، وقَولُهم: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [الزخرف: 49] ، وهو مُضاهٍ لقَولِه في قُرَيشٍ: هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 30] ، وقَولُه: فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55] الدَّالُّ على أنَّ اللهَ أَهلَكَهم كُلَّهُم، وذلك إنذارٌ بما حَصَل مِنِ استِئصالِ صَناديدِ قُرَيشٍ يَومَ بَدرٍ؛ فحَصَل مِن العِبرةِ في هذه القِصَّةِ أمْرانِ؛ أحَدُهما: أنَّ الكُفَّارَ والجَهَلةَ يَتمسَّكُون بمِثلِ هذه الشُّبهةِ في ردِّ فَضلِ الفُضَلاءِ؛ فيَتمسَّكون بخُيوطِ العَنكَبوتِ مِن الأُمورِ العَرَضيَّةِ الَّتي لا أثَرَ لها في قِيمةِ النُّفوسِ الزَّكِيَّةِ. وثانيهما: أنَّ فِرعَونَ صاحِبَ العَظَمةِ الدُّنيَويَّةِ المَحضَةِ صار مَقهورًا مَغلوبًا، انتَصَر عليه الَّذي استَضْعَفَه [596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/224). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ
- قَولُه: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ جَعَلهم مَحِلًّا لِنِدائِه ومَوقِعًا له، والمَعنَى: أنَّه أمَرَ بالنِّداءِ في مَجامِعِهم وأماكِنِهم مَن نَادَى فيها بذلك؛ فأُسنِدَ النِّداءُ إليه؛ كقَولِكَ: قَطَع الأَميرُ اللِّصَّ؛ إذا أمَر بقَطعِه. ويَجوزُ أنْ يَكونَ عِندَه عُظَماءُ القِبطِ، فيَرفَعُ صَوتَه بذلك فيما بيْنَهم، ثمَّ يُنشَرُ عنه في جُموعِ القِبطِ، فكَأَنَّه نُودِيَ به بيْنَهم، فقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ [597] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/257)، ((تفسير أبي حيان)) (9/381)، ((تفسير أبي السعود)) (8/50)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/229)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/94، 96). .
- قولُه: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ الإشارةُ إلى جَداولِ النِّيلِ وفُروعِه المشهورةِ بيْنَ أهلِ المدينةِ؛ كأنَّها مُشاهَدةٌ لِعُيونِهم [598] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/230). .
- ومعنى قَولِه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يَحتَمِلُ أنَّ الأنهارَ كانت تَجري تَحتَ قَصرِه. ويحتمِلُ أنْ يَكونَ ادَّعَى أنَّ النِّيلَ يَجري بأمْرِه؛ فيَكونَ مِنْ تَحْتِي كِنايةً عن التَّسخيرِ. ويحتمِلُ أنَّه أراد أنَّ النِّيلَ يَجري في مَملَكَتِه مِن بِلادِ أُسوانَ إلى البَحرِ؛ فيَكونَ المرادُ التَّمَكُّنَ مِن تَصاريفِ النِّيلِ، وكان مِثلُ هذا الكَلامِ يَروجُ على الدَّهماءِ؛ لِسَذاجةِ عُقولِهِم. ويَجوزُ أن يَكونَ المُرادُ بالأنهارِ مَصَبَّ المِياهِ الَّتي كانت تَسقِي المَدينةَ والبَساتينَ الَّتي حَوْلَها، وأنَّ تَوزيعَ المِياهِ كان بأمْرِه في سِدَادٍ وخَزَّاناتٍ؛ فهو يُهَوِّلُ عليهم بأنَّه إذا شاء قَطَع عنهم الماءَ، فيَكونَ معنى مِنْ تَحْتِي: مِن تَحتِ أَمرِي، أي: لا تَجرِي إلَّا بأَمرِي [599] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/230). .
- والاستِفهامُ في أَفَلَا تُبْصِرُونَ تَقريرِيٌّ؛ جاء التَّقريرُ على النَّفيِ؛ تَحقيقًا لإقرارِهِم حتَّى أنَّ المُقَرِّرَ يَفرِضُ لهم الإِنكارَ؛ فلا يُنكِرون، وهو يُرِيدُ بذلك استِعظامَ مُلكِه [600] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/50)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/230). .
2- قولُه تعالَى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ
- قولُه: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ قال فِرعونُ ذلك تَعريضًا بمُوسى عليه السَّلامُ، ومُبالَغةً في التَّعييرِ بأنَّه ليس معه مِن العُدَدِ وآلاتِ المُلكِ والسِّياسةِ ما يَعتَضِدُ به [601] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/258)، ((تفسير البيضاوي)) (5/93)، ((تفسير أبي حيان)) (9/382)، ((تفسير أبي السعود)) (8/50)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/230، 231). .
- والإشارَةُ بقَولِه: هَذَا للتَّحقيرِ [602] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/231). .
- وجاء بالمَوصولِ الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ؛ لادِّعاءِ أنَّ مَضمونَ الصِّلةِ شَيءٌ عُرِفَ به مُوسَى [603] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/231). .
3- قولُه تعالَى: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ
- لَمَّا وَصَف نَفْسَه بالعِزَّةِ والمُلكِ، ووازَنَ بيْنَه وبيْنَ موسى عليه السَّلامُ؛ فوَصَفَه بالضَّعفِ وقِلَّةِ الأَعضادِ مِن المَلائكةِ؛ اعتَرَض فقال: هَلَّا إنْ كان صادِقًا مَلَّكَه رَبُّه وسَوَّدَه وسَوَّرَه، وجَعَلَ المَلائكةَ أَعضادَهُ وأنصارَه [604] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/258)، ((تفسير أبي حيان)) (9/383). !
- و(لَولَا) حَرفُ تَحضيضٍ مُستَعمَلٌ في التَّعجيزِ [605] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/232). .
- قَولُه: فَلَوْلَا أُلْقِيَ الإلقاءُ: الرَّميُ، وهو مُستَعمَلٌ هنا في الإنزالِ، أي: هلَّا أُلقِيَ عليه مِن السَّماءِ أَساوِرةٌ مِن ذَهَبٍ، أي: سَوَّرَه الرَّبُّ بها؛ لِيَجعَلَه مَلِكًا على الأُمَّةِ [606] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/232). .
- قولُه: أَوْ جَاءَ حَرفُ (أو) للتَّرديدِ، أي: إنْ لم تُلْقَ عليه أَساوِرةٌ مِن ذَهَبٍ، فلْتَجِئْ معه طَوائِفُ مِن المَلائكةِ شاهِدِينَ له بالرِّسالةِ، ولَعَلَّ فِرعَونَ ذَكَرَ المَلائكةَ مُجاراةً لمُوسى عليه السَّلامُ؛ إذ لَعَلَّه سَمِعَ منه أنَّ لِلَّهِ مَلائكةً أو نحوَ ذلك في مَقامِ الدَّعوةِ؛ فأراد إفحامَه بأنْ يأتيَ معه بالملائكةِ الَّذين يَظهَرون له [607] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/232، 233). . ولا مانعَ أن يكونَ ذلك معلومًا عندَهم، كما قال مَن قبْلَهم مِن نساءِ القِبطِ في يوسفَ عليه السَّلامُ: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31] .
4- قولُه تعالَى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
- قَولُه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ أي: فتَفَرَّعَ عن نِداءِ فِرعَونَ قَومَه أنْ أَثَّرَ بتَمويهِه في نُفوسِ مَلَئِه؛ فعَجَّلوا بطاعَتِه بعْدَ أنْ كانوا مُتَهَيِّئِينَ لاتِّباعِ مُوسَى لَمَّا رَأَوُا الآياتِ؛ فالخِفَّةُ مُعَبَّرٌ بها هنا عن الانتِقالِ مِن حالةِ التَّأمُّلِ في خَلْعِ طاعةِ فِرعَونَ، والتَّثاقُلِ في اتِّباعِه، إلى التَّعجيلِ بالامتِثالِ له، كما يَخِفُّ الشَّيءُ بعدَ التَّثاقُلِ، والمعنَى يَرجِعُ إلى أنَّه استَخَفَّ عُقولَهم، فأسرَعوا إلى التَّصديقِ بما قالَه بعْدَ أنْ صدَّقُوا موسى في نُفوسِهم لَمَّا رَأَوْا آياتِه نُزولًا ورَفْعًا [608] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/233). .
- والسِّينُ والتَّاءُ في قولِه: فَاسْتَخَفَّ للمُبالَغةِ في (أخَفَّ)، مِثلُ قَولِه تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ [609] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/233). [آل عمران: 155] .
- وجُملةُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ في مَوضِعِ العِلَّةِ لجُملةِ فَأَطَاعُوهُ؛ فإنَّ كَونَهم قد كانوا فاسِقينَ أمْرٌ بَيِّنٌ؛ ضَرورةَ أنَّ موسى عليه السَّلامُ جاءَهم فدَعاهُم إلى تَركِ ما كانوا عليه مِن عِبادةِ الأصنامِ، فلا يَقتَضي في المَقامِ تأكيدُ كَونِهم فاسِقينَ، أي: كافِرِين. والمعنَى: أنَّهم إنَّما خَفُّوا لِطاعةِ رَأسِ الكُفرِ؛ لِقُربِ عَهدِهم بالكُفرِ؛ لأنَّهم كانوا يُؤَلِّهُون فِرعَونَ، فلمَّا حَصَل لهم تَرَدُّدٌ في شأنِه ببَعثةِ موسى عليه السَّلامُ، لم يَلبَثُوا أنْ رَجَعوا إلى طاعةِ فِرعَونَ بأدنَى سَبَبٍ [610] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/233، 234)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/95). .
5- قولُه تعالَى: فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ
- في قَولِه: فَلَمَّا آَسَفُونَا إيجازٌ؛ لأنَّ كَونَهُم مُؤسِفينَ لم يَتقَدَّمْ له ذِكرٌ حتَّى يُبنَى أنَّه كان سبَبًا للانتِقامِ منهم؛ فدلَّ إِناطةُ أداةِ التَّوقيتِ به على أنَّه قد حَصَل، والتَّقديرُ: فآسَفُونا، فلمَّا آسَفُونا انتَقَمْنا منهم [611] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/234). .
- وإنَّما عُطِفَ فَأَغْرَقْنَاهُمْ بالفاءِ على انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ، مع أنَّ إغراقَهم هو عَينُ الانتِقامِ منهم؛ إمَّا لأنَّ فِعلَ (انتَقَمْنا) مُؤَوَّلٌ بـ: قدَّرْنا الانتِقامَ منهم؛ فيَكون عَطفُ فَأَغْرَقْنَاهُمْ بالفاءِ كالعَطفِ في قَولِه: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] . وإمَّا أن تُجعلَ الفاءُ زائِدةً؛ لتَأكيدِ تَسَبُّبِ آَسَفُونَا في الإغراقِ [612] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/234، 235). .
- قولُه: وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ المَثَلُ: النَّظيرُ والمُشابِهُ، وأُطلِقَ المَثَلُ على لازِمِه على سَبيلِ الكِنايةِ، أي: جَعَلْناهُم عِبرةً للآخِرِينَ؛ يَعلَمون أنَّهُم إنْ عَمِلوا مِثلَ عَمَلِهم أصابَهم مِثلُ ما أصابَهُم. ويَجوزُ أنْ يَكونَ المَثَلُ هنا بمَعنَى الحَديثِ العَجيبِ الشَّأنِ الَّذي يَسيرُ بيْنَ النَّاسِ مَسِيرَ الأَمثالِ، أي: جَعَلْناهُم للآخِرِينَ حَديثًا يَتَحَدَّثون به، ويَعِظُهُم به مُحَدِّثُهم [613] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/93)، ((تفسير أبي السعود)) (8/51)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/235). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/54-67). .