موسوعة التفسير

سورةُ التَّحريمِ
الآيات (1-5)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

فَرَضَ: أي: بيَّن وشَرَع، وقيل: أوجَبَ، والفَرضُ: قَطعُ الشَّيءِ الصُّلبِ، والتَّأثيرُ فيه، والفَرضُ كالإيجابِ، لكِنَّ الإيجابَ يُقالُ اعتِبارًا بوُقوعِه وثباتِه، والفَرضَ بقَطعِ الحُكمِ فيه [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 472)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/488)، ((المفردات)) للراغب (ص: 630)، ((تفسير القرطبي)) (18/186)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/494)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 390). .
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ: أي: كفَّارتَها؛ لأنَّ عُقدةَ اليمينِ تنحَلُّ بها، أو لأنَّه يتَحَلَّلُ بها عن اليمينِ أي: يخرجُ، وأصلُ (حلل): يدُلُّ على فَتحِ الشَّيءِ، والأيْمانُ جمْعُ يمينٍ، وهو: القَسَمُ، وسُمِّيَ الحَلِفُ يَمينًا -وهو اسمُ اليَدِ-؛ لأنَّهم كانوا يَبْسُطونَ أيْمانَهم إذا حَلَفوا أو تحالَفوا، ثمَّ كثُر ذلك حتَّى سُمِّيَ الحلفُ والعهدُ نفْسُه يمينًا، وقِيل: يَمينٌ فَعيلٌ مِن اليُمنِ، وهو البَرَكةُ، سَمَّاها اللهُ تعالَى بذلك؛ لأنَّها تحفَظُ الحُقوقَ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 472)، ((تفسير ابن جرير)) (22/489)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/20) و (6/159)، ((البسيط)) للواحدي (3/ 483) و (10/ 313)، ((تفسير السمعاني)) (5/ 471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 251)، ((تفسير ابن عطية)) (1/ 301)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 407)، ((تفسير القرطبي)) (3/ 102) و(18/186)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 390). قال الواحدي: (تَحِلَّةَ على وزنِ تَفعِلةٍ، وأصلُه تَحْلِلةٌ، فأُدغِمَتْ، وتَفعِلةٌ مِن مَصادِرِ فعَّلَ، كالتَّوصيةِ، والتَّسميةِ). ((البسيط)) (22/ 9). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/ 186). .
مَوْلَاكُمْ: أي: ناصِرُكم، وأصلُ هذه المادَّةِ يدُلُّ على القُرْبِ؛ سواءٌ مِن حيثُ المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتِقادُ [7] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
صَغَتْ: أي: مالت عن الحَقِّ، وأصلُ (صغو): يدُلُّ على المَيلِ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 472)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 306)، ((المفردات)) للراغب (ص: 485)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 407)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 418). .
تَظَاهَرَا: أي: تَعاوَنَا، والظَّهيرُ: العَونُ، وأصلُ التَّظاهُرِ مِنَ الظَّهرِ، فكأنَّ التَّظاهُرَ: أن يَجعَلَ كُلُّ واحدٍ مِن الرَّجُلَينِ أو مِن القَومِ الآخَرَ له ظَهرًا يتقَوَّى به، ويَستَنِدُ إليه، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 182)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 540)، ((تفسير القرطبي)) (18/60)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 596). .
ظَهِيرٌ: أي: مُساعِدون ومُعينونَ، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 261)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 280). .
قَانِتَاتٍ: أي: مُطيعاتٍ خاضِعاتٍ، والقُنوتُ: لُزومُ الطَّاعةِ مع الخُضوعِ، أو الطَّاعةُ الدَّائِمةُ، وأصلُ (قنت): يدُلُّ على طاعةٍ وخَيرٍ في دِينٍ [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 350، 472)، ((تفسير ابن جرير)) (6/691)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 519)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/31)، ((المفردات)) للراغب (ص: 684)، ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/ 5)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 340)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 738). قال ابن القيِّم: (القُنوتُ يُفسَّرُ بأشياءَ كلُّها تَرجِعُ الى دَوامِ الطَّاعةِ). ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 174). .
سَائِحَاتٍ: أي: صائِماتٍ أو مُهاجِراتٍ، قيل: سُمِّيَ الصِّيامُ سياحةً؛ تشبيهًا بالسَّائحِ الَّذي لا زاد معه، وأصلُ (سيح): يدُلُّ على استِمرارِ شَيءٍ وذَهابِه [12] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 472)، ((تفسير ابن جرير)) (23/101)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 270)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/119، 120)، ((المفردات)) للراغب (ص: 431). قال الفرَّاءُ: (نرى أنَّ الصَّائمَ إنَّما سُمِّيَ سائحًا لأنَّ السَّائحَ لا زادَ معه، وإنَّما يأكُلُ حيثُ يَجِدُ [الطَّعامَ]، فكأنَّه أُخِذَ مِن ذلك. واللهُ أعلَمُ). ((معاني القرآن)) (3/ 167). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/102). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُخاطِبًا نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا أيُّها النَّبيُّ لِمَ تُحرِّمُ على نَفْسِك ما أحلَّه اللهُ لك مُبتَغيًا بتَحريمِه رِضا بَعضِ أزواجِك، واللهُ غَفورٌ رَحيمٌ؟!
ثم بيَّن سبحانَه جانبًا مِن مَظاهِرِ رحمتِه، فقال: قد شرَع اللهُ لكم تحليلَ أيْمانِكم بكَفَّارةِ اليَمينِ، واللهُ وَلِيُّكم وناصِرُكم -أيُّها المؤمِنونَ- وهو العَليمُ الحَكيمُ.
واذكُرْ حينَ أسَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى زَوجتِه حَفْصةَ حَديثًا، فلمَّا أخبَرَت به حَفْصةُ عائِشةَ، وأطْلَعَ اللهُ نبيَّه على إفشائِها سِرَّه؛ أخبَرَها الرَّسولُ ببَعضِ ما أفشَتْه مُؤَنِّبًا لها، وتَرَك إخبارَها ببَقيَّةِ كَلامِها؛ كَرَمًا منه وحِلْمًا، فلمَّا أخبَرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإفشائِها سِرَّه إلى عائِشةَ، قالت له حَفصةُ: مَنْ أخبَرَك بذلك؟! قال لها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أخبَرَني بذلك العَليمُ الخَبيرُ.
ثمَّ وجَّهَ اللهُ تعالى خِطابَه إلى حفصةَ وعائشةَ، فأمَرهما بالتَّوبةِ، فقال: إنْ تَتُوبَا -يا حَفْصةُ وعائِشةُ- إلى اللهِ، فقد صدَر منكما ما يُوجِبُ التَّوبةَ؛ فقد مالَت قُلوبُكما عمَّا يَنبغي عليكُما مِن الأدَبِ مع النَّبيِّ.
ثمَّ قال محذِّرًا لهما: وإنْ تَتعاوَنا على إيذاءِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّ اللهَ ناصِرُه عليكما، وجِبريلُ وخِيارُ المؤمِنينَ -كأبي بَكرٍ وعُمَرَ-، والمَلائِكةُ مع ذلك أعوانٌ له أيضًا.
ثمَّ خوَّفهما أيضًا بحالةٍ تشُقُّ على النِّساءِ غايةَ المشَقَّةِ، وهي الطَّلاقُ، فقال: عسى ربُّه إنْ طَلَّقَكنَّ -يا نِساءَ النَّبيِّ- أن يُبدِلَه أزواجًا خيرًا مِنكُنَّ مُسلِماتٍ مُؤمِناتٍ، مُطيعاتٍ للهِ على الدَّوامِ، تائِباتٍ، عابداتٍ للهِ، صائِماتٍ، ثَيِّباتٍ وأبكارًا.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَمكُثُ عندَ زَينبَ بنتِ جَحشٍ فيَشرَبُ عِندَها عَسَلًا، فتواطَأتُ أنا وحَفصةُ أنَّ أيَّتَنا ما دَخَل عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلْتَقُلْ: إنِّي أَجِدُ منك رِيحَ مَغافيرَ [13] مَغافير: جمعُ مُغْفورٍ، وهو صَمْغٌ حُلْوٌ له رائِحةٌ كَريهةٌ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/377). قال الألوسي: (وكان صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم يحِبُّ الطِّيبَ جدًّا، ويكرهُ الرَّائحةَ الكريهةَ؛ للطافةِ نفسِه الشَّريفةَ، ولأنَّ الملَكَ يأتيه وهو يكرهُها، فشقَّ عليه صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم ما قيل، فجرَى ما جرَى). ((تفسير الألوسي)) (14/ 342). ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدَخَل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: بل شَرِبتُ عَسَلًا عندَ زَينبَ بنتِ جَحشٍ، ولن أعودَ له، فنَزَل: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلى قَولِه: إِنْ تَتُوبَا لعائِشةَ وحَفْصةَ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا [التحريم: 3] ؛ لِقَولِه: بل شَرِبتُ عَسَلًا)) [14] رواه البخاريُّ (4912)، ومسلمٌ (1474) واللَّفظُ له. .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانت له أَمَةٌ يَطَؤُها، فلم تَزَلْ به عائِشةُ وحَفصةُ حتَّى حَرَّمَها على نَفْسِه، فأنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلى آخِرِ الآيةِ)) [15] أخرجه النسائيُّ (3959) واللَّفظُ له، والحاكمُ (3824)، والبيهقيُّ (15472). صحَّحه الحاكِمُ، وقال: (على شرطِ مُسلمٍ)، والوادعي في ((صحيح أسباب النزول)) (253)، وصحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (9/288)، والصنعانيُّ في ((سبل السلام)) (3/278)، والشوكاني في ((الدراري المضية)) (225)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3959). ممَّن رجَّح أنَّ سَبَب النُّزولِ هو قِصَّةُ الجاريةِ: ابنُ عطيَّة، وابنُ حجر، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/330)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/290)، ((تفسير القاسمي)) (9/268). ويُنظر أيضًا: ((المحرر في أسباب نزول القرآن)) للمزيني (2/1038). قال ابن عطية: (القولُ الأوَّلُ أنَّ الآيةَ نَزَلت بسَبَبِ ماريةَ: أصَحُّ وأوضَحُ، وعليه تفقَّهَ النَّاسُ في الآيةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/330). وقال ابن حجر: (الرَّاجِحُ مِن الأقوالِ كُلِّها قِصَّةُ ماريةَ؛ لاختِصاصِ عائِشةَ وحَفصةَ بها، بخِلافِ العَسَلِ؛ فإنَّه اجتَمَع فيه جماعةٌ مِنهنَّ، ويحتَمِلُ أن تكونَ الأسبابُ جميعُها اجتمعت، فأُشيرَ إلى أهمِّها، ويؤيِّدُه شُمولُ الحَلِفِ للجَميعِ). ((فتح الباري)) (9/290). وقال القاسمي: (الَّذي يَظهَرُ لي هو ترجيحُ رواياتِ تحريمِ الجاريةِ في سَبَبِ نُزولِها). ثمَّ ذكر وُجوهَ ترجيحِ هذا القولِ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/268). ورجَّح ابنُ العَرَبي، والقرطبيُّ، والنوويُّ، وابنُ كثير، وابنُ عاشور أنَّ الآيةَ نَزَلت بسَبَبِ قِصَّةِ العَسَلِ. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/294)، ((تفسير القرطبي)) (18/179)، ((شرح النووي على مسلم)) (10/77)، ((تفسير ابن كثير)) (8/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/344). قال ابنُ كثير: (قد يُقالُ: إنَّهما واقِعتانِ، ولا بُعْدَ في ذلك، إلَّا أنَّ كَونَهما سببًا لنُزولِ هذه الآيةِ فيه نظَرٌ. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/162). وقال الشوكاني: (هذان سَبَبانِ صَحيحانِ لِنُزولِ الآيةِ، والجَمعُ مُمكِنٌ بوُقوعِ القِصَّتَينِ: قِصَّةِ العَسَلِ، وقِصَّةِ ماريةَ، وأنَّ القُرآنَ نَزَل فيهما جميعًا، وفي كُلِّ واحدٍ منهما أنَّه أسَرَّ الحَديثَ إلى بَعضِ أزواجِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/300). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/657). .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ.
أي: يا أيُّها النَّبيُّ لِمَ تُحرِّمُ على نَفْسِك ما أحلَّه اللهُ لك مُلتَمِسًا بتَحريمِه رِضا بَعضِ أزواجِك [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/83، 89)، ((الوسيط)) للواحدي (4/317، 318)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/304-306)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/346). ؟
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة: 87] .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: واللهُ غَفورٌ لذُنوبِ عِبادِه، رَحيمٌ بهم، وقد غَفَر لك -يا محمَّدُ- تحريمَك على نَفْسِك ما أحلَّه اللهُ لك، ورَحِمَك [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/90)، ((تفسير الشوكاني)) (5/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/347). قال البِقاعي: (قد جَعَل مِن رَحمتِه لعبادِه لأَيْمانِهم كفَّارةً). ((نظم الدرر)) (20/182). وقال السعدي: (صار ذلك التَّحريمُ الصَّادِرُ منه سَبَبًا لشَرعِ حُكمٍ عامٍّ لجَميعِ الأمَّةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 873). .
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2).
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ.
أي: قد بيَّن اللهُ لكم تحليلَ جَميعِ أيْمانِكم -إذا أحبَبْتُم استِباحةَ المحلوفِ عليه- بالكَفَّارةِ الَّتي شَرَعها وبَيَّنَها لكم مِن قَبْلُ في سورةِ المائِدةِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/90)، ((الوسيط)) للواحدي (4/318)، ((تفسير البغوي)) (5/117)، ((تفسير القرطبي)) (18/185)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (33/50، 51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873). قال السمعاني: (والفرْضُ هاهنا بمعنى البيانِ والتَّسميةِ، ويُقالُ: بمعنى التَّقديرِ؛ لأنَّ الكفَّاراتِ مقدَّرةٌ مَعْدودَةٌ). ((تفسير السمعاني)) (5/471). وقال ابن عاشور: (تَحِلَّةُ اليَمينِ هي الكَفَّارةُ عندَ الجَميعِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/348). وقال السمعاني: (وعن بعضِهم: أن تَحِلَّةَ اليمينِ هو الاستِثناءُ؛ لأنَّه يخرجُ به عن اليمينِ. والأوَّلُ هو المعروفُ [أي: أنَّه الكفَّارةُ]). ((تفسير السمعاني)) (5/ 471). وقال ابن جُزَي: (التَّحِلَّةُ هي الكفَّارةُ، وأحال تعالى هنا على ما ذكر في سورةِ المائدةِ [89] مِن صِفَتِها. واختُلِف في المرادِ بها هنا؛ فأمَّا على قولِ مَن قال: إنَّ الآيةَ نزلتْ في تحريمِ الجاريةِ فاختُلِف في ذلك؛ فمَن قال: إنَّ التَّحريمَ يَلزَمُ فيه كفَّارةُ يمينٍ استدَلَّ بها، ومَن قال: إنَّ التَّحريمَ يَلزَمُ فيه طلاقٌ قال: إنَّ الكفَّارةَ هنا إنَّما هي لأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّمَ حلَفَ، وقال: واللهِ لا أطَؤُها أبدًا. وأمَّا على القولِ بأنَّ الآيةَ نزلتْ في تحريمِ العسلِ فاختُلِف أيضًا؛ فمَن أوجَبَ في تحريمِ الطَّعامِ كفَّارةً قال: هذه الكفَّارةُ للتَّحريمِ، ومَن قال: لا كفَّارةَ فيه قال: إنَّما هذه الكفَّارةُ لأنَّه حلَف ألَّا يَشرَبَه، وقيل: هي في يمينِه عليه السَّلامُ ألَّا يَدخُلَ على نسائِه شهرًا). ((تفسير ابن جزي)) (2/390). وقال الشوكاني: (واختلَف العُلماءُ: هل مجرَّدُ التَّحريمِ يمينٌ يوجِبُ الكفَّارةَ أم لا؟ وفي ذلك خِلافٌ، وليس في الآيةِ ما يدُلُّ على أنَّه يمينٌ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه عاتَبَه على تحريمِ ما أحلَّه له، ثمَّ قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، وقد ورد في القصَّةِ الَّتي ذهب أكثَرُ المفسِّرينَ إلى أنَّها سببُ نُزولِ الآيةِ أنَّه حرَّم أوَّلًا، ثمَّ حلَف ثانيًا). ((تفسير الشوكاني)) (5/298). وقال البِقاعي: (قد قيل: إنَّ تحريمَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هنا كان بيَمينٍ حَلَفَها، وحينَئذٍ لا يكونُ فيه حُجَّةٌ لِمَن رأى أنَّ «أنتِ علَيَّ حرامٌ» يمينٌ). ((نظم الدرر)) (20/184). وقد ورد في روايةٍ عندَ البخاري (4912) عن عائشةَ، قالت: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يشربُ عسلًا عندَ زينبَ... قال: ((لا، ولكنِّي كنتُ أشربُ عسلًا عندَ زينبَ بنتِ جحشٍ، فلنْ أعودَ له، وقد حلفْتُ، لا تُخبري بذلك أحدًا)). .
كما قال تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 89].
وعن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنِّي واللهِ -إن شاء اللهُ- لا أحلِفُ على يمينٍ، فأرى غَيرَها خَيرًا منها، إلَّا أتيتُ الَّذي هو خيرٌ وتحَلَّلْتُها )) [19] رواه البخاريُّ (7555)، ومسلمٌ (1649). .
وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ.
أي: واللهُ وَلِيُّكم وناصِرُكم -أيُّها المؤمِنونَ- ويتوَلَّى أُمورَكم بما فيه صَلاحُكم [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/90)، ((الوسيط)) للواحدي (4/318)، ((تفسير القرطبي)) (18/186)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/348). .
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
أي: واللهُ هو البالِغُ العِلمِ بمَصالِحِ عِبادِه وغَيرِها، الحَكيمُ في خَلْقِه وشَرْعِه، وقَدَرِه وتَدبيرِ عِبادِه؛ فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به؛ فلذلك شَرَع لكم مِنَ الأحكامِ ما هو مُوافِقٌ لمصالِحِكم، ومُناسِبٌ لأحوالِكم [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/90)، ((الوسيط)) للواحدي (4/318)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/184)، ((تفسير الشوكاني)) (5/298)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/348). .
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال الله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ؛ ساقَ ما هو كالدَّليلِ على عِلمِه، فقال [22] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (28/157). :
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا.
أي: واذكُرْ [23] قيل: المعنى: واذكُرْ إذ أسرَّ النَّبيُّ... وممَّن نصَّ عليه: الزَّجَّاجُ، والقرطبي، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/191)، ((تفسير القرطبي)) (18/186)، ((تفسير الشوكاني)) (5/298)، ((تفسير الألوسي)) (14/345). وقيل: المعنى: اذكُرْ -يا محمَّدُ- ذلك على وَجهِ التَّأنيبِ والعَتبِ لزَوجاتِك. وممَّن قال بهذا: ابنُ عطيَّة، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/330)، ((تفسير العليمي)) (7/96). وقيل: المعنى: واذكروا أيُّها المؤمنونَ إذ أسرَّ النَّبيُّ. وممَّن اختاره: مكِّي. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7565). وقيل: المعنى: اذكُروا كريمَ أخلاقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وطاهِرَ شمائِلِه في عِشرتِهنَّ حينَ أسَرَّ إلى بَعضِ أزواجِه حديثًا. قالَه البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/185). حينَ أخفى النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى زَوجتِه حَفْصةَ كلامًا -وهو تحريمُ ما حرَّمه على نفْسِه- وأمَرها ألَّا تُخبِرَ به أحدًا [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/91)، ((تفسير السمرقندي)) (3/467)، ((تفسير القرطبي)) (18/186)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873). ذكر ابنُ الجوزي وابنُ عاشور: أنه لم يختَلِفْ أهلُ العِلمِ في أنَّ الَّتي أسَرَّ إليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحَديثَ هي حَفصةُ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/307)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/351). قال ابنُ عطية: (قال الجُمهورُ: الحَديثُ: هو قَولُه في أمرِ مارِيةَ، وقال آخَرونَ: بل هو قَولُه: «إنَّما شَرِبتُ عَسَلًا»). ((تفسير ابن عطية)) (5/330). وممَّن ذهب إلى القولِ الأوَّلِ -المنسوبِ إلى الجُمهورِ-: القرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/186)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/351). قال ابن الجوزي: (وفي هذا السِّرِّ ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّه قال لها: إنِّي مُسِرٌّ إِليك سِرًّا فاحفظيه، سُرِّيَّتي هذه علَيَّ حرامٌ. رواه العَوْفيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ، وبه قال عَطاءٌ، والشَّعبيُّ، والضَّحَّاكُ، وقَتادةُ، وزَيدُ بنُ أسْلَمَ، وابنُه، والسُّدِّيُّ. والثَّاني: أنَّه قال لها: أبوكِ، وأبو عائشةَ، والِيا النَّاسِ مِن بَعدي، فإيَّاكِ أن تُخبِري أحدًا. ورواه سعيدُ بنُ جُبَيرٍ عن ابنِ عبَّاسٍ. والثَّالثُ: أنَّه أسَرَّ إليها أنَّ أبا بكرٍ خليفتي مِن بَعدي. قاله ميمونُ بنُ مِهْرانَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/307). وقال الواحديُّ: (قال جماعةٌ مِن المفسِّرينَ: إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ لَمَّا رأى الغَيرةَ والكراهيةَ في وجْهِ حفصةَ أراد أن يَتَرضَّاها، فأسَرَّ إليها بشيئينِ: تحريمِ الأمَةِ على نفْسِه، وبشَّرها بأنَّ الخِلافةَ بعْدَه في أبي بكرٍ وأبيها عُمَرَ. وهذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ في روايةِ عَطاءٍ، والكلبيِّ، وسعيدِ ابنِ جُبَيرٍ، ومقاتلٍ). ((البسيط)) (22/12، 13). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (8/46). .
فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ.
أي: فلمَّا أخبَرَت حَفْصةُ عائِشةَ بما أسَرَّ إليها النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن تَحريمِه ما حرَّم على نَفْسِه، وأطْلَعَ اللهُ نبيَّه على إفشائِها سِرَّه؛ أخبَرَها الرَّسولُ ببَعضِ ما أفشَتْه مُؤَنِّبًا لها، وتَرَك إخبارَها ببَقيَّةِ كَلامِها؛ كَرَمًا منه وحِلْمًا [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/91، 92)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1112)، ((تفسير ابن جزي)) (2/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873). .
فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا.
أي: فلمَّا أخبَرَ نَبيُّ اللهِ حَفْصةَ بإفشائِها سِرَّه إلى عائِشةَ، قالت له حَفصةُ مُتعَجِّبةً مِن مَعرِفتِه: مَنْ أخبَرَك بذلك [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/92)، ((الوسيط)) للواحدي (4/319)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/354). ؟!
قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ.
أي: قال لها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أخبَرَني بذلك العَليمُ بكُلِّ شَيءٍ، الخَبيرُ الَّذي لا تَخفى عليه خافِيةٌ [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/92)، ((تفسير القاسمي)) (9/274)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/354). .
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4).
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا.
أي: إنْ تَتُوبَا إلى اللهِ -يا حَفْصةُ وعائِشةُ- فقد صدَر منكما ما يُوجِبُ التَّوبةَ؛ فقد مالَت قُلوبُكما عن الحقِّ والصَّوابِ، وعمَّا يَنبغي عليكُما مِن الأدَبِ مع النَّبيِّ، وحُبِّ ما يُحبُّه، وكراهةِ ما يَكرَهُه [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/93)، ((الوسيط)) للواحدي (4/319)، ((تفسير ابن عطية)) (5/331)، ((تفسير القرطبي)) (18/188)، ((تفسير ابن جزي)) (2/391)، ((تفسير أبي السعود)) (8/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873). قيل: جوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ، على تقديرِ: فقد وُجِد مِنكما ما يُوجِبُ التَّوبةَ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: الزمخشريُّ، وابنُ عطية، والبَيضاوى، والعُلَيمي، وأبو السعود، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/566)، ((تفسير ابن عطية)) (5/331)، ((تفسير البيضاوى)) (5/324)، ((تفسير العليمي)) (7/97)، ((تفسير أبي السعود)) (8/267)، ((تفسير الشوكاني)) (5/298). وقيل: تقديرُه: كان خيرًا لكما. أي: إنْ تَتوبَا إلى اللهِ كان خيرًا لكما. وممَّن ذهب إلى هذا القول: الواحديُّ، والرَّازيُّ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/16)، ((تفسير الرازي)) (30/570). قال الألوسي: (التَّقديرُ: إنْ تَتوبا فلِتَوبَتِكما موجبٌ وسببٌ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا، أو فحقَّ لكما ذلك فقد صدَر ما يَقْتضيها، وهو على معنى: فقد ظهَر أنَّ ذلك حقٌّ... وقيل: الجوابُ محذوفٌ، تقديرُه: يَمْحُ إثمَكما، وقَولُه تعالى: فَقَدْ صَغَتْ إلخ: بيانٌ لسَبَبِ التَّوبةِ. وقيل: التَّقديرُ: فقد أدَّيتُما ما يجِبُ عليكما، أو أتَيْتُما بما يَحِقُّ لكما، وما ذُكِرَ دَليلٌ على ذلك. قيل: وإنَّما لم يُفَسِّروا: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا بـ «مالَتْ إلى الواجِبِ أو الحَقِّ أو الخَيرِ»؛ حتَّى يَصِحَّ جَعْلُه جوابًا مِن غَيرِ احتياجٍ إلى نحوِ ما تقَدَّمَ؛ لأنَّ صيغةَ الماضي و«قَدْ»، وقراءةَ ابنِ مَسعودٍ: «فَقَدْ زَاغَتْ قُلُوبُكُمَا»، وتكثيرَ المعنى مع تقليلِ اللَّفظِ: تقتضي ما سَلَف). ((تفسير الألوسي)) (14/347). .
وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: وإنْ تَتعاوَنا -يا حَفصةُ وعائِشةُ- على إيذاءِ رَسولِ اللهِ، فإنَّ اللهَ ناصِرُه عليكما، وجِبريلُ وخِيارُ المؤمِنينَ -كأبي بَكرٍ وعُمَرَ- أولياءُ له أيضًا يَتوَلَّونَه ويَنصُرونَه؛ فلا يَضُرُّ الرَّسولَ تعاوُنُكما عليه [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/94، 97، 98)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/193)، ((البسيط)) للواحدي (22/17، 18)، ((تفسير القرطبي)) (18/189)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873). !
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (مَكثْتُ سَنةً أُريدُ أن أسأَلَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ عن آيةٍ، فما أستطيعُ أن أسألَه؛ هَيْبةً له، حتَّى خَرَج حاجًّا فخَرَجتُ معه، فلمَّا رَجَعْنا وكُنَّا ببَعضِ الطَّريقِ عَدَل إلى الأراكِ [30] أي: مالَ عن الطَّريقِ إلى شَجَرِ الأَراكِ الَّتي يُتَّخَذُ مِنها المَساويكُ، وهي كثيرةُ الوَرَقِ والأغصانِ؛ مال لقضاءِ الحاجةِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (19/251). لحاجةٍ له، فوقَفْتُ له حتَّى فَرَغ، ثمَّ سِرتُ معه، فقُلتُ: يا أميرَ المؤمِنينَ، مَنِ اللَّتانِ تَظاهرَتَا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أزواجِه؟ فقال: تلك حَفصةُ وعائِشةُ) [31] رواه البخاريُّ (4913) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1479). .
وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ.
أي: والمَلائِكةُ مع نَصرِ اللهِ وجِبريلَ وصالِحِ المُؤمِنينَ أعوانٌ أيضًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَن يُريدُ أذاه ومَساءتَه [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/98)، ((تفسير السمرقندي)) (3/468)، ((تفسير الشوكاني)) (5/299)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/359). .
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حذَّر اللهُ تعالى بما تقدَّمَ، زاد في التَّحذيرِ ما يُقَطِّعُ القُلوبَ؛ لأنَّ أشَدَّ ما على المرأةِ أن تُطَلَّقَ، ثمَّ إذا طُلِّقَت أن يُستبدَلَ بها، ثمَّ أن يكونَ البَدَلُ خيرًا منها [33] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/192). .
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ.
أي: عسى ربُّ محمَّدٍ إنْ طَلَّقَكنَّ -يا نِساءَ النَّبيِّ- أن يُبدِلَه أزواجًا أفضَلَ مِنكُنَّ [34] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/99)، ((تفسير الشوكاني)) (5/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/360). .
عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (اجتَمَع نِساءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الغَيرةِ عليه، فقُلتُ لهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، فنزَلَت هذه الآيةُ) [35] رواه البخاري (402). .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال عُمَرُ: (وافَقتُ اللهَ في ثلاثٍ، أو وافَقَني رَبِّي في ثلاثٍ؛ قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، لو اتَّخَذتَ مَقامَ إبراهيمَ مُصَلًّى. وقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، يَدخُلُ عليك البَرُّ والفاجِرُ؛ فلو أمَرْتَ أمَّهاتِ المؤمِنينَ بالحِجابِ، فأنزل اللهُ آيةَ الحِجابِ. قال: وبلَغَني مُعاتَبةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعضَ نِسائِه، فدَخَلْتُ عليهنَّ، قُلتُ: إنِ انتَهَيتُنَّ أو لَيُبدِّلَنَّ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيرًا مِنكنَّ! حتَّى أتيتُ إحدى نِسائِه، قالت: يا عُمَرُ، أمَا في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يَعِظُ نِساءَه حتَّى تَعِظَهنَّ أنت؟! فأنزل اللهُ: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ الآيةَ) [36] رواه البخاري (4483). .
مُسْلِمَاتٍ.
أي: مُخلِصاتٍ للهِ، خاضِعاتٍ لطاعتِه، قائماتٍ بالشَّرائعِ الظَّاهرةِ [37] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/100)، ((تفسير القرطبي)) (18/193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873). .
مُؤْمِنَاتٍ.
أي: قائِماتٍ بالشَّرائعِ الباطنةِ مِنَ العَقائِدِ الصَّحيحةِ وأعمالِ القُلوبِ [38] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/100)، ((تفسير القرطبي)) (18/193)، ((تفسير الشوكاني)) (5/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873). .
قَانِتَاتٍ.
أي: مُطيعاتٍ للهِ ورَسولِه على الدَّوامِ، قائِماتٍ بها أحسَنَ قِيامٍ [39] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/101)، ((تفسير القرطبي)) (18/193)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/194)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/361). .
قال الله تبارك وتعالى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء: 34] .
تَائِبَاتٍ.
أي: مُقلِعاتٍ عن الذُّنوبِ إذا وقَعْنَ فيها [40] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/193)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/195)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/361). .
عَابِدَاتٍ.
أي: مُتذَلِّلاتٍ للهِ بعِبادتِه [41] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/101)، ((تفسير القرطبي)) (18/193)، ((تفسير الشوكاني)) (5/299). .
سَائِحَاتٍ.
أي: صائِماتٍ [42] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/101)، ((تفسير الزمخشري)) (4/567)، ((تفسير ابن عطية)) (5/332)، ((تفسير ابن كثير)) (8/165، 166)، ((تفسير الشوكاني)) (5/299). قال ابنُ الجوزي: (سَائِحَاتٍ فيه قَولانِ؛ أحَدُهما: صائِماتٍ. قاله ابنُ عبَّاسٍ والجمهورُ... والثَّاني: مُهاجِراتٍ. قاله زَيدُ بنُ أسْلَمَ وابنُه). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/310). ممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بالسَّائِحاتِ: الصَّائِماتُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزمخشريُّ، وابن عطية، والرَّسْعَني، وابن كثير، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/377)، ((تفسير ابن جرير)) (23/101)، ((تفسير الزمخشري)) (4/567)، ((تفسير ابن عطية)) (5/332)، ((تفسير الرسعني)) (8/187)، ((تفسير ابن كثير)) (8/165، 166)، ((تفسير العليمي)) (7/99)، ((تفسير الشوكاني)) (5/299). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أبو هُرَيرةَ، وعائشةُ، وابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، ومُجاهِدٌ، وسعيدُ ابنُ جُبَيرٍ، وعَطاءٌ، ومحمَّدُ بنُ كعبٍ القُرَظيُّ، وأبو عبدِ الرَّحمنِ السُّلَميُّ، وأبو مالكٍ، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ، والحسَنُ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، والرَّبيعُ بنُ أنَسٍ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/101)، ((تفسير ابن كثير)) (8/165). وممَّن ذهب إلى أنَّ السَّائِحاتِ هُنَّ: المهاجِراتُ: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/361). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: زَيدُ بنُ أسلَمَ، وابنُه، ويَمَان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/102)، ((تفسير الثعلبي)) (9/349)، ((تفسير ابن كثير)) (8/165). وقال القاسمي: (معنى قَولِه تعالى: سَائِحَاتٍ مُسافِراتٌ؛ سواءٌ كان السَّفَرُ لهِجرةٍ، أو اطِّلاعٍ على آثارِ الأُمَمِ البائدةِ، وقد خَصَّصَت السُّنَّةُ عُمومَ سَفَرِهنَّ بكَونِه مع زَوجٍ أو مَحرَمٍ لهنَّ؛ حِفظًا لهنَّ). ((تفسير القاسمي)) (9/276). وقال الثعلبي: (سَائِحَاتٍ يَسِحْنَ معه حيثُ ما ساحَ). ((تفسير الثعلبي)) (9/349). وقال ابنُ القيِّم في قوله: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ [التوبة: 112] : (فُسِّرَت السِّياحةُ بالصِّيامِ، وفُسِّرَت بالسَّفَرِ في طَلَبِ العِلمِ، وفُسِّرَت بالجِهادِ، وفُسِّرَت بدوامِ الطَّاعةِ. والتَّحقيقُ فيها: أنَّها سياحةُ القَلبِ في ذِكرِ اللهِ ومَحبَّتِه، والإنابةِ إليه والشَّوقِ إلى لقائِه، ويترتَّبُ عليها كُلُّ ما ذُكِرَ مِن الأفعالِ؛ ولذلك وَصَف اللهُ سُبحانَه نِساءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اللَّاتي لو طَلَّق أزواجَه بَدَّلَه بهِنَّ: بأنَّهنَّ سائِحاتٌ، وليست سياحتُهنَّ جِهادًا، ولا سَفَرًا في طَلَبِ عِلمٍ، ولا إدامةَ صِيامٍ، وإنَّما هي سياحةُ قُلوبِهنَّ في محبَّةِ اللهِ تعالى وخشيتِه، والإنابةِ إليه وذِكرِه. وتأمَّلْ كيف جَعَل اللهُ سُبحانَه التَّوبةَ والعبادةَ قرينتَينِ: هذه تَرْكُ ما يَكرَهُ، وهذه فِعلُ ما يُحِبُّ؛ والحَمدَ والسِّياحةَ قرينَينِ: هذا الثَّناءُ عليه بأوصافِ كَمالِه، وسياحةُ اللِّسانِ في أفضَلِ ذِكرِه، وهذه سِياحةُ القَلبِ في حُبِّه وذِكرِه وإجلالِه، كما جَعَل سُبحانَه العبادةَ والسِّياحةَ قَرينتَينِ في صِفةِ الأزواجِ؛ فهذه عبادةُ البَدَنِ، وهذه عبادةُ القَلبِ). ((حادي الأرواح)) (ص: 85). وذهب البِقاعي إلى أنَّ معنى سَائِحَاتٍ: متَّصِفاتٌ بصِفاتِ الملائكةِ؛ مِنَ التخَلِّي عن الدُّنيا، والاستغراقِ في الآخِرةِ بما أدناه الصِّيامُ، ماضياتٌ في ذلك غايةَ المَضاءِ؛ لِيَتِمَّ الانقيادُ لله ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ مَن كان هكذا لم يكُنْ له مرادٌ، فكان تابِعًا لرَبِّه في أمرِه دائمًا، ويَصيرُ لَطيفَ الذَّاتِ حُلوَ الشَّمائِلِ. يُنظر: ((نظم الدرر)) (20/195). .
ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا.
أي: بَعضُهنَّ ثَيِّباتٌ قد تزَوَّجْنَ مِن قَبلُ، وبَعضُهنَّ أبكارٌ عَذارَى لم يتزوَّجْنَ مِن قَبلُ [43] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/103)، ((الوسيط)) للواحدي (4/321)، ((تفسير القرطبي)) (18/194)، ((تفسير ابن كثير)) (8/166)، ((تفسير السعدي)) (ص: 873). قال الماوَرْدي: (أمَّا الثَّيِّبُ فإنَّما سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّها راجِعةٌ إلى زَوْجِها إن أقام معها، أو إلى غيرِه إن فارَقَها. وقيل: لأنَّها ثابَتْ إلى بَيتِ أبَوَيها، وهذا أصَحُّ؛ لأنَّه ليس كلُّ ثيِّبٍ تعودُ إلى زَوجٍ. وأمَّا البِكرُ فهي العَذراءُ، سُمِّيَت بِكْرًا؛ لأنَّها على أوَّلِ حالتِها الَّتي خُلِقَت بها). ((تفسير الماوردي)) (6/42). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه أنَّ أحَدًا لا يُحَرِّمُ على نَفْسِه ما أحَلَّ اللهُ له؛ لإرضاءِ أحَدٍ؛ إذ ليس ذلك بمَصلحةٍ له ولا للَّذي يَستَرضيه، وإنَّما صَلاحُ كُلِّ جانِبٍ فيما يعودُ بنَفعٍ على نَفْسِه، أو بنَفعٍ على غَيرِه نفعًا مَرْضِيًّا عندَ اللهِ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/345). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ، أي: ليسَتْ غَيرتُهنَّ ممَّا تجِبُ مُراعاتُه في المعاشَرةِ إنْ كانتْ فيما لا هَضْمَ فيه لحُقوقِهنَّ، ولا هي مِن إكرامِ إحداهنَّ لزَوجِها إن كانتِ الأخرى لم تتمكَّنْ مِن إكرامِه بمِثلِ ذلكَ الإكرامِ في بعضِ الأيامِ، وهذا يُومِئُ إلى ضبْطِ ما يُراعَى مِنَ الغَيرةِ وما لا يُراعَى [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/346). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فيه أنَّه لا بأسَ بإسرارِ الحَديثِ إلى مَن يُركَنُ إليه مِن زَوجةٍ أو صَديقٍ، وأنَّه يَلزَمُه كَتمُه [46] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 269). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فيه حُسنُ العِشرةِ مع الزَّوجاتِ، والتَّلَطُّفُ في العَتْبِ، والإعراضُ عن استِقصاءِ الذَّنْبِ. قال الحَسَنُ: (ما استَقصى كَريمٌ قَطُّ) [47] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/118)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 269). ، وإنَّ مِن عادةِ الفُضلاءِ التَّغافُلَ عن الزَّلَّاتِ [48] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 390). . وقيل: (ما زال التَّغافُلُ مِن فِعلِ الكِرامِ) [49] يُنظر: (( تفسير الزمخشري)) (4/ 565). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فيه تعليمُ الأزواجِ ألَّا يُكثِرْنَ مِن مُضايَقةِ أزواجِهنَّ؛ فإنَّه رُبَّما أدَّت إلى المَلالِ، فالكَراهيةِ، فالفِراقِ [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/345). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ والمرادُ به الرَّسولُ، واللهُ تعالى يُخاطِبُ رسولَه بوَصفِ النُّبوَّةِ أحيانًا، وبوَصفِ الرِّسالةِ أحيانًا، فحينَما يأمرُه أنْ يُبَلِّغَ يُناديه بوَصفِ الرِّسالةِ، وأمَّا في الأحكامِ الخاصَّةِ فالغالبُ أنْ يناديَه بوَصفِ النُّبُوَّةِ، كالآيةِ هنا [51] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/93). .
2- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ إلى قَولِه: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ أنَّ المؤمِنَ ليس له أنْ يُحَرِّمَ الحَلالَ بيَمينٍ ولا غَيرِها [52] يُنظر: ((نظرية العقد)) لابن تيمية (1/24). .
3- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ إلى قَولِه: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ استُدِلَّ به على أنَّ الشَّيءَ إذا حُرِّمَ، وقَصَد به الإنسانُ الامتِناعَ عنه؛ صار بمنزلةِ اليَمينِ، فجَعَلَ اللهُ تعالى هذا التَّحريمَ يمينًا، وقال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [53] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (2/220). . فقد نَزَلت الآيةُ في تَحريمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُرِّيَّتَه ماريةَ، أو شُربَ العَسَلِ، فاستُدِلَّ به على أنَّ مَن حرَّمَ على نَفْسِه أَمَةً أو طعامًا أو زَوجةً، لم تَحرُمْ عليه، وتَلزَمُه كَفَّارةُ يَمينٍ [54] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 269). قال ابن جُزَي: (ولْنَتكلَّمْ على فِقهِ التَّحريمِ: فأمَّا تحريمُ الطَّعامِ والمالِ وسائرِ الأشياءِ ما عدا النِّساءَ، فلا يَلزَمُ، ولا شَيءَ عليه عندَ مالكٍ، وأوجَبَ عليه أبو حنيفةَ الكفَّارةَ. وأمَّا تحريمُ الأمَةِ فإنْ نوى به العِتقَ لَزِمَ، وإن لم يَنوِ به ذلك لم يَلزَمْ، وكان حُكمُه ما ذكَرْنا في الطَّعامِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/389). اختلف العلماءُ فيمن  حرَّم على نفْسِه شيئًا ممَّا أحلَّ اللهُ -ما عدا النِّساءَ- فذهب الحَنفيَّةُ والحنابلةُ إلى أنَّه تَلزَمُه كفَّارةُ يمينٍ. يُنظر: ((تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبي)) (3/114)، ((شرح منتهي الإرادات)) للبُهُوتي (3/ 445). وذهب المالكيَّةُ والشَّافعيَّةُ إلى أنَّه لا تَلزَمُه كفَّارةٌ. يُنظر: ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبدِ البَرِّ (1/ 450)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (3/ 283). قال ابن جُزَي: (وأمَّا تحريمُ الزَّوجةِ فاختلَف النَّاسُ فيه على أقوالٍ كثيرةٍ؛ فقال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ وعمرُ بنُ الخطَّابِ وابنُ عبَّاسٍ وعائشةُ وغيرُهم: إنَّما يَلزَمُ فيه كفَّارةُ يمينٍ. وقال مالكٌ في المشهورِ عنه: ثلاثُ تطليقاتٍ في المدخولِ بها، ويُنَوَّى في غيرِ المدخولِ بها، فيُحكَمُ بما نَوى مِن طَلْقةٍ أو اثنتَينِ أو ثلاثٍ. وقال ابنُ الماجِشونِ: هي ثلاثٌ في الوجهَينِ. ورُويَ عن مالكٍ أنَّها طلقةٌ بائنةٌ، وقيل: طلقةٌ رجعيَّةٌ). ((تفسير ابن جزي)) (2/389). ويُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (7/261) و(10/207). وقد بلغتِ الأقوالُ في تحريمِ الزَّوجةِ خمسةَ عشَرَ قولًا، وأوصَلها بعضُهم إلى ثمانيةَ عشَرَ قولًا. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/ 180)، ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) لابن القيم (4/ 451). قال ابن حجر: (قال القرطبيُّ: قال بعضُ علمائِنا: سببُ الاختلافِ أنَّه لم يقَعْ في القرآنِ صريحًا ولا في السُّنَّةِ نصٌّ ظاهرٌ صحيحٌ يُعتمَدُ عليه في حُكمِ هذه المسألةِ، فتَجاذَبَها العلماءُ؛ فمَن تمسَّكَ بالبراءةِ الأصليَّةِ قال: لا يَلزَمُه شيءٌ. ومَن قال: إنَّها يمينٌ، أخَذَ بظاهِرِ قولِه تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ بعْدَ قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. ومَن قال: تجبُ الكفَّارةُ وليستْ بيَمينٍ، بَناهُ على أنَّ معنى اليمينِ التَّحريمُ، فوقعَتِ الكفَّارةُ على المعنى. ومَن قال: تقَعُ به طَلْقةٌ رجعيَّةٌ، حمَلَ اللَّفظَ على أقلِّ وُجوهِه الظَّاهِرةِ، وأقلُّ ما تُحرَّمُ به المرأةُ طَلْقةٌ تُحرِّمُ الوَطْءَ ما لم يَرتَجِعْها. ومَن قال: بائنةٌ؛ فلاستِمرارِ التَّحريمِ بها ما لم يُجدِّدِ العقدَ. ومَن قال: ثلاثٌ، حمَل اللَّفظَ على مُنتهى وُجوهِه. ومَن قال: ظِهارٌ، نظَر إلى معنى التَّحريمِ، وقطَعَ النَّظرَ عن الطَّلاقِ، فانحصَر الأمرُ عندَه في الظِّهارِ، واللهُ أعلَمُ). ((فتح الباري)) (9/372). ويُنظر: ((المفهم لِما أَشْكَلَ من تلخيص كتاب مسلم)) للقرطبي (4/ 250). أمَّا تحريمُ الزَّوجةِ فمذهبُ الحنفيَّةِ أنَّه إن أراد بالتَّحريمِ الطَّلاقَ فيقَعُ عليه واحدةٌ بائنةٌ، لا يَملِكُ رَجعتَها، وإن نوى طلاقَ الثَّلاثِ فثلاثٌ، وإن أراد الظِّهارَ فظِهارٌ، وإن أراد الكذبَ فباطلٌ، وإن أراد مجرَّدَ التَّحريمِ أو لم يُرِدْ شيئًا فإيلاءٌ. يُنظر: ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (3/ 433)، ((العناية شرح الهداية)) للبابَرْتي (4/ 207). وذهب المالكيَّةُ إلى أنَّه طلاقٌ ثلاثٌ في المدخولِ بها، وغيرِ المدخولِ بها إلَّا إن نوى أقلَّ فحسَب نيَّتِه. ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (2/ 562). وذهب الشَّافعيَّةُ إلى أنَّه إن نوى طلاقًا فعلى ما نوى مِن العدَدِ، وإن نوى ظِهارًا كان ظِهارًا، وإن نوى الطَّلاقَ والظِّهارَ معًا أو مُتعاقِبَينِ بأنْ نوى أحدَهما في أوَّلِ اللَّفظِ والآخَرَ في آخِرِه؛ تخيَّر أحدَهما، وإن نوى التَّحريمَ أو أطلَق ففيه كفَّارةُ يمينٍ على الأظهَرِ. يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (3/ 272). وذهب الحنابلةُ إلى أنَّه ظِهارٌ ولو نوى طلاقًا أو يمينًا. يُنظر: ((شرح منتهي الإرادات)) للبُهُوتي (3/ 88). وذهب الظَّاهريَّةُ إلى أنَّه لَغوٌ باطلٌ، لا يترتَّبُ عليه شيءٌ. يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (9/ 302)، ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) لابن القيم (3/ 81). .
4- لو قال قائِلٌ: هل الأنبياءُ مَعصومونَ مُطلَقًا؟
فالجوابُ: لا شَكَّ أنَّ الأنبياءَ لا يُعصَمونَ مِمَّا لا يُخِلُّ بالرِّسالةِ مِنَ الذُّنوبِ؛ فالَّذي لا يُخِلُّ بالرِّسالةِ والشَّرَفِ والمُروءةِ لا يُعصَمونَ منه، لكِنَّهم يُعصَمونَ مِنَ الإقرارِ عليه، فلا بُدَّ أن يُوَفَّقوا للتَّوبةِ. وهذا هو الفَرقُ بيْنَهم وبيْن غَيرِهم؛ فإنَّه يُفَرَّقُ بيْنهم وبيْن غَيرِهم مِن وَجهَينِ، في مَسألةِ الذُّنوبِ والمعاصي:
أوَّلًا: أنَّه لا يُمكِنُ أن يَصدُرَ منهم ما يُخِلُّ بالرِّسالةِ، مِثلُ: الكَذِبِ، والخيانةِ، ولا بالشَّرَفِ والمروءةِ، كالزِّنا وما أشبَهَه.
ثانيًا: أنَّه إذا وَقَع منهم ما يُمكِنُ وُقوعُه مِن المعاصي أو الخطأِ فإنَّهم لا يُقَرُّونَ عليه، لا بُدَّ أن يَحصُلَ لهم ما يُوجِبُ تَركَهم لهذا الشَّيءِ؛ لأنَّهم رُسُلٌ قُدوةٌ، ولو أُقِرُّوا على ما وقَع منهم مِن ذلك لَكان مِن شَرائِعِهم، فقَولُه تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ، وقَولُه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم: 1] هذا ممَّا يدُلُّ على أنَّ الأمرَ قد وَقَع مِنَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، لكِنَّه غُفِرَ له، وما أُقِرَّ عليه [55] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 69). قال ابن عثيمين عن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ: (إنَّهم ليسوا معصومينَ مِن صغائرِ الإثمِ، لكنَّهم معصومونَ مِن إرادةِ المخالفةِ، ومِن الإصرارِ على المعصيةِ...؛ لأنَّ الذي يقعُ منهم يكونُ عن قصدٍ أخطؤوا فيه الصوابَ، فمثلًا:... قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم حرَّم ما أحلَّ الله له طلبًا لمرضاةِ زوجاتِه، وتأليفِ قلوبِهنَّ، ولكنَّه لم يحرِّمْه حكمًا شرعيًّا، إنَّما حرَّمه امتناعًا، يعني حرَّمه على نفسِه... فالحاصلُ أنَّهم عليهم الصلاةُ والسَّلامُ لا يُمنعونَ مِن وقوعِ صغائرِ الذنوبِ، لكنَّهم لا يفعلونَها كما يفعلُها غيرُهم تعمدًا للمخالفةِ، ولا يُقرُّونَ عليها أيضًا، بل لابدَّ أنْ يُنبَّهوا عليها حتَّى يرجِعوا إلى الصوابِ). ((شرح العقيدة السفارينية)) (ص: 573). .
5- في قَولِه: تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ عُذرٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما فعَلَه مِن أنَّه أراد به خَيرًا، وهو جَلبُ رِضا الأزواجِ؛ لأنَّه أعوَنُ على مُعاشَرتِه، مع الإشعارِ بأنَّ مِثلَ هذه المرضاةِ لا يُعبَأُ بها؛ لأنَّ الغَيرةَ نشَأَت عن مجَرَّدِ مُعاكَسةِ بَعضِهنَّ بَعضًا، وذلك ممَّا يَختَلُّ به حُسنُ المعاشَرةِ بيْنَهنَّ؛ فأنبأه اللهُ أنَّ هذا الاجتهادَ مُعارَضٌ بأنَّ تَحريمَ ما أحَلَّ اللهُ له يُفضي إلى قَطعِ كَثيرٍ مِن أسبابِ شُكرِ اللهِ عِندَ تَناوُلِ نِعَمِه، وأنَّ ذلك ينبغي إبطالُه في سِيرةِ الأُمَّةِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/347). .
6- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ إلى قَولِه: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ استُدِلَّ به على أنَّ اليَمينَ بالعِتْقِ والطَّلاقِ في اللَّجاجِ والغضَبِ: مثل أن يقصِدَ بها حضًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، كقولِه: الطَّلاقُ يلزمُني لأفعلَنَّ كذا، أو: لا فعلتُ كذا، و: إنْ فعلْتُ كذا فعبيدي أحرارٌ، أو: إن لم أفعلْه فعبيدي أحرارٌ- يُشْرَعُ فيها التَّحَلُّلُ بالكفَّارةِ؛ وجْهُ ذلك: أنَّ قولَه تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ نصٌّ عامٌّ في كلِّ يمينٍ يَحلِفُ بها المُسلِمونَ؛ فإنَّ اللهَ قد فَرَضَ لها تَحِلَّةً، وذَكَره سُبحانَه بصِيغةِ الخِطابِ للأُمَّةِ بعدَ تَقَدُّمِ الخِطابِ بصيغةِ الإفرادِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع عِلْمِه سُبحانَه بأنَّ الأُمَّةَ يَحلِفونَ بأيمانٍ شَتَّى؛ فلو فُرِضَ يمينٌ واحدةٌ ليس لها تَحِلَّةٌ لَكان مخالِفًا للآيةِ، كيف وهذا عامٌّ لم تُخَصَّ فيه صورةٌ واحدةٌ لا بنَصٍّ ولا بإجماعٍ، بل هو عامٌّ عُمومًا مَعنويًّا مع عُمومِه اللَّفظيِّ؟! فإنَّ اليَمينَ معقودٌ يُوجِبُ مَنْعَ المكلَّفِ مِن الفِعلِ، فشَرْعُ التَّحِلَّةِ لهذه العُقدةِ مُناسِبٌ لِمَا فيه مِن التَّخفيفِ والتَّوسعةِ، وهذا موجودٌ في اليَمينِ بالعِتْقِ والطَّلاقِ أكثرَ منه في غَيرِهما مِن أيْمانِ نَذْرِ اللَّجاجِ والغَضَبِ، وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى قال: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وذلك يقتَضي أنَّه ما مِن تحريمٍ لِمَا أَحَلَّ اللهُ إلَّا واللهُ غَفورٌ لفاعِلِه رحيمٌ به، وأنَّه لا عِلَّةَ تقتضي ثُبوتَ ذلك التَّحريمِ؛ لأنَّ قولَه: لِمَ لأيِّ شَيءٍ؟ استفهامٌ في معنى النَّفيِ والإنكارِ، والتَّقديرُ: «لا سببَ لتحريمِك ما أَحَلَّ اللهُ لك، واللهُ غفورٌ رحيمٌ»، فلو كان الحالِفُ بالنَّذرِ والعِتاقِ والطَّلاقِ على أنَّه لا يَفعلُ شَيئًا: لا رخصةَ له، لَكان هنا سَبَبٌ يقتضي تحريمَ الحَلالِ؛ ولا يبقى مُوجَبُ المَغفرةِ والرَّحمةِ على هذا الفاعِلِ [57] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/268، 269). !
7- قَولُ اللهِ تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ عبَّرَ بالفَرضِ؛ حَثًّا على قَبولِ الرُّخصةِ؛ إشارةً إلى أنَّ ذلك لا يَقدَحُ في الوَرَعِ، ولا يُخِلُّ بحُرمةِ اسمِ اللهِ؛ لأنَّ أهلَ الهِمَمِ العَوالي لا يُحِبُّونَ النُّقْلةَ مِن عَزيمةٍ إلى رُخصةٍ، بل مِن رُخصةٍ إلى عزيمةٍ، أو عزيمةٍ إلى مِثلِها [58] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/183). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ فيه أنَّ مَن حَلَف على يمينٍ، فرأى حِنْثَها خيرًا مِن بِرِّها: أن يُكَفِّرَ عنها، ويَفعَلَ الَّذي هو خَيرٌ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/345). .
9- قال اللهُ تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ذُكِرَت حَفْصةُ بعُنوانِ بَعضِ أزواجِه؛ للإشارةِ إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَضَع سِرَّه في مَوضِعِه؛ لأنَّ أَولى النَّاسِ بمَعرفةِ سِرِّ الرَّجُلِ زَوْجُه، وفي ذلك تَعريضٌ بمَلامِها على إفشاءِ سِرِّه؛ لأنَّ واجِبَ المرأةِ أن تحفَظَ سِرَّ زَوجِها إذا أمَرَها بحِفْظِه، أو كان مِثْلُه ممَّا يَجِبُ حِفْظُه [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/352). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ جعَلَه في سِياقِ حِكايةٍ؛ لأنَّه أستَرُ لحَرَمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيثُ لم يَقُلْ: (فنَبَّأَت به)، ولا قال: (أساءَت بالإنباءِ به)، ونحوَ ذلك ممَّا يُفهِمُ أنَّه مَقصودٌ بالذَّاتِ [61] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/186). .
11- قال تعالى: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ إنَّما عرَّفها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلكَ لِيُوقِفَها على مُخالَفتِها واجبَ الأدبِ مِن حِفظِ سِرِّ زَوجِها، وإعراضُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن تعريفِ زَوجِه ببعضِ الحديثِ الَّذي أفشَتْه مِن كرَمِ خُلُقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مُعاتَبةِ المُفْشِيَةِ وتأديبِها؛ إذْ يحصُلُ المقصودُ بأنْ يُعلِمَ بعضَ ما أفشَتْه، فتُوقِنَ أنَّ اللهَ يَغارُ عليه [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/353). .
12- في قَولِه تعالى: قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ أنَّ الأنبياءَ لا يَعلَمونَ الغَيبَ، إلَّا ما أطلَعَهم اللهُ عليه [63] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (1/318). .
13- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ هذا تنبيهٌ إلى عنايةِ اللهِ برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وانتِصارِه له؛ لأنَّ إطْلاعَه على ما لا عِلْمَ له به ممَّا يُهِمُّه: عنايةٌ ونُصحٌ له [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/353). ، وقد حصَلَ مِن هذا الجوابِ تَعليمُها بأنَّ اللهَ يُطْلِعُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ما غابَ إنْ شاءَ، وتَنبيهُها على ما أبطنَتْه مِنَ الأمرِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/355). .
14- قال تعالى: فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا إنَّما نبَّأَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه عَلِمَ إفشاءَها الحديثَ بأمْرٍ مِنَ اللهِ لِيَبْنِيَ عليه الموعظةَ والتَّأديبَ؛ فإنَّ اللهَ ما أطْلَعَه على إفشائِها إلَّا لغرَضٍ جليلٍ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/351). .
15- في قَولِه تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ذُكِرَتِ «القلوبُ» بالجمعِ مع أنَّ الواحدةَ لها قلبٌ واحدٌ؛ لأنَّ الأفصحَ في اللُّغةِ العربيَّةِ أنَّه إذا أُضِيفَ المُثَنَّى إلى ما يُفيدُ التَّعدُّدَ فإنَّه يُجْمَعُ؛ لأنَّ التَّثنيةَ جَمعٌ في المعنى؛ كراهةَ أنْ تجتمِعَ تَثْنِيَتانِ فيما هو كالكلمةِ الواحدةِ؛ لأنَّ المضافَ والمضافَ إليه كأنَّهما كلمةٌ واحدةٌ، فيُجمَعُ؛ طلَبًا لخِفَّةِ اللَّفظِ عِندَ إضافتِه إلى ضَميرِ المُثنَّى؛ فإنَّ صِيغةَ التَّثنيةِ ثَقيلةٌ؛ لقِلَّةِ دَورانِها في الكلامِ، فلمَّا أُمِنَ اللَّبْسُ ساغَ التَّعبيرُ بصِيغةِ الجمعِ عن التَّثنيةِ، وهذا استعمالٌ للعربِ غيرُ جارٍ على القياسِ، وذلك في كلِّ اسمٍ مُثَنًّى أُضيفَ إلى اسمٍ مُثنى فإنَّ المضافَ يَصيرُ جمعًا كما في هذه الآيةِ [67] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/356، 357)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/134)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/347). قال الشنقيطي: (المثنَّى إذا أُضِيف إليه شيئانِ هما جزآه جاز في ذلك المضافِ -الذي هو شيئانِ- الجمعُ، والتثنيةُ، والإفرادُ، وأفصحُها الجمعُ، فالإفرادُ، فالتثنيةُ على الأصحِّ). ((أضواء البيان)) (4/ 115). وقال الفرَّاءُ: (إنَّما اختير الجمعُ على التَّثنيةِ؛ لأنَّ أكثرَ ما تكونُ عليه الجوارحُ اثنينِ في الانسانِ: اليدينِ والرِّجلينِ والعَينينِ، فلمَّا جرَى أكثرُه على هذا ذهب بالواحدِ منه إذا أُضيفَ إلى اثنينِ مذهبَ التثنيةِ). ((معاني القرآن)) (1/ 306). ويُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (3/ 621، 622)، ((المفصل في صنعة الإعراب)) للزمخشري (ص: 233). .
16- في قَولِه تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا دَليلٌ على أنَّ إفشاءَ السِّرِّ ذَنبٌ مِن مُفْشِيه، لولا ذلك ما دُلَّتا -واللهُ أعلَمُ- على التَّوبةِ منه، وهما وإنْ كانتا أفْشَتا سِرَّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعْدَ ما أُمِرَتا بالتَّحَفُّظِ به، وكِتمانِه، وطاعتُه فرضٌ في حالٍ، ونَدْبٌ في أخرى، لا يُشارِكُه فيهما أحدٌ مِن أُمَّتِه؛ فمَن دونَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضًا مِن المؤمِنينَ إذا ائْتَمَنَ إنسانًا بوَضعِ سِرِّهِ عندَه، فخانَه بإفْشَائِه عليه، فهو لا مَحالةَ آثِمٌ؛ إذ لو لم يَكُنْ آثِمًا إلَّا بإبدائِه لَكفاه عمَّا سِواه [68] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/364). قال ابن حجر: (قال ابنُ بطَّالٍ: الَّذي عليه أهلُ العِلمِ أنَّ السِّرَّ لا يُباحُ به إذا كان على صاحبِه منه مَضَرَّةٌ، وأكثرُهم يقولُ: إنَّه إذا مات لا يَلزَمُ مِن كِتمانِه ما كان يَلزَمُ في حياتِه، إلَّا أن يكونَ عليه فيه غَضاضةٌ. قلتُ: الَّذي يَظهَرُ انقِسامُ ذلك بعدَ الموتِ إلى ما يُباحُ وقد يُستحَبُّ ذِكرُه ولو كَرِهَه صاحبُ السِّرِّ، كأن يكونَ فيه تزكيةٌ له مِن كرامةٍ أو مَنقبةٍ أو نحوِ ذلك، وإلى ما يُكرَهُ مُطلقًا وقد يَحرُمُ، وهو الَّذي أشار إليه ابنُ بطَّالٍ، وقد يجبُ كأن يكونَ فيه ما يجبُ ذِكرُه، كحقٍّ عليه كان يُعذَرُ بتركِ القيامِ به، فيُرجى بعدَه إذا ذُكِر لِمَن يقومُ به عنه أن يفعلَ ذلك). ((فتح الباري)) (11/ 82). ويُنظر: ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (9/ 64). .
17- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ بعدَ ذِكْرِ التَّظاهُرِ دَليلٌ واضِحٌ على أنَّ المولَى هو النَّاصِرُ لا المالِكُ؛ إذْ لو كان مالِكًا لَمَا شارَكَه فيه جِبريلُ وصالِحُ المؤمِنينَ؛ فهو الآنَ ردٌّ على الرَّافضةِ فيما يَحْمِلونَ عليه قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن كُنْتُ مَوْلاه فعَليٌّ مَولاه )) [69] أخرجه النسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (8145)، وأحمدُ (22945) مِن حديثِ بُرَيدةَ الأسْلَميِّ رضيَ الله عنه. جوَّد إسنادَه ابنُ كثير في ((البداية والنهاية)) (5/676)، وصحَّح إسنادَه البوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/211)، والألبانيُّ على شرطِ الشَّيخَينِ أو مسلمٍ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (4/336)، وشعيبٌ الأرناؤوطُ على شرطِ الشَّيخَينِ في تخريج ((مسند أحمد)) (38/ 32). وأنَّها وِلايةُ التَّمليكِ، لا وَلايةُ النُّصرةِ، وهذا مِن حَماقاتِ الرَّافِضةِ الَّتي لا تُشْكِلُ على عالِمٍ ولا جاهِلٍ؛ فلِمَ ابتاعَ إذَنْ -ليتَ شِعْري- الجواريَ والمماليكَ بالأثمانِ الغاليةِ إنْ كان -على زعْمِهم- مالِكَهم ومالِكَ ساداتِهم؟! بل لِمَ أصدَقَ حرائرَه إنْ كُنَّ بالمِلْكِ جواريَه؟! أمْ لِمَ فَعلَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبْلَه، الَّذي وَرِثَ الوَلايةَ عنه، واستحَقَّها به؟! إنَّ هذا لأقبَحُ مَقالٍ، وأجدَرُه بطُرُقِ المُحالِ. نعوذُ باللهِ مِن الضَّلالِ [70] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/365). .
18- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ فيه سؤالٌ: إن كان المرادُ بـ (صَالِحُ) الفَردَ، فأيُّ فَردٍ هو؟ مع أنَّه لا يُناسِبُ جَمْعَ الملائِكةِ بَعْدَه؟ أو الجَمْعَ، فهلا كُتِبَ في المُصحَفِ بالواوِ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: هو فَردٌ أُريدَ به الجَمعُ، كقَولِه تعالى: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا [الحاقة: 17] ، وقوله: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] .
الوَجهُ الثَّاني: هو جَمعٌ، لكِنَّه كُتِبَ في المُصحَفِ بغَيرِ (واوٍ) على اللَّفظِ [71] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 572). ، أي: حُذِفَتْ منه الواوُ خطًّا؛ لحذْفِها لَفظًا.
19- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ في هذا أكبَرُ فَضيلةٍ وشَرَفٍ لسيِّدِ المُرسَلينَ؛ حيثُ جَعَل الباري نَفْسَه الكريمةَ وخواصَّ خَلْقِه أعوانًا لهذا الرَّسولِ الكَريمِ [72] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 872). .
20- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ جوازُ إطلاقِ المَولَى على بني آدمَ، وأنْ تقولَ: «هذا فُلانٌ مَولايَ» وما أشْبَهَ ذلك، لكنَّ إطلاقَها على المخلوقِ ليس كإطلاقِها على اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى له الوَلايةُ المُطلَقةُ، وأمَّا الإنسانُ فوَلايتُه مُقَيَّدةٌ [73] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (3/157). .
21- مَن نَصَرَ رسولَ اللهِ، وذَبَّ عنه أعداءَه، ونافَحَ عنه؛ كان جبريلُ معه ومؤَيِّدًا له كما قال الله تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [74] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (2/509). .
22- في قَولِه تعالى: وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أنَّ أفضلَ الأولياءِ مِن هذه الأُمَّةِ هم صالِحو المؤمِنينَ الَّذين صَحِبوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [75] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (1/247). .
23- قال الله تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ... لَمَّا سمِعْنَ -رضيَ اللهُ عنهنَّ- هذا التَّخويفَ والتَّأديبَ، بادَرْنَ إلى رضا رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان هذا الوصفُ منطبقًا عليهنَّ، فصِرْنَ أفضلَ نساءِ المؤمنينَ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ الله لا يختارُ لرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا أكملَ الأحوالِ، وأعلى الأمورِ، فلَمَّا اختار اللهُ تعالى لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَقاءَ نِسائِه المذكوراتِ معه، دَلَّ على أنَّهنَّ خَيرُ النِّساءِ وأكمَلُهنَّ [76] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 872). .
24- قَولُ اللهِ تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فيه سؤالٌ: كيف يكونُ المُبدَلاتُ خَيرًا مِنهنَّ، ولم يكُنْ على وَجهِ الأرضِ نِساءٌ خَيرٌ مِن أمَّهاتِ المؤمِنينَ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: إذا طلَّقَهنَّ الرَّسولُ لعِصيانِهنَّ له، وإيذائِهنَّ إيَّاه، لم يَبقَينَ على تلك الصِّفةِ، وكان غيرُهنَّ مِن الموصوفاتِ بهذه الأوصافِ مع الطَّاعةِ لرَسولِ اللهِ خيرًا مِنهنَّ [77] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/571). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/567). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ اللهَ تعالى كان عالِمًا بأنَّه لا يُطَلِّقُهنَّ، ولكِنْ أخبَرَ عن قُدرتِه على أنَّه إن طلَّقَهنَّ أبدَلَه خيرًا مِنهنَّ؛ تخويفًا لهنَّ، كقَولِه تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [محمد: 38] ، وهو إخبارٌ عن القُدرةِ وتخويفٌ لهم، لا أنَّ في الوُجودِ مَن هو خيرٌ مِن أصحابِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [78] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/193)، ((تفسير ابن عادل)) (19/202). .
الوَجهُ الثَّالثُ: هذا على سَبيلِ الفَرْضِ، وعامٌّ في الدُّنيا والآخِرةِ، فلا يَقتضي وُجودَ مَن هو خيرٌ منهنَّ مُطلَقًا، وإنْ قيل بوُجودِه في خديجةَ رَضِيَ اللهُ عنها؛ لِمَا جَرَّب مِن تحامُلِها على نَفْسِها في حَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبُلوغِها في حُبِّه والأدَبِ معه ظاهِرًا وباطِنًا النِّهايةَ القُصوى، ومَريمَ عليها السَّلامُ الَّتي أحصَنَت فَرْجَها حتَّى كانت مِن القانِتينَ، وذلك في الآخِرةِ، والكَلامُ خارِجٌ مَخرَجَ الشَّرطِ بالطَّلاقِ، وقد عَلِمَ سُبحانَه أنَّه لا يَقَعُ، لكِنَّه سُبحانَه عَلِمَ أنَّه لو وَقَع أبدَلَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن هو بالصِّفاتِ المذكورةِ المقتَضِيةِ للإخلاصِ [79] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/193). قال السعدي: (وهذا مِن بابِ التَّعليقِ الَّذي لم يُوجَدْ، ولا يَلزمُ وُجودُه). ((تفسير السعدي)) (ص: 873). .
25- في قَولِه تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ دليلٌ على المُرجئةِ -فيما يَزعُمونَ أنَّ الإيمانَ لا يَزيدُ ولا يَنقُصُ-؛ إذ لا يَشُكُّ أحَدٌ أنَّ نِساءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُنَّ لا محالةَ مُسلِماتٍ مُؤمِناتٍ، ولم يَكُنَّ كوافِرَ، فهل تكونُ المفضَّلاتُ عليهنَّ بالإسلامِ والإيمانِ -إنْ طُلِّقْنَ- خَيرًا مِنهنَّ إلَّا بزيادةٍ في الإيمانِ والإسلامِ [80] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/367). ؟!
26- قَولُ اللهِ تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا سَوقُ هذه الأوصافِ هذا السِّياقَ في عِتابِ مَن هو متَّصِفٌ بها: مُعَرِّفٌ أنَّ المرادَ منها التَّمامُ، لا سِيَّما وهي لا يُوجَدُ وَصفٌ منها على سَبيلِ الرُّسوخِ إلَّا كان مُستلزِمًا لسائِرِها؛ فلذلك لم يُحتَجْ في تَعدادِها إلى العَطفِ بالواوِ، والتَّجريدُ عنه أقعَدُ في الدَّلالةِ على إرادةِ اجتِماعِها كُلِّها [81] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/195). .
27- قَولُ اللهِ تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا تَذكيرٌ لهنَّ بأنَّهنَّ ما اكْتَسَبْنَ التَّفضيلَ على النِّساءِ إلَّا مِن فضْلِ زَوجِهِنَّ عِندَ اللهِ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/360). .
28- قَولُ اللهِ تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا فيه بيانُ أنَّ الخَيريَّةَ الَّتي يَختارُها اللهُ لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النِّساءِ: هي تلك الصِّفاتُ مِن الإيمانِ والصَّلاحِ [83] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/221). .
29- قَولُ اللهِ تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا فيه سُؤالٌ: كيف أثبَتَ الخَيريَّةَ لهُنَّ بالصِّفاتِ المذكورةِ بقَولِه مُسْلِمَاتٍ إلى آخِرِه، مع اتِّصافِ أزواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها أيضًا؟
الجوابُ: المرادُ خَيْرًا مِنْكُنَّ في حِفظِ قَلْبِه، ومُتابَعةِ رِضاه، مع اتِّصافِهنَّ بهذه الصِّفاتِ المُشتَرَكةِ بيْنَكنَّ وبيْنَهنَّ [84] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 572، 573). ويُنظر الفائدةُ (25). . أو لزيادتهنَّ عليهنَّ في بعضِها كما تقدَّم.
30- في قَولِه تعالى: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا إدخالُ الثَّيِّبِ مع البِكْرِ في مَوضعِ المدحِ مِمَّا يدُلُّ على أنَّها ممدوحةٌ أيضًا، وإنْ كانتِ البِكرُ أفضَلَ منها [85] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/367). .
31- قَولُ اللهِ تعالى: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا فيه سُؤالٌ: ذِكرُ الثَّيِّباتِ في مَقامِ المدحِ، وهنَّ مِن جُملةِ ما يقِلُّ رَغبةُ الرِّجالِ فيهنَّ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: يُمكِنُ أن يكونَ البَعضُ مِنَ الثَّيِّبِ خَيرًا بالنِّسبةِ إلى البَعضِ مِنَ الأبكارِ؛ لاختِصاصِهنَّ بالمالِ والجَمالِ أو النَّسَبِ، أو المجموعِ مَثَلًا، وإذا كان كذلك فلا يَقدَحُ ذِكرُ الثَّيِّبِ في المدحِ؛ لجوازِ أن يكونَ المرادُ مِثلَ ما ذكَرْناه مِن الثَّيِّبِ [86] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/571، 572)، ((تفسير الشربيني)) (4/ 330). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الثَّيِّبَ تُمدَحُ مِن جِهةِ أنَّها أكثَرُ تَجرِبةً وعَقلًا، وأسرَعُ حَبَلًا غالِبًا، وأرْعى لواجباتِ الزَّوجِ، وأميَلُ مع أهوائِه، وأقوَمُ على بَيتِه، والبِكرُ تُمدَحُ مِن جِهةِ أنَّها أطهَرُ وأطيَبُ، وأكثَرُ مُداعَبةً ومُلاعَبةً غالِبًا، وأشدُّ حَياءً، وأكثرُ غَرارةً ودَلًّا؛ فوَجْهُ التَّفصيلِ في الزَّوجاتِ المقدَّراتِ أنَّ لِكِلْتا الصِّفتينِ مَحاسِنَها عِندَ الرِّجالِ [87] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 573)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/362). .
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّه جمَع بيْنَهما في مَوضِعِ الامتِنانِ على الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لئلَّا تُصرَفَ كلُّ الرَّغبةِ إلى الأبكارِ، بل يَتزَوَّجونَ الثَّيِّباتِ كما يَتزَوَّجونَ الأبكارَ [88] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/ 88). .
32- قَولُ اللهِ تعالى: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ تَزَوُّجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس على حسَبِ الشَّهوةِ والرَّغبةِ، بل على حسَبِ ابتِغاءِ مَرضاتِ اللهِ تعالى [89] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/571). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ افتِتاحُ السُّورةِ بخِطابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنِّداءِ تَنبيهٌ على أنَّ ما سيُذْكَرُ بَعْدَه ممَّا يَهتَمُّ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والأُمَّةُ، ولأنَّ سبَبَ النُّزولِ كان مِن عَلائقِه [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/346). .
- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ نِداءُ إقبالٍ وتَشريفٍ [91] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/207). .
- قولُه: لِمَ تُحَرِّمُ سُؤالُ تَلطُّفٍ؛ ولذلكَ قُدِّمَ قَبْلَه يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [92] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/207). . وهذا الاستِفهامُ مُستعمَلٌ في معْنى النَّفيِ، أي: لا يُوجدُ ما يَدْعو إلى أنْ تُحرِّمَ على نفْسِكَ ما أحلَّ اللهُ لكَ؛ ذلك أنَّه لَمَّا الْتزَمَ عدَمَ العَودِ إلى ما صدَرَ مِنه الْتزامًا بيَمينٍ أو بدونِ يمينٍ، أرادَ الامتناعَ مِنه في المستقبَلِ، قاصدًا بذلكَ تَطمينَ أزواجِه اللَّائي تَمالَأْنَ عليه لفَرْطِ غَيرَتِهنَّ [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/346). .
- وجاءَ قولُه: لِمَ تُحَرِّمُ بصِيغةِ المُضارعِ؛ لأنَّه أوقَعَ تَحريمًا مُتجدِّدًا [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/346). .
- وفي الإتيانِ بالموصولِ في قولِه: مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ لِمَا في الصِّلةِ مِنَ الإيماءِ إلى تَعليلِ الحُكْمِ هو أنَّ ما أحلَّه اللهُ لعبْدِه يَنْبَغي له أنْ يتمتَّعَ به ما لم يَعرِضْ له ما يُوجِبُ قطْعَه مِن ضُرٍّ أو مرَضٍ؛ لأنَّ تَناولَه شُكرٌ للهِ، واعتِرافٌ بنِعمتِه، والحاجةِ إليه [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/346، 347). .
- وجُملةُ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ إمَّا تَفسيرٌ لـ تُحَرِّمُ، أو حالٌ مِن فاعلِه، أو استِئنافٌ ببَيانِ ما دَعاه إليه، مُؤْذِنٌ بعدَمِ صَلاحيتِكَ لذلكَ [96] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/266)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/346). .
- قولُه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذييلٌ، وفيه استِئناسٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن وَحشةِ هذا المَلامِ، أي: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لكَ [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/347). .
2- قولُه تعالَى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ استِئنافٌ بَيانيٌّ، بيَّنَ اللهُ به لنَبيِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما شرَعَه مِن كفَّارةِ اليمينِ، وأفْتاهُ بأنْ يأخُذَ برُخصتِه في كفَّارةِ اليمينِ المشروعةِ للأمَّةِ كلِّها [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/347). .
- وافتتاحُ الخبرِ بحرْفِ التَّحقيقِ (قدْ)؛ لتَنزيلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنزِلةَ مَن لا يعلَمُ أنَّ اللهَ فرَضَ تَحِلَّةَ الأيْمانِ بآيةِ الكفَّارةِ، بِناءً على أنَّه لم يأخُذْ بالرُّخصةِ تَعظيمًا للقسَمِ، فأعلَمَه اللهُ أنَّ الأخْذَ بالكفَّارةِ لا تَقصيرَ عليه فيه؛ فإنَّ في الكَفَّارةِ ما يَكفي للوَفاءِ بتَعظيمِ اليمينِ باللهِ تعالَى [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/347). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ تَذييلٌ لجُملةِ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ، والمولى: الوليُّ، وهو النَّاصرُ ومُتولِّي تَدبيرِ ما أُضيفَ إليه، وهو هُنا كِنايةٌ عن الرَّؤوفِ والمُيسِّرِ [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/348). .
3- قولُه تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ هذا تَذكيرٌ ومَوعظةٌ بما جَرَى في خِلال تَيْنِكَ الحادثتَيْنِ -أنَّه الْتزَم ألَّا يعودَ لشُربِ ما شَرِبه، أو كان وعَدَ أنْ يُحرِّمَ ماريةَ على نفْسِه-، ثُنِيَ إليه عِنانُ الكلامِ بعْدَ أنْ قُضِيَ ما يُهِمُّ مِنَ التَّشريعِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما حرَّمَ على نفْسِه مِن جرَّائِهما [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/350). . وذُكِرَ ذلكَ على سَبيلِ التَّأنيبِ لِمَن أسَرَّ له فأفشاهُ [102] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/209). .
- وقد أُعِيدَ ما دلَّتْ عليه الآيةُ السَّابقةُ ضِمْنًا بما تَضمَّنَتْه هذِه الآيةُ بأُسلوبٍ آخَرَ؛ لِيُبْنَى عليه ما فيه مِن عِبَرٍ ومَواعِظَ، وأدَبٍ ومكارِمَ، وتَنبيهٍ وتحذيرٍ [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/350). .
- قولُه: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا المقصودُ ببعضِ أزواجِه هي حَفصةُ بنتُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنهما، وعُدِلَ عن ذِكْرِ اسمِها؛ تَرفُّعًا عن أنْ يكونَ القصدُ مَعرفةَ الأعيانِ، وإنَّما المرادُ العِلمُ بمَغزى القِصَّةِ، وما فيها ممَّا يُجتنَبُ مِثْلُه أو يُقْتدَى به، وكذلكَ طَيُّ تَعيينِ المُنبَّأةِ بالحديثِ، وهي عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها [104] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/352). . وقيل: أبهَمَ الزَّوجةَ ولم يُعَيِّنْها سُبحانَه؛ تشريفًا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولها رَضِيَ اللهُ عنهنَّ [105] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/185). .
- وكان القياسُ أنْ يُقالَ: (نبَّأَتْ به بعضَهُنَّ) بدَلَ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ؛ لأنَّ حَفصةَ نبَّأَتْ بالحديثِ الَّذي أسرَّها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ أزواجِه، يعني: عائشةَ، وأنْ يُقالَ: (عرَّفَها بَعضَه)؛ لأنَّه عرَّفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ الحديثِ لحَفصةَ، وعُدِلَ عن ذلك؛ لأنَّ سِياقَ الكلامِ ليس في شأنِ المُذاعِ إليه -أيْ: عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها- وفي شأنِ المُعرِّفِ -أي: حفصةَ رَضِيَ اللهُ عنها- ليَذْكُرَهما، بلْ في مُعاتَبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وابتغائِه مَرْضاةَ أزواجِه، وفي شأنِ جِنايةِ حَفصةَ، ثُمَّ في حُكْمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإعراضِه عن بَعضِ جِنايتِها، فلمَّا دلَّ قولُه: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ على الجنايةِ، وقولُه: عَرَّفَ بَعْضَهُ على الإعراضِ عن البعضِ؛ أتَى بهما، وترَكَ ذِكْرَهما، ويَعْضُدُه إتيانُ ضَميرِ المُنبَّأِ به في قولِه: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ، مع الاستِغناءِ عنه بقَرينةِ الأحوالِ؛ لأنَّه هو المقصودُ في الذِّكْرِ [106] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/566)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/499). .
- وضَميرُ عَلَيْهِ عائدٌ إلى الإنباءِ المأخوذِ مِن نَبَّأَتْ بِهِ، أو على الحديثِ، بتَقديرِ مُضافٍ يدُلُّ عليه قولُه: نَبَّأَتْ بِهِ، تَقديرُه: أظْهَرَه اللهُ على إفشائِه [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/353). .
- ومَفعولُ عَرَّفَ الأوَّلُ مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليه، أي: عرَّفَها بَعضَه، أي: بعضَ ما أطْلَعَه اللهُ عليه، وأعرَضَ عن تَعريفِها ببَعضِه [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/353)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/132). .
- قولُه: عَرَّفَ قُرِئ عَرَفَ -بتَخفيفِ الرَّاءِ [109] قرأ الكِسائيُّ: عَرَفَ بتخفيفِ الرَّاءِ، وقرأ الباقونَ بتشديدِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/388). ، أي: عَلِمَ بعضَه-؛ فذلك كِنايةٌ عن المُجازاةِ، أي: جازَى عن بعضِه الَّتي أفشَتْه باللَّومِ والعَتْبِ، وقدْ يُكنَّى عن التَّوعُّدِ بفِعلِ العِلمِ [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/355)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/132). .
- قولُه: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا الاستِفهامُ هنا حَقيقيٌّ. ويجوزُ جعْلُه للتَّعجُّبِ مِن عِلمِه بذلكَ، وفي هذا كِنايةٌ عن تَيقُّظِ حَفصةَ بأنَّ إفشاءَها سِرَّ زَوجِها زلَّةٌ خُلقيَّةٌ عظيمةٌ حجَبَها عن مُراعاتِها شِدَّةُ الصَّفاءِ لعائشةِ، وفرْطُ إعجابِها بتَحريمِ مارِيةَ مِن أجْلِها -على أحدِ القولَينِ-، فلَمْ تَتمالَكْ عن أنْ تُبشِّرَ به خليلتَها ونصيرتَها، ولو تَذكَّرَتْ لتَبيَّنَ لها أنْ مُقتضَى كتْمِ سِرِّ زَوجِها أقوى مِن مُقتضى إعلامِها خليلتَها؛ فإنَّ أواصِرَ الزَّوجيَّةِ أقْوى مِن أواصِرِ الخُلَّةِ، وواجبَ الإخلاصِ لرَسولِ اللهِ أعْلى مِن فَضيلةِ الإخلاصِ للخلائلِ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/354). .
- وإيثارُ وصْفَيِ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ في قولِه: قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ دونَ الاسمِ العَلَمِ (الله)؛ لِمَا فيهِما مِنَ التَّذكيرِ بما يجِبُ أنْ يَعْلَمَه النَّاسُ مِن إحاطةِ اللهِ تعالَى عِلْمًا وخُبْرًا بكلِّ شَيءٍ. وفي إتْباعِ وصْفِ العليمِ بوَصْفِ الخَبيرِ إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ عَلِمَ دَخيلةَ المُخاطَبةِ وما قصَدَتْه مِن إفشاءِ السِّرِّ للأُخرَى [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/354). ، ولِما في اسمِ الله (الخبيرِ) مِن المُبالَغةِ ما ليس في (العليم) [113] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/570). .
- فإنْ قِيل: لِمَ تُرِكَ الضَّميرُ في قولِه: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؟
فالجوابُ: لكونِه جوابًا عن قولِها: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا، وقد اعتُمِدَ في السُّؤالِ عن المُنْبِئِ، وأُوقِعَ المنبَّأُ به فضْلةً في الكلامِ، ولأنَّ في تَرْكِه إفادةَ الشُّمولِ والتَّفخيمِ؛ لذلك أُردِفَ بالعليمِ الخَبيرِ، أي: العليمُ بكُلِّيَّاتِ الأحوالِ، والخبيرُ بجُزئيَّاتِها [114] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/500). .
4- قولُه تعالَى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
- قولُه: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا الْتِفاتٌ مِن ذِكْرِ القصَّتَيْنِ إلى مَوعظةِ مَن تعلَّقَتْ بهِما؛ فهو استِئنافُ خِطابٍ وجَّهَه اللهُ إلى حَفصةَ وعائشةَ رَضيَ اللهُ عنهما؛ لأنَّ إنباءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعِلْمِه بما أفشَتْه، القصدُ منه المُبالَغةُ في المُعاتَبةِ، مع المَوعظةِ والتَّحذيرِ والإرشادِ إلى رَأْبِ ما انْثَلَمَ مِن واجبِها نحوَ زَوجِها، وإذْ قدْ كانَ ذلكَ إثمًا -لأنَّه إضاعةٌ لحُقوقِ الزَّوجِ، وخاصَّةً بإفشاءِ سرِّهِ- ذكَّرَها بواجبِ التَّوبةِ مِنه [115] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/566)، ((تفسير البيضاوي)) (5/224)، ((تفسير أبي حيان)) (10/210)، ((تفسير أبي السعود)) (8/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/356). .
- وجُملةُ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ قائمةٌ مِن مَقامِ جوابِ الشَّرطِ معنًى؛ لأنَّها تُفيدُ معْنى: يَتولَّى جَزاءَكُما على المُظاهَرةِ عليه؛ لأنَّ اللهَ مَولاهُ، وفي هذا الحَذفِ مَجالٌ تَذهَبُ فيه نفْسُ السامعِ كلَّ مَذهبٍ مِنَ التَّهويلِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/358). .
- وضَميرُ الفصلِ (هُوَ) في جُملةِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ يُفيدُ القَصرَ على تَقديرِ حُصولِ الشَّرطِ، أي: إنْ تظاهَرْتُما مُتناصِرَتَيْنِ عليه فإنَّ اللهَ هو ناصرُه لا أنتُما، أي: وبطَلَ نصْرُكما الَّذي هو واجبُكما؛ إذ أخلَلْتُما به على هذا التَّقديرِ، وفي هذا تَعريفٌ بأنَّ اللهَ ناصرٌ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لئلَّا يقَعَ أحَدٌ مِن بعْدُ في مُحاولةِ التَّقصيرِ مِن نَصرِه [117] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/566)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/358). .
- وبُدِئَ بجِبريلَ عليه السَّلامُ، وأُفرِدَ بالذِّكْرِ؛ تَعظيمًا له، وإظهارًا لمَكانتِه عِندَ اللهِ، ويكونُ قدْ ذُكِرَ مرَّتَينِ: مرَّةً بالنَّصِّ، ومرَّةً في العمومِ في قولِه: وَالْمَلَائِكَةُ [118] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/566)، ((تفسير البيضاوي)) (5/225)، ((تفسير أبي حيان)) (10/211). .
- واكتَنَفَ صالِحَ المُؤمِنينَ جِبريلُ والملائكةُ؛ تَشريفًا لهُم، واعتِناءً بهِم؛ إذْ جعلَهم بيْنَ الَّذينَ يُسبِّحونَ اللَّيلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرونَ [119] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/211). .
- وقولُه: وَصَالِحُ مُفرَدٌ أُرِيدَ به معْنى الفَريقِ الصَّالحِ، أو الجِنسِ الصَّالحِ مِنَ المُؤمِنينَ؛ ولذلكَ عُمِّمَ بالإضافةِ [120] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/566)، ((تفسير البيضاوي)) (5/225)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/358). . وقيل: أرادَ بصالحِ المُؤمِنينَ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِي اللهُ عنهما، وهو اللَّائقُ بتَوسُّطِه بيْنَ جِبريلَ والملائكةِ عليهِمُ السَّلامُ؛ فإنَّه جمْعٌ بيْن الظَّهيرِ المعنويِّ والظَّهيرِ الصُّوريِّ، كيفَ لا وإنَّ جبريلَ ظَهيرٌ له، يُؤيِّدُه بالتَّأييداتِ الإلهيَّةِ، وهُما وَزيراه وظَهيراه في تَدبيرِ أُمورِ الرِّسالةِ، وتمشيةِ أحكامِها الظَّاهرةِ، ولأنَّ بَيانَ مُظاهَرتِهِما له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أشدُّ تأثيرًا في قُلوبِ بنتَيْهِما، وتَوهينًا لأمرِهِما؛ فكان حقيقًا بالتَّقديمِ، بخِلافِ ما إذا أُرِيدَ به جِنسُ الصَّالِحينَ كما هو المشهورُ [121] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/267). .
- قولُه: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ عطفُ جملةٍ على الَّتي قبْلَها، والمقصودُ منه تَعظيمُ هذا النَّصرِ بوَفرةِ النَّاصرينَ؛ تَنويهًا بمَحبَّةِ أهلِ السَّماءِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحُسْنِ ذِكْرِه بيْنَهُم؛ فإنَّ ذلكَ ممَّا يَزِيدُ نصْرَ اللهِ إيَّاهُ شأنًا [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/358). .
وفائدةُ ذِكْرِ الملائكةِ بعْدَ ذِكْرِ تأْييدِ اللهِ وجِبريلَ وصالحِ المُؤمِنينَ: أنَّ المذكورينَ قَبْلَهم ظاهرةٌ آثارُ تأْييدِهم بوحْيِ اللهِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بواسطةِ جِبريلَ، ونصْرِه إيَّاه بواسِطةِ المُؤمِنينَ؛ فنبَّهَ اللهُ المرأتَيْنِ على تأْييدٍ آخَرَ غيرِ ظاهرةٍ آثارُه، وهو تأْييدُ الملائكةِ بالنَّصرِ في يومِ بدْرٍ، وغيرِ النَّصرِ مِنَ الاستِغفارِ في السَّمواتِ، فلا يَتوهَّمْ أحَدٌ أنَّ هذا يَقتضي تَفضيلَ نُصرةِ الملائكةِ على نُصرةِ جِبريلَ، بَلْهَ نُصرةَ اللهِ تعالى [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/358، 359). .
- قولُه: بَعْدَ ذَلِكَ: أي: بعدَ نُصرةِ الله عزَّ وجلَّ وجبريلَ وصالحِ المؤمنينَ، ومظاهرةُ الملائكةِ مِن جملةِ نصرةِ الله، قيل: فكأنَّه فضَّل نصرتَه تعالى بهم وبمظاهرتِهم على غيرِها مِن وجوهِ نصرتِه تعالى؛ لفضلِهم على جميعِ خلقِه، وقيل: الأنسَبُ أنْ يُجعَلَ ذَلِكَ إشارةً إلى مُظاهَرةِ صالحِ المُؤمِنينَ خاصَّةً، ويكونَ بيانُ بَعْديَّةِ مُظاهَرةِ الملائكةِ تَدارُكًا لِمَا يُوهِمُه التَّرتيبُ الذِّكْريُّ مِن أفضليَّةِ المُقدَّمِ، فكأنَّه قيلَ بعْدَ ذِكْرِ مُظاهَرةِ صالحِ المُؤمِنينَ: وسائرُ الملائكةِ بَعْدَ ذلكَ ظَهيرٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ إيذانًا بعُلُوِّ رُتبةِ مُظاهَرتِهم، وبُعْدِ مَنزلتِها، وجبْرًا لفصْلِها عن مُظاهَرةِ جبريلَ عليه السَّلامُ [124] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/ 567)، ((تفسير أبي السعود)) (8/267). .
- وأُفْرِدَ الظَّهيرُ؛ لأنَّ المُرادَ فَوجٌ ظهيرٌ، وكثيرًا ما يأتي فَعِيلٌ نَحْوُ هذا للمُفرَدِ والمُثنَّى والمجموعِ بلَفظِ المفرَدِ، كأنَّهم في المُظاهَرةِ يَدٌ واحدةٌ على مَن يُعاديهِ، فما قَدْرُ تظاهُرِ امرأتَيْنِ على مَن هؤلاءِ ظُهراؤُه [125] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/566، 567)، ((تفسير البيضاوي)) (5/225)، ((تفسير أبي حيان)) (10/211)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 572)، ((تفسير أبي السعود)) (8/267). ؟!
5- قولُه تعالَى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا
- قولُه: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ كلامٌ مُستأنَفٌ عُدِلَ به إلى تَذكيرِ جَميعِ أزواجِه عليه السَّلامُ بالحذَرِ مِن أنْ يَضيقَ صَدْرُه عن تحمُّلِ أمثالِ هذا الصَّنيعِ، فيُفارِقَهنَّ؛ لتُقلِعَ المُتلبِّسةُ، وتَحذَرَ غيرُها مِن مِثلِ فِعلِها، فالجُملةُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا عُقِّبَتْ بها جُملةُ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4] ، الَّتي أفادَتِ التَّحذيرَ مِن عِقابٍ في الآخِرةِ إنْ لم يَتُوبَا ممَّا جَرَى مِنهما في شأْنِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أفادَ هذا الإيماءُ إلى التَّحذيرِ مِن عُقوبةٍ دُنيويَّةٍ لهُنَّ يأمُرُ اللهُ فيها نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي عُقوبةُ الطَّلاقِ، على ما يَحصُلُ مِنَ المؤاخَذةِ في الآخِرةِ إنْ لم يَتُوبا؛ ولذلكَ فُصِلتْ عن الَّتي قَبْلَها -أي: لم تُعطَفْ عليها- لاختِلافِ الغرَضَيْنِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/360). .
- قولُه: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ... عَسَى هُنا مُستعمَلةٌ في التَّحقيقِ، وإيثارُها هنا؛ لأنَّ هذا التَّبديلَ مُجرَّدُ فرْضٍ، وليس بالواقِعِ؛ لأنَّهنَّ لا يُظَنُّ بهِنَّ عدَمُ الارْعِواءِ عمَّا حُذِّرْنَ مِنه [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/360). .
- وأيضًا قولُه: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ فيه إيجازٌ بحذْفِ ما يَترتَّبُ عليه إبدالُهنَّ مِن تَقديرِ: إنْ فارَقَكنَّ، فالتَّقديرُ: عسى أنْ يُطلِّقَكنَّ هو -وإنَّما يُطَلِّقُ بإذنِ ربِّه- أنْ يُبدِلَه ربُّه بأزواجٍ خيرٍ مِنكُنَّ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/360). .
- قولُه: خَيْرًا مِنْكُنَّ إجراءُ الأوصافِ المُفصَّلةِ بعْدَ الوصفِ المُجمَلِ -وهو خَيْرًا مِنْكُنَّ-؛ للتَّنبيهِ على أنَّ أصولَ التَّفضيلِ مَوجودةٌ فيهِنَّ، فيَكمُلُ للَّائي يَتزوَّجُهنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضْلٌ على بَقيَّةِ النِّساءِ بأنَّهنَّ صِرْنَ أزواجًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/360). .
- وفي هذا الوصفِ قَانِتَاتٍ إشعارٌ بأنَّهنَّ مُديماتٌ لطاعةِ اللهِ ورسولِه؛ ففيه تعريضٌ لِمَا وقَعَ مِن تقصيرِ إحداهُنَّ في ذلكَ، فعاتَبَها اللهُ وأيقَظَها للتَّوبةِ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/361). .
- قولُه: تَائِبَاتٍ التَّائباتُ: المُقلِعاتُ عن الذَّنْبِ إذا وقَعْنَ فيه، وفيه تَعريضٌ بإعادةِ التَّحريضِ على التَّوبةِ مِن ذنْبِهما الَّتي أُمِرتَا بها بقولِه: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/361). [التحريم: 4] .
- وانتَصَبَتْ هذه الصِّفاتُ على أنَّها نُعوتٌ لـ أَزْوَاجًا، ولم يُعطَفْ بعضُها على بعضٍ بالواوِ؛ مِن أجْلِ التَّنصيصِ على ثُبوتِ جَميعِ تلكَ الصِّفاتِ لكلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ، ولو عُطِفَت بالواوِ لاحتَمَلَ أنْ تكونَ الواوُ للتَّقسيمِ، أي: تَقسيمِ الأزواجِ إلى مَن يَثبُتُ لهُنَّ بعضُ تلك الصِّفاتِ دونَ بعضٍ، ألَا تَرى أنَّه لَمَّا أُرِيدَتْ إفادةُ ثُبوتِ إحْدى صِفتَينِ دونَ أُخرى مِن النَّعتَينِ الواقعَينِ بعْدَ ذلك، كيف عُطِفَ بالواوِ قولُه: وَأَبْكَارًا؛ لأنَّ الثَّيِّباتِ لا يُوصَفْنَ بأبكارٍ، والأبكارَ لا يُوصَفْنَ بالثَّيِّباتِ [132] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/567، 568)، ((تفسير البيضاوي)) (5/225)، ((تفسير أبي حيان)) (10/212)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 573)، ((تفسير أبي السعود)) (8/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/361، 362). ، فالثُّيُوبةُ والبَكارةُ لا يَجتمعانِ، فلذلكَ عطَفَ أحَدَهما على الآخَرِ، ولو لم يأْتِ بالواوِ لاختلَّ المعنى، وذكَرَ الجِنسَيْنِ؛ لأنَّ في أزواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن تزوَّجَها بِكرًا، ومَن تزوَّجَها ثيِّبًا، فدخولُ الواوِ هاهنا مُتعيِّنٌ. وقيل: وُسِّط العاطفُ بين الصِّفتينِ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا لأنَّهما في حُكمِ صِفةٍ واحدةٍ؛ إذِ المعنى: مُشتمِلاتٌ على الثَّيِّباتِ والأبكارِ، فالمقصودُ أنَّه يُزوِّجُه بالنَّوعَينِ: الثَّيِّباتِ والأبكارِ [133] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/225)، ((تفسير أبي حيان)) (10/212)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/54). .
- وتَقديمُ وصْفِ ثَيِّبَاتٍ؛ لأنَّ أكثَرَ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا تزوَّجَهُنَّ كُنَّ ثيِّباتٍ، ولعلَّه إشارةٌ إلى أنَّ المَلامَ الأشدَّ مُوَجَّهٌ إلى حَفصةَ قبْلَ عائشةَ، وكانتْ حَفصةُ ممَّن تزوَّجَهُنَّ ثيِّباتٍ، وعائشةُ هي الَّتي تزوَّجَها بِكرًا، وهذا التَّعريضُ أُسلوبٌ مِن أساليبِ التَّأديبِ، كما قيل: الحُرُّ تكفيه الإشارةُ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/362). . وقيل: إنَّ هذا للتَّنويعِ فقط. وقيل: إنَّه قَدَّم الثَّيِّباتِ؛ ليُبَيِّنَ أنَّ الخَيريَّةَ فيهنَّ بحسَبِ العِشرةِ ومحاسِنِ الأخلاقِ [135] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/222). . وقيل: بَدَأَ بالثَّيِّباتِ؛ لِيُشيرَ إلى أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا يَتزوَّجُ المرأةَ لِبَكارَتِها، ولكنْ للمعاني الجليلةِ ولو كانت ثَيِّبًا [136] يُنظر: ((جلسات رمضانية)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 13). .