موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (111-112)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ

غريب الكلمات:

السَّائِحُونَ: أي: الصَّائمونَ، وأصلُ السَّائِحِ: الذَّاهِبُ في الأرضِ [1878] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 193)، ((تفسير ابن جرير)) (12/10)، ((المفردات)) للراغب (ص: 431)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 147). قال الأزهري: (وقِيل للصَّائِمِ: سائحٌ؛ لأنَّ الذي يسيحُ مُتَعبِّدًا يذهبُ في الأرضِ لا زادَ معه، فحينَ يَجِدُ الزَّادَ يَطْعَمُ، والصائمُ لا يَطْعَم أَيْضًا، فلشَبهِه به سُمِّي سائحًا). ((تهذيب اللغة)) (5/113). وقال الرَّازي بعد أنْ ذكَرَ الوجهَ الأوَّلَ في تسميةِ الصَّائمِ سائحًا- ونقَلَه عن الأزهري- قال: (الثاني: أنَّ أصلَ السياحةِ الاستمرارُ على الذَّهابِ في الأرضِ، كالماءِ الذي يسيحُ، والصَّائِمُ يستمِرُّ على فعلِ الطَّاعةِ، وتَركِ المُشتَهى، وهو الأكلُ والشُّرب والوِقاعُ، وعندي فيه وجهٌ آخَرُ: وهو أنَّ الإنسانَ إذا امتنَعَ مِن الأكلِ والشُّربِ والوِقاعِ، وسَدَّ على نفسِه أبوابَ الشَّهواتِ؛ انفتَحَت عليه أبوابُ الحكمةِ، وتجَلَّت له أنوارُ عالَم الجلالِ... فيصيرُ مِن السَّائحينَ في عالَمِ جلالِ اللهِ، المُنتَقلينَ مِن مقامٍ إلى مقامٍ، ومن درجةٍ إلى درجةٍ، فيحصلُ له سياحةٌ في عالَم الرُّوحانيَّاتِ). ((تفسير الرازي)) (16/154). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه اشتَرَى من المؤمنينَ أنفُسَهم وأموالَهم، وجعَلَ ثَمنَ ذلك أن تكونَ لهم الجنَّةُ، يُقاتِلونَ لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ تعالى، وسواءٌ يَقتُلونَ الكُفَّارَ أو يقتُلُهم الكُفَّارُ، فقد وجَبَت لهم الجنَّةُ، وعدًا عليه حقًّا ثابتًا في التَّوراة والإنجيلِ والقرآنِ، ولا أحَدَ أحسَنُ وفاءً بعَهدِه مِن اللهِ تعالى، ثم أمَرَ سُبحانَه المؤمنينَ المجاهدينَ أن يَفرَحوا بهذا البَيعِ الذي بايَعوا به اللهَ تعالى، وذلك هو الفَوزُ العظيمُ.
ثمَّ وصَف الله تعالى المؤمنينَ الذينَ اشتَرَى منهم أنفُسَهم وأموالَهم، فأخبَرَ أنَّهم هم التَّائبون، العابِدونَ، الذين يحمَدونَ اللهَ في جميعِ الأحوالِ، الصَّائمونَ، المصَلُّونَ، الآمِرونَ بالمعروفِ والنَّاهونَ عن المُنكَر، والعامِلونَ بأمرِ اللهِ ونَهيِه، الذين لا يُضَيِّعونَ شَيئًا من أحكامِ شَريعتِه، وبَعدَها أمَرَ اللهُ نَبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يبشِّرَ المؤمنينَ بكُلِّ خَيرٍ في الدُّنيا والآخرةِ.

تفسير الآيتين:

إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا شرَعَ اللهُ تعالى في شَرحِ فضائِحِ المُنافِقينَ وقبائحِهم؛ لسَبَبِ تخلُّفِهم عن غزوةِ تَبوكَ، فلمَّا تمَّم ذلك الشَّرحَ والبيانَ، وذكَرَ أقسامَهم، وفرَّعَ على كلِّ قِسمٍ ما كان لائقًا به- عاد إلى بيانِ فضيلةِ الجِهادِ وحَقيقَتِه [1879] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/150). .
وأيضًا أنَّه لَمَّا تقَدَّمَ الإنكارُ على المُتثاقلينَ عن النَّفْرِ في سبيلِ اللهِ، في قَولِه تعالى: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثمَّ الحَزمُ بالجهادِ بالنَّفسِ والمالِ، في قَولِه تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا- ذكَرَ فضيلةَ الجهادِ وحَقيقَتَه [1880] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/651). .
وأيضًا فهذه الآيةُ والتي بعدَها في بيانِ حالِ المُؤمِنينَ حَقَّ الإيمانِ، البالغينَ فيه ما هو غايةٌ له مِن الكَمالِ؛ وُضِعَتا بعد بيانِ حالِ المُنافِقينَ، وأصناف المُؤمنين المقصِّرين، ومنهما تُعرَفُ جميعُ درجاتِ المُسلِمينَ، ولا سيَّما المتخلِّفيَن عن الجهادِ في سبيلِ اللهِ [1881] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/39). .
إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ.
أي: إنَّ اللهَ اشتَرَى من المؤمنينَ أنفُسَهم لِيُقاتِلوا بها الكُفَّار، واشتَرَى أموالَهم لِيَبذُلوها في جهادِهم، وجعَلَ ثَمنَ تَقديمِهم أنفُسَهم وأموالَهم في سبيلِ اللهِ، أن تكونَ لهم الجنَّةُ [1882] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/5)، ((تفسير ابن عطية)) (3/87)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/302)، ((تفسير ابن كثير)) (4/218)، ((تفسير الشوكاني)) (2/463)، ((تفسير السعدي)) (ص: 352)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/37). قال ابن عاشور: (المرادُ بالمؤمنينَ في الأظهَرِ أن يكونَ مُؤمِني هذه الأمَّة. وهو المناسِبُ لِقَولِه بعدُ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ). ((تفسير ابن عاشور)) (11/38). .
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة: 207] .
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.
أي: يُقاتِلُ المؤمنونَ لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ، ونُصرةِ دينِه، فإمَّا أن يَقتُلوا الكُفَّارَ، أو يَقتُلَهم الكُفَّارُ، فسواءٌ قَتَلوا أو قُتِلَوا فقد وجَبَت لهم الجنَّةُ [1883] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/5)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (5/315)، ((تفسير ابن كثير)) (4/218)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/39). قال محمد رشيد رضا: (قَولُه: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ بيانٌ لصفةِ تسليمِ المَبيعِ). ((تفسير المنار)) (11/39). .
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ.
أي: وعدًا على اللهِ ثابتًا مَكتوبًا في التَّوراةِ التي أنزَلَها على موسى، والإنجيلِ الذي أنزَلَه على عيسى، والقُرآنِ الذي أنزَلَه على مُحمَّدٍ- عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنَّه سيُوفِّي المُجاهدينَ في سبيلِه ما وعَدَهم به، فيُدخِلُهم جنَّتَه [1884] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/5)، ((البسيط)) للواحدي (11/66)، ((تفسير الرازي)) (16/151،152)، ((تفسير القرطبي)) (8/268)، ((تفسير ابن كثير)) (4/218)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/40)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/39). .
وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ.
أي: لا أحدَ أحسنُ وفاءً بما عاهَدَ عليه مِن اللهِ؛ فإنَّه صادِقٌ لا يُخلِفُ الميعادَ [1885] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/5)، ((تفسير ابن عطية)) (3/87)، ((تفسير ابن كثير)) (4/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] .
فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِه.
أي: فأظهِرُوا السُّرورَ- أيُّها المُؤمِنونَ المُجاهِدونَ- وافرَحوا بهذا البَيعِ الذي بايَعتُم به اللهَ [1886] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/5)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/303)، ((تفسير القرطبي)) (8/269)، ((تفسير ابن كثير)) (4/218)، ((تفسير الشوكاني)) (2/464)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أي: وهذا البَيعُ هو النَّجاةُ العظيمةُ، والظَّفَرُ الكبيرُ الذي لا أعظَمَ منه؛ فالجِهادُ سببٌ لِمَغفرةِ الذُّنوبِ والسَّيِّئاتِ، ورَفعِ الدَّرَجاتِ، ودُخولِ الجنَّاتِ [1887] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/88)، ((تفسير القرطبي)) (8/269)، ((تفسير الخازن)) (2/409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف: 10 - 12] .
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابقةِ أنَّه اشتَرَى من المُؤمِنينَ أنفُسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنَّةَ؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ أولئك المُؤمِنينَ هم المَوصوفونَ بهذه الصِّفاتِ الجَميلةِ والخِلالِ الجَليلةِ [1888] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/219)، ((تفسير الرازي)) (16/152). ، فقال تعالى:
التَّائِبُونَ.
أي: الذين اشتَرَى اللهُ منهم أنفُسَهم وأموالَهم، هم الرَّاجِعونَ مِن مَعصيةِ اللهِ إلى طاعَتِه [1889] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/7)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (2/136)، ((تفسير ابن عطية)) (3/88)، ((تفسير القرطبي)) (8/269)، ((تفسير ابن كثير)) (4/219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
الْعَابِدُونَ.
أي: الذين ذَلُّوا لِلَّه وأطاعوه؛ محبةً له، واجتَهَدوا في عبادَتِه وَحْدَه [1890] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/9)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/472)، ((تفسير ابن عطية)) (3/88)، ((تفسير القرطبي)) (8/269)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/152، 153)، ((تفسير ابن كثير)) (4/219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
الْحَامِدُونَ .
أي: الذينَ يَحمَدونَ اللهَ في جميعِ أحوالِهم [1891] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/10)، ((تفسير ابن عطية)) (3/89)، ((تفسير الرازي)) (16/153)، ((تفسير القرطبي)) (8/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/41). .
السَّائِحُونَ.
أي: الصَّائِمونَ [1892] ممن اختار هذا المعنى: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، وابنُ عطيةَ، وابنُ كثيرٍ، والشوكاني ونسَبه لجمهورِ المفسِّرين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/10)، ((البسيط)) للواحدي (11/69 - 71)، ((تفسير ابن عطية)) (3/89)، ((تفسير ابن كثير)) (4/219، 220)، ((تفسير الشوكاني)) (2/465). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أبو هريرةَ، وابنُ عبَّاسٍ، وعائشةُ، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، ومجاهدٌ، والحسنُ، وعطاءٌ، والضحَّاكُ، وقتادةُ، والربيع بن أنس وغيرُهم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/11)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1889)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/303). وقيل: السَّائحونَ هم المُسافِرونَ في القُرُبات؛ كالسَّفَر للجهادِ، والحجِّ والعمرة، وطلَبِ العِلم، وصِلَةِ الأرحامِ. وممَّن اختار هذا القولَ: القاسمي، ومحمد رشيد رضا، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (5/511 - 513)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/42)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/41). قال عِكْرمةُ في تفسير السَّائِحُونَ: طلبةُ العلمِ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1889) قال ابنُ عاشور: (السَّائحون: مُشتَقٌّ من السياحةِ. وهي السَّيرُ في الأرض. والمرادُ به سيرٌ خاصٌّ محمودٌ شَرعًا. وهو السَّفرُ الذي فيه قُربةٌ لله وامتثالٌ لأمره، مِثلُ سَفَرِ الهجرة من دارِ الكُفرِ أو السَّفَر للحجِّ، أو السَّفَر للجهاد. وحملُه هنا على السَّفرِ للجِهادِ أنسَبُ بالمقامِ، وأشمَلُ للمؤمنينَ المأمورينَ بالجهادِ، بخلاف الهجرةِ والحَجِّ). ((تفسير ابن عاشور)) (11/41). وقيل: السَّائحون بقُلوبِهم في ذكرِ الله ومحبَّتِه، والإنابةِ إليه والشَّوقِ إلى لقائِه، وإنَّه يترتَّبُ عليها كلُّ ما ذُكِرَ من الأعمالِ الصَّالحة. وممَّن اختار هذا القولَ: ابن القيم. يُنظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 85). قال ابنُ القَيِّم: (فُسِّرَت السِّياحةُ بالصِّيامِ وفُسِّرَت بالسَّفَرِ في طلَبِ العِلمِ، وفُسِّرَت بالجهادِ، وفُسِّرَت بدوامِ الطَّاعة، والتَّحقيقُ فيها أنَّها سياحةُ القَلبِ في ذكْرِ اللهِ ومَحبَّتِه، والإنابةِ إليه والشَّوقِ إلى لقائِه، ويترتَّبُ عليها كلُّ ما ذُكِرَ من الأفعالِ). ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) (ص: 85). وقال القرطبي: (قيل: هم الجائلونَ بأفكارِهم في توحيدِ رَبِّهم ومَلَكوتِه وما خلَقَ مِن العِبَرِ والعلاماتِ الدَّالَّة على توحيدِه وتعظيمِه، حكاه النقاش... قلت: لفظ «س ي ح» يدلُّ على صحَّة هذه الأقوال؛ فإنَّ السياحةَ أصلُها الذَّهابُ على وجهِ الأرضِ كما يسيحُ الماءُ، فالصَّائمُ مستمِرٌّ على الطاعةِ في تَرْكِ ما يترُكُه من الطَّعامِ وغَيرِه، فهو بمنزلة السَّائِح، والمتفَكِّرون تجولُ قلوبُهم فيما ذَكَروا). ((تفسير القرطبي)) (8/270). .
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ.
أي: المُصَلُّونَ الرَّاكِعونَ والسَّاجِدونَ في صَلَواتِهم المكتوبةِ والمَندوبةِ [1893] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/15)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/472)، ((تفسير ابن عطية)) (3/89)، ((تفسير القرطبي)) (8/270)، ((تفسير ابن كثير)) (4/219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ.
أي: الذينَ يأمُرونَ النَّاسَ بكُلِّ ما أمَرَ اللهُ ورسولُه به، من الإيمانِ باللهِ وطاعتِه وطاعةِ رَسولِه، ويَنهَونَهم عن كلِّ ما نهى اللهُ ورسولُه عنه، مثل الشِّركِ باللهِ ومَعصِيَتِه ومَعصيةِ رَسولِه [1894] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/15، 16)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/472)، ((تفسير ابن عطية)) (3/89)، ((تفسير القرطبي)) (8/270)، ((تفسير ابن كثير)) (4/219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ.
أي: والعامِلونَ بأمرِ اللهِ ونَهيِه، الذينَ لا يُضَيِّعونَ شَيئًا من أحكامِ شَريعتِه [1895] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/17)، ((معاني القرآن)) للنحاس (3/259)، ((تفسير ابن عطية)) (3/90)، ((تفسير القرطبي)) (8/270)، ((تفسير ابن كثير)) (4/219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/42). .
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: وبَشِّرْ- يا مُحمَّدُ- جميعَ المُؤمِنينَ، بكُلِّ خَيرٍ في الدُّنيا والآخرةِ [1896] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/18)، ((تفسير ابن عطية)) (3/90)، ((تفسير ابن كثير)) (4/219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). قال ابنُ جريرٍ: (وأمَّا قَولُه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فإنَّه يعني: وبَشِّرِ المُصَدِّقينَ بما وَعَدَهم اللهُ إذا هم وَفوا اللهَ بعَهدِه، أنَّه مُوفٍ لهم بما وَعَدَهم من إدخالِهم الجنَّةَ). ((تفسير ابن جرير)) (12/18). وقال ابنُ عطيةَ: (وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ قيل: هو لفظٌ عامٌّ أُمِرَ به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أن يُبَشِّرَ أمَّتَه جميعًا بالخيرِ مِن اللهِ. وقيل: بل هذه الألفاظُ خاصَّةٌ لِمَن لم يغْزُ، أي: لَمَّا تقَدَّمَ في الآيةِ وعدُ المجاهدينَ وفَضْلُهم، أُمِرَ أن يُبَشِّرَ سائرَ النَّاسِ ممَّن لم يغْزُ، بأنَّ الإيمانَ مُخلِّصٌ مِن النَّارِ، والحمدُ لله ربِّ العالَمينَ). ((تفسير ابن عطية)) (3/90). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ العجَبُ ممَّن يدَّعونَ الإيمانَ وهم ينكُثونَ بيعةَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فهم لا يبذُلونَ أنفُسَهم ولا شيئًا مِن أموالِهم في سبيلِ اللهِ، وإنَّما يَطلُبونَ الجنَّةَ بِغَيرِ ثَمَنِها، كما يَطلُبونَ سَعادةَ الدُّنيا وسيادَتَها مِن غيرِ طَريقِها، ولا طريقَ لها إلَّا الجِهادُ بالمالِ والنَّفسِ، والقرآنُ حُجَّةٌ عليهم، وهو حُجَّةُ اللهِ البالغةُ، التي لا يَدحَضُها شيءٌ، وهي تَدحَضُ كُلَّ شَيءٍ [1898] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/41، 42). .
2- باع المَغبونونَ مَنازِلَهم من الجنةِ بأبخَسِ الحَظِّ، وأنقَصِ الثَّمَنِ، وباع المُوفَّقونَ نُفوسَهم وأموالَهم مِنَ اللهِ، وجَعَلوها ثمَنًا للجَنَّةِ، فرَبِحَت تِجارتُهم، ونالوا الفوزَ العَظيمَ؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [1899] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/10). .
3- قَولُ الله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ هذه أوصافُ الكَمَلةِ من المُؤمِنينَ، ذَكَرَها اللهُ تعالى؛ لِيَستبِقَ إلى التحلِّي بها عِبادُه، ولِيَكونوا على أوفَى دَرَجاتِ الكَمالِ [1900] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/510). .
4- قول الله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فيه أنَّ مِن شُعَبِ الإيمانِ: التوبةَ والعبادةَ، وحَمدَ اللهِ على كلِّ حالٍ، والسياحةَ والصَّلاةَ، والأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَر، وحِفظَ حُدودِ الله، باتِّباعِ أوامِرِه واجتنابِ نواهِيه [1901] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:144-145). .
5- قال تعالى: التَّائِبُونَ والتَّوبة إنَّما تحصُلُ عند حصولِ أمورٍ أربعةٍ:
أولها: احتراقُ القلبِ في الحالِ على صُدورِ تلك المعصيةِ عنه.
وثانيها: ندَمُه على ما مضى.
وثالثها: عَزْمُه على التَّركِ في المُستقَبلِ.
ورابعُها: أن يكونَ الحامِلُ له على هذه الأمورِ الثَّلاثة طلبَ رِضوانِ اللهِ تعالى وعبوديَّتِه؛ فإن كان غَرَضُه منها دَفْعَ مَذَمَّةِ النَّاسِ، وتحصيلَ مَدْحِهم أو سائِرَ الأغراضِ؛ فهو ليس من التَّائبينَ [1902] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/153). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ عبَّر بالشراءِ مع أنَّ ما في الكونِ ملكٌ له وحدَه؛ وإنَّما يشتري المشتري ما لا يملكُ؛ لِحُسنِ التلطُّفِ في الدُّعاءِ إلى الطَّاعةِ [1905] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/150). .
2- الجهادُ مَقصودُه أن تكونَ كَلِمةُ اللهِ هي العُليا، وأن يكونَ الدِّينُ كُلُّه لله؛ فمقصودُه إقامةُ دينِ الله لا استيفاءُ الرَّجُلِ حَظَّه؛ ولهذا كان ما يُصابُ به المجاهِدُ في نفسِه ومالِه أجرُه فيه على اللهِ؛ فإنَّ الله اشتَرى من المؤمنينَ أنفُسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنَّةَ؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ حتى إنَّ الكُفَّارَ إذا أسلَموا أو عاهَدوا لم يَضمَنوا ما أتلَفوه للمُسلِمينَ مِن الدِّماءِ والأموالِ، بل لو أسلَموا وبأيديهم ما غَنِموه من أموالِ المُسلِمينَ، كان مِلكًا لهم عند جُمهورِ العُلَماءِ، كمالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ، وهو الذي مضَتْ به سنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وسُنَّةُ خُلَفائه الرَّاشِدينَ [1906] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (15/170). .
3- قَولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ في لفظةِ اشْتَرَى لطيفةٌ، وهي: رغبةُ المُشتَري فيما اشتَراه، واغتباطُه به، ولم يأتِ التَّركيبُ: (إن المؤمنينَ باعوا) [1907] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/509). .
4- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ إذا أردْتَ أن تعرِفَ مِقدارَ الصَّفَقةِ، فانظُر إلى المشتري من هو: وهو اللهُ جلَّ جَلالُه، وإلى العِوَض: وهو أكبَرُ الأعواضِ وأجَلُّها: جنَّاتُ النَّعيمِ، وإلى الثَّمَن المبذولِ فيها: وهو النَّفسُ، والمالُ الذي هو أحبُّ الأشياءِ للإنسان، وإلى مَن جرى على يَدَيه عقدُ هذا التَّبايع: وهو أشرَفُ الرُّسُل، وبأيِّ كتابٍ رُقِمَ: وهي كُتُبُ اللهِ الكِبارُ المنَزَّلةُ على أفضَلِ الخَلقِ [1908] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
5- في قولِه تعالى: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قرأ الجُمهورُ بتَقديمِ (يَقْتُلُونَ) المبنيِّ للفاعلِ، وحمزةُ والكِسائيُّ بتقديمِ المبني للمَفعولِ، فدلَّت القراءتانِ على أنَّ الواقِعَ هو أن يُقتَلَ بَعضُهم ويَسلَمَ بَعضٌ، وأنَّه لا فَرْقَ بين القاتِلِ والمقتولِ في الفَضلِ، والمثوبةُ عند اللهِ عَزَّ وجلَّ؛ إذ كلٌّ منهما في سبيلِه، لا حُبًّا في سَفْكِ الدِّماءِ، ولا رغبةً في اغتنامِ الأموالِ، ولا توسُّلًا إلى ظُلمِ العباد، كما يفعَلُ عُبَّادُ الدُّنيا من الملوكِ، ورُؤساءِ الأجنادِ [1909] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/39، 40). .
6- قولُه تعالى: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ يدلُّ أنَّ أهلَ كُلِّ مِلَّةٍ أُمِروا بالقِتالِ، وأُوعِدوا عليه الجنَّةَ- إذ هو سنةٌ إلهيةٌ للتمكينِ لدينِ الله، والذودِ عنه- وقد بَقيَ في التوراةِ والإنجيلِ الموجُودَينِ- على تحريفِهما- ما يُشيرُ إلى الجهادِ والحَثِّ عليه [1910] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/471)، ((تفسير القاسمي)) (5/510). .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ في خَتمِ الآيتَينِ بالبِشارةِ- تارةً من الخالقِ، وتارةً مِن أكمَلِ الخلائِقِ- أعظَمُ مَزيَّةٍ للمُؤمنينَ، وفي جَعْلِ الأُولَى مِن اللهِ أعظمُ تَرغيبٍ في الجهادِ، وأعلى حَثٍّ على خَوضِ غَمَراتِ الجِلادِ [1911] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/29). .
8- قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ في ابتداءِ الآيتَينِ بالوَصفِ المُشعِرِ بالرُّسوخِ في الإيمانِ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وخَتْمِهما بمِثْلِه وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ إشارةٌ إلى أنَّ هذه مائدةٌ لا يجلِسُ عليها طُفَيليٌّ، وأنَّ مَن عدا الرَّاسخينَ، في دَرَجةِ الإهمالِ؛ لا كلامَ معهم، ولا التفاتَ بوجهٍ إليهم [1912] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/29). .
9- دلَّ قولُه تعالى: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ أنَّ مَن سعَى في طاعةِ اللَّهِ، فقد باع نفسَه لله، وأعتقَها مِن عذابِه [1913] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/28). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ خُصَّت تلك الخِلالُ التِّسْعُ بالذِّكرِ؛ لأنَّها هي التي تُمثِّلُ في نفسِ القارئِ أكمَلَ ما يكونُ المؤمِنُ به مُحافِظًا على حدودِ اللهِ تعالى [1914] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/45). .
11- ذكَرَ اللهُ تعالى خِصالَ التَّائِبِ في آخِرِ سُورةِ براءة، فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ فلا بُدَّ للتَّائِبِ مِن العبادةِ والاشتغالِ بالعَمَلِ للآخرةِ، وإلَّا فالنَّفسُ همَّامةٌ مُتَحرِّكةٌ، إنْ لم تشغَلْها بالحَقِّ، وإلَّا شَغَلتْك بالباطِلِ، فلا بُدَّ للتَّائِبِ مِن أن يبَدِّلَ تلك الأوقاتِ التي مَرَّت له في المعاصي بأوقاتِ الطَّاعاتِ، وأنْ يتدارَكَ ما فرَطَ فيها، وأن يبَدِّلَ تلك الخُطُواتِ بخُطواتٍ إلى الخَيرِ، ويحفظَ لَحَظاتِه وخُطُواتِه، ولَفظاتِه وخَطَراتِه [1915] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (9/185). .
12- لَمَّا قال تعالى في الآيةِ المتقَدِّمةِ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ثمَّ ذكَرَ هذه الصِّفاتِ التِّسعةَ؛ ذكر عَقيبَها قَولَه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ تنبيهًا على أنَّ البِشارةَ المذكورةَ في قَولِه: فَاسْتَبْشِرُوا لم تتناوَلْ إلَّا المؤمنينَ الموصوفينَ بهذه الصِّفاتِ [1916] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/156). .
13- ذكَر الله تعالى في هذه الآيةِ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ... تسعةَ أوصافٍ للمؤمنينَ؛ الستةُ الأُولَى منها تتعلَّق بمعاملةِ الخالقِ، والوصفانِ السابعُ والثامنُ يتعلَّقانِ بمعاملةِ المخلوقِ، والوصفُ التاسعُ يعمُّ القَبِيلينِ [1917] يُنظر: ((حاشية الجمل على الجلالين)) (2/336). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
قولُه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ... استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للتَّنويهِ بأهلِ غزوةِ تَبوكَ، وهم جيشُ العُسْرةِ، وافتُتِحَت الجملةُ بحَرفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ بالخبَرِ [1918] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/37). .
وفيه تمثيلُ اللهِ إثابتَهم بالجنَّةِ على بَذْلِهم أنفُسَهم وأموالَهم في سَبيلِه بالشَّرْوى [1919] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/313)، ((تفسير أبي حيان)) (5/509). .
وفي قولِه: أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ قدَّم الأنفُسَ على الأموالِ؛ ابتِداءً بالأشرَفِ وبِما لا عِوَضَ له إذا فُقِد [1920] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/509). .
وأيضًا قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ قَدَّمَ هنا الأنفسَ على الأموالِ، وفي غيرِه مِن آياتِ الجِهادِ حيثُما وقَعَ في القرآنِ قَدَّمَ الأموالَ على الأنفسِ، كقولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال: 72] ، وقوله: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 41] ، وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات: 15] ، وقوله: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] ؛ وذلك لأنَّ تقديمَ الأنفسِ هنا في سُورةِ التوبةِ هو الأَوْلى؛ لأنَّها هي المُشتراةُ في الحقيقةِ، وهي مَوردُ العقدِ، وهي السِّلعةُ التي استَلَمها ربُّها، وطلَب شِراءَها لنَفْسِه سبحانَه، وجعَل ثمَنَ هذا العقدِ رِضاه وجَنَّتَه؛ فكانتْ هي المقصودَ بعقدِ الشِّراءِ، والأموالُ تبَعٌ لها؛ فإذا مَلَكها مُشتريها مَلَك مالَها؛ فإنَّ العبدَ وما يَملِكُه لسيِّدِه، والمالكُ الحقُّ إذا مَلَك النَّفْسَ ملَكَ أموالَها ومُتعلَّقاتِها؛ فحَسُنَ تقديمُ النَّفْسِ على المالِ في هذِه الآيةِ حُسنًا لا مَزيدَ عليه. وأمَّا تقديمُ الأموالِ على الأنفسِ في آياتِ الجِهادِ الأخرى؛ فقيل: إنَّه للإشارةِ إلى وجوبِ الجهادِ بالمالِ كما يجبُ بالنَّفسِ؛ فإذا دَهَم العدوُّ وجَبَ على القادرِ الخروجُ بنَفْسِه، فإنْ كان عاجزًا وجَبَ عليه الجهادُ بمالِه إنْ كان له مالٌ؛ فتقديمُ المالِ في الذِّكرِ مُشعرٌ بإنكارِ وهْمِ مَن يَتوهَّم أنَّ العاجزَ بنفْسِه إذا كان قادرًا على أن يغزوَ بمالِه لا يجِبُ عليه شيءٌ، بل قد يُقال: إنَّ وجوبَ الجهادِ بالمالِ أعظمُ وأقْوَى مِن وُجوبِه بالنَّفْسِ؛ وعلى هذا فتظهرُ الفائدةُ في تقديمِ المالِ في الذِّكر على الأنفسِ. وعلى تقديرِ عَدمِ وجوبِ الجهادِ بالمالِ؛ ففي تقديمِ المالِ على النَّفسِ في تِلكَ الآياتِ فائدةٌ أخرى، وهي: أنَّ المالَ محبوبُ النفْسِ ومَعشوقُها التي تَبذُلُ ذاتَها في تَحصيلِه، وتَرتكِبُ الأخطارَ، وتَتعرَّضُ للموتِ في طلبِه، وهذا يدلُّ على أنَّه هو محبوبُها ومعشوقُها؛ فندَب اللهُ تعالى مُحبِّيه المجاهدِينَ في سبيلِه إلى بذْلِ مَعشوقِهم ومحبوبِهم في مَرضاتِه؛ فإنَّ المقصودَ أنْ يكونَ اللهُ هو أحَبَّ شيءٍ إليهم، ولا يكونَ في الوجودِ شيءٌ أحبَّ إليهم منه، فإذا بذَلوا مَحبوبَهم في حُبِّه نقَلَهم إلى مَرتبةٍ أخرى أكملَ منها، وهي بذْلُ نُفوسِهم له، فهذا غايةُ الحُبِّ؛ فإنَّ الإنسانَ لا شيءَ أحبُّ إليه مِن نفْسِه، فإذا أحَبَّ شيئًا بذَل له محبوبَه مِن نفْسِه ومالِه، فإذا آل الأمرُ إلى بذْلِ نفْسِه ضَنَّ بنَفْسِه، وآثَرَها على محبوبِه؛ هذا هو الغالبُ وهو مُقتضَى الطَّبيعةِ، واللهُ تعالى لم يَرْضَ مِن مُحبِّيه إلَّا أنْ يَبذُلوا له نُفوسَهم بعدَ أنْ بذَلوا له مَحبوباتِهم، وأيضًا فبَذْلُ النفسِ آخِرُ المراتبِ؛ فإنَّ العبدَ يَبذُلُ مالَه أولًا؛ يَقِي به نفْسَه، فإذا لم يَبْقَ له مالُه بذَلَ نفْسَه؛ فكان تقديمُ المالِ على النَّفسِ في الجِهادِ مُطابِقًا للواقِع [1921] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/77 - 79). .
قولُه: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ مُبالَغةٌ في تقريرِ وُصولِ الثَّمَنِ إليهم، واختصاصِه بهم، كأنَّه قيل: بالجنَّةِ الثَّابتةِ لهم، المختصَّةِ بهم [1922] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/105). ، وقيل: اللامُ في لَهُمُ للمِلْك [1923]  ومنع بعضُهم كونَ اللامِ للملكِ. يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوِي)) (4/367). والاستحقاقِ، والمجرورُ مَصدرٌ، والتقديرُ: بتحقيقِ تَملُّكِهم الجنَّةَ، وإنَّما لم يَقُل (بالجنَّة)؛ لأنَّ الثَّمنَ لَمَّا كان آجِلًا، كان هذا البيعُ مِن جِنسِ السَّلَمِ [1924] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/38). .
قولُه: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ اشتِراءَ الأنفُسِ والأموالِ لِغَرابتِه في الظَّاهرِ، يُثيرُ سؤالَ مَن يَقولُ: كيفَ يَبذُلون أنفُسَهم وأموالَهم؟ فكان جوابُه: يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ... [1925] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/38). .
قولُه: وَعْدًا عَلَيْهِ تذييلٌ؛ فإنَّ الكلامَ قد تمَّ وكَمَل قبلَ ذلك، ثمَّ أتَت جُملةُ التَّذييلِ؛ لِتُحقِّقَ ما قبلَها وتُؤكِّدَه [1926] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/180). .
قولُه: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ الاستفهامُ فيه إنكاريٌّ بتَنزيلِ السَّامعِ مَنزِلةَ مَن يَجعَلُ هذا الوعدَ مُحتمِلًا للوفاءِ وعدَمِه، كغالِبِ الوُعودِ، فيُقالُ: ومَن أوفى بعَهدِه مِن اللهِ؟! إنكارًا عليه، وهو استفهامٌ على جِهةِ التَّقريرِ، أي: لا أحَدَ أوفَى بعَهدِه مِن اللهِ تعالى [1927] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/510)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/39). ، وهذه الجملةُ اعتراضٌ مُقرِّرٌ لِمَضمونِ ما قَبلَه مِن حقِّيَّةِ الوعدِ على نَهجِ المبالَغةِ في كونِه سبحانَه أوفَى بالعهدِ مِن كلِّ وافٍ [1928] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/105). .
وفي قولِه: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ زيادةُ تأكيدٍ، فإنَّه لَمَّا أكَّد الوعدَ بقولِه: عَلَيْهِ حَقًّا أبرَزَه هنا في صورةِ (العهدِ) الَّذي هو آكَدُ وأوثَقُ مِن الوعدِ؛ إذ الوعدُ في غيرِ حقِّ اللهِ تعالى جائزٌ إخلافُه، والعهدُ لا يَجوزُ إلَّا الوفاءُ به؛ إذْ هو آكَدُ مِن الوعدِ [1929] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/510). .
قولُه: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ في قولِه: فَاسْتَبْشِرُوا فيه التفاتٌ إلى الخِطابِ؛ تَشْريفًا لهم على تَشريفٍ، وزيادةً لسُرورِهم على سرورٍ [1930] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/510)، ((تفسير أبي السعود)) (4/106). .
وقولُه: بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ فيه إضافةُ البيعِ إلى ضَميرِهم؛ إظهارًا لاغتِباطِهم به، وفي وَصْفِه بالموصولِ وصِلَتِه: الَّذِي بَايَعْتُمُ بِهِ: تأكيدٌ لمَعنى بِبَيْعِكُمُ؛ فهو وصْفٌ على سَبيلِ التَّوكيدِ، وتأكيدٌ لفظيٌّ بلَفظٍ مُرادِفٍ [1931] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/510)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/40). .
2- قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
قولُه: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث ذكَر حَرْفَ العطفِ هنا دون ما قَبْلَه: التَّائِبُونَ العَابِدُونَ... الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِتَبايُنِ ما بينَ الوَصفَينِ، فالأمرُ مُبايِنٌ للنَّهيِ؛ إذِ الأمرُ طلَبُ فِعْلٍ، والنَّهيُ تركُ فعلٍ؛ لذا حَسُن العطفُ بالواوِ هنا [1932] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/511). .
وجاء ترتيبُ هذه الصِّفاتِ في غايةٍ مِن الحُسنِ؛ إذ بدَأ أوَّلًا بما يخُصُّ الإنسانَ، مُرتَّبةً على ما سعَى، فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، ثمَّ بما يتَعدَّى مِن هذه الأوصافِ مِن الإنسانِ إلى غَيرِه، وهو الأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المنكَرِ، فقال: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثمَّ بما شَمِل ما يخُصُّه في نفسِه وما يتَعدَّى إلى غيرِه، وهو الحِفظُ لحُدودِ اللهِ، فقال: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [1933] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/512). .
قولُه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فيه وضعُ الْمُؤْمِنِينَ موضِعَ ضميرِ الموصوفينَ بتِلك الفضائلِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ إيمانَهم دَعاهم إلى ذلك، وأنَّ المؤمِنَ الكاملَ مَن كان كذلك [1934] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/175)، ((تفسير أبي السعود)) (4/107). .
وحذَف المبشَّرَ به؛ للتَّعظيمِ، كأنَّه قيل: وبَشِّرْهم بما يَجِلُّ عن إحاطةِ الأفهامِ، وتعبيرِ الكلامِ [1935] يُنظر: ((المصدران السابقان)). .