موسوعة التفسير

سُورةُ الصَّفِّ
الآيات (10-13)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ

غريب الكلمات:

عَدْنٍ: أي: إِقامَةٍ وخُلدٍ، واستقرارٍ وثَباتٍ، وأصلُ (عدن): يدُلُّ على الإقامةِ [175] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 334)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/248)، ((المفردات)) للراغب (ص: 553)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227). .

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ
قَولُه تُؤْمِنُونَ: جملةٌ تَفسيريَّةٌ لـ تِجَارَةٍ فلا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. أو استِئنافٌ بيانيٌّ، كأنَّه قيل: ما هذه التِّجارةُ؟ فقيل: تُؤْمِنُونَ ...، والمُضارِعُ هنا خبَرٌ بمعنى الأمرِ، أي: آمِنوا وجاهِدوا، ويُؤَيِّدُه قِراءةُ عبدِ اللهِ «آمِنُوا ... وجاهِدُوا» بالأمرِ فيهما.
يَغْفِرْ: فِعلٌ مُضارِعٌ مَجزومٌ في جوابِ الأمرِ المدلولِ عليه بلَفظِ الخَبرِ تُؤْمِنُونَ. وقيل: جوابٌ لشَرطٍ أو استفهامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عليه الكلامُ، والتَّقديرُ: إنْ تُؤمِنوا وتجاهِدوا يَغْفِرْ لكم. أو هل تَقبَلونَ أن أَدُلَّكم؟ أو هل تتَّجِرونَ بالإيمانِ والجهادِ؟ يَغْفِرْ لكم. وقيل: هو جوابٌ للاستِفهامِ المذكورِ، أي: هل أدُلُّكم... يَغْفِرْ، وتُعُقِّبَ بأنَّ مُجَرَّدَ الدَّلالةِ لا يُوجِبُ المَغفِرةَ، وأُجيبَ بأنَّه لَمَّا كانت الدَّلالةُ مَظِنَّةً لذلك نُزِّلَت مَنزِلةَ المحَقَّقِ، أو لأنَّ مُتعَلَّقَ أَدُلُّكُمْ هو التِّجارةُ المُفَسَّرةُ بالإيمانِ والجِهادِ، فكأنَّه قيل: هل تتَّجِرونَ بالإيمانِ والجِهادِ يَغْفِرْ لكم ذُنوبَكم [176] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/154)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/321)، ((تفسير الألوسي)) (14/283)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/194، 195). ؟

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُرشدًا المؤمنينَ إلى ما فيه سعادتُهم ونجاتُهم مِن العذابِ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا هل أُرشِدُكم إلى تجارةٍ عَظيمةٍ تُخَلِّصُكم مِن عَذابٍ مُؤلِمٍ؟ تلك التِّجارةُ هي تحقيقُ الإيمانِ باللهِ تعالى وبرَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجهادُ أعدائِه ببَذْلِ الأموالِ والأنفُسِ لإعلاءِ كَلِمتِه ودِينِه، ذلك الأمرُ خيرٌ لكم إنْ كُنتُم تَعْلَمونَ.
ثمَّ يبيِّنُ سبحانَه جزاءَهم وحُسنَ عاقبتِهم، فيقولُ: فإنْ فعَلْتُم ذلك يَغْفِرِ اللهُ ذُنوبَكم، ويُدْخِلْكم جنَّاتٍ تَجْري مِن تَحْتِها الأنهارُ، وقُصورًا حَسَنةً في جناتِ إقامةٍ دائِمةٍ، ذلك الأجرُ هو الفَوزُ العَظيمُ، ولكم في الجِهادِ خَصلةٌ أُخرى محبوبةٌ إليكم؛ حُصولُ نَصرٍ من اللهِ، وفَتحٍ عاجِلٍ، وبَشِّرْ -يا محمَّدُ- المؤمِنينَ بهذا الثَّوابِ!

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أنتَج كلُّ ما مضَى نصْرَ رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على كلِّ حالٍ، ودمارَ مَن يخالفُ أمرَه؛ أنتَج قطعًا أنَّ الجهادَ معه متجرٌ رابحٌ؛ لأنَّ النَّصرَ مضمونٌ، والموتَ منهلٌ لا بدَّ مِن وُرودِه [177] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/33). .
وأيضًا فالآيةُ نتيجةُ ما مضَى باعتبارِ أنَّه لَمَّا وبَّخ الله -تعالى- على انحلالِ العزائمِ، وأخبَر بما يجبُ مِن القتالِ، وبكَّت على أذَى الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بالمُخالَفةِ، وأخبَر أنَّ مَن خالَفه لا يضُرُّ إلَّا نفْسَه؛ كان موضعَ الاستباقِ في طاعتِه، فرتَّب عليه الاشتياقَ إلى ذِكرِ ثمرتِه، فذَكَرها [178] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/34). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10).
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا هل أُرشِدُكم إلى تجارةٍ عَظيمةٍ نافِعةٍ، تُخَلِّصُكم مِن عذابٍ مُؤلِمٍ مُوجِعٍ [179] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/616)، ((تفسير القرطبي)) (18/87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 860)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/193، 194). ؟
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11).
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.
أي: تلك التِّجارةُ العَظيمةُ هي أنْ تُؤْمِنوا باللهِ تعالى وبرَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إيمانًا تامًّا مستلزمًا لأعمالِ الجوارحِ، الَّتي مِن أجَلِّها أنْ تُجاهِدوا أعداءَ الإسلامِ ببَذْلِ الأموالِ والأنفُسِ لإعلاءِ كَلِمةِ الله ونصرِ دِينِه [180] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/616، 617)، ((تفسير السمرقندي)) (3/444)، ((تفسير ابن كثير)) (8/112)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/35، 36)، ((تفسير السعدي)) (ص: 860)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/193، 194). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111] .
وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ العَمَلِ أفضَلُ؟ قال: إيمانٌ باللهِ، وجِهادٌ في سَبيلِه)) [181] رواه البخاري (2518) واللَّفظُ له، ومسلم (84). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ: أيُّ العَمَلِ أفضَلُ؟ فقال: إيمانٌ باللهِ ورَسولِه. قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ. قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: حَجٌّ مَبرورٌ )) [182] رواه البخاري (26) واللَّفظُ له، ومسلم (83). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: الصَّلاةُ على وَقتِها. قُلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: ثمَّ بِرُّ الوالِدَينِ. قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: ثمَّ الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ )) [183] رواه البخاري (527)، ومسلم (85) واللَّفظُ له. .
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: ذلك الأمرُ العَظيمُ مِن الإيمانِ باللهِ ورَسولِه، وتَصديقِه بالجِهادِ في سَبيلِ اللهِ بأموالِكم وأنفُسِكم: خيرٌ لكم في الدُّنيا والآخِرةِ إنْ كُنتُم تَعْلَمونَ [184] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/617)، ((تفسير القرطبي)) (18/87)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/36، 37)، ((تفسير ابن كثير)) (8/112)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/36)، ((تفسير السعدي)) (ص: 860). قال ابنُ عطية: (خَيْرٌ هنا يحتَمِلُ أن يكونَ للتَّفضيلِ، فالمعنى: مِن كُلِّ عَمَلٍ. ويحتَمِلُ أن يكونَ إخبارًا أنَّ هذا خيرٌ في ذاتِه ونَفْسِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/304). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/195). وقال السعدي: (فإنَّ فيه الخيرَ الدُّنيويَّ؛ مِن النَّصرِ على الأعداءِ، والعِزِّ المنافي للذُّلِّ، والرِّزقِ الواسِعِ، وسَعةِ الصَّدرِ وانشِراحِه. وفي الآخرةِ الفَوزُ بثوابِ اللهِ، والنَّجاةُ مِن عِقابِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 860). وقال الشوكاني: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: إنْ كنتُم ممَّن يعلمُ فإنَّكم تَعلمونَ أنَّه خيرٌ لكم، لا إذا كنتُم مِن أهلِ الجهلِ، فإنَّكم لا تعلمونَ ذلك). ((تفسير الشوكاني)) (5/265). وقال ابن جرير: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مضارَّ الأشياءِ ومنافعَها). ((تفسير ابن جرير)) (22/617). وقال ابن عثيمين: (كأنَّه يقولُ: فاعلَموا ذلك إنْ كنتم أهلًا للعلمِ). ((شرح رياض الصالحين)) (5/349). وقال ابن المُنَيِّر: (المقصودُ بهذا الشَّرطِ: التَّنبيهُ على المعنى الَّذي يَقتضي الامتِثالَ وإلهابَ الحَميَّةِ للطَّاعةِ، كما تقولُ لِمَن تأمُرُه بالانتِصافِ مِن عدُوِّه: إنْ كنتَ حُرًّا فانتَصِرْ؛ تُريدُ أن تُثيرَ منه حميَّةَ الانتِصارِ لا غيرُ). ((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف)) (4/527). .
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12).
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.
أي: إنْ آمَنتُم باللهِ ورَسولِه وجاهَدْتُم في سَبيلِ اللهِ بأموالِكم وأنفُسِكم، فإنَّ اللهَ يَمْحو عنكم ذُنوبَكم ويَسترُها ويَقيكم شرَّها؛ فلا يُعَذِّبُكم بها [185] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/618)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/166)، ((تفسير ابن كثير)) (8/112)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/37)، ((تفسير السعدي)) (ص: 860). .
وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: ويُدْخِلْكُم اللهُ جناتٍ تَجْري الأنهارُ مِن تَحْتِ أشجارِها وقصورِها [186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/618)،  ((تفسير السمرقندي)) (1/275)،((تفسير السمعاني)) (5/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 860). .
وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ.
أي: ويُدخِلْكُم اللهُ مَنازِلَ جمَعتْ كلَّ طيبٍ في بنائِها وسَعتِها وعُلوِّها وبهجةِ مَناظرِها ودوامِها إلى غيرِ ذلك، في جَنَّاتِ إقامةٍ دائِمةٍ؛ فلا خُروجَ منها، ولا انتِقالَ عنها [187] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/317)، ((تفسير ابن جرير)) (22/618)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 98)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/37، 38)، ((تفسير الألوسي)) (14/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 860)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/195). قال ابن عطية: (طِيبُ المساكِنِ: سَعَتُها وجمالُها. وقيل: طِيبُها: المَعرِفةُ بدوامِ أمْرِها. وهذا هو الصَّحيحُ، وأيُّ طِيبٍ مع الفَناءِ والموتِ؟!). ((تفسير ابن عطية)) (5/304). وقال العُلَيمي: (طيبتُها بسَعتِها، ودوامِ أمرِها). ((تفسير العليمي)) (7/45). وقال البقاعي: (طَيِّبَةً أي: في الاتِّساعِ، واختِلافِ أنواعِ المَلاذِّ، وعُلوِّ الأبْنيةِ والأَسِرَّةِ، مع سُهولةِ الوُصولِ إليها، وفي بهجةِ المَناظرِ، وتيسُّرِ مَجاري الرِّيحِ بانفِساحِ الأبنيةِ، مع طِيبِ الغُرَفِ، لم يُفسِدِ الماءُ الجاري تحتَها شيئًا مِن ريحِها ولا في اعتِدالِها في شيءٍ ممَّا يُرادُ منها). ((نظم الدرر)) (20/37، 38). وقال السعدي: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي: جمعَتْ كلَّ طَيِّبٍ؛ مِن علوٍ وارتفاعٍ، وحُسنِ بِناءٍ وزَخرفةٍ، ...، وفيها مِن الطِّيبِ والحُسنِ ما لا يأتي عليه وصفُ الواصِفينَ، ولا خطَرَ على قلبِ أحدٍ مِن العالَمينَ، لا يمكنُ أن يُدرِكوه حتَّى يَرَوْه، ويَتمتَّعوا بحُسنِه، وتَقَرَّ أعيُنُهم به). ((تفسير السعدي)) (ص: 860، 861). وجناتُ عَدْنٍ: قيل: هي جنَّاتٌ مَخصوصةٌ، وهي أشرَفُ الجِنانِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/317). وقيل: هي اسمٌ لجُملةِ الجنَّاتِ عُمومًا. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ القَيِّم. يُنظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 98). قال ابن القيِّم في أسماءِ الجنَّةِ: (ولها عِدَّةُ أسماءٍ باعتبارِ صِفاتِها، ومُسمَّاها واحدٌ باعتبارِ الذَّاتِ، فهي مُترادِفةٌ مِن هذا الوجهِ، وتختلِفُ باعتبارِ الصِّفاتِ، فهي مُتبايِنةٌ مِن هذا الوجهِ) ثمَّ ذكر منها (الاسم السَّادس: جنَّاتُ عَدْنٍ، فقيل: هو اسمُ جَنَّةٍ مِن جملةِ الجنَّاتِ، والصَّحيحُ أنَّه اسمٌ لجملةِ الجِنانِ، وكلُّها جنَّاتُ عَدْنٍ، قال تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم: 61] ، وقال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر: 33] ، وقال تعالى: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، والاشتِقاقُ يدُلُّ على أنَّ جميعَها جنَّاتُ عَدْنٍ؛ فإنَّه مِن الإقامةِ والدَّوامِ). ((حادي الأرواح)) (ص: 94، 98). .
كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72] .
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
أي: ذلك الأجرُ والثَّوابُ الجَزيلُ هو وَحْدَه الظَّفَرُ العَظيمُ بالخَيرِ، وحُصولُ النَّجاةِ العَظيمةِ مِن الشَّرِّ [188] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/618)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/38)، ((تفسير السعدي)) (ص: 861). .
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى ما يَمنَحُهم مِن الثَّوابِ في الآخِرةِ؛ ذكَرَ ما يَسُرُّهم في العاجِلةِ، وهي ما يفتَحُ عليهم مِنَ البِلادِ [189] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/168). ، فقال تعالى:
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ.
أي: ولكم في الجِهادِ خَصلةٌ أُخرى محبوبةٌ إليكم، تَظفَرونَ بها في الدُّنيا، وهي حُصولُ نَصرٍ مِن اللهِ لكم على أعدائِكم، وحُصولُ فَتحٍ عاجِلٍ تتَّسِعُ به بلادُ الإسلامِ، ويَحصُلُ به خيرٌ لكم [190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/619)، ((تفسير الزمخشري)) (4/527)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/65)، ((تفسير ابن كثير)) (8/112)، ((تفسير السعدي)) (ص: 861). قيل: المرادُ بقولِه: وَفَتْحٌ قَرِيبٌ: فَتحُ مَكَّةَ. وممَّن اختار هذا القَولَ: ابنُ أبي زَمَنِين، والسمعانيُّ، والزمخشري، والرازي، والرَّسْعَني، والعُلَيمي، والقاسمي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/388)، ((تفسير السمعاني)) (5/428)، ((تفسير الزمخشري)) (4/527)، ((تفسير الرازي)) (29/532)، ((تفسير الرسعني)) (8/116)، ((تفسير العليمي)) (7/ 45)، ((تفسير القاسمي)) (9/224)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/196). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/39). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، والكلبيُّ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/293)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/279). وقيل: هو فتحُ فارِسَ والرُّومِ. وممَّن قال بهذا مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، والحسَنُ، وعَطاءٌ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/293)، ((تفسير الرازي)) (29/532). ((تفسير القرطبي)) (18/89). .
كما قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40، 41].
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7].
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: وبَشِّرْ -يا محمَّدُ- المؤمِنينَ بالجَزاءِ والثَّوابِ في العاجِلِ والآجِلِ [191] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/619)، ((الوسيط)) للواحدي (4/293)، ((تفسير القرطبي)) (18/89). .
كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [الأحزاب: 47] .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ اعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى إذا صَدَّرَ الكلامَ بقَولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا فإنَّه ينبغي لك أنْ تَستَمِعَ إلى هذا النِّداءِ الموجَّهِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ إليك؛ لأنَّه إذا ناداك فإمَّا خيرٌ تُؤمَرُ به، وإمَّا شَرٌّ تُنهى عنه، وإمَّا خيرٌ تنتَفِعُ به [192] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (2/396). . عن ابنِ مسعود رضيَ الله عنه، قال: (إذا سَمِعتَ اللهَ يقولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا فأَرْعِها سَمْعَك؛ فإنَّه خيرٌ يأمرُ به، أو شرٌّ ينهى عنه) [193] أخرجه ابنُ المبارك في ((الزهد والرقائق)) (1/12)، والقاسم بن سلام في ((فضائل القرآن)) (ص: 74، 75)، وابنُ أبي حاتم في ((تفسيره)) (1/196)، وأبو نُعَيم في ((حلية الأولياء)) (1/130)، وصحَّح إسنادَه أحمدُ شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/619). .
2- في قَولِه تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ أنَّه ليس لنا طريقٌ إلى هذه التِّجارةِ إلَّا الطَّريق الذي شَرَعه اللهُ عزَّ وجلَّ، فهو الدَّالُّ على ذلك [194] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/348). .
3- في قَولِه تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ دليلٌ على أنَّ الطَّاعةَ تُثمِرُ للمَرءِ مَحابَّ الدُّنيا والآخِرةِ، وأنَّ طَلَبَ الأرباحِ في الدُّنيا والآخِرةِ بالطَّاعةِ أسرَعُ إدراكًا لطالِبِه منه بغَيرِها [195] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/294). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ جُعِل ذلك بمنزلةِ التِّجارةِ؛ لأنَّهم يَربَحونَ فيها رِضا اللهِ، ونَيلَ جَنَّتِه، والنَّجاةَ مِن النَّارِ [196] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/80). .
2- في قَولِه تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ دليلٌ على أنَّ التِّجارةَ اسمٌ واقِعٌ على طَلَبِ الأرباحِ، ونَماءِ الأموالِ، ومَحَابِّ النُّفوسِ معًا [197] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/294). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فيه سؤالٌ: الأمرُ بالإيمانِ كيف هو بَعْدَ قَولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا؟
الجوابُ: أنَّ الخِطابَ إذا كان للمؤمنينَ الخُلَّصِ فالمرادُ: تَثبُتون وتَدومون على الإيمانِ، أو تَجمَعون بيْن الإيمانِ والجهادِ، أي: بيْن تكميلِ النَّفْسِ وتكميلِ الغيرِ، وإن كان للمؤمنينَ ظاهرًا فالمرادُ: تُخلِصون الإيمانَ [198] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/283). .
ويُمكِنُ أن يكونَ الخِطابُ لأهلِ الكِتابِ، وهم اليَهودُ والنَّصارى؛ فإنَّهم آمَنوا بالكُتُبِ المتقَدِّمةِ، فكأنَّه قال: يا أيُّها الَّذين آمَنوا بالكُتُبِ المتقَدِّمةِ آمِنوا باللهِ وبمُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ [199] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/531). قال ابنُ جريرٍ في تفسيرِ الآيةِ (136) من سورةِ النِّساءِ: (فإنْ قال قائلٌ: وما وجْهُ دُعاءِ هؤلاء إلى الإيمانِ بالله ورسولِه وكُتبِه وقد سمَّاهم مؤمنينَ؟ قيل: إنَّه جلَّ ثناؤُه لم يُسَمِّهم مؤمنينَ، وإنَّما وصَفَهم بأنَّهم آمَنوا، وذلك وصْفٌ لهم بخُصوصٍ مِن التَّصديق؛ وذلك أنَّهم كانوا صِنفَينِ: أهلُ تَوراةٍ مُصَدِّقينَ بها وبمَن جاء بها، وهم مُكذِّبون بالإنجيلِ والقرآنِ وعيسى ومحمَّدٍ صلَواتُ الله عليهما؛ وصنفٌ أهلُ إنجيل، وهم مُصَدِّقون به وبالتَّوراةِ وسائرِ الكتبِ، مًكذبِّون بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم والفُرقانِ، فقال جلَّ ثناؤُه لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا، يعني: بما هم به مؤمِنون مِن الكُتبِ والرُّسلِ، آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ محمَّدٍ). ((تفسير ابن جرير)) (7/595) و(22/617). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فيه أنَّ الإيمانَ باللهِ والجِهادَ في سَبيلِه مُكَفِّرانِ للذُّنوبِ ولو كانت كبائِرَ [200] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 860). .
5- قُطْبُ هذه السُّورةِ الكريمةِ يَدورُ على أمرِ الجِهادِ، ألَا ترَى كيفَ أُعيدَ قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ إلى قَولِه تعالى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وخُتِمَت بقَولِه تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ، وفيه دليلٌ ظاهِرٌ على عُلُوِّ شَأنِ الجِهادِ ورِفعةِ مَنزِلتِه عندَ اللهِ تعالى؛ لأنَّه ذُرْوةُ سَنامِ الأمرِ [201] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/382). .
6- في قَولِه تعالى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ تقديمُ المالِ على النَّفْسِ في الجِهادِ، وكذا في غالبِ المواضِعِ، وهذا دليلٌ على وُجوبِ الجِهادِ بالمالِ كما يجِبُ بالنَّفْسِ، فإذا دَهَمَ العَدُوُّ وَجَبَ على القادرِ الخروجُ بنَفْسِه؛ فإنْ كان عاجزًا وَجَبَ عليه أنْ يَكتريَ بمالِه، فتقديمُ المالِ في الذِّكْرِ مُشْعِرٌ بإنكارِ وَهْمِ مَن يَتَوَهَّمُ أنَّ العاجِزَ بنَفْسِه إذا كان قادِرًا على أنْ يَغْزُوَ بمالِه لا يَجِبُ عليه شيءٌ.
وفائدةٌ ثانيةٌ على تقديرِ عدمِ الوُجوبِ، وهي: أنَّ المالَ محبوبُ النَّفْسِ ومَعشوقُها الَّتي تَبذُلُ ذاتَها في تَحصيلِه، وتَرتَكِبُ الأخطارَ وتتعَرَّضُ للمَوتِ في طَلَبِه؛ فنَدَبَ اللهُ تعالى مُحِبِّيه المجاهِدينَ في سَبيلِه إلى بَذْلِ مَعشوقِهم ومَحبوبِهم في مَرْضاتِه، فإنَّ المقصودَ أنْ يكونَ اللهُ هو أَحَبَّ شَيءٍ إليهم، ولا يكونَ في الوُجودِ شيءٌ أحبَّ إليهم منه، فإذا بَذَلوا محبوبَهم في حُبِّه نَقَلَهم إلى مَرتبةٍ أُخرى أَكْمَلَ منها، وهي بَذْلُ نُفوسِهم له، فهذا غايةُ الحُبِّ [202] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/77). .
7- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ الخَيريَّةَ قد تكونُ في الواجِباتِ، بل قد تكونُ في أصلِ الإيمانِ؛ فالإشارةُ في قولِه: ذَلِكُمْ إلى الإيمانِ باللهِ ورَسولِه، والجهادِ في سبيلِه، وهذا أصلُ الإيمانِ، وقال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة: 9] ، ومعلومٌ أنَّ الذَّهابَ إلى صَلاةِ الجُمُعةِ بعدَ الأذانِ الثَّاني واجِبٌ، وقال اللهُ فيه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، فالخيريَّةُ لا تَختَصُّ بما كان نافِلةً، بل تكونُ بما كان نافِلةً، وبما كان فَريضةً، وتكونُ حتَّى في أصلِ الإيمانِ [203] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (4/157). .
8- عَمَلُ الإنسانِ لا يُنجِيه مِن النَّارِ، ولا يُدْخِلُه الجنَّةَ، وإنمَّا يَحصُلُ ذلك كلُّه بمَغفِرةِ اللهِ ورَحمتِه، وقد دلَّ القرآنُ العزيزُ على هذا المعنَى في مواضعَ كثيرةٍ، منها قَولُه تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وقولُه: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة: 21] ، فقَرَن بيْنَ دُخولِ الجنَّةِ والنَّجاةِ مِن النَّارِ وبينَ المَغفِرةِ والرَّحمةِ؛ فدلَّ على أنَّه لا يُنالُ شَيءٌ مِن ذلك بدُونِ مَغفِرةِ اللهِ ورَحمتِه، والعملُ وإنْ كان سببًا لدُخولِ الجنَّةِ، فإنَّما هو مِن فضلِ الله ورحمتِه [204] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/392، 393). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ هذه الآيةُ مِن مُعجِزاتِ القُرآنِ الرَّاجِعةِ إلى الإخبارِ بالغَيبِ [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/196). . وذلك على أنَّ المرادَ نصْرُ فتْحِ مكَّةَ؛ فإنَّه كان نصرًا على أشدِّ أعدائِهم.
10- الإيمانُ إذا ذُكِرَ وَحْدَه دَخَلَ فيه الإسلامُ؛ لِقَولِه تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بعدَ أنْ ذَكَرَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، وأمَّا إذا ذُكِرا جَميعًا فيَفتَرِقانِ، ويكونُ الإسلامُ بالأعمالِ الظَّاهرةِ مِن أقوالِ اللِّسانِ وعَمَلِ الجَوارحِ، والإيمانُ بالأعمالِ الباطِنةِ مِنِ اعتِقاداتِ القُلوبِ وأعمالِها [206] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 60). .
11- تَظاهَرَت آياتُ الكِتابِ وتواتَرت نُصوصُ السُّنَّةِ على التَّرغيبِ في الجِهادِ والحَضِّ عليه، ومَدْحِ أهْلِه، والإخبارِ عَمَّا لهم عندَ رَبِّهم مِن أنواعِ الكَراماتِ والعَطايا الجَزيلاتِ، ويَكْفي في ذلك قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، فتشَوَّفت النُّفوسُ إلى هذه التِّجارةِ الرَّابحةِ الدَّالِّ عليها رَبُّ العالَمينَ العَليمُ الحكيمُ، فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، فكأنَّ النُّفوسَ ضَنَّت بحَياتِها وبَقائِها، فقال: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني: أنَّ الجِهادَ خَيرٌ لكم مِن قُعودِكم للحياةِ والسَّلامةِ، فكأنَّها قالت: فما لَنا في الجهادِ مِنَ الحَظِّ؟ فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، مع المغفرةِ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، فكأنَّها قالت: هذا في الآخرةِ، فما لَنا في الدُّنيا؟ فقال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. فلِلَّه ما أحلى هذه الألفاظَ، وما ألصَقَها بالقُلوبِ! وما أعظَمَها جذبًا لها، وتَسييرًا إلى رَبِّها! وما ألطَفَ مَوقِعَها مِن قَلبِ كُلِّ مُحبٍّ! وما أعظَمَ غِنى القَلبِ وأطيَبَ عَيْشَه حينَ تُباشِرُه معانيها [207] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (ص: 355). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ هذا تَخلُّصٌ إلى الغرَضِ الَّذي افتُتِحت به السُّورةُ مِن قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ إلى قولِه: كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 2- 4] ؛ فبعْدَ أنْ ضُرِبَت لهمُ الأمثالُ، وانتَقَل الكلامُ مِن مَجالٍ إلى مَجالٍ، أُعِيدَ خِطابُهم هنا بمِثلِ ما خُوطِبوا به بقولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2] ، أي: هلْ أدُلُّكم على أحبِّ العملِ إلى اللهِ لتَعمَلوا به كما طلَبْتُم؛ إذ قُلْتُم: لو نَعلَمُ أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ لَعَمِلْنا به؟ فجاءت السُّورةُ في أُسلوبِ الخَطابةِ [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/193). .
- وجاء قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ ... الآيةَ، في أُسلوبِ النِّداءِ والاستِفهامِ؛ لأنَّه أفخَمُ وأشَدُّ تَشويقًا بالأداةِ الَّتي لا يَكونُ ما بعْدَها إلَّا بالِغًا في العِظَمِ إلى النِّهايةِ [209] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/34). .
- والاستِفهامُ هنا مُستعمَلٌ في العرْضِ؛ لأنَّ العارضَ قد يَسأَلُ المعروضَ عليه ليَعلَمَ رَغبتَه في الأمرِ المعروضِ، كما يُقالُ: هلْ لك في كذا؟ أو هلْ لك إلى كذا؟ والعرْضُ هنا كِنايةٌ عن التَّشويقِ إلى الأمرِ المعروضِ، وهو دَلالتُه إيَّاهم على تِجارةٍ نافعةٍ [210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/193، 194). . وقيل: (هَلْ) حرْفُ استِفهامٍ معْناه الإخبارُ والإيجابُ، أي: سأدُلُّكم، وإنَّما أورَدَهُ في صِيغةِ الاستفهامِ؛ تَشويقًا وإلْهابًا للرَّغبةِ [211] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/83). .
- وجِيءَ بفِعلِ أَدُلُّكُمْ؛ لإفادةِ ما يُذكَرُ بعْدَه مِن الأشياءِ الَّتي لا يُهْتدى إليها بسُهولةٍ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/194). .
- وأُطلِقَ على العَملِ الصَّالحِ لفظُ التِّجارةِ؛ لِمُشابَهةِ العملِ الصَّالحِ التِّجارةَ في طلَبِ النَّفعِ مِن ذلك العملِ ومُزاوَلَتِه والكَدِّ فيه. ووصْفُ التِّجارةِ بأنَّها تُنجِي مِن عَذابٍ أليمٍ لقَصْدِ الصَّراحةِ بهذه الفائدةِ لأهمِّيَّتِها [213] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/194). .
- وجُملةُ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ذِكرَ الدَّلالةِ مُجمَلٌ، والتَّشويقَ الَّذي سَبَقَها ممَّا يُثيرُ في أنفُسِ السَّامِعينَ التَّساؤُلَ عن هذا الَّذي تَدُلُّنا عليه، وعن هذه التِّجارةِ [214] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/526، 527)، ((تفسير البيضاوي)) (5/209)، ((تفسير أبي السعود)) (8/245)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/194). .
- وقولُه: تُؤْمِنُونَ، وَتُجَاهِدُونَ خبَرٌ في معْنى الأمرِ، جِيءَ به على لَفظِ الخبرِ؛ للإيذانِ بوُجوبِ الامتثالِ وكأنَّه امتُثِلَ، فهو يُخبِرُ عن إيمانٍ وجِهادٍ مَوجودَينِ، ونَظيرُه قولُ الدَّاعي: غفَرَ اللهُ لك، ويَغفِرُ اللهُ لك؛ جُعِلَت المغفرةُ -لقوَّةِ الرَّجاءِ- كأنَّها كانت ووُجِدَت [215] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/526، 527)، ((تفسير البيضاوي)) (5/209)، ((تفسير أبي حيان)) (10/167)، ((تفسير أبي السعود)) (8/245). .
- وفي التَّعبيرِ بالمضارعِ تُؤْمِنُونَ إفادةُ الأمرِ بالدَّوامِ على الإيمانِ وتَجديدِه في كلِّ آنٍ، وذلك تَعريضٌ بالمنافِقينَ، وتَحذيرٌ مِن التَّغافُلِ عن مُلازَمةِ الإيمانِ وشُؤونِه، وأمَّا وَتُجَاهِدُونَ فإنَّه لإرادةِ تَجدُّدِ الجهادِ إذا استُنْفِروا إليه، ومَجِيءُ يَغْفِرْ مَجزومًا تَنبيهٌ على أنَّ تُؤْمِنُونَ، وَتُجَاهِدُونَ وإنْ جاءَا في صِيغةِ الخَبرِ فالمُرادُ الأمْرُ؛ لأنَّ الجزْمَ إنَّما يكونُ في جَوابِ الطَّلبِ، لا في جَوابِ الخبَرِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/194). .
- وإذ قدْ كان الخِطابُ لقَومٍ مُؤمنينَ، فإنَّ فِعلَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ مع قولِه: وَتُجَاهِدُونَ مُرادٌ به: تَجمَعونَ بيْنَ الإيمانِ باللهِ ورسولِه وبيْنَ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ بأمْوالِكم وأنفُسِكم؛ تَنويهًا بشأْنِ الجِهادِ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/194). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ؛ فقدَّمَ في هذه الآيةِ الكريمةِ الجِهادَ بالمالِ على الجِهادِ بالنَّفْسِ، وفي قولِه تعالَى: اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة: 111] ؛ فقدَّمَ النَّفْسَ على المالِ، وفي ذلك سِرٌّ لَطيفٌ؛ أمَّا في آيةِ (الصَّفِّ) فإنَّ المقامَ مَقامُ تَفسيرٍ وبَيانٍ لمعْنى التِّجارةِ الرَّابحةِ بالجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، وحَقيقةُ الجهادِ بذْلُ الجَهدِ والطاقةِ، والمالُ هو عصَبُ الحرْبِ، وهو مَدَدُ الجيشِ، وهو أهمُّ مِن الجِهادِ بالسِّلاحِ؛ فبالمالِ يُشْترى السِّلاحُ، وقدْ تُستأجَرُ الرِّجالُ، كما في الجُيوشِ الحديثةِ مِن الفِرَقِ الأجنبيَّةِ، وبالمالِ يُجهَّزُ الجيشُ، ولذا لَمَّا جاء الإذنُ بالجِهادِ أعذَرَ اللهُ المَرْضى والضُّعفاءَ، وأعذَرَ معهم الفُقراءَ الَّذين لا يَستطيعونَ تَجهيزَ أنفُسِهم، وأعذَرَ معهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ لم يُوجَدْ عندَه ما يُجهِّزُهم به، كما في قولِه تَعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى، إلى قولِه: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:91-92] ، وكذلك مِن جانبٍ آخَرَ: قدْ يُجاهِدُ بالمالِ مَن لا يَستطيعُ بالسِّلاحِ، كالنِّساءِ والضُّعفاءِ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((مَن جهَّزَ غازيًا فقدْ غَزا )) [218] أخرجه مطوَّلًا البخاريُّ (2843)، ومسلمٌ (1895) واللَّفظُ له مِن حديثِ زَيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ رضيَ الله عنه. .
أمَّا الآيةُ الثَّانيةُ: فهي في مَعرِضِ الاستبدالِ والعرْضِ والطَّلبِ، أو ما يُسمَّى بالمساوَمةِ، فقدَّمَ النَّفْسَ؛ لأنَّها أعزُّ ما يَملِكُ الحيُّ، وجَعَلَ في مُقابِلِها الجنَّةَ، وهي أعزُّ ما يُوهَبُ، فالتِّجارةُ هنا مُعامَلةٌ مع اللهِ إيمانًا باللهِ وبرَسولِه، وجِهادًا بالمالِ والنَّفْسِ، والعمَلِ الصَّالحِ [219] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/113، 114). .
وقيل: ذكَرَ الأموالَ أوَّلًا؛ لأنَّها الَّتي يُبدأُ بها في الإنفاقِ [220] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/87). . وقيل: لَمَّا كان الجَمعُ بيْن الرُّوحِ وعديلِها المالِ على وَجهِ الرِّضا والرَّغبةِ أدَلَّ على صِحَّةِ الإيمانِ، قال: بِأَمْوَالِكُمْ، وقَدَّمَها؛ لعِزَّتِها في ذلك الزَّمانِ، ولأنَّها قِوامُ الأنفُسِ والأبدانِ، فمَن بذَلَ مالَه كلَّه لم يَبخَلْ بنفْسِه؛ لأنَّ المالَ قِوامُها. ولَمَّا قدَّمَ القِوامَ أتْبَعَه القائمَ به، فقال: وَأَنْفُسِكُمْ [221] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/36). .
- قولُه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ التَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكُمْ وما فيه مِن معْنى البُعدِ مع قُربِ العهدِ بالمُشارِ إليه؛ للإيذانِ بعُلوِّ شأْنِه، وكَونِه في الغايةِ القاصيةِ مِن الفضْلِ والشَّرَفِ [222] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/245). .
- وقولُه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَعريضٌ لهم بالعِتابِ على تَولِّيهم يومَ أُحُدٍ بعْدَ أنْ قالوا: لو نَعلَمُ أيَّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ لَعَمِلْناه، فنُدِبوا إلى الجِهادِ، فكان ما كان منهم يومَ أُحُدٍ، فنُزِّلوا مَنزِلةَ مَن يُشَكُّ في عَمَلِهم بأنَّه خيرٌ؛ لعَدَمِ جَرْيِهم على مُوجَبِ العِلمِ [223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/195). .
2- قولُه تعالَى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
- قيل: جوابُ هَلْ أَدُلُّكُمْ يَغْفِرْ؛ لذا جُزِمَ، أي: لأنَّ مُتعلَّقَ أَدُلُّكُمْ هو التِّجارةُ المُفسَّرةُ بالإيمانِ والجهادِ، فكأنَّه قِيل: هل تتَّجِرون بالإيمانِ والجهادِ يَغفِرْ لكم ذُنوبَكم [224] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/527)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/194، 195). ؟
- قولُه: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ إنَّما خُصَّت المساكنُ بالذِّكرِ هنا؛ لأنَّ في الجِهادِ مُفارَقةَ مَساكِنِهم، فوُعِدوا على تلك المُفارَقةِ المُوقَّتةِ بمَساكنَ أبَدِيَّةٍ؛ قال تَعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ [التوبة: 24] الآيةَ [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/195). .
- قولُه: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عُطِفَ على جُملةِ يَغْفِرْ لَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ [الصف: 12] عطْفَ الاسميَّةِ على الفِعليَّةِ، وجِيءَ بالاسميَّةِ لإفادةِ الثُّبوتِ والتَّحقُّقِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/195). .
- وفي تُحِبُّونَهَا تَعريضٌ وتَوبيخٌ على مَحبَّةِ العاجلِ؛ وذلك أنَّه تَعالى عطَفَ (أُخرى) مِن حيثُ المعْنى على النِّعمةِ المذكورةِ مِن المغفرةِ والثَّوابِ، وقيَّدَها بقولِه: تُحِبُّونَهَا، وفيه إشارةٌ إلى هذا المعْنى؛ لأنَّ الفتْحَ والنُّصرةَ وإنْ كانَا مِن الأُمورِ الدِّينيَّةِ، لكنَّ فيهما حظَّ النفْسِ؛ لأنَّهما بظاهِرِهما ممَّا تَشتهيهِ النَّفْسُ [227] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/527)، ((تفسير البيضاوي)) (5/209)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/394)، ((تفسير أبي حيان)) (10/168)، ((تفسير أبي السعود)) (8/245). .
أو وُصِفَ لَفظُ وَأُخْرَى بجُملةِ تُحِبُّونَهَا إشارةً إلى الامتِنانِ عليهم بإعطائِهِم ما يُحِبُّون في الحياةِ الدُّنيا قبْلَ إعطاءِ نَعيمِ الآخِرةِ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/196). . وقيل: وصَفَها تعالى بأنَّ النُّفوسَ تُحِبُّها من حيثُ هي عاجلةٌ في الدُّنيا، وقد وُكلَتِ النَّفْسُ لحُبِّ العاجِلِ؛ ففي هذا تحريضٌ [229] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/304، 305). .
- قولُه: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ ذِكرُ اسمِ الجَلالةِ يَجوزُ أنْ يكونَ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ، على احتِمالِ أنْ يكونَ ضَميرُ التَّكلُّمِ في قولِه: هَلْ أَدُلُّكُمْ [الصف: 10] كَلامًا مِن اللهِ تعالى. ويَجوزُ أنْ يكونَ جاريًا على مُقْتضى الظَّاهرِ، إنْ كان الخِطابُ أُمِرَ به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَقديرِ (قُل) [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/196). .
- ووَصْفُ الفتْحِ بـ قَرِيبٌ تَعجيلٌ بالمَسرَّةِ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/196). .
- وجُملةُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَجوزُ أنْ تكونَ عطْفًا على مَجموعِ الكلامِ الَّذي قبْلَها، ابتداءً مِن قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف: 10] ، على احتِمالِ أنَّ ما قبْلَها كَلامٌ صادرٌ مِن جانبِ اللهِ تعالَى، عطْفَ غرَضٍ على غرَضٍ؛ فيَكونَ الأمرُ مِن اللهِ لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُبشِّرَ المؤمنينَ. وأمَّا على احتِمالِ أنْ يكونَ قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ إلى آخِرِه مَسوقًا لأمْرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يقولَ: هلْ أدُلُّكم على تِجارةٍ؟ بتَقديرِ قولٍ مَحذوفٍ، أي: قُلْ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا، هلْ أدُلُّكم... إلى آخِرِه، فيَكونَ الأمرُ في وَبَشِّرِ الْتِفاتًا مِن قَبيلِ التَّجريدِ [232] التَّجريد: هو اعتقادُ أنَّ في الشَّيءِ مِن نفْسِه معنًى آخَرَ كأنَّه مباينٌ له، فيخرجُ ذلك إلى ألفاظِه بما اعتقَد ذلك؛ كقولِهم: لئن لَقيتَ زَيدًا لَتلقيَنَّ معه الأسدَ؛ فظاهرُ هذا أنَّ فيه مِن نفْسِه أسدًا، وهو عينُه هو الأسدُ، لا أنَّ هناك شيئًا منفصلًا. ويُطلقُ عندَ البعضِ على عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ كأنَّ الخاصَّ جُرِّد مِن العامِّ، وأُفرِد بالذِّكرِ؛ تفضيلًا. وله إطلاقاتٌ أخرى في البديعِ والمعاني. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 160 - 163)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/448)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 46)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 243، 244). ، والمعْنى: وأُبَشِّرُ المؤمنينَ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/196، 197). . وقيل: قولُه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ مَعطوفٌ على تُؤْمِنُونَ؛ لأنَّه في معْنى الأمْرِ، كأنَّه قيل: آمِنوا وجاهِدوا يُثِبْكم اللهُ ويَنصُرْكم، وبشِّرْ يا رسولَ اللهِ المؤمنينَ بذلك، وقولُه: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ مُتضمِّنٌ معْنى الأمرِ؛ لقولِه: يَغْفِرْ لَكُمْ، ولأنَّ سِياقَ الكلامِ عليه؛ فإنَّه تعالَى لَمَّا نَبَّه عِبادَه على ما يُخلِّصُهم ممَّا يُؤذِيهم بقولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، اتَّجَه لهم أنْ يَتضرَّعوا إليه: نعمْ يا مَولانا وربَّنا، أرْشِدْنا إلى هذه البُغيةِ، فقِيل لهم: آمِنوا باللهِ ورسولِه وجاهِدوا، ثمَّ أمَرَ حَبيبَه بأنْ يُبشِّرَهم بأنَّ اللهَ سيُنجِزُ ما وعَدَ مِن الثَّوابِ العظيمِ في الآخِرةِ، والنَّصرِ القريبِ في الدُّنيا، تَقريرًا أو تَشريفًا؛ ولذلك أُتِيَ بما يدُلُّ على التَّجدُّدِ، ووُضِعَ الْمُؤْمِنِينَ مَوضعَ الضَّميرِ؛ للإشعارِ بأنَّ صِفةَ الإيمانِ هي الَّتي تَقْتضي هذه البِشارةَ. ويُمكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّه تعالَى لَمَّا أمَرَ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُخاطِبَ النَّاسَ بقولِه: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، أرشَدَه إلى ما يَقْتضيهِ مِن الجوابِ، أنَّه اتَّجَه لسائلٍ أنْ يقولَ: بَلى دُلَّنا؟ أي: قُلْ: آمِنوا باللهِ... الآيةَ، وبشِّرْهم بعْدَ ذلك بما لا يُكْتنَهُ كُنْهُه ممَّا يصِحُّ أنْ تُبشِّرَ به؛ لإطلاقِ (بشِّر)؛ فعلى هذه (بشِّر) مَعطوفٌ على (قُلْ) مُرادًا عندَ قولِه: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [234] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/527)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/395، 396). .