موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (45-48)

ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَنَذِيرًا: أي: محذِّرًا ومخَوِّفًا، وأصلُ (نذر): يدُلُّ على تَخويفٍ [899] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((تفسير القرطبي)) (14/85)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 232). .
وَسِرَاجًا: أي: ضِياءً وهادِيًا، وأصلُ (سرج): يدُلُّ على الحُسنِ والزِّينةِ [900] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/156)، ((المفردات)) للراغب (ص: 406)، ((تفسير القرطبي)) (14/201). .
فَضْلًا: أي: ثوابًا وأجرًا، أو: ما تفضَّل به عليهم زيادةً على الثَّوابِ، والفضلُ: العطاءُ الَّذي يَزيدُه المُعطي زيادةً على العَطيَّةِ، وكلُّ عَطيَّةٍ لا تَلزمُ مَن يُعطِي يُقال لها: فضْلٌ، والإفضالُ: الإحسانُ، وأصلُ (فضل): يدُلُّ على زيادةٍ في شَيءٍ [901] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 19)، ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/508)، ((المفردات)) للراغب (ص: 639)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 72)، ((تفسير القاسمي)) (8/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/57). .
وَكِيلًا: أي: مانعًا وحافظًا وكفيلًا، ووكيلُ الرَّجُلِ في مالِه هو الَّذي كفَله له، وقام به، وأصلُ (وكل): يدُلُّ على اعتمادِ غيرِك في أمرِك [902] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 18، 313)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/136)، ((المفردات)) للراغب (ص: 882)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 206). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى موجِّهًا النِّداءَ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، مبَيِّنًا وظيفتَه: يا أيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسَلْناك شاهِدًا ومُبَشِّرًا مَن آمَن بك وأطاعَك، ومُنذِرًا مَن خالَفك، وداعيًا إلى اللهِ وَحْدَه بأمرِه لك وتقديرِه وتيسيرِه، وسِراجًا مُنيرًا يُهتدى به. وبَشِّرِ المؤمِنينَ بأنَّ لهم مِنَ الله ثوابًا عظيمًا، ولا تُطِعِ الكافرينَ والمنافِقينَ، وأعرِضْ عن إيذائِهم لك، واعتَمِدْ على اللهِ في تدبيرِ أمورِك، وكفَى باللهِ حافِظًا لك.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا النِّداءَ الثَّالثَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أبلَغَه بالنِّداءِ الأوَّلِ ما هو مُتعلِّقٌ بذاتِه، وبالنِّداءِ الثَّاني ما هو مُتعلِّقٌ بأزواجِه، وما تخلَّل ذلك مِنَ التَّكليفِ والتَّذكيرِ: ناداه بأوصافٍ أودَعَها سُبحانَه فيه؛ للتَّنويهِ بشَأنِه، وزيادةِ رِفعةِ مِقدارِه، وبيَّنَ له أركانَ رِسالتِه؛ فهذا الغَرَضُ هو وَصفُ تعَلُّقاتِ رِسالتِه بأحوالِ أمَّتِه، وأحوالِ الأُمَمِ السَّالِفةِ [903] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/52). .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45).
أي: يا أيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسَلْناك شاهِدًا [904] قال الماوَرْديُّ في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ الفتحِ الآية (8): (قَولُه عزَّ وجَلَّ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا فيه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: شاهِدًا على أمَّتِك بالبلاغِ. قاله قَتادةُ. الثَّاني: شاهِدًا على أمَّتِك بأعمالِهم مِن طاعةٍ أو معصيةٍ. الثَّالثُ: مُبَيِّنًا ما أرسَلْناك به إليهم). ((تفسير الماوردي)) (5/312). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ، وأنَّ المرادَ: شاهِدٌ على أمَّتِك بإبلاغِ الرِّسالةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقنديُّ، والسمعانيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/499)، ((تفسير ابن جرير)) (19/125)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/231)، ((تفسير السمرقندي)) (3/65)، ((تفسير السمعاني)) (4/293). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: شاهدٌ على أُمَّتِه الَّذين بُعِث إليهم، وعلى تكذيبِهم وتصديقِهم: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/546)، ((تفسير البيضاوي)) (4/234)، ((تفسير النسفي)) (3/36)، ((تفسير الشوكاني)) (4/331). قال السعدي: (شاهدًا على أمَّتِه بما عمِلوه، مِن خَيرٍ وشرٍّ، كما قال تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] ، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41]؛ فهو صلَّى الله عليه وسلَّمَ شاهدٌ عدلٌ مقبولٌ). ((تفسير السعدي)) (ص: 667). وقال أبو السعود: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا على مَن بُعثتَ إليهم؛ تُراقبُ أحوالهم، وتُشاهِدُ أعمالَهم، وتتحمَّلُ منهم الشَّهادةَ بما صدرَ عنهم مِن التَّصديقِ والتَّكذيبِ وسائرِ ما هُم عليه مِن الهدى والضَّلالِ، وتُؤدِّيها يومَ القيامةِ أداءً مقبولًا). ((تفسير أبي السعود)) (7/107). وقيل: المرادُ: شاهِدٌ لله بالوحدانيَّةِ، وأنَّه لا إلهَ غَيرُه، وعلى النَّاسِ بأعمالِهم يومَ القيامةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/439). وقيل: المرادُ: شاهِدٌ على أمَّتِك بالتَّبليغِ إليهم، وعلى سائرِ الأمَمِ في تبليغِ أنبيائهم ونحو ذلك. وممَّن اختاره: ابنُ عطية، والرسعني. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/389)، ((تفسير الرسعني)) (6/172). وذهب ابنُ عثيمين إلى العمومِ، وأنَّ المرادَ أنَّه شاهدٌ بما أوحاه الله تعالى إليه، وحاكمٌ به، وشاهدٌ على مَن أُرسِل إليهم، وشاهدٌ على مَن سبَقه مِن الأُممِ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 338). ومُبَشِّرًا بالخَيرِ في الدُّنيا والآخِرةِ لِمَن آمَن بك وأطاعَك، ومُنذِرًا بالعَذابِ في الدُّنيا والآخِرةِ لِمَن خالَفك وعصَى أمرَك [905] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/125)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/231)، ((تفسير القرطبي)) (14/200)، ((تفسير ابن كثير)) (6/439)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/371)، ((تفسير السعدي)) (ص: 667)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/52 - 54). .
عن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، قال: لَقِيتُ عبدَ اللهِ بنَ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قُلتُ: أخبِرْني عن صِفةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التَّوراةِ. قال: (أجَلْ، واللهِ إنَّه لَمَوصوفٌ في التَّوراةِ ببَعضِ صِفتِه في القُرآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وحِرزًا للأُمِّيِّينَ [906] وحِرْزًا للأُمِّيِّينَ: أي: حِصنًا للعَرَبِ يتحَصَّنونَ به من غوائِلِ الشَّيطانِ، أو مِن سَطوةِ العَجَمِ وتغَلُّبِهم، وسُمُّوا أمِّيِّينَ؛ لأنَّ أغلَبَهم لا يَقرؤونَ ولا يكتُبونَ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (4/51). ، أنت عَبدي ورَسولي، سَمَّيتُك المتوكِّلَ، ليس بفَظٍّ ولا غَليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواقِ [907] ولا سَخَّابٍ في الأسواقِ: أي: لا يَرفَعُ صَوتَه على النَّاسِ، ولا يُكثِرُ الصِّياحَ عليهم في الأسواقِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (4/52). ، ولا يَدفَعُ بالسَّيِّئةِ السَّيِّئةَ، ولكِنْ يعفو ويَغفِرُ، ولن يَقبِضَه اللهُ حتَّى يُقيمَ به المِلَّةَ العَوجاءَ، بأنْ يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويَفتَحَ بها أعيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلْفًا) [908] رواه البخاري (2125). .
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46).
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ.
أي: وأرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- داعيًا إلى اللهِ وَحْدَه بإذْنِ الله تعالى لك في الدَّعوةِ وأمرِه وإرادتِه وقَدَرِه وتيسيرِه [909] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((تفسير القرطبي)) (14/200)، ((تفسير ابن كثير)) (6/439)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/372، 373)، ((تفسير السعدي)) (ص: 667)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/54)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 341). في قوله: بِإِذْنِهِ ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: بأمرِه. الثَّاني: بعِلْمِه. الثَّالثُ: بالقرآنِ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (4/411). ممَّن اختار القولَ الأولَ: ابنُ جرير، والسمعانيُّ، والبغويُّ، وابنُ جُزَي، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((تفسير السمعاني)) (4/294)، ((تفسير البغوي)) (3/648)، ((تفسير ابن جزي)) (2/154)، ((تفسير ابن كثير)) (6/439). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عباس، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (4/411)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/625). وقيل: المرادُ: بتيسيرِه وتسهيلِه. وممَّن اختاره: الرسعني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/172)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/54). قال البِقاعي: (ولَمَّا كان ذلك في غايةِ الصُّعوبةِ، لا يقومُ به أحدٌ إلَّا بمَعونةٍ مِن الله عظيمةٍ؛ أشار إلى ذلك بقولِه: بِإِذْنِهِ أي: بتمكينِه لك مِن الدُّعاءِ بتيسيرِ أسبابِه، وتحمُّلِ أعبائِه، وللمَدْعُوِّ مِنَ الإقبالِ والاتِّباعِ إن أراد له الخيرَ). ((نظم الدرر)) (15/373). وقيل: المرادُ: بأمرِه وتقديرِه ذلك. وممَّن قال بهذا المعنى: القرطبيُّ، والشوكانيُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/200)، ((تفسير الشوكاني)) (4/331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 667). وقال يحيى بن سلام: (بِإِذْنِهِ بالقرآنِ، الوحيِ الَّذي جاء مِن عندِه). ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/49). وقال ابنُ عثيمين: (وقَولُه تعالى: إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ الإذنُ هنا يَشملُ الإذْنَ الكَونيَّ والإذنَ الشَّرعيَّ؛ فإن كان المرادُ به ما يُدْعى به، فهو الشَّرعيُّ، يعني: إن كان المعنى: داعيًا إلى اللهِ تعالى بأمْرِه الَّذي أمَرَك بالدَّعوةِ إليه، فالمرادُ به الإذنُ الشَّرعيُّ، وإن كان المرادُ: داعيًا إلى الله تعالى بقَدَرِه -يعني: حيث قوَّاك على ذلك، وهيَّأ لك الأسبابَ- فهو إذْنٌ كونيٌّ، والآيةُ تَشملُ هذا وهذا؛ فإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما يدعو بقَضاءِ الله تعالى وقَدَرِه، ويدعو كذلك بدينِه وشَرعِه؛ فهو داعٍ بالأمْرَين ِجميعًا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 341). .
وَسِرَاجًا مُنِيرًا.
أي: وسِراجًا مُنيرًا يُستَضاءُ ويُهتدَى به [910] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((تفسير ابن كثير)) (6/439)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/373)، ((تفسير السعدي)) (ص: 668)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 341، 342). .
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه أرسَلَ نَبيَّه شاهِدًا... إلى آخِرِه، تضَمَّن ذلك الأمرَ بتلك الأحوالِ، فكأنَّه قال: فاشهَدْ، وبَشِّرْ، وأنذِرْ، وادْعُ، وانْهَ، ثمَّ قال: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فهذا متَّصِلٌ بما قَبْلَه مِن جِهةِ المعنى، وإن كان يَظهَرُ أنَّه مُنقَطِعٌ مِن الَّذي قبْلَه [911] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/488). .
وأيضًا لَمَّا تقَدَّمتْ هذه الأوصافُ الحُسنى، وكان تطبيقُ ثَمَراتِها عليها في الذِّروةِ مِن العُلُوِّ، وكان الشَّاهِدُ هو البَيِّنةَ؛ فكان كأنَّه قيل: فأقِمِ الأدِلَّةَ النَّيِّرةَ، وادْعُ وأنذِرْ كُلَّ مَن خالَف أمْرَك، وكان المقامُ لخِطابِ المُقبِلينَ- طوَى هذا المقَدَّرَ؛ لأنَّه للمُعرِضينَ، ودَلَّ عليه بقَولِه عاطِفًا عليه [912] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/373). :
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47).
أي: وبَشِّرِ المُؤمِنينَ بأنَّ لهم مِنَ الله ثوابًا عَظيمًا جَليلًا [913] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((تفسير ابن عطية)) (4/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 668). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالفضلِ الكبيرِ: الجنَّةُ: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ أبي زمنين، وجلال الدين المحلي، والألوسي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/67)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/405)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 557)، ((تفسير الألوسي)) (11/224)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 346). قال الشنقيطي: (... قولُه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا، وبيَّنَ المرادَ بالفضلِ الكبيرِ في قولِه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى: 22]). ((أضواء البيان)) (3/183). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/389، 390). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ -أنَّ المرادَ بالفضلِ الكبيرِ: الجنةُ-: السُّدِّيُّ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/726)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3140). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: فَضْلًا كَبِيرًا أي: أجرًا جزيلًا وثوابًا عظيمًا مُضاعَفًا أضعافًا كثيرةً: ابنُ جرير، ومكِّي، والنسفي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5849)، ((تفسير النسفي)) (3/36)، ((تفسير القاسمي)) (8/91). وقيل: الفضلُ ما يَتفضَّلُ به عليهم زيادةً على الثَّوابِ. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/547)، ((تفسير الخازن)) (3/430). وقيل: الفَضلُ الكبيرُ كائِنٌ في الدُّنيا والآخرةِ؛ فيَشملُ النَّصرَ، وهِدايةَ القُلوبِ، وغُفرانَ الذُّنوبِ، وكَشْفَ الكُروبِ، وكثرةَ الأرزاقِ الدَّارَّةِ، وحُصولَ النِّعَمِ السَّارَّةِ، والفوزَ برِضا الله وثَوابِه، والنَّجاةَ مِن سَخَطِه وعِقابِه. قاله: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 668). .
كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة: 25].
وقال سُبحانَه: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ [يونس: 64] .
وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .
وقال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى: 22] .
وقال جلَّ جلالُه: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 12، 13].
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ثَمَّ طائفةٌ مِنَ النَّاسِ مُستعدَّةٌ للقيامِ بصَدِّ الدَّاعينَ إلى الله مِنَ الرُّسلِ وأتْباعِهم، وهم المنافِقون، الَّذين أظهَروا المُوافَقةَ في الإيمانِ، وهم كَفَرةٌ فَجَرةٌ في الباطِنِ، والكفَّارُ ظاهرًا وباطنًا؛ نهى اللهُ رسولَه عن طاعتِهم، وحذَّره ذلك [914] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 667). .
وأيضًا أنَّه لَمَّا أمرَه سُبحانَه بما يَسُرُّ؛ نهاه عما يَضُرُّ، فقال ذاكِرًا ثَمَرةَ النِّذارةِ [915] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/374). :
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
أي: ولا تُطِعِ الكافِرينَ والمُنافِقينَ -يا مُحمَّدُ- فيما يَدْعونَك ويُشيرونَ عليك؛ مِنَ المُداهَنةِ في الدِّينِ، أو التَّقصيرِ في تَبليغِ رِسالةِ رَبِّ العالَمينَ [916] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((تفسير القرطبي)) (14/202)، ((تفسير ابن كثير)) (6/439)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/374)، ((تفسير السعدي)) (ص: 668). .
وَدَعْ أَذَاهُمْ.
أي: وأعرِضْ -يا مُحمَّدُ- عن إيذاءِ الكافِرينَ والمُنافِقينَ لك، ولا تُبالِ بهم، واصبِرْ عليهم [917] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 223، 359)، ((تفسير ابن كثير)) (6/439)، ((تفسير السعدي)) (ص: 668). قال ابنُ عثيمين: (وهذا الأمرُ إمَّا أن يكونَ للتَّهديدِ [أي: دعْ أذاهم إيَّاك فسوف يَنتقِمُ اللهُ منهم]، وإمَّا أن يكونَ للتَّأييدِ والتَّقويةِ [أي: اصبِرْ عليهم، ولا تُبالِ بهم؛ فإنَّ العاقِبةَ لك]، وإمَّا أن يكونَ لهما جميعًا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 350). وقال ابنُ عطية: (قَولُه تعالى: وَدَعْ أَذَاهُمْ يحتَمِلُ مَعنَيينِ؛ أحدُهما: أن يأمُرَه بتَرْكِ أن يؤذيَهم هو ويُعاقِبَهم، فكأنَّ المعنى: واصفَحْ عن زَلَلِهم ولا تُؤذِهم؛ فالمصدَرُ على هذا مُضافٌ إلى المفعولِ، ونُسِخَ مِن الآيةِ على هذا التَّأويلِ ما يخُصُّ الكافِرينَ، وناسِخُه آيةُ السَّيفِ. والمعنى الثَّاني: أن يكونَ قَولُه: وَدَعْ أَذَاهُمْ بمعنى: أعرِضْ عن أقوالِهم وما يؤذونَك به؛ فالمصدَرُ على هذا التَّأويلِ مُضافٌ إلى الفاعِلِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/390). ويُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (8/399)، ((تفسير القرطبي)) (14/202)، ((تفسير ابن جزي)) (2/154)، ((تفسير الشوكاني)) (4/331)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/58). وممَّن ذهب إلى القولِ الأوَّلِ: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 668). وممَّن ذهب إلى القولِ الثَّاني: ابنُ جرير، وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/126)، ((تفسير ابن كثير)) (6/439)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 349، 350). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/127)، ((تفسير البغوي)) (3/648). وممَّن ذهب إلى حملِ الآيةِ على كِلا المعنَيينِ: ابنُ عاشور، فقال: (الوجهُ: الحمْلُ على كِلا المعنيَينِ، فيكونُ الأمرُ بتَركِ أذاهم صادقًا بالإعراضِ عمَّا يُؤذُونَ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أقوالِهم، وصادقًا بالكفِّ عن الإضرارِ بهم، أي: أنْ يَترفَّعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن مؤاخَذَتِهم على ما يَصدُرُ منهم في شأنِه، وهذا إعراضٌ عن أذًى خاصٍّ لا عُمومَ له، فهو بمَنزِلةِ المُعَرَّفِ بلامِ العهدِ، فليست آياتُ القتالِ بناسِخةٍ له. وهذا يَقتَضي أنَّه يَترُكُ أذاهم، ويَكِلُهم إلى عِقابٍ آجِلٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/58). وقال ابنُ تيميَّةَ: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَسمَعُ مِن الكُفَّارِ والمنافِقينَ في أوَّلِ الإسلامِ أذًى كثيرًا، وكان يَصبِرُ عليه؛ امتِثالًا لِقَولِه تعالى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ [الأحزاب: 48]؛ لأنَّ إقامةَ الحدودِ عليهم كان يُفضي إلى فِتنةٍ عَظيمةٍ ومَفسَدةٍ أعظَمَ مِن مَفسدةِ الصَّبرِ على كلماتِهم؛ فلمَّا فتح الله مكَّةَ ودخَل النَّاسُ في دين الله أفواجًا، وأنزَل اللهُ (براءةٌ) قال فيها: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] ، وقال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب: 60] إلى قَولِه: أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: 61]، فلمَّا رأى مَن بَقِيَ مِن المنافقين ما صار الأمرُ إليه مِن عزِّ الإسلامِ وقيامِ الرَّسولِ بجهادِ الكفَّار ِوالمنافقين، أضمَروا النِّفاقَ؛ فلم يكُنْ يُسمَعُ مِن أحدٍ مِن المنافقين بعدَ غزوةِ تَبوكَ كَلِمةُ سُوءٍ، وماتوا بغَيْظِهم، حتَّى بَقِيَ منهم أناسٌ بعدَ موتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعرِفُهم صاحِبُ السِّرِّ حُذَيفةُ، فلم يكُنْ يُصَلِّي عليهم هو، ولا يُصَلِّي عليهم مَن عرَفَهم بسبَبٍ آخَرَ، مِثلُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ الله عنه؛ فهذا يفيدُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يحتَمِلُ مِن الكُفَّارِ والمنافقين قبلَ «براءةٌ» ما لم يكُنْ يحتَمِلُ منهم بعدَ ذلك، كما قد كان يحتَمِلُ مِن أذى الكُفَّارِ وهو بمكَّةَ ما لم يكُنْ يحتَمِلُ بدارِ الهِجرةِ والنُّصرةِ). ((الصارم المسلول)) (ص: 223). وقال أيضًا: (فحيثُما كان للمُنافِقِ ظُهورٌ وتُخافُ مِن إقامةِ الحَدِّ عليه فتنةٌ أكبَرُ مِن بقائِه، عَمِلْنا بآيةِ: وَدَعْ أَذَاهُمْ، كما أنَّه حيث عَجَزنا عن جهادِ الكُفَّارِ عَمِلْنا بآيةِ الكَفِّ عنهم والصَّفحِ، وحيثما حصَل القوَّةُ والعِزُّ خُوطِبنا بقولِه: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة: 73] و[التحريم: 9]). ((الصارم المسلول)) (ص: 359). .
كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء: 81] .
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.
أي: أي: واعتَمِدْ -يا مُحمَّدُ- على اللهِ وَحْدَه، في إتمامِ أمرِك، وخذلانِ عدوِّك، وتبليغِ الرِّسالةِ، وفوِّضْ إليه أمورَك كُلَّها فإنَّه يَكْفيكَ [918] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/127)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/374)، ((تفسير السعدي)) (ص: 668)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/58، 59)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 350، 351). .
كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58] .
وقال سُبحانَه: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 79] .
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
أي: وحسْبُك اللهُ -يا مُحمَّدُ- قائِمًا بأمورِك، وحافِظًا لك [919] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/127)، ((تفسير القرطبي)) (14/202)، ((تفسير السعدي)) (ص: 668). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ الإشارةُ إلى أنَّه يجبُ على الدَّاعِيةِ أنْ تكونَ دعوتُه إلى اللهِ تعالى لا إلى حَظِّ نفْسِه! فإنَّ هذا وصْفُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم [920] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 343). .
2- قَولُه تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا قال بعضُ العلماءِ: (هذه مِن أرجى آيةٍ عندي في كتابِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ تعالى أمَرَ نبيَّه أن يُبَشِّرَ المؤمِنينَ بأنَّ لهم عندَه فضلًا كبيرًا، وقد بيَّن تعالى الفَضلَ الكبيرَ ما هو في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [921] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/389). [الشورى: 22] .
3- في قَولِه تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وُجوبُ التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى [922] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 354). ، وهو اعتِمادُ القلبِ على الرَّبِّ فيما يُنيلُه مِن خَيرٍ، أو يُزيلُه مِن ضُرٍّ، وتَعاطي الأسبابِ -مع تحقيقِ ذلك- لا يَقدَحُ فيه [923] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 276). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فضيلةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث جَمَعَ اللهُ تعالى له بينَ هذه الأوصافِ العظيمةِ: النُّبُوَّةِ، والرِّسالةِ، والشَّهادةِ، والبِشارَةِ، والإنذارِ، والدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى بإذنِه؛ وأنَّه السِّراجُ المنيرُ [924] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 342). .
2- قال الله تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ أرسَلَ اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم داعيًا إليه بإذنِه؛ فمَن دعا إلى غَيرِ اللهِ فقد أشرَكَ، ومَن دعا إليه بغَيرِ إذنِه فقد ابتدَعَ، والشِّركُ بِدعةٌ، والمبتَدِعُ يَؤُولُ إلى الشِّركِ، ولم يُوجَدْ مُبتَدِعٌ إلَّا وفيه نَوعٌ مِن الشِّركِ [925] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/375). .
3- قال الله تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ في قَولِه: بِإِذْنِهِ أنَّ دعوةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَبنيَّةٌ على شَرعِ اللهِ تعالى بكيفيَّتِها وفيما يدعو إليه؛ فهو داعٍ إلى اللهِ تعالى بإذْنِه، أي: على حَسَبِ أمْرِه، وبشَرعِه، فيدعو إلى سَبيلِ اللهِ تعالى بالحِكمةِ والموعِظةِ الحَسَنةِ، ويجادِلُ بالَّتي هي أحسَنُ، وكذلك يدعو إلى شَرعِ اللهِ تعالى لا يَتجاوزُه [926] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 343). .
4- في قَولِه تعالى: وَسِرَاجًا مُنِيرًا سمَّى اللهُ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِراجًا مُنيرًا، وسمَّى الشَّمسَ سِراجًا وَهَّاجًا في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ: 13] ، والسِّراجُ المُنيرُ أكمَلُ مِن السِّراجِ الوهَّاجِ؛ فإنَّ الوهَّاجَ له حَرارةٌ تُؤذي، والمُنيرُ يُهتدَى بنُورِه مِن غيرِ أذًى بوَهَجِه [927] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/372). ، وذلك يَقتضي أنَّ الخَلقَ في ظُلمةٍ عَظيمةٍ لا نورَ يُهتدَى به في ظُلُماتِها، ولا عِلمَ يُستَدَلُّ به في جَهالاتِها، حتَّى جاء اللهُ بهذا النَّبيِّ الكريمِ، فأضاء اللهُ به تلك الظُّلُماتِ، وعَلَّم به مِنَ الجَهالاتِ، وهدى به ضُلَّالًا إلى الصِّراطِ المستقيمِ؛ فأصبح أهلُ الاستِقامةِ قد وَضَح لهم الطَّريقُ، فمَشَوا خَلفَ هذا الإمامِ، وعَرَفوا به الخَيرَ والشَّرَّ، وأهلَ السَّعادةِ مِن أهلِ الشَّقاوةِ، واستناروا به لِمعرفةِ مَعبودِهم، وعَرَفوه بأوصافِه الحميدةِ، وأفعالِه السَّديدةِ، وأحكامِه الرَّشيدةِ [928] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 668). .
5- في قَولِه تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لم يَقُلْ سُبحانَه: «بَشِّرِ المُسلمينَ»؛ لأنَّ مِن المُسلِمينَ مَن يكونُ إسلامُهم ظاهِرًا، ويكونُ الإيمانُ في قُلوبِهم إمَّا مَفقودًا وإمَّا ضَعيفًا؛ فالَّذين لهم البِشارةُ المُطلَقةُ هم المؤمِنونَ الَّذين وَقَرَ الإيمانُ في قُلوبِهم، وصاروا يُنَفِّذُون مُقتضَى ذلك الإيمانِ؛ ولهذا قال اللهُ عزَّ وجلَّ: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ [يونس: 62 - 64] ، فالبِشارةُ المُطْلَقةُ لا تَكونُ إلَّا للمُؤمِنينَ [929] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 345). .
6- قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا، فيه أنَّ الجزاءَ على الإيمانِ أكثرُ مما عَمِله العبدُ؛ لقولِه تعالى: فَضْلًا كَبِيرًا، وقولِه تعالى: مِنَ اللَّه؛ فيُؤخَذُ مِن الأمْرَينِ؛ أمَّا وجْهُ أخْذِه مِن الأوَّلِ فلِقَولِه تعالى: كَبِيرًا، والكبيرُ إذا وَصَفَ الشَّيءَ بالكبيرِ فهو كبيرٌ جدًّا، وأمَّا الثَّاني فلأنَّه أضاف الفضلَ إلى اللهِ تعالى: مِنَ اللَّه، وكما قال المَثَلُ: «العَطِيَّةُ على قَدْرِ مُعْطيها»، فإذا كان هذا الفضلُ مِن اللهِ تعالى؛ فإنه سيَكونُ فضلًا لا يَخْطُرُ على البالِ [930] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 346). .
7- في قولِه تعالى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أنَّه قد يَتَوَجَّهُ النَّهيُ عمَّا لم يُفْعَلْ لئلَّا يُفْعَلَ؛ فإنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كان يُطيعُهم، لكنَّه نُهِيَ أنْ يُطيعَهم لئلَّا يفعلَ في المُستقبَلِ [931] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 353). .
8- قال الله تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا يَتبيَّنُ إذا نظرْتَ في الأمورِ الَّتي لأجْلِها لا يكفي الوكيلُ الواحِدُ؛ منها: ألَّا يكونَ قَويًّا قادِرًا على العَمَلِ، كالمَلِكِ الكثيرِ الأشغالِ يَحتاجُ إلى وُكَلاءَ؛ لعَجزِ الواحدِ عن القيامِ بجَميعِ أشغالِه، ومنها: ألَّا يكونَ عالِمًا بما فيه التَّوكيلُ، ومنها: ألَّا يكونَ غنيًّا. واللهُ تعالى عالمٌ قادِرٌ، وغيرُ مُحتاجٍ؛ فيكفي وكيلًا [932] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/174). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
- في قولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ذكَرَ الله تعالى للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هنا خمْسةَ أوصافٍ؛ هي: شاهدٌ، ومُبشِّرٌ، ونَذيرٌ، وداعٍ إلى اللهِ، وسِراجٌ مُنيرٌ؛ فهذه الأوصافُ يَنْطوي إليها وتَنْطوي على مَجامعِ الرِّسالةِ المُحمَّديَّةِ؛ فلذلك اقتُصِرَ عليها مِن بيْنِ أوصافِه الكثيرةِ [933] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/52). .
- وقُدِّمَت البِشارةُ على النِّذارةِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غلَبَ عليه التَّبشيرُ؛ لأنَّه رَحمةٌ للعالَمينَ، ولِكَثرةِ عدَدِ المؤمنينَ في أُمَّتِه [934] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/53). .
- قولُه: وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا أشار إلى المبالَغةِ في البِشارةِ بالتَّضعيفِ؛ لِما لها مِن حُسنِ الأثَرِ في إقبالِ المَدْعُوِّ، وللتَّضعيفِ مِن الدَّلالةِ على كثرةِ الفِعلِ والمفعولِ؛ بِشارةً بكثرةِ التَّابعِ، وهو السَّبَبُ لمقصودِ السورةِ، وكانت المُبالَغةُ في النِّذارةِ أزيدَ؛ لأنَّها أبلَغُ في رَدِّ المخالِفِ، وهي المقصودُ بالذَّاتِ مِن الرِّسالةِ؛ لِصُعوبةِ الاجتراءِ عليها [935] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/372). .
- وجِيءَ في جانبِ النِّذارةِ بصِيغةِ فَعيلٍ وَنَذِيرًا دونَ اسمِ الفاعلِ؛ لإرادةِ الاسمِ؛ فإنَّ (النَّذيرَ) في كلامِهم اسمٌ للمُخبِرِ بحُلولِ العَدُوِّ بدِيارِ القومِ، فالوصفُ بـ (نَذيرٍ) تَمثيلٌ بحالِ نَذيرِ القومِ، كما قال: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] ؛ للإيماءِ إلى تَحقيقِ ما أنْذَرَهم به حتَّى كأنَّه قد حلَّ بهم، وكأنَّ المُخبِرَ عنه مُخبِرٌ عن أمْرٍ قد وقَعَ، وهذا لا يُؤدِّيه إلَّا اسمُ (النَّذيرِ)؛ ولذلك كثُرَ في القرآنِ الوصفُ بـ (النَّذيرِ)، وقلَّ الوَصفُ بـ (مُنذرٍ) [936] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/53). .
2- قوله تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا
- زِيادةُ بِإِذْنِهِ في قولِه: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ؛ لِيُفيدَ أنَّ اللهَ أرسَلَه داعيًا إليه، ويسَّرَ له الدُّعاءَ إليه، مع ثِقَلِ أمْرِ هذا الدُّعاءِ، وعِظَمِ خَطَرِه، وهو ما كان استَشْعَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مَبدأِ الوَحْيِ مِن الخشيةِ إلى أنْ أُنزِلَ عليه: يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ [937] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/547)، ((تفسير البيضاوي)) (4/234)، ((تفسير أبي السعود)) (7/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/54). [المدثر: 1، 2].
- وأعرَى الدُّعاءَ عن المبالَغةِ؛ لأنَّه شامِلٌ للبِشارةِ والنِّذارةِ، والإخبارِ بالقصَصِ والأمثالِ، ونَصبِ الأحكامِ والحُدودِ؛ والمأمورُ به في كُلِّ ذلك الإبلاغُ بقَدرِ الحاجةِ، بمُبالَغةٍ أو غيرِها [938] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/372). .
- وقولُه: وَسِرَاجًا مُنِيرًا تَشبيهٌ بَليغٌ بطَريقِ الحالِّيَّةِ، وهو طَريقٌ جميلٌ، أي: أرسَلْناكَ كالسِّراجِ المُنِيرِ في الهِدايةِ الواضحةِ الَّتي لا لَبْسَ فيها، ولا تَترُكُ للباطلِ شُبهةً إلَّا فَضَحتْها، وأوقَفَتِ النَّاسَ على دَخائلِها، كما يُضِيءُ السِّراجُ الوقَّادُ ظُلمةَ المكانِ [939] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/488)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 462)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/54). .
- وقيل: التَّشبيهُ الواقعُ في قولِه: وَسِرَاجًا مُنِيرًا يَحتمِلُ وَجهَينِ؛ أحدُهما: أنْ يكونَ مِن التَّشبيهِ المُركَّبِ العَقليِّ؛ شَبَّهَه سُبحانه وتعالى بالسِّراجِ المُنيرِ في كَونِه جَلَّى به الظَّلْماءَ، وهَدى به الضَّالِّينَ. وثانيها: أنْ يكونَ مِن التَّمثيليِّ؛ وهو أنْ يكونَ الوَجهُ مُنتزَعًا مِن عِدَّةِ أُمورٍ مُتوهَّمةٍ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ أمَدَّ بنُورِ نُبوَّتِه نورَ البصائرِ، ووَصَفَه بالإنارةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ الثَّاني مُفرَّقًا؛ فالمُشبَّهُ به يكونُ حِسِّيًّا، والمُشبَّهُ عقْليًّا [940] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/445). .
- وأيضًا قولُه: وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَصفٌ شاملٌ لِجَميعِ الأوصافِ الَّتي وُصِفَ بها آنفًا؛ فهو كالفَذْلَكةِ [941] تقدم تعريفها (ص: 51). وكالتَّذييلِ [942] التَّذييلُ: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعدَ تمامِ معناه بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وتلك الزِّيادةُ على ضَربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويُحَقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرَجَ المَثَلِ السَّائرِ؛ لِيَشتهِرَ المعنى؛ لِكَثرةِ دَوَرانِه على الألْسِنةِ. يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/86- 88). ، ووَصْفُ السِّراجِ بـ مُنِيرًا، مع أنَّ الإنارةَ مِن لَوازمِ السِّراجِ؛ لأنَّ مِن السِّراجِ ما لا يُضِيءُ إذا قلَّ سَليطُه [943] السَّليطُ: الزَّيْتُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 152). ودَقَّت فَتيلتُه، ولإفادةِ قُوَّةِ معنى الاسمِ في المَوصوفِ به الخاصِّ؛ فإنَّ هُدَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو أوضَحُ الهُدى، وإرشادَه أبلَغُ إرشادٍ [944] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/488)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/55). .
3- قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا
- (الفضلُ) كنايةٌ عن العطايا الكبيرةِ الثَّوابِ، مِن قولِهم للعطايا: فضولٌ وفَواضلُ، أو المزيدِ على الثَّوابِ، وإذا ذَكَر المُتفضَّلُ به وكَبَّره، فما ظنُّكَ بالثوابِ؟! أو ما فُضِّلوا به على سائرِ الأُممِ، وذلك من جِهتِه تعالى، أو الجَنَّةِ وما أُوتوا فيها [945] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/488)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/116)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/57). .
- قولُه تعالى: بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ يعني: لا مِن غيرِه؛ ولهذا قَدَّمَ مِنَ اللَّهِ مع أنَّه مُتَعَلِّقٌ بـ فَضْلًا كَبِيرًا [946] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 346). .
4- قوله تعالى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
- قولُه: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ تَهييجٌ له على ما هو عليه مِن مُخالَفتِهم. وقيل: نَهْيٌ عن مُداراتِهم في أمْرِ الدَّعوةِ، واستِعمالِ لِينِ الجانبِ في التَّبليغِ، والمُسامَحةِ في الإنذارِ، كُنِّيَ عن ذلك بالنَّهيِ عن طاعتِهم؛ مُبالَغةً في الزَّجْرِ والتَّنفيرِ عن المَنْهيِّ عنه بنَظْمِه في سِلْكِها، وتَصويرِه بصُورتِها، والنَّهيُ مُستعمَلٌ في مَعنى الدَّوامِ على الانتهاءِ [947] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/234)، ((تفسير أبي السعود)) (7/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/58). .
- وفي قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مناسَبةٌ حسَنةٌ، فقد قدَّم الكافرينَ على المنافقينَ، بيْنَما في مواضعَ يُقَدِّمُ المنافقينَ على الكافرينَ؛ ففي مقامِ الجزاءِ يُقَدِّمُ المنافقينَ: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140]، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ [الأحزاب: 73] ؛ لأنَّ ذَنْبَ المنافِقِ أعظَمُ مِن ذَنْبِ الكافرِ الصَّريحِ، وأمَّا هنا فالَّذي يُعارِضُ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم صراحةً هو الكافرُ؛ ولهذا قَدَّمَهُ على المنافقِ؛ لأنَّ المنافقَ لا يَأْمُرُ بمخالفةِ الشَّرعِ كما يَأْمُرُ بها الكافرُ! إِذْ إنه يَتَسَتَّرُ بنِفاقِه، ولهذا قال تعالى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ فبدأ بهم؛ لأنَّ مُعارضَتَهم للشَّرعِ أبْيَنُ وأظهرُ مِن المنافقينَ [948] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 352). .
- وقولُه: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا تَذييلٌ لِجُملةِ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، أي: فإنَّ اللهَ هو الوكيلُ الكافي في الوكالةِ، أي: المُجْزي مَن تَوكَّلَ عليه ما وَكَّلَه عليه؛ فالباءُ تأكيدٌ [949] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/59). .
- وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مَوضعِ الإضمارِ؛ لِتَعليلِ الحُكمِ، وتأكيدِ استِقلالِ الاعتراضِ التَّذييليِّ [950] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/108). .
- ولَمَّا وصَفَ اللهُ نَبيَّه بخمْسِ صِفاتٍ، قابَلَ كُلًّا منها بخِطابٍ يُناسِبُه، وقد جاءت هذه الجُمَلُ الطَّلبيَّةُ مُقابِلةً وناظرةً للجُمَلِ الإخباريَّةِ مِن قولِه: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا إلى وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45، 46]؛ فقولُه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 47] ناظرٌ إلى قولِه: وَمُبَشِّرًا [الأحزاب: 45] ، وقولُه هنا: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ناظرٌ إلى قولِه: وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45] ؛ لأنَّه جاء في مُقابَلةِ بِشارةِ المؤمنينَ، وقولُه: وَدَعْ أَذَاهُمْ ناظرٌ إلى قولِه: شَاهِدًا. وقيل: لم يُذكَرْ مُقابلُ الشَّاهدِ صَريحًا، وهو الأمرُ بالمُراقبةِ؛ ثِقةً بظُهورِ دَلالةِ مُقابلِ المُبشَّرِ عليهِ، وهو الأمرُ بالتَّبشيرِ. وقولُه: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ناظرٌ إلى قولِه: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ [الأحزاب: 46] ، وأمَّا قولُه: وَسِرَاجًا مُنِيرًا؛ فلم يُذكَرْ له مُقابِلٌ في هذه المَطالبِ، إلَّا أنَّه لَمَّا كان كالتَّذييلِ للصِّفاتِ ناسَبَ أنْ يُقابِلَه ما هو تَذييلٌ للمَطالِبِ، وهو قولُه: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا. وقيل: قُوبِلَ السِّراجُ المُنيرُ بالاكتفاءِ به تعالى؛ فإنَّ مَن أيَّده اللهُ تعالىَ بالقُوَّة القُدسيَّةِ، ورشَّحَه للنُّبوَّةِ، وجعَلَه بُرهانًا نَيِّرًا يَهدي الخَلْقَ مِن ظُلماتِ الغَيِّ إلى نُورِ الرَّشادِ؛ حَقيقٌ بأنْ يَكْتَفي به عن كلِّ ما سِواهُ [951] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/234)، ((تفسير أبي السعود)) (7/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/59). .