موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيتان (72-73)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَأَبَيْنَ: أي: امتَنَعْنَ، والإباءُ: هو امتناعٌ باختيارٍ، وأبَى الشَّيءَ: لم يَرْضَه، وأبى عليه: امْتَنَع، وهو غيرُ الاستكبارِ، وكلُّ إباءٍ: امْتناعٌ بلا عكسٍ، فإنَّ الإباءَ شدَّةُ الامتناعِ، وأصلُ (أبي): يَدُلُّ على الِامْتِناعِ [1437] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/45)، ((التبيان في تفسير غريب القرآن)) لابن الهائم (ص: 66)، ((تفسير العليمي)) (5/395)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 28). .
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا: أي: خِفْنَ مِن الأمانةِ أن لا يُوفِّيْنَها، فيَلحَقَهنَّ العقابُ، والإشفاقُ: عنايةٌ مختلطةٌ بخَوفٍ، وإذا عُدِّي بـ (مِن) فمعنَى الخوفِ فيه أظهرُ، وأصلُ (شفق): يدُلُّ على رقَّةٍ في الشَّيءِ [1438] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/197)، ((الوسيط)) للواحدي (3/485)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 121). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى معَظِّمًا شأنَ الأمانةِ، الَّتي ائتمَن عليها المكلَّفينَ: إنَّا عرَضْنا الأمانةَ -مِن أوامِرَ ونَواهٍ وطاعاتٍ- على السَّمواتِ والأرضِ والجِبالِ، فرفَضْنَ حَمْلَها؛ خَشيةً مِن عدَمِ القيامِ بذلك، وحَمَلها الإنسانُ؛ إنَّه ظَلومٌ في عدَمِ الوفاءِ بالأمانةِ، جَهولٌ برَبِّه وبعدَمِ تقديرِه قَدْرَ إضاعةِ الأمانةِ؛ لِيُعَذِّبَ اللهُ المنافِقينَ والمُنافقاتِ -الَّذين يُظهِرونَ الإسلامَ، ويُبطِنونَ الكُفرَ- والمُشرِكينَ والمُشرِكاتِ بالله تعالى، ويَتوبَ اللهُ على المُؤمِنينَ والمؤمِناتِ، وكان الله غَفورًا رَحيمًا.

تَفسيرُ الآيتَينِ:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أرشَد المُؤمنينَ إلى ما أرشَد مِن تركِ الأذَى، واتِّقاءِ اللهِ، وسَدادِ القَولِ، ورَتَّب على الطَّاعةِ ما رَتَّب؛ بَيَّن أنَّ ما كُلِّفَه الإنسانُ أمرٌ عظيمٌ، فقال [1439] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/187)، ((تفسير أبي حيان)) (8/508). :
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ.
أي: إنَّا عرَضْنا الأوامِرَ والنَّواهيَ والفرائِضَ والطَّاعاتِ على السَّمَواتِ والأرضِ والجِبالِ، فتُثابُ على حَملِها والقيامِ بها، وتُعاقَبُ على تَرْكِ ذلك [1440] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/204)، ((تفسير ابن عطية)) (4/402)، ((تفسير القرطبي)) (14/253، 254)، ((تفسير ابن جزي)) (2/160)، ((تفسير ابن كثير)) (6/488، 489)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/202)، ((تفسير السعدي)) (ص: 673)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/259). قال الواحدي: (الأمانةُ في هذه الآيةِ في قولِ جميعِهم: الطَّاعةُ والفرائِضُ الَّتي يتعلَّقُ بأدائِها الثَّوابُ، وبتضييعِها العِقابُ). ((البسيط)) (18/302). وقال أبو حيَّان: (والأمانةُ: الظَّاهرُ أنَّها كلُّ ما يُؤتَمنُ عليه مِن أمرٍ ونهْيٍ، وشأنِ دِينٍ ودُنيا، والشَّرعُ كلُّه أمانةٌ. وهذا قولُ الجمهورِ). ((تفسير أبي حيان)) (8/509). وقال السَّمعاني: (قَولُ أكثَرِ السَّلَفِ، وهو المحكيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ وجماعةِ التَّابِعينَ: هو أنَّ الله تعالى عرَض أوامِرَه على السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ عَرْضَ تخييرٍ لا عَرْضَ إلزامٍ، وقال لهنَّ: أتَحمِلْنَ هذه الأمانةَ بما فيها؟ قلْنَ: وما فيها؟ فقال: إنْ أحسَنْتُنَّ جُوزِيتُنَّ، وإن عَصَيتُنَّ عُوقِبتُنَّ. فقُلْنَ: لا نتحَمَّلُ الأمانةَ ولا نُريدُ ثوابًا ولا عقابًا؛ وعَرَضَها على آدَمَ فتحَمَّلَها بما فيها!). ((تفسير السمعاني)) (4/312). .
عن حُذَيْفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((حدَّثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَديثَينِ، رأيتُ أحَدَهما، وأنا أنتَظِرُ الآخَرَ: حدَّثَنا أنَّ الأمانةَ نَزَلت في جَذْرِ [1441] الجَذرُ: الأصلُ مِن كلِّ شَيءٍ. يُنظر: ((إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (1/448). قُلوبِ الرِّجالِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ القرآنِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ السُّنَّةِ، وحدَّثَنا عن رَفْعِها، قال: يَنامُ الرَّجُلُ النَّومةَ فتُقبَضُ الأمانةُ مِن قَلْبِه، فيَظَلُّ أثَرُها مِثلَ أثَرِ الوَكْتِ [1442] الوَكْتُ: الأثَرُ اليسيرُ، كالنُّقطةِ في الشَّيءِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (8/3379). ، ثمَّ يَنامُ النَّومةَ فتُقبَضُ فيَبقى أثَرُها مِثْلَ المَجْلِ [1443] المَجْلُ: أثَرُ العَمَلِ في اليَدِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/39)، ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (8/3379). ؛ كجَمرٍ دحْرَجْتَه على رِجْلِك فنَفِطَ [1444] نَفِطَ: أي: وَرِمَ وامتَلأ ماءً. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/197). فتَراه مُنتَبِرًا [1445] مُنتَبِرًا: أي: مُرتَفِعًا. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (9/285). وليس فيه شَيءٌ! فيُصبِحُ النَّاسُ يَتبايَعونَ، فلا يَكادُ أحدٌ يؤدِّي الأمانةَ! فيُقالُ: إنَّ في بني فُلانٍ رجُلًا أمينًا! ويقال للرَّجُلِ: ما أعْقَلَه! وما أظرَفَه! وما أجْلَدَه! وما في قَلْبِه مِثقالُ حَبَّةِ خَردلٍ مِن إيمانٍ! ولقد أتَى علَيَّ زمانٌ وما أبالي أيَّكم بايَعتُ؛ لَئِنْ كان مُسلِمًا رَدَّه علَيَّ الإسلامُ، وإنْ كان نصرانيًّا ردَّه علَيَّ ساعِيهِ، فأمَّا اليَومَ فما كنتُ أُبايِعُ إلَّا فُلانًا وفُلانًا !!)) [1446] رواه البخاري (6497) واللَّفظُ له، ومسلم (143). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بيْنَما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مجلِسٍ يُحَدِّثُ القَومَ، جاء أعرابيٌّ فقال: متى السَّاعةُ؟ فمضَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحدِّثُ، فقال بَعضُ القَومِ: سَمِعَ ما قال فكَرِهَ ما قال، وقال بعضُهم: بل لم يَسمَعْ. حتَّى إذا قضَى حديثَه قال: أين السَّائِلُ عن السَّاعةِ؟ قال: ها أنا يا رَسولَ اللهِ. قال: فإذا ضُيِّعَت الأمانةُ، فانتَظِرِ السَّاعةَ. قال: كيف إضاعتُها؟ قال: إذا وُسِّدَ [1447] وُسِّد: أي: أُسنِدَ وفُوِّضَ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (8/3429). الأمرُ إلى غيرِ أهلِه، فانتَظِرِ السَّاعةَ)) [1448] رواه البخاري (59). .
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا.
أي: فلمْ تَقبَلِ السَّمَواتُ والأرضُ والجِبالُ أن تختارَ امتِثالَ الأوامِرِ واجتنابَ النَّواهي على الثَّوابِ والعِقابِ، وخِفْنَ مِن عذابِ اللهِ على عدَمِ القيامِ بذلك [1449] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/510)، ((تفسير السمعاني)) (4/313)، ((تفسير البغوي)) (3/669)، ((تفسير ابن عطية)) (4/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 673)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/259). قال الواحدي: (معنى قَولِه: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا أي: مَخافةً وخَشيةً، لا مَعصيةً ومخالَفةً، والعَرْضُ كان تخييرًا لا إلزامًا). ((البسيط)) (18/304). وقال الشنقيطي: (وهذا العَرضُ والإباءُ والإشفاقُ: كُلُّه حَقٌّ، وقد خلَقَ اللهُ للسَّمواتِ والأرضِ والجبالِ إدراكًا يَعلَمُه هو جلَّ وعلا، ونحن لا نعلَمُه، وبذلك الإدراكِ أدركَتْ عَرْضَ الأمانةِ عليها، وأبَتْ وأشفَقَتْ). ((أضواء البيان)) (6/258). .
وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.
أي: وحمَلَ الإنسانُ [1450] قيل: المرادُ: نوعُ الإنسانِ، وليس فردًا بعَيْنِه. وممَّن قال بهذا: ابنُ القيِّم، وابنُ عاشور. يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 126)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/125). قال السمرقندي: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ يعني: آدَمَ وذُرِّيَّتَه). ((تفسير السمرقندي)) (3/76). وقيل: المرادُ بالإنسانِ: آدمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، والعُلَيمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/510)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 875)، ((تفسير السمعاني)) (4/313)، ((تفسير البغوي)) (3/669)، ((تفسير العليمي)) (5/395)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/259). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والضَّحَّاكُ، وأبو العاليةِ، ومجاهِدٌ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/205)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/669). قال الشنقيطي: (الظَّاهرُ أنَّ المرادَ بالإنسانِ آدمُ عليه وعلى نبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ الضَّميرَ في قولِه: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا راجعٌ لِلَفْظِ: «الإنسان» مُجَرَّدًا عن إرادةِ المذكورِ منه، الَّذي هو آدَمُ. والمعنَى: أنَّه -أي: الإنسانَ- الَّذي لا يحفظُ الأمانةَ كان ظلومًا جهولًا، أي: كثيرَ الظُّلمِ والجهلِ). ((أضواء البيان)) (6/259). الأمانةَ [1451] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/76)، ((تفسير ابن جزي)) (2/160)، ((تفسير ابن كثير)) (6/489). !
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.
أي: إنَّ الإنسانَ واقِعٌ في ظُلمِ نَفْسِه، والجَهلِ برَبِّه وشَرْعِه وقَدْرِ الأمانةِ [1452] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/196)، ((تفسير الماتريدي)) (8/421)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 875)، ((تفسير ابن عطية)) (4/402)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/129، 130)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/259). .
كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] .
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73).
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ.
أي: لِيُعذِّبَ اللهُ الَّذين خانوا الأمانةَ مِن المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ؛ الَّذين يُظهِرونَ الإسلامَ، ويُبطِنونَ الكُفرَ، ويُعَذِّبَ المُشرِكينَ والمُشرِكاتِ باللهِ تعالى [1453] قال ابنُ القيِّم: (الخِطابُ للإنسانِ مِن حيثُ هو إنسانٌ على طريقةِ القُرآنِ فى تناوُلِ الذَّمِّ له مِن حيثُ هو إنسانٌ؛ كقَولِه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [الإسراء: 11]، وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء: 100]، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6]، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ [الحج: 66]، ونظائِرُه كثيرةٌ؛ فالإنسانُ -مِن حيثُ هو- عارٍ عن كُلِّ خيرٍ مِن العِلمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وإنَّما اللهُ سُبحانَه هو الَّذي يُكَمِّلُه بذلك ويُعطيه إيَّاه، وليس له ذلك مِن نَفْسِه، بل ليس له مِن نفْسِه إلَّا الجَهلُ المُضادُّ للعِلمِ، والظُّلمُ المُضادُّ للعَدلِ، وكُلُّ عِلمٍ وعَدلٍ وخَيرٍ فيه: فمِنْ رَبِّه، لا مِن نفْسِه). ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) (ص: 192). يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/511)، ((تفسير ابن جرير)) (19/205، 206)، ((تفسير القرطبي)) (14/258)، ((تفسير ابن كثير)) (6/493). اختُلِف في اللَّامِ: هل هي للعاقِبةِ، أو للتَّعليلِ؛ فقيل: هي لامُ التَّعليلِ. وممَّن قال بهذا: القرطبي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/258)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/259). وقيل: هي لامُ العاقِبةِ. وممَّن قال بهذا: القُشَيري، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/174)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/131). واختُلِف في متعلَّقِ اللامِ؛ فقيل: اللَّامُ في قَولِه تعالى: لِيُعَذِّبَ متعلِّقةٌ بقَولِه سُبحانَه: عَرَضْنَا. وممَّن قال بهذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/511)، ((تفسير السمرقندي)) (3/77). قال مقاتلٌ: (عرَضْنا الأمانةَ على الإنسانِ؛ لِكَيْ يعَذِّبَ الله المنافِقينَ والمنافِقاتِ والمشركينَ والمشرِكاتِ بما خانوا الأمانةَ، وكذَّبوا الرُّسلَ...). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/511). وقيل: هي مُتعلِّقةٌ بقَولِه تعالى: وَحَمَلَهَا. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابن كثير، وابن عاشور، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/205)، ((تفسير القرطبي)) (14/ 258)، ((تفسير ابن كثير)) (6/493)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/131)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/259). قال أبو السعود: (حملَها الإنسانُ لِيُعذِّبَ الله بعضَ أفرادِه الَّذينَ لم يُراعوها، ولم يقابلُوها بالطَّاعةِ، على أنَّ اللَّامَ للعاقِبةِ). ((تفسير أبي السعود)) (7/118). وقال ابنُ قُتَيْبةَ: (أي: عرَضْنا ذلك عليه لِيَتقلَّدَه، فإذا تقلَّدَه ظَهَرَ نِفاقُ المنافِقِ، وشِركُ المُشرِكِ، فعذَّبَه اللهُ به، وظهَرَ إيمانُ المؤمِنِ، فتاب اللهُ عليه). ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 245). .
وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
أي: ولِيَتوبَ اللهُ على المؤمِنينَ والمؤمِناتِ؛ الَّذين قاموا بما أمَرَهم اللهُ، ولم يَخونوا الأمانةَ، فيَغفِرَ اللهُ لهم ذُنوبَهم، ويَرحَمَهم، ويُوفِّقَهم لطاعتِه [1454] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/206)، ((تفسير ابن كثير)) (6/493)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/131). قال السمعاني: (قوله: وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أي: يهْدِيهم ويَرحمُهم إذا أدَّوُا الأمانةَ). ((تفسير السمعاني)) (4/314). .
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ مُتَّصِفٌ أزَلًا وأبدًا بالمَغفرةِ، فيَستُرُ ذُنوبَ عبادِه ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها؛ ومُتَّصِفٌ أزَلًا وأبَدًا بالرَّحمةِ [1455] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/206)، ((تفسير السمرقندي)) (3/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 673). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

في قَولِه تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا إلى قولِه سُبحانَه: وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا أنَّه ليس لأحدٍ أن يَظُنَّ استِغناءَه عن التَّوبةِ إلى اللهِ، والاستِغفارِ مِن الذُّنوبِ، بل كلُّ أحدٍ مُحتاجٌ إلى ذلك دائمًا؛ فالإنسانُ ظالمٌ جاهِلٌ، وغايةُ المؤمِنينَ والمؤمِناتِ التَّوبةُ، وقد أخبرَ اللهُ تعالى في كتابِه بتوبةِ عبادِه الصَّالحينَ، ومَغفرتِه لهم [1456] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/256). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا قولُه: فَأَبَيْنَ أتَى بضميرِ هذه كضَميرِ الإناثِ؛ لأنَّ جمعَ التَّكسيرِ غيرَ العاقِلِ يجوزُ فيه ذلك وإن كان مُذكَّرًا [1457] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/145). .
2- قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا فكذلك الإنسانُ مِن شَأنِه الظُّلمُ والجَهلُ، فلمَّا أُودِعَ الأمانةَ بَقِيَ بَعضُهم على ما كان عليه، وبَعضُهم ترَكَ الظُّلْمَ، كما قال تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] ، وتَركَ الجَهلَ، كما قال تعالى في حقِّ آدمَ عليه السَّلامُ: وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة: 31] ، وقال في حَقِّ المؤمِنينَ عامَّةً: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ [آل عمران: 7] ، وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [1458] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/188). [فاطر: 28] .
3- قَولُ الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ذكَرَ اللهُ تعالى في الإنسانِ وَصْفَينِ: الظَّلومَ والجَهولَ، وذكَرَ مِن أوصافِه تعالى وَصْفَينِ، فقال: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، أي: كان غَفورًا للظَّلومِ، ورحيمًا على الجَهولِ؛ وذلك لأنَّ الله تعالى وعَد عبادَه بأنَّه يَغفِرُ الظُّلمَ جَميعًا إلَّا الظُّلمَ العَظيمَ الَّذي هو الشِّركُ، كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، وأمَّا الوَعدُ فقَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وأمَّا الرَّحمةُ على الجَهلِ فلأنَّ الجَهلَ محَلُّ الرَّحمةِ؛ ولذلك يَعتذِرُ المَسيءُ بقَولِه: ما عَلِمتُ [1459] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/189). .
4- الأصلُ في بني آدمَ الظُّلمُ والجَهلُ، كما قال تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، ومجرَّدُ التَّكلُّمِ بالشَّهادَتينِ لا يُوجِبُ انتِقالَ الإنسانِ عن الظُّلمِ والجَهلِ إلى العَدلِ [1460] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/357). !
5- اتِّباعُ الظَّنِّ جَهلٌ، واتِّباعُ هوى النَّفْسِ بغَيرِ هُدًى مِن اللهِ: ظُلمٌ، وجِماعُ الشَّرِّ الجَهلُ والظُّلمُ؛ قال الله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [1461] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/348). .
6- في قَولِه تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أنَّ الذُّنوبَ واقعةٌ مِن بني آدَمَ لا مَحالةَ؛ فكلُّ بني آدمَ ظَلومٌ جهولٌ إلَّا مَن تاب اللهُ عليه [1462] يُنظر: ((نظرية العقد)) لابن تيمية (1/34). .
7- في قَولِه عزَّ وجَلَّ: وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ذَكَر التَّوبةَ؛ لعِلْمِه سُبحانَه وتعالى أنَّه لا بُدَّ لكُلِّ إنسانٍ مِن أن يكونَ فيه جَهلٌ وظُلمٌ، ثمَّ يتوبُ اللهُ على مَن يشاءُ، فلا يَزالُ العَبدُ المؤمِنُ دائِمًا يَتبيَّنُ له مِنَ الحَقِّ ما كان جاهِلًا به، ويرجِعُ عن عمَلٍ كان ظالِمًا فيه، وأدْناه ظُلْمُه لِنَفْسِه، كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الحديد: 9] ، وقال تعالى: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [1463] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/348). [إبراهيم: 1] .
8- قوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا بِشارةٌ للمُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ بأنَّ اللهَ عامَلَهم بالغُفرانِ والرَّحمةِ [1464] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/132). .

بلاغةُ الآيتَينِ:

1- قولُه تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للتَّنويهِ بشأنِ الأمانةِ، وتَفخيمِ أمْرِها، وفيه تَقريرٌ للوَعدِ السَّابقِ بتَعظيمِ الطَّاعةِ، وبَيانِ عِظَمِ شأْنِ ما يُوجِبُها مِن التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ، وصُعوبةِ أمْرِها، وبَيَّن ذلك كُلَّه بطَريقِ التَّمثيلِ مع الإيذانِ بأنَّ ما صدَرَ عنهم مِن الطَّاعةِ وتَرْكِها، صدَرَ عنهم بعدَ القَبولِ والالتزامِ، وسمَّاها أمانةً مِن حيثُ إنَّها واجبةُ الأداءِ [1465] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/565)، ((تفسير البيضاوي)) (4/240)، ((تفسير أبي حيان)) (8/511)، ((تفسير أبي السعود)) (7/118)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/124)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/56، 57). .
قولُه: عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فيه الافتِتاحُ بحَرفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ بالخَبَرِ، أو تَنزيلِه -لِغَرابةِ شأنِه- مَنزِلةَ ما قد يُنكِرُه السَّامعُ [1466] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/124).  .
وتَخصيصُ السَّمَواتِ والأرضِ بالذِّكْرِ مِن بيْنِ المَوْجوداتِ؛ لأنَّهما أعظَمُ المعروفِ للنَّاسِ مِن الموجوداتِ [1467] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/118)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/125)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/57، 58). ، ولأنَّها أشَدُّ الأمورِ وأحمَلُها للأثقالِ [1468] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/188، 189). .
وعطْفُ الجِبالِ على الأرضِ في قولِه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ؛ لأنَّ الجبالَ أعظَمُ الأجزاءِ المَعْروفةِ مِن ظاهِرِ الأرضِ، وهي الَّتي تُشاهِدُ الأبصارُ عظَمَتَها [1469] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/125). ، ولزيادةِ قوَّتِها وصلابتِها؛ تعظيمًا للأمرِ [1470] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/509). .
قولُه: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، جُملةُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ الذي يَسمَعُ خَبَرَ أنَّ الإنسانَ تَحمَّلَ الأمانةَ، يَترقَّبُ مَعرفةَ ما كان مِن حُسنِ قيامِ الإنسانِ بما حَمَلَه وتَحمَّلَه، وليستِ الجُملةُ تَعليليَّةً؛ فكيف يُعلَّلُ بأنَّ حَمْلَه الأمانةَ مِن أجْلِ ظُلمِه وجَهلِه؟! فقولُه: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا مُؤْذِنٌ بكلامٍ مَحذوفٍ يَدُلُّ هو عليه؛ إذِ التَّقديرُ: وحَمَلَها الإنسانُ فلَمْ يَفِ بها؛ إنَّه كان ظَلومًا جَهولًا، فكأنَّه قيلَ: فكان ظَلومًا جَهولًا، أي: ظَلومًا في عَدَمِ الوَفاءِ بالأمانةِ؛ لأنَّه إجحافٌ بصاحِبِ الحَقِّ في الأمانةِ أيًّا كان، وجَهولًا في عَدَمِ تَقديرِه قَدْرَ إضاعةِ الأمانةِ مِن المُؤاخَذةِ المُتفاوِتةِ المراتبِ في التَّبِعةِ بها [1471] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/129- 130). .
2- قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
قولُه: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فيه الالتِفاتُ إلى الاسمِ الجليلِ (الله) أوَّلًا؛ لتَهويلِ الخَطبِ، وتَربيةِ المهابةِ. والإظهارُ في مَوقعِ الإضمارِ ثانيًا وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ لإبرازِ مَزيدِ الاعتناءِ بأمْرِ المُؤمِنينَ والتَّوبةِ عليهم؛ تَوفيةً لكُلٍّ مِن مَقَامَيِ الوعيدِ والوَعدِ حقَّه [1472] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/119)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/131- 132). .
وقدَّم هنا التَّعذيبَ على التَّوبةِ؛ لأنَّه لَمَّا سمَّى التَّكليفَ أمانةً، والأمانةُ مِن حُكمِها اللَّازمِ أنَّ الخائِنَ يَضمَنُ، وليس مِن حُكمِها اللَّازمِ أنَّ الأمينَ الباذِلَ جُهدَه يَستفيدُ أُجرةً؛ فكان التَّعذيبُ على الخيانةِ كاللَّازمِ، والأجرُ على الحِفظِ إحسانٌ، والعَدلُ قبْلَ الإحسانِ [1473] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/189). .
وأيضًا قدَّم مِن الخَوَنةِ أجدَرَهم بذلك، فقال: الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، أي: الَّذين يُظهِرونَ بَذْلَ الأمانةِ كَذِبًا وزُورًا، وهم حامِلونَ لها عريقون في النِّفاقِ [1474] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/426). .
وعَطَفَ وَيَتُوبَ على لِيُعَذِّبَ؛ لِيَجمَعَ لهم بيْنَ العَذابينِ؛ لأنَّ في التَّوبةِ على المُؤمِنينَ إرغامًا للكُفَّارِ [1475] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/492). .
وقولُه: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ ... [الأحزاب: 73] إلى نِهايةِ السُّورةِ، يَقتَضي أنَّ للأمانةِ المذكورةِ في الآيةِ السابقةِ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا مَزيدَ اختصاصٍ بالعِبْرةِ في أحْوالِ المُنافِقينَ والمُشرِكينَ مِن بيْنِ نَوعِ الإنسانِ في رَعْيِ الأمانةِ وإضاعتِها [1476] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/124). .