موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيتان (47- 48)

ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ

غريبُ الكَلِمات:

نَطْمِسَ وُجُوهًا: أي: نمحوَ تخطيطَ صُوَرِها، أو نمحوَ ما فيها من عينٍ وأنفٍ وحاجبٍ وفمٍ، والطَّمس: إزالة الأثَر، وأصل طمس: يدلُّ على محوِ الشَّيء ومسحِه يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 460)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/424)، ((المفردات)) للراغب (ص: 524)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 139)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 917). .
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا: نجعَل وجوهَهم من قِبل أَقفيتهم، أو نجعَل أبصارَهم من ورائهم، أو نجعَل الوجه قَفًا، والقَفَا وَجْهًا، وأصل الردِّ: صرفُ الشيء بذاتِه، أو بحالةٍ من أحواله؛ يقال: رَدَّه عن وجهه: صرفَه. وأصْل الدُّبر: آخِرُ الشيء وخلفُه، ضد القُبل يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/324)، ((المفردات)) للراغب (ص: 348- 349). .
أَصْحَابَ السَّبْتِ: المقصودُ بأصحابِ السَّبت: اليهودُ الذين ذُكِرت قصَّتُهم في سورة البَقرة والأعراف يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 392)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 79). .
افْتَرَى: كَذَب واختَلَق، وافترى فلانٌ على فلان: إذا قذَفه بما ليس فيه، أو قذَف أبوَيْهِ، و(الافتراء) الاختلاقُ، وهو ما عظُم مِن الكذبِ، وكذلك استُعمِل في القُرآن في الكَذِب والشِّركِ والظُّلم، وأصْلُه من الفَرْي، وهو: قطْعُ الجِلد للخرزِ والإصلاح يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31، 128، 280)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102، 460)، ((المفردات)) للراغب (ص: 634- 635)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 154). .

المَعْنى الإجماليُّ:

يأمُرُ اللهُ أهلَ الكتابِ من اليهود والنَّصارى بالإيمان بالقُرآنِ المنزَّلِ على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّ فيه تصديقًا وشَهادةً على ما معهم من الكتب، أمَرهم سبحانه أن يؤمنوا قبل أن يطمِسَ وجوهَهم فيحوِّلَها إلى جهةِ ظهورهم، أو يطرُدَهم من رحمتِه سبحانه، ويُنكِّل بهم كما فعَل بأصحاب السَّبتِ الَّذين احتالوا على الاصطياد فيه بعد أن نُهُوا عن الصَّيد فيه، فمسَخهم اللهُ تعالى قِردةً، وكان أمرُ الله حاصلًا لا مردَّ له.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّه لا يغفِرُ لأيِّ أحدٍ أشرَك معه غيرَه، ويغفِرُ ما دون الشِّركِ من الذُّنوبِ، سواءٌ الكبائرُ والصَّغائرُ، لمن يشاءُ مِن عبادِه، ومَن يُشرِكْ بالله تعالى فقد اختَلَق إثمًا عظيمًا.

تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى عن اليهودِ أنواعَ مَكرِهم وإيذائِهم، ورجَّاهم سبحانه وتعالى بقوله: وَلَوْ أَنَّهمْ قَالُوا... الآية، أمَرهم بالإيمانِ، وقرَن بهذا الأمرِ الوعيدَ الشَّديدَ على التَّركِ؛ ليكونَ أدعى لهم إلى الإيمانِ والتَّصديقِ به يُنظر: ((تفسير الرازي)) (10/95)، ((تفسير أبي حيان)) (3/667).. فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
أي: يا أيُّها اليهود والنَّصارى الَّذين أُنزِل إليهم التَّوراةُ والإنجيلُ فأُعطُوا العِلمَ، آمِنوا بما أنزَلْنا إلى محمَّدٍ من الفُرقان، مصدقًا للَّذي معكم من التَّوراةِ والإنجيلِ؛ فإنَّ القرآنَ شاهدٌ بما جاءت به تلك الكتبُ، وإنَّه حقٌّ، كما أنَّه مهيمِنٌ على غيرِه من الكتب السَّابقةِ الَّتي قد صدَّقها، فإنَّها قد أخبَرَتْ به يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/111)، ((تفسير ابن كثير)) (2/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 181)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/380-380). قال أبو حيان: (وبما نزَّلْنا هو القرآن بلا خلاف) ((البحر المحيط)) (3/667). .
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا
أي: آمِنوا قبل أن نَطمِسَ وجوهَكم، فنحوِّلَها إلى جهةِ الأدبارِ، أي: من قِبَل ظهورِكم.
والمراد بطَمْس الوجوهِ والرَّدِّ على الأدبارِ: قيل: ألَّا يبقى للوجوهِ سمعٌ ولا بصَر ولا أثَر، ونرُدُّها مع ذلك إلى ناحيةِ الأدبارِ، وقيل المراد: نطمِس أبصارَها ونمحو آثارَها, ونجعَل أبصارَها في أقفائِهم، فيمشون القَهْقرى، وقيل غير ذلك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/115-117)، ((تفسير ابن كثير)) (2/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 181)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/381). .
أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ
أي: أو نطرُدَهم من رحمتِنا، ونوقِعَ بهم من النَّكالِ مثلما وقَع لأصحابِ السَّبتِ الَّذين اعتدَوْا في سَبتِهم بالحيلةِ على الاصطيادِ فيه، فمُسِخُوا قردةً ذليلةً يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/119)، ((تفسير ابن كثير)) (2/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 181)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/381-382). .
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
أي: إنَّه تعالى إذا أمَر بأمرٍ، فإنَّه واقعٌ لا محالةَ؛ فأمرُهُ عزَّ وجلَّ لا يُخالَف ولا يُمانَع يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/120-121)، ((تفسير ابن كثير)) (2/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 181)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/383). .
قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
مناسبة الآية لما قلبها:
لَمَّا رجَّاهم سبحانه وتعالى بقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا... الآية، خاطَب مَن يُرجَى إيمانُه منهم بالأمرِ بالإيمان، وقرَن بالوعيدِ البالغِ على تركِه، ثمَّ أزال خوفَهم من سوءِ الكبائرِ السَّابقةِ معلِّلًا لتحقيقِ وعيدهم، مُعلِمًا بوقوعهم في الشِّركِ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/667)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/297).. فقال:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يغفِرُ لأيِّ أحدٍ من المخلوقين يَلقَى اللهَ سبحانه وقدْ جعَل معه شريكًا في ربوبيَّتِه أو ألوهيَّتِه أو أسمائِه وصفاتِه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/121)، ((تفسير ابن كثير)) (2/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 181)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/387-388). .
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
أي: ويغفِرُ اللهُ تعالى ما دون ذلك الشِّركِ من الذُّنوبِ- صغائرِها وكبائرِها- للَّذي يشاءُ مِن عبادِه مِن أهل الذُّنوبِ والآثام، إذا اقتضَتْ حكمتُه أن يغفِرَ له يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/121)، ((تفسير ابن كثير)) (2/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 181)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/388-389). .
عن أبي ذرٍّ رضِي اللهُ عنه، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ:... ومن لَقِيَني بقُرابِ الأرضِ خطيئةً لا يشركُ بي شيئًا، لقِيتُهُ بمثلِها مغفرةً )) رواه مسلم (2687). .
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا
أي: إنَّ مَن يقع في الإشراكِ باللهِ العظيمِ، فقد اختَلَق وِزْرًا عظيمًا وجُرمًا كبيرًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/123)، ((تفسير السعدي)) (ص: 182)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/389). .
كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
وعن عبدِ الله بنِ مَسعودٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أيُّ الذَّنبِ أعظمُ عِندَ اللهِ؟ قال: أنْ تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك، قلتُ: إنَّ ذلك لَعظيمٌ... )) رواه البخاري (4477) واللفظ له، ومسلم (86). .

الفوائد التربوية :

أنَّ ما دون الشِّركِ تحتَ المشيئةِ؛ لقوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وليس مجزومًا بمغفرتِه، ولا مجزومًا بالمؤاخَذةِ عليه، وإنَّما هو تحت المشيئةِ، ويتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: ردُّ كلامِ المسوِّفينِ الَّذين يفعَلون ما يفعَلون من المعاصي ثمَّ يقولون: إنَّ الله يغفِرُ ما دون الشِّركِ لمن يشاء، فنقول لهم: ما الَّذي أدراك أن تكونَ أنت ممَّن شاء اللهُ أن يغفِرَ لك؟ فلو فرَضْنا أنَّ عملَك المعصيةَ يمكِنُ أن يُغفَرَ، لكنَّه ليس بمتيقَّنٍ؛ فالمعصيةُ مفسَدةٌ ظاهرةٌ حاصلةٌ، ومغفرتها مصلحةٌ؛ لكنَّها تحت المشيئةِ؛ فقد تحصُلُ وقد لا تحصُلُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/391). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا...، أقبَل سبحانه على خِطابِ أهل الكتاب، وكذلك شأنُ القُرآن؛ لا يُفوِّتُ فرصةً تعِنُّ مِن فُرَصِ الموعظة والهُدى إلَّا اغتَنَمَها، وكذلك شأن النَّاصحين من الحُكماءِ والخُطباء أن يتوسَّموا أحوالَ تأثُّر نفوسِ المخاطَبَين ومظانَّ ارعوائِها عن الباطلِ، وتبصُّرِها في الحق، فيُنجِدوها حينئذٍ بقوارعِ الموعظةِ والإرشادِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/78). .
2- إثبات علوِّ اللهِ، ووجهُه قولُه: نَزَّلْنَا؛ لأنَّ النُّزولَ إنَّما يكون من الأعلى، وعلوُّ اللهِ عزَّ وجلَّ ينقسِمُ إلى قسمينِ: قسمٍ حِسيٍّ، وقسمٍ معنويٍّ؛ فالقسمُ المعنويُّ: متَّفقٌ عليه بين أهل الملَّة، حتَّى أهلُ التَّعطيلِ يدَّعون أنَّهم يُعطِّلون تنزيهًا للهِ عن النَّقص؛ فالعلوُّ المعنويُّ لا أحدَ يُنكِرُه من أهلِ الملَّةِ؛ فكلُّ أهلِ القِبلة يُقرُّون به، والعلوُّ الحسيُّ الذَّاتيُّ: هو الَّذي أنكَره طوائف من أهل البدع يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/384). .
3- في قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ أنَّ القرآنَ الكريمَ مصدِّقٌ للكتُبِ السَّابقة، يشهَدُ لها بالصِّدقِ، ومصدِّقٌ لها؛ حيث جاء مطابقًا لِما أخبَرَت به؛ فهو لا يتنافى معها ولا يتنافَرُ معها، لكنَّ الشَّرائعَ تختلفُ باختلاف الأممِ، حتَّى باختلاف الأحوال، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48] ، لكنَّ أصولَ المِلَلِ ثابتةٌ واحدة، وهذا الكتابُ العزيز مُصدِّقٌ لِما بين يديه، مُهيمِنٌ على ما سبَق، وإذا كان كذلك لزِم أن يكونَ ناسخًا لِما سبق يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/385). .
4- أنَّ الإحالةَ على المعلومِ تصِحُّ ولو بلفظِ الإبهام، وتؤخَذُ من قوله: كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ؛ لأنَّه إذا قال قائل: ما هي اللَّعنةُ الَّتي حلَّتْ بأصحابِ السَّبتِ؟ ومَن هم أصحابُ السَّبتِ؟ فنقول: ذُكِروا هنا على سبيلِ الإجمال؛ لأنَّ أمرَهم معلومٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/386). .
5- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ لله عزَّ وجلَّ، وكثيرٌ من المعطِّلة الأشاعرةِ والمعتزلة ونحوِهم يُنكِرون أنْ يقومَ باللهِ فِعلٌ متعلِّق بإرادته؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ الأفعالَ المتعلِّقة بالإرادة حادثةٌ، والحادثُ لا يقومُ إلَّا بحادثٍ، ولا شكَّ أنَّ هذا كذِبٌ في التَّصوُّرِ؛ لأنَّ الشَّيء الحادثَ يمكِنُ أن يقومَ بالأزلِ، كما أنَّ الشَّيءَ الحادث الَّذي حَدَثَ اليومَ يمكن أن يقومَ بمخلوقٍ خُلِقَ قبْلَ خمسين سنةً، فلا يلزمُ مِن حدوثِ الفعلِ أن يكونَ الفاعلُ حادثًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/391). .
6- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.. في هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ اليهوديَّ يسمَّى مشرِكًا في عُرفِ الشَّرع، وإلَّا كان مُغايرًا للمُشركِ، فوجَب أنْ يكونَ مغفورًا له؛ ولأنَّ اتصالَ هذه الآيةِ بما قبلها إنَّما كان لأنَّها تتضمَّنُ تهديدَ اليهود؛ فاليهوديَّةُ داخلةٌ تحت اسم الشِّركِ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/672). .
7- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فيه ردٌّ على مَن قال: إنَّ الكبائرَ لا تُغفر، وهم المعتزلةُ، وعلى مَن قال: إنَّ أصحابَ الكبائرِ مِن المسلمين لا يُعذَّبون، وهم المرجئةُ لقوله: لِمَنْ يَشَاءُ ينظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 93). .

بَلاغةُ الآيتين:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ اختلفتِ الصِّلةُ فيه عنِ الصِّلة في قولِه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران: 23] ؛ لأنَّ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِن الكِتَابِ جاءَ في مقامِ التَّعجبِ والتَّوبيخ، فناسبَتْه صِلةٌ مؤذِنةٌ بتهوينِ شأنِ عِلمهم بما أوتوه مِن الكِتاب، والَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ جاءَ في مقامِ التَّرغيبِ، فناسبَتْه صِلةٌ تؤذِنُ بأنَّهم شُرِّفوا بإيتاءِ التَّوراة؛ لتُثير هِممَهم للاتِّسامِ بمِيسَمِ الرَّاسخين في جرَيانِ أعمالهم على وَفْقِ ما يُناسِبُ ذلك، وليس بين الصِّلتينِ اختلافٌ في الواقعِ؛ لأنَّهم أوتوا الكتابَ كلَّه حقيقةً، باعتبار كونِه بين أيديهم، وأُوتوا نصيبًا منه باعتبارِ جرَيانِ أعمالهم على خلافِ ما جاء به كتابُهم؛ فالَّذي لم يَعمَلوا به منه كأنَّهم لم يؤتَوْه يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/78). .
- وجِيء بالصِّلتينِ في قوله: بِمَا نَزَّلْنَا وقوله: لِمَا مَعَكُمْ دون الاسمينِ العَلَمين، وهما: القرآنُ والتَّوراة؛ لِما في قوله: بِمَا نَزَّلْنَا مِن التَّذكيرِ بعِظَمِ شأنِ القرآنِ أنَّه منزَّلٌ بإنزالِ اللهِ، ولِما في قوله: لِمَا مَعَكُمْ من التَّعريضِ بهم في أنَّ التَّوراةَ كتابٌ مستصحَبٌ عندهم لا يعلَمون منه حقَّ عِلمِه، ولا يعمَلون بما فيه يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/78). .
2- قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا: خبرٌ فيه تهديدٌ أو وعيدٌ، وهذا تهديدٌ بأن يحُلَّ بهم أمرٌ عظيمٌ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/79). .
- وفيه تحاشِي التَّعبيرِ بالمواجهةِ عند المؤاخذة، فهنا قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا ولم يقُلْ: (وجوهكم)، وكان مقتضى السِّياقِ أن يقول: مِن قبْلِ أنَّ نطمِسَ وجوهَكم؛ لأنَّهم هم المهدَّدون، لكن أتى بها على صيغةِ النَّكرةِ تحاشيًا للمواجهةِ بالمؤاخَذةِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/385). .
 - وفي تنكير وُجُوهًا- المفيدِ للتَّكثيرِ- تهويلٌ للخَطْبِ العظيمِ، الَّذي يُثير الخوفَ، وفي إبهامِها لُطفٌ بالمخاطَبين، وحُسنُ استدعاءٍ لهم إلى الإيمانِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/185)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/232). .
وقد يقال: إنَّ المرادَ بالتَّنكيرِ هنا التَّعظيمُ، أي: وجوهًا معظَّمةً عندكم فتُطمَس، وهي وجوهُ زعمائِهم الَّذين صدُّوهم عن سبيلِ الله عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/385). .
3- قوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا: أَوْ نَلْعَنَهُمْ يَرجِع إلى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ على طَريقةِ الالتفاتِ- على أحدِ وجوهِ التَّأويل يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/519). وقال ابنُ جرير: (يعني بقولِه جلَّ ثناؤُه: أَوْ نَلْعَنَهُمْ، أو نَلْعنَكم فنُخزيكم ونجعلَكم قردةً... قيل: ذلك على وجه الخِطاب في قوله: آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ، كما قال: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا [سورة يونس: 22]، وقد يُحتمل أن يكونَ معناه: مِن قبلِ أن نطمسَ وجوهًا فنردَّها على أدبارِها، أو نلعنَ أصحابَ الوجوهِ، فجَعل الهاءَ والميم في قولِه: أَوْ نَلْعَنَهُمْ، مِن ذِكر أصحاب الوجوه، إذ كانَ في الكلامِ دلالةٌ على ذلك) ((تفسير ابن جرير)) (7/119). .
4- قوله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا: الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لِما سبق يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/187). .
- ووَضْع الاسمِ الجليلِ موضعَ الضَّمير بطريقِ الالتفاتِ؛ لتربيةِ المَهابةِ، وتعليلِ الحُكم، وتقويةِ ما في الاعتراضِ من الاستقلالِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/187). .
5- قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا: كلامٌ مستأنَفٌ مسُوقٌ لتقريرِ ما قبْلَه مِن الوعيدِ، وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمر بالإيمان ببيان استحالة المغفرة بدونه يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/187). .
- وجيء في قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ بحرف إِنَّ لتوكيد الخبرِ؛ لقصدِ دفْع احتمال المجازِ، أو للمبالغةِ في الوعيد، وهو إمَّا تمهيدٌ لِما بعده لتشنيعِ جُرم الشِّرك بالله؛ ليكون تمهيدًا لتشنيعِ حال الَّذين فضَّلوا الشِّركَ على الإيمان، وإظهارًا لمقدارِ التَّعجبِ مِن شأنهم الآتي في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّساء: 51]، أي: فكيف ترضَوْن بحالِ مَن لا يَرضَى اللهُ عنه، والمغفرةُ على هذا الوجهِ يصحُّ حملُها على معنى التَّجاوز الدُّنيويِّ، وعلى معنى التَّجاوز في الآخرة على وجه الإجمال يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/81). .
- وقوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ: فيه إظهارُ الاسمِ الجليل في موضعِ الإضمار؛ لزيادة تقبيحِ الإشراك، وتفظيعِ حالِ مَن يتَّصفُ به يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/187). .