موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيات (46-50)

ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ

غَريبُ الكَلِماتِ:

جِنَّةٍ: أي: جُنونٍ، وأصلُ (جنن): السَّتْرُ والتَّسَتُّرُ؛ وسُمِّي الجُنونُ بذلك؛ لأنَّه يَستُرُ العقلَ ويُغطِّيه [726] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 175)، ((تفسير ابن جرير)) (19/305)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/421)، ((تفسير الماوردي)) (2/136)، ((المفردات)) للراغب (ص: 205)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 213، 306). .
يَقْذِفُ: أي: يُلْقي، وأصلُ (قذف): يدُلُّ على الرَّميِ والطَّرحِ [727] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 358)، ((تفسير ابن جرير)) (19/306)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/68)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 309)، ((تفسير القرطبي)) (14/312)، ((تفسير ابن كثير)) (6/527). .
وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ: أي: زال الباطِلُ وهلَك؛ فلم تَبْقَ منه بقيَّةٌ يُقبِلُ بها أو يُدبِرُ، أو يُبدِئُ أو يُعيدُ؛ فالإبداءُ والإعادةُ مِن صفةِ الحيِّ، فعدمُهما عبارةٌ عن الهلاكِ، وأصلُ (بدأ): يدُلُّ على افتتاحِ الشَّيءِ، وأصلُ (عود): يدُلُّ على تثنيةٍ في الأمرِ؛ عَوْدًا بعدَ بَدْءٍ [728] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/212) و(4/181)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/503)، ((شرح القسطلاني)) (6/393)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 30). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى ملقِّنًا نبيَّه الحُجَجَ القاطعةَ، والأقوالَ الحكيمةَ، الَّتي تهدي إلى الحقِّ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشركي قَومِك: إنَّما أنصَحُكم بخَصلةٍ واحِدةٍ: أن تقوموا مُخلِصينَ لله تعالى دونَ اتِّباعِ أهوائِكم، مُجتَمِعينَ اثنَينِ اثنَينِ، وواحِدًا واحِدًا، ثمَّ تَتفكَّروا في شأنِ مُحمَّدٍ، فتَعلَموا أنَّه ليس به مِن جُنونٍ! فما محمَّدٌ إلَّا نذيرٌ لكم يُنذِرُكم عذابًا شَديدًا.
قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: إنْ سَألتُكم أجرًا فهو لكم؛ فما أجري على البلاغِ إلَّا على اللهِ وَحْدَه، واللهُ على كُلِّ شَيءٍ رَقيبٌ.
وقُلْ لهم: إنَّ رَبِّي يُلْقي الوَحيَ على رَسولِه، وهو سبُحانَه علَّامُ الغُيوبِ.
وقُلْ لهم: جاء القرآنُ المُشتَمِلُ على الحَقِّ، وذهَبَ الباطِلُ ذَهابًا كُلِّيًّا فلم يَبقَ له بقيَّةٌ.
وقُلْ لهم: إنْ ضلَلْتُ عن الهُدى فإنَّما إثْمُ ضَلالي على نَفْسي لا عليكم، وإنِ اهتدَيتُ فذلك بتوفيقِ رَبِّي لي باتِّباعِ ما أوحى إلَيَّ، إنَّ ربِّي سَميعٌ قَريبٌ.

تَفسيرُ الآياتِ:

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه ذكَرَ الأصولَ الثَّلاثةَ في هذه الآيةِ بعدَما سَبَق منه تقريرُها بالدَّلائلِ؛ فقَولُه: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ إشارةٌ إلى التَّوحيدِ، وقَولُه: مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ [سبأ: 46] إشارةٌ إلى الرِّسالةِ، وقَولُه: بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] إشارةٌ إلى يَومِ الآخرةِ [729] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/214). .
وأيضًا لَمَّا أبطل اللهُ تعالى شُبَهَ الكافِرينَ كُلَّها، وليَّن مِن عَريكتِهم بالتَّنبيهِ على التَّحذيرِ؛ فصاروا جديرينَ بقَبولِ الوَعظِ، وكان ممَّا رَمَوه به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وحاشاه- الجنونُ وتعمُّدُ الكَذِبِ؛ فرَدَّ عليهم تعالى، فقال [730] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/529). :
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لكُفَّارِ قَومِك: إنَّما أُشيرُ عليكم وأنصَحُكم بالقيامِ بخَصلةٍ واحِدةٍ فحَسْبُ [731] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/303)، ((تفسير السمرقندي)) (3/95)، ((الوسيط)) للواحدي (3/498)، ((تفسير الزمخشري)) (3/590)، ((تفسير ابن جزي)) (2/169)، ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 682)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 278). .
أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى.
أي: أن تَقوموا بهِمَّةٍ واجتِهادٍ على وَجهِ الإخلاصِ للهِ تعالى، واستِحضارِ عَظَمتِه، دونَ اتِّباعٍ لهوًى، أو تعصُّبٍ لِعَشيرةٍ، فتَقوموا مجتَمِعينَ اثنَينِ اثنَينِ، وفَرْدًا فَردًا [732] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/95)، ((تفسير الزمخشري)) (3/590)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/472)، ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/529)، ((تفسير السعدي)) (ص: 682)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/232). ممَّن قال بأنَّ المرادَ بالواحدةِ: القيامُ للهِ مَثْنى وفُرادى؛ للتَّفَكُّرِ في أمرِ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، وابنُ جُزَي، وابنُ القيِّم، وابنُ كثير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/304)، ((تفسير الزمخشري)) (3/590)، ((تفسير ابن جزي)) (2/169)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/472)، ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/529). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/304)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/503). وقيل: المرادُ بالواحدةِ: كَلِمةُ التَّوحيدِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ. وممَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ويحيى بنُ سلام، والزَّجَّاجُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/537)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/769)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/256). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهِدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/503). .
ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ.
أي: ثمَّ تَتفكَّروا مع غَيرِكم ومع أنفُسِكم في شأنِ محمَّدٍ، فتَعلَموا أنَّه ليس بصاحِبِكم الَّذي خالطْتُموه وعرَفْتُم أحوالَه ورَجاحةَ عَقلِه: مِن جُنونٍ [733] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/305)، ((تفسير ابن جزي)) (2/169)، ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/233). قال القرطبي: (الوَقفُ عند أبي حاتمٍ وابنِ الأنباريِّ على ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا. وقيل: ليس هو بوقفٍ؛ لأنَّ المعنى: ثمَّ تَتفكَّروا هل جرَّبتُم على صاحِبِكم كَذِبًا، أو رأيتُم فيه جِنَّةً، أو في أحوالِه مِن فسادٍ، أو اختلَف إلى أحدٍ ممَّن يَدَّعي العِلمَ بالسِّحرِ، أو تعلَّم الأقاصيصَ وقرأ الكتُبَ، أو عرَفتُموه بالطَّمَعِ في أموالِكم، أو تَقدِرونَ على مُعارَضتِه في سورةٍ واحدةٍ؟! فإذا عرَفتُم بهذا الفِكرِ صِدقَه، فما بالُ هذه المعانَدةِ؟!). ((تفسير القرطبي)) (14/311، 312). وممَّن جعَل الوَقفَ على: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا، وتكونُ جملةُ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ استئنافًا مِن كلامِ اللهِ تعالى؛ تكذيبًا لهم: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (15/530). وممَّن أثبت محذوفًا تقديرُه: فتَعْلَموا، أو: فتتَبَيَّنوا... ونحو ذلك، على معنى: ثمَّ تَتفكَّروا فتَعْلَموا أنَّه ما بصاحِبِكم مِن جِنَّةٍ: ابنُ جُزَي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/233). !
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف: 184] .
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.
أي: ما مُحمَّدٌ إلَّا نَذيرٌ لكم يُنذِرُكم عذابًا شَديدًا وقَريبًا قبْلَ حُلولِه بكم؛ لِكُفرِكم [734] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/305)، ((تفسير السمرقندي)) (3/95)، ((تفسير ابن عطية)) (4/425)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/531)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 281). قال ابن عثيمين: (يعني: ما محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَّا رجُلٌ مِن أعقَلِ النَّاسِ، ومِن أحَنِّ النَّاسِ على قَومِه... فالنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هذه حالُه، رجُلٌ عاقلٌ ناصحٌ لقومِه حانٍ عليهم؛ لأنَّ الَّذي يُنذِرُك مِن العذابِ يُعتبَرُ مُحسِنًا إليك). ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 281). .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((صَعِدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّفا ذاتَ يومٍ، فقال: يا صَبَاحاه [735] هذه كلِمةٌ يقولُها المُستغيثُ، وأصْلُها إذا صاحوا للغارةِ؛ لأنَّهم أكثَرُ ما كانوا يُغِيرون عندَ الصَّباحِ، ويُسَمُّون يومَ الغارةِ يومَ الصَّباحِ، فكأنَّ القائلَ «يا صَباحاه» يقولُ: قد غَشِيَنا العدوُّ. وقيل: إنَّ المُتقاتِلينَ كانوا إذا جاء اللَّيلُ يَرجِعون عن القتالِ، فإذا عاد النَّهارُ عاوَدوه، فكأنَّه يريدُ بقولِه «يا صَباحاه»: قد جاء وقتُ الصَّباحِ، فتأهَّبوا للقتالِ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/6، 7). ! فاجتمَعَت إليه قُرَيشٌ، قالوا: ما لَك؟ قال: أرأيتُم لو أخبَرْتُكم أنَّ العَدُوَّ يُصَبِّحُكم أو يُمَسِّيكم، أمَا كنتُم تُصَدِّقُوني؟ قالوا: بلى، قال: فإنِّي نذيرٌ لكم بيْنَ يَدَيْ عذابٍ شديدٍ، فقال أبو لهبٍ: تبًّا لك، ألهذا جمعْتَنا؟! فأنزل الله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] )) [736] رواه البخاري (4801) واللفظ له، ومسلم (208). .
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما به جِنَّةٌ؛ لِيَلزَمَ منه كَونُه نَبيًّا- ذكَرَ وَجهًا آخَرَ يَلزَمُ منه أنَّه نبيٌّ، إذا لم يكُنْ مَجنونًا؛ لأنَّ مَن يَرتكِبُ العناءَ الشَّديدَ لا لغرَضٍ عاجلٍ إذا لم يكُنْ ذلك فيه ثوابٌ أُخرويٌّ يكونُ مجنونًا؛ فالنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بدَعواه النُّبُوَّةَ يَجعَلُ نفْسَه عُرضةً للهَلاكِ عاجِلًا؛ فإنَّ كُلَّ أحدٍ يَقصِدُه ويُعاديه، ولا يَطلُبُ أجرًا في الدُّنيا؛ فهو يَفعَلُه للآخرةِ، والكاذِبُ في الآخرةِ مُعَذَّبٌ لا مُثابٌ، فلو كان كاذِبًا لَكان مجنونًا، لكِنَّه ليس بمجنونٍ؛ فليس بكاذبٍ؛ فهو نبيٌّ صادِقٌ [737] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/215). .
وأيضًا لَمَّا كان ثَمَّ مانِعٌ للنُّفوسِ آخَرُ عن اتِّباعِ الدَّاعي إلى الحَقِّ، وهو أنَّه يأخُذُ أموالَ مَن يَستجيبُ له، ويأخُذُ أُجرةً على دَعوتِه؛ بيَّن الله تعالى نزاهةَ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن هذا الأمرِ [738] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 682). .
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشركي قَومِك: إنْ سألْتُكم أجرًا فهو لكم؛ فلا أُريدُ منكم أجرًا على تَبليغي رِسالةَ اللهِ إليكم، ولا تَظُنُّوا أنِّي أدعوكم إلى الإيمانِ باللهِ وطاعتِه وأُنذِرُكم عذابَه لآخُذَ شَيئًا مِن أموالِكم [739] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/306)، ((تفسير القرطبي)) (14/312)، ((تفسير ابن كثير)) (6/526)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683). .
كما قال تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [ص: 86، 87].
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ.
أي: ما أَجْري على تَبليغِكم رِسالةَ اللهِ إلَّا على اللهِ وَحْدَه [740] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/306)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 887)، ((تفسير ابن كثير)) (6/526). قال البِقَاعي: (فإذا ثبتَ أنَّ الدُّعاءَ [أي: الدَّعوةَ إلى الله] ليس لغَرَضٍ دُنيويٍّ، وأنَّ الدَّاعيَ أرجَحُ النَّاسِ عقلًا؛ ثبَتَ أنَّ الَّذي حمَلَه على تعريضِ نفْسِه لتلك الأخطارِ العَظيمةِ إنَّما هو أمرُ اللهِ الَّذي له الأمرُ كُلُّه). ((نظم الدرر)) (15/532). .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
أي: واللهُ على كُلِّ شَيءٍ رَقيبٌ حاضِرٌ؛ فهو يَشهَدُ على حقيقةِ ما أقولُه لكم وأدعوكم إليه، ولو كُنتُ كاذِبًا لأخَذَني بعذابٍ، وشَهيدٌ على أنَّني بلَّغتُكم وأنذَرْتُكم، فكذَّبتُموني وخالَفْتُم، فأجري على اللهِ، وعُقوبتُكم عليه [741] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/306)، ((تفسير القرطبي)) (14/312)، ((تفسير ابن كثير)) (6/526)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 287، 290). .
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى رِسالةَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم بقَولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ، وأكَّده بقَولِه: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، وكان مِن عادةِ المُشرِكينَ استِبعادُ تخصيصِ واحدٍ مِن بيْنِهم بإنزالِ الذِّكرِ عليه، كما قال تعالى عنهم: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص: 8]- ذكَرَ ما يَصلُحُ جوابًا لهم، مع الإشارةِ إلى أنَّ الأمرَ بيَدِه، يَفعَلُ ما يُريدُ، ويُعطي ما يَشاءُ لِمَن يشاءُ [742] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/216). .
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ.
أي: قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ-: إنَّ رَبِّي يُلقي الوَحيَ على رَسولِه [743] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/532، 533)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 291، 292). قال الزمخشري: (معنى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يُلقيه ويُنزِلُه إلى أنبيائِه، أو يَرمي به الباطِلَ فيَدمَغُه ويُزهِقُه). ((تفسير الزمخشري)) (3/591). وممَّن قال بالمعنى الأوَّلِ، وهو إلقاؤُه وإنزالُه على رُسُلِه: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/306، 307)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 887)، ((تفسير ابن كثير)) (6/527). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/307)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/711). وممَّن قال بالمعنى الثَّاني، وهو رمْيُ الباطِلِ وإبطالُه: البِقاعي، والسعدي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/532)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 291). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/307). وظاهِرُ عبارةِ الزَّجَّاجِ الجمعُ بيْنَهما؛ حيث قال: (ومعنى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي: يأتي بالحَقِّ ويَرمي بالحَقِّ، كما قال جلَّ وعزَّ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/258). وقال ابنُ عاشور: (والمعنى: أنَّ رَبِّي يَقذِفُكم بالحَقِّ، أو هو إشارةٌ إلى قَولِه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ [الأنبياء: 18] ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/238). .
عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
أي: العلَّامُ بكُلِّ ما يَغيبُ عن خَلقِه، لا يخفَى عليه شَيءٌ [744] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/307)، ((تفسير ابن كثير)) (6/527)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/238). قال السعدي: (فإنَّك كما ترى كيف اضمَحَلَّت أقوالُ المكَذِّبين، وتبيَّنَ كَذِبُهم وعِنادُهم، وظهَر الحقُّ وسَطَع، وبطَل الباطِلُ وانقَمَع؛ وذلك بسَبَبِ بيانِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ الَّذي يَعلَمُ ما تَنطوي عليه القُلوبُ مِن الوَساوِسِ والشُّبَهِ، ويَعلَمُ ما يُقابِلُ ذلك ويَدفَعُه مِنَ الحُجَجِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 683). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/532، 533). .
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه يَقذِفُ بالحَقِّ، وكان ذلك بصيغةِ الاستِقبالِ؛ ذكَرَ أنَّ ذلك الحَقَّ قد جاء [745] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/216). .
وأيضًا لَمَّا وَصَف اللهُ تعالى نفْسَه بنهايةِ العِلمِ؛ أتْبَعَه بعضَ آثارِه، فقال [746] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/533). :
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ.
أي: قُلْ لهم -يا محمَّدُ-: جاء الحقُّ الَّذي لا يَقدِرُ أحدٌ على إزالتِه وإبطالِه، بنُزولِ القُرآنِ المُشتَمِلِ على البَيِّناتِ والحُجَجِ، وبدِينِ الإسلامِ [747] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/307)، ((تفسير ابن كثير)) (6/527)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/533)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/239). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالحقِّ هنا القرآنُ والإسلامُ: الثعلبيُّ، والبغوي، والرسعني، والخازن، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/94)، ((تفسير البغوي)) (3/685)، ((تفسير الرسعني)) (6/258)، ((تفسير الخازن)) (3/451)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/239). وممَّن اقتصَر في تفسيرِ الحقِّ على الإسلامِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابنُ جُزَي، والعُلَيمي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/538)، ((تفسير السمرقندي)) (3/95)، ((تفسير ابن جزي)) (2/169)، ((تفسير العليمي)) (5/434)، ((تفسير القاسمي)) (8/155). وقال ابن جرير: (جاء القرآنُ ووَحْيُ اللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (19/307). وقال الماوَرْدي: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ فيه ثلاثةُ تأويلاتٍ؛ أحَدُها: بَعثةُ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. قاله ابنُ زَيدٍ. الثَّاني: القرآنُ. قاله قَتادةُ. الثَّالثُ: الجهادُ بالسَّيفِ. قاله ابنُ مسعودٍ). ((تفسير الماوردي)) (4/457). .
وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ.
أي: واضمَحَلَّ الباطِلُ، وذهَبَ ذَهابًا لم يَبقَ معه إقبالٌ له ولا إدبارٌ؛ فلا أثَرَ له ولا وُجودَ [748] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/527)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/533، 534)، ((تفسير الشوكاني)) (4/384)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/239)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 294). قال ابن الجوزي: (وفي المرادِ بالباطِلِ ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّه الشَّيطانُ، لا يَخلُقُ أحدًا ولا يَبعَثُه. قاله قَتادةُ. والثَّاني: أنَّه الأصنامُ، لا تُبدئُ خَلْقًا ولا تُحيي. قاله الضَّحَّاكُ. وقال أبو سُلَيْمانَ: لا يَبتدئُ الصَّنمُ مِن عندِه كلامًا فيُجابَ، ولا يَرُدُّ ما جاء مِن الحَقِّ بحُجَّةٍ. والثَّالثُ: أنَّه الباطِلُ الَّذي يُضادُّ الحَقَّ، فالمعنى: ذهَب الباطلُ بمجيءِ الحقِّ، فلم تَبْقَ منه بقيَّةٌ يُقبِلُ بها أو يُدبِرُ، أو يُبدِئُ أو يعيدُ. ذكره جماعةٌ مِن المفسِّرينَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/503). !
كما قال اللهُ تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((دخَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مكَّةَ، وحَوْلَ البَيتِ سِتُّونَ وثلاثُ مئةِ نُصُبٍ، فجعَل يَطعُنُها بعُودٍ في يَدِه، ويقولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81] ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ: 49] )) [749] رواه البخاري (4720) واللفظ له، ومسلم (1781). .
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا جرَى ذِكرُ الحَقِّ والباطِلِ، وكانوا يَزعُمونَ مِن مَجموعِ أقوالِهم أنَّ النَّبيَّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- غيرُ صادِقٍ في دعوى الرِّسالةِ مِن اللهِ؛ كانت أقوالُهم تَقتَضي زَعْمَهم إيَّاه على ضلالٍ، وكان الرَّدُّ عليهم قاطِعًا بأنَّه على هُدًى، بِقَولِه: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ: 49] ، فانتقَل هنا إلى مُتارَكةِ جِدالِهم، وتَرْكِهم وشأنَهم؛ لقِلَّةِ جَدوَى مُراجَعتِهم [750] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/239). .
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: إن ضلَلْتُ عن الهُدى، واتَّبَعْتُ غيرَ الحَقِّ؛ فإنَّما إثمُ ضلالي وضرَرُه على نَفْسي لا عليكم [751] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/308)، ((تفسير القرطبي)) (14/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683). !
وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي.
أي: وإنِ اتَّبعْتُ الحَقَّ واستقَمْتُ عليه، فذلك بتوفيقِ رَبِّي لي إلى اتِّباعِ القُرآنِ الَّذي يُوحيه إلَيَّ [752] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/538)، ((تفسير ابن جرير)) (19/308)، ((تفسير البيضاوي)) (4/251)، ((تفسير ابن كثير)) (6/527)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683). .
كما قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].
إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.
أي: إنَّ ربِّي سَميعٌ لجَميعِ الأصواتِ والأقوالِ، قَريبٌ مِن عبادِه سُبحانَه [753] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/308)، ((تفسير القرطبي)) (14/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 683). قال ابن جرير: (يقولُ: إنَّ رَبِّي سميعٌ لِما أقولُ لكم، حافِظٌ له، وهو المُجازي لي على صِدْقي في ذلك، قريبٌ مِنِّي، غيرُ بعيدٍ فيَتعذَّرَ عليه سماعُ ما أقولُ لكم وما تقولونَ وما يقولُه غيرُنا، ولكِنَّه قريبٌ مِن كُلِّ متكلِّمٍ، يَسمَعُ كُلَّ ما يَنطِقُ به، وهو أقرَبُ إليه مِن حبلِ الوَريدِ). ((تفسير ابن جرير)) (19/308). وقال البِقاعي: (علَّلَ الضَّلالَ والهدى بقَولِه: إِنَّهُ أي: رَبِّي سَمِيعٌ قَرِيبٌ أي: لا يَغيبُ عنه شَيءٌ مِن حالِ مَن يَكذِبُ عليه؛ فهو جديرٌ بأنَّه يَفضَحُه كما فضَحَكم في جميعِ ما تَدَّعُونَه، ولا يَبعُدُ عليه شَيءٌ لِيَحتاجَ في إدراكِه إلى تأخيرٍ؛ لِقَطعِ مَسافةٍ أو نحوِها، بل هو مُدرِكٌ لكُلِّ ما أراد كُلَّما أراد). ((نظم الدرر)) (15/535). وقال ابنُ عثيمين: (يجِبُ أن تَعلَمَ أنَّه مع قُربِه بذاتِه، فهو مُستَوٍ على عَرشِه). ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 300). .
كما قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186].
وقال سُبحانَه: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود: 61] .
وعن أبي موسى الأَشْعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فجعَلَ النَّاسُ يَجهَرونَ بالتَّكبيرِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّها النَّاسُ، ارْبَعُوا [754] ارْبَعُوا: أي: ارفُقوا بأنفُسِكم، واخفِضوا أصواتَكم. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/26). على أنفُسِكم؛ إنَّكم ليس تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غائِبًا، إنَّكم تَدْعونَ سَميعًا قَريبًا، وهو معكم )) [755] رواه البخاري (2992)، ومسلم (2704) واللفظ له. .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أنَّه ينبغي لِمَن طلَبَ الحقَّ أنْ يكونَ مُخلِصًا للهِ تعالى، بعيدًا عن الهوى [756] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 282). .
2- قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَن وَثِقَ بنَفْسِه في رَصانةِ عَقلِه، وأصالةِ رأيِه، قام وحْدَه؛ لِيَكونَ أصفَى لسِرِّه، وأعْوَنَ على خُلوصِ فِكرِه، ومَن خاف عليها ضمَّ إليه آخَرَ؛ ليُذَكِّرَه إن نَسيَ، ويُقَوِّمَه إن زاغَ [757] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/529). .
3- في قَولِه تعالى: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى جوازُ التَّعاوُنِ في طلَبِ الوُصولِ إلى الحقِّ [758] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 283). .
4- في قَولِه تعالى: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى دَعوةُ الإنسانِ المُعانِدِ للتَّأمُّلِ في الأمرِ والنَّظَرِ فيه؛ حتَّى لا يَتعجَّلَ بالرَّدِّ [759] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 282). ، والفِكرةُ تَهدي غالبًا إلى الصَّوابِ إذا عَرِيَ صاحِبُها عمَّا يُشوِّشُ النَّظَرَ [760] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/561). .
5- في قَولِه تعالى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أنَّنا إذا أرَدْنا استِكشافَ حالِ الشَّخصِ، فإنَّنا نسألُ مُصاحِبَه الَّذي يُصاحِبُه ويُلازِمُه؛ لأنَّه أعلَمُ النَّاسِ به [761] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 283). .
6- في قَولِه تعالى: مَا بِصَاحِبِكُمْ استِعمالُ الأوصافِ الَّتي تَستلزِمُ الموافَقةَ والمُتابَعةَ، فعندَ مُخاطَبةِ آخَرَ يَنْبغي استِعمالُ الألفاظِ الَّتي تُدْنيه وتُقرِّبُه وتُؤلِّفُ قلْبَه، لا الألفاظِ الَّتي تُبعِدُه [762] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 284). .
7- قَولُ الله تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فيه أنَّه لا ينبغي لِذي هِمَّةٍ أن يَبتغيَ شَيئًا إلَّا مِن عندِ اللهِ تعالى [763] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/532). .
8- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يَنسُبَ الخطأَ إلى نفْسِه، ويَنسُبَ الصَّوابَ إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه بنِعمتِه [764] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 304). .
9- في قَولِه تعالى: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي الاعتِرافُ لله عزَّ وجلَّ بالجَميلِ [765] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 304). .
10- قَولُ الله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي في الآيةِ إرشادٌ مِن اللهِ تعالى إلى أنَّه وإن كان خَلَقَ للآدَميِّ عَقلًا، لكِنَّه حَفَّه بقَواطِعَ مِنَ الشَّهَواتِ والحُظوظِ، والكَسَلِ والفُتورِ؛ فلا يَكادُ يَسْلَمُ منها إلَّا مَن عصَمَه اللهُ، فلمَّا كان كذلك أنزَل سبحانَه كُتُبًا، وأرسَل رُسُلًا جرَّدَهم مِن تلك القواطِعِ، فجعَل أخلاقَهم شرائِعَهم؛ فعلى كلِّ أحدٍ أن يَتَّبِعَ رُسُلَه المتخَلِّقينَ بكُتُبِه، مُتَّهِمًا عقْلَه، مُنابِذًا رأيَه، كما كان الصَّحابةُ رَضِيَ الله تعالى عنهم [766] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/535، 536). .
11- في قَولِه تعالى: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أنَّ النَّظَرَ في الوَحيِ -القُرآنِ والسُّنَّةِ- سَببٌ في الهدايةِ؛ لأنَّ الباءَ في قَولِه تعالى: فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي سَببيَّةٌ، وإذا كان ذلك سَببًا للهدايةِ، كان مِن العقلِ والبصيرةِ أنْ نَنظُرَ في وَحيِ اللهِ تعالى وشَرعِه، وألَّا نَطلُبَ الصَّوابَ مِن غَيرهِما [767] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 305). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في هذه الدَّعوةِ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ... تَقريبُ مَسالِكِ النَّظرِ إليهم باختِصارِه، حيثُ وصَفَ الوعظَ بأنَّه خَصلةٌ واحدةٌ؛ لئلَّا يَتجَهَّموا الإقبالَ على هذا النَّظرِ الَّذي عَقَدوا نِيَّاتِهم على رَفضِه، فأُعلِموا بأنَّ ذلك لا يُكلِّفُهم جهدًا، ولا يُضيِّعُ عليهم زمنًا؛ فلْيَتأمَّلوا فيه قليلًا، ثمَّ يَقْضوا قَضاءَهم [768] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/231). .
2- في قَولِه تعالى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أنَّ التَّفكيرَ كما يكونُ في الآياتِ الكَونيَّةِ يكونُ كذلك في الآياتِ الشَّرعيَّةِ؛ لأنَّه هنا طلَبَ منهم التَّفَكُّرَ فيما جاء به الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي الرَّسولِ نفْسِه أيضًا [769] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 283). .
3- كلُّ مَن تحيَّرَ في أمرٍ قد اشتَبهَ عليه واستَبهَم، أخرَجه مِنَ الحَيرةِ فيه أن يَسألَ ويُناظِرَ، ثمَّ يُفكِّرَ ويَعتبِرَ؛ قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [770] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 191). .
4- في قَولِه تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ استِعمالُ الأُسلوبِ المناسِبِ للحالِ، وهذا معروفٌ في علمِ البلاغةِ: أنْ يَستعمِلَ الإنسانُ ما يُوافِقُ مُقتضى الحالِ؛ فهنا ذَكَرَ الإنذارَ دونَ البِشارةِ؛ لأنَّ المَقامَ مقامُ تخويفٍ وإنذارٍ؛ لأنه يُخاطِبُ المُكذِّبينَ. لكنْ عندَ وصفِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الوَصفَ المُطلَقَ، يقولُ سُبحانَه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45] ؛ فبدأَ بالبِشارةِ قبْلَ الإنذارِ، وهذا مِن حيثُ حالُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم المُطْلَقةُ، أمَّا في المقاماتِ الَّتي تقتضي ذِكْرَ الإنذارِ، فيُستعمَلُ فيها الإنذارُ دونَ غَيرِه [771] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 284). .
5- في قَولِه تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ التَّنزُّلُ مع الخَصمِ، أي: على فَرضِ أنِّي سألتُ، فهو لكم [772] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 288). !
6- قال الله تعالى لنبيِّه: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وقال أيضًا: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الأنعام: 90] ، وقال: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا [يس: 21] ، فلا يجوزُ أخذُ الأجرةِ على تبليغِ الإسلامِ والقرآنِ [773] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/254). .
7- في قَولِه تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تهديدُ الخَصمِ بما تقتضيه أسماءُ اللهِ تعالى وصِفاتُه؛ فإنَّ في ذلك تهديدًا لهم، يعني: فسيَشهدُ على تكذيبِكم وعلى تبليغِه [774] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 290). .
8- قَولُ الله تعالى: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ، استُدِلَّ به على استحبابِ هذا القولِ عندَ إزالةِ المنكرِ [775] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 215). .
9- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي بيانُ أنَّ الإيمانَ والهدَى حَصَلَ بالوَحيِ النَّازلِ، لا بمُجرَّدِ العَقلِ الَّذي كان حاصِلًا قبْلَ الوَحيِ [776] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/457). .
10- قَولُ الله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي لَمَّا كانت النَّفْسُ مُنقادةً بل مُتراميةً نحوَ الباطِلِ، عبَّرَ في الضَّلالِ بالمجَرَّدِ ضَلَلْتُ أَضِلُّ، وفي الهدَى بالافتِعالِ اهْتَدَيْتُ؛ إشارةً إلى أنَّه لا بُدَّ فيه مِن هادٍ وعِلاجٍ [777] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/534، 535). .
11- في قَولِه تعالى: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إثباتُ الأسبابِ، وأنَّها مُؤَثِّرةٌ بإذنِ اللهِ تعالى؛ ففي ذلك رَدٌّ على الأشاعرةِ الَّذين يُنكِرونَ تأثيرَ الأسبابِ [778] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 305). !

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ استِئنافٌ للانتقالِ مِن حِكايةِ أحوالِ كُفرِ المُشرِكينَ، إلى دَعوتِهم للإنصافِ في النَّظرِ والتَّأمُّلِ في الحقائقِ؛ لِيَتَّضِحَ لهم خَطؤُهم، وأُرشِدوا إلى كيفيَّةِ النَّظرِ في شَأنِهم، والاختلاءِ بأنفُسِهم لِمُحاسَبتِها على سُلوكِها؛ استِقصاءً لهم في الحُجَّةِ، وإعذارًا لهم في المُجادَلةِ؛ ولذلك اجتُلِبَت صِيغةُ الحَصرِ بـ إِنَّمَا، أي: ما أعِظُكم إلَّا بواحدةٍ؛ طَيًّا لِبِساطِ المُناظَرةِ، وإرساءً على الخُلاصةِ مِن المُجادَلاتِ الماضيةِ، وتقريبًا لِشُقَّةِ الخلافِ بيْنَنا وبيْنَكم [779] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/231). .
- وفي قولِه: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ... افتتاحُ الأمرِ بالقولِ هنا وفي الآياتِ الأربعِ بعْدَه؛ للاهتِمامِ بما احتَوَت عليه [780] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/231). .
- في قولِه: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا طِباقٌ بَديعٌ [781] الطِّباق: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ مع مراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِنَ الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ؛ طابَقَ بيْنَ الضَّحِكِ والبكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادِقون. ومنه: طباقٌ ظاهرٌ، وهو ما كان وجْهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خفيٌّ: وهو أن تكونَ الضِّديَّةُ في الصُّورةِ مُتوهَّمةً، فتبدو المُطابَقةُ خفيَّةً لِتَعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يُقابِلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ؛ كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإنَّ إدخال النَّارِ يَستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ. ومنه: قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القِصاصِ القتلُ، فصار القتلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أمْلَحِ الطِّباقِ وأخفاهُ. يُنظر: ((الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري)) للآمدي (1/288، 289)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/225 - 233)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/377 - 381)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 567). ؛ أتَى به احتِرازًا مِن القِيامِ جماعةً؛ لأنَّ في الاجتِماعِ تَشويشًا للخواطرِ، وحُئولًا دونَ التَّأمُّلِ والاستغراقِ في التَّفكيرِ [782] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/111). ، فلم يَذكُرْ غَيرَهما مِنَ الأقسامِ إشارةً إلى أنَّهم إذا كانوا على هاتينِ الحالتَينِ، كان أجدَرَ لهم بأن يَعرِفوا الحَقَّ مِن غيرِ شائبةِ حَظٍّ؛ ممَّا يكونُ في الجَمعِ الكثيرِ مِن الجِدالِ واللَّفظِ المانعِ مِن تهذيبِ الرَّأيِ، وتَثقيفِ الفِكرِ، وتنقيةِ المعاني [783] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/529، 530). .
- والتَّعبيرُ بالقيامِ؛ إشارةً إلى الاجتِهادِ [784] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/529). .
- وقُدِّمَ مَثْنَى إيذانًا بأنَّه أوثَقُ وأقرَبُ إلى الاطمئنانِ؛ لأنَّ الاستعانةَ بشَخصٍ ثانٍ أعوَنُ على الفَهمِ؛ فيكونُ المرادُ دَفْعَ عوائقِ الوُصولِ إلى الحقِّ بالنَّظرِ الصَّحيحِ الَّذي لا يُغالِطُ فيه صاحبُ هَوًى ولا شُبهةٍ، ولا يَخشى فيه النَّاظرُ تَشنيعًا ولا سُمْعةً، وللسَّلامةِ مِن العوائقِ والتَّخلُّصِ مِن البوائقِ الصَّادَّةِ عن طَريقِ الحقِّ قِيل هنا: مَثْنَى وَفُرَادَى؛ فإنَّ المرْءَ إذا خَلَا بنَفْسِه عندَ التَّأمُّلِ لم يَرضَ لها بغيرِ النُّصحِ، وإذا خَلا ثانيَ اثنينَ فهو إنَّما يَختارُ ثانيَه أعلَقَ أصحابِه به، وأقرَبَهم منه رأْيًا، فسَلِمَ كِلاهما مِن غِشِّ صاحبِه [785] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/233). . وقيل: قُدِّمَ مَثْنَى؛ لأنَّ هذا القِسمَ أكثَرُ وُجودًا في النَّاسِ [786] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/529). .
- وحَرفُ ثُمَّ للتَّراخي في الرُّتبةِ؛ لأنَّ التَّفكُّرَ في أحوالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أهَمُّ في إصلاحِ حالِ المُخاطَبينَ المُعرِضينَ عن دَعوتِه، بخِلافِ القيامِ للهِ؛ فإنَّهم لا يَأبَوْنَه [787] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/233). . وقيل:
لَمَّا كان ما طُلِب منهم هذا لأجْلِه عظيمًا، جديرًا بأن يُهتَمَّ له هذا الاهتِمامَ؛ أشار إليه بأداةِ التَّراخي، فقال: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا، أي: تَجتَهِدوا بعد التَّأنِّي وطولِ الترَوِّي في الفِكرِ فيما وسَمتُم به صاحِبَكم مِن أمرِ الجُنونِ [788] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/530). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وفي إطلاقِ تَتَفَكَّرُوا مُبالَغةٌ ليسَتْ في تَقييِده [789] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/579). .
- قولُه: مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ استِئنافٌ مَسوقٌ مِن جِهَتِه تعالَى -على قولٍ-؛ للتَّنبيهِ على طَريقةِ النَّظرِ والتَّأمُّلِ؛ بأنَّ مِثلَ هذا الأمرِ العظيمِ الَّذي تَحتَه مُلكُ الدُّنيا والآخِرةِ، لا يَتصدَّى لادِّعائِه إلَّا مَجنونٌ لا يُبالي بافتِضاحِه عندَ مُطالَبتِه بالبُرهانِ، وظُهورِ عَجْزهِ، أو مُؤيَّدٌ مِن عندِ اللهِ، مُرشَّحٌ للنُّبوَّةِ، واثقٌ بحُجَّتهِ وبُرهانِه، وإذ قد عَلِمْتُم أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرجَحُ العالَمينَ عقْلًا، وأصدَقُهم قَولًا، وأجمَعُهم للكَمالاتِ البشريَّةِ؛ وجَبَ أنْ تُصدِّقُوه في دَعواهُ، فكيف وقد انضَمَّ إلى ذلك مُعجزاتٌ تَخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ [790] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/590)، ((تفسير البيضاوي)) (4/250، 251)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/579)، ((تفسير أبي السعود)) (7/139). ؟!
- والتَّعبيرُ بِصَاحِبِكُمْ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لأنَّ مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (ما بي مِن جِنَّةِ)؛ إذ الكلامُ جارٍ على لِسانِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفائدةُ ذلك: التَّنبيهُ على أنَّ حالَه مَعلومٌ لَدَيْهم، لا يَلتبِسُ عليهم؛ لِشِدَّةِ مُخالَطتِه بهم مُخالطةً لا تَذَرُ للجَهالةِ مَجالًا؛ فهُم عَرَفوه ونشَأَ بيْنَهم حتَّى جاءهم بالحقِّ [791] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/234). ، وفي الإضافةِ بِصَاحِبِكُمْ زيادةُ التَّشنيعِ على هؤلاءِ الكُفَّارِ في أنَّهم يَصِفونَ صاحبَهم -الَّذي يَعرِفونَه- بهذا الوَصفِ، وأيضًا أنَّه كان أَولى بهم -وهو صاحِبُهم- أنْ يكونوا أوَّلَ النَّاسِ تصديقًا به، وأشدَّ النَّاسِ مَعونةً له [792] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 280). .
- والاقتِصارُ في التَّفكُّرِ المَطلوبِ على انتفاءِ الجِنَّةِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قولِه: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ هو أنَّ أصْلَ الكفرِ هو الطَّعنُ في نُبوَّتِه، وهمْ لَمَّا طَعَنوا فيه قالوا: مَجنونٌ، وقالوا: ساحرٌ، وقالوا: كاذبٌ؛ فابتُدِئَ في إرجاعِهم إلى الحقِّ بنَفْيِ الجُنونِ عنه، حتى إذا أذْعَنوا إلى أنَّه مِن العُقلاءِ، انصَرَفَ النَّظرُ إلى أنَّ مِثلَ ما جاء به لا يَأتي به إلَّا عاقلٌ، فبَقِيَت دَعواهم أنَّه ساحِرٌ، وأنَّه كاهنٌ، وأنَّه شاعرٌ، وأنَّه كاذبٌ -حاشاهُ-؛ فأمَّا السِّحرُ والكِهانةُ فسَهلٌ نَفْيُهما بنَفْيِ خَصائصِهما، ومِن أجْلِ هذا التَّدرُّجِ الَّذي طُوِيَ تحتَ جُملةِ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، أُعقِبَ ذلك بحَصْرِ أمْرِه في النِّذارةِ بقُرْبِ عذابٍ واقعٍ، أي: في النِّذارةِ والرِّسالةِ الصَّادقةِ [793] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/234، 235). .
2- قَولُه تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
- قولُه: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ... استِقصاءٌ لِبَقايا شُبَهِ التَّكذيبِ؛ لِدَحْضِها، سواءٌ منها ما تَعلَّقوا به مِن نَحوِ قولِهم: كاهنٌ، وشاعِرٌ، ومَجنونٌ، وما لم يَدَّعوه ولكنَّه قد يَخطُرُ ببالِ واحدٍ منهم؛ أنْ يَزعُموا أنَّه يُرِيدُ بهذه الدَّعوةِ نفْعًا لنَفْسِه يكونُ أجْرًا له على التَّعليمِ والإرشادِ، وهذه طَريقةٌ بَديعةٌ في الكِنايةِ التَّهكُّميَّةِ عن عدَمِ انتفاعِه بما يَدْعوهم إليه؛ بأنْ يُفرَضَ كالواقعِ، ثم يُرتَّبَ عليه الانكفافُ عنه، ورَدُّ ما فات منه؛ لِيُفضِيَ بذلك إلى البراءةِ منه ومِن التَّعرُّضِ له؛ فهي كِنايةٌ رَمزيَّةٌ، وأنَّهم يَعلَمون أنَّه لم يَسأَلْهم أجْرًا [794] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/235، 236). .
- في قولِه: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ تصريحٌ بأنَّ النَّبيَّ لا يُريدُ أجرًا منهم، وجِيءَ بالشَّرطِ بصِيغةِ الماضي لِيَدُلَّ على انتفاءِ ذلك في الماضي، فيَكونَ انتِفاؤُه في المُستقبَلِ أجدَرَ، على أنَّ وُقوعَه في سِياقِ الشَّرطِ يَقْضي بانتفائِه في المُستقبَلِ أيضًا، وهذا جارٍ مَجْرى التَّحدِّي؛ لأنَّه لو كان لِجَماعتِهم أو آحادِهم عِلمٌ بأنَّه طلَبَ أجْرًا منهم، لَجأروا حينَ هذا التَّحدِّي بمُكافَحتِه، وطالَبوه برَدِّه عليهم [795] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/236). .
- وجُملةُ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا، جَوابًا لِسُؤالٍ مُقدَّرٍ أنْ يَسأَلَ السَّامعُ: كيف لا يكونُ له على ما قام به أجْرٌ؟ فأُجِيبَ بأنَّ أجْرَه مَضمونٌ وعَدَه اللهُ به؛ لأنَّه إنَّما يقومُ بعَملٍ لِمَرْضاتِه وامتثالِ أمْرِه؛ فعليه أجْرُه [796] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/237). .
- قولُه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَذييلٌ باستِشهادِ اللهِ تعالى على باطنِه ونِيَّتِه الَّتي هي مِن جُملةِ الكائناتِ الَّتي اللهُ شَهيدٌ عليها، وعليمٌ بخَفاياها، وهو شاهدٌ على ذلك كلِّه [797] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/237). .
3- قَولُه تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أُعِيدَ فِعلُ (قل)؛ للاهتِمامِ بالمَقولِ. والتَّأكيدُ بـ (إنَّ)؛ لِتَحقيقِ هذا الخبَرِ [798] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/237). .
- والتَّعبيرُ عن اسمِ اللهِ سُبحانَه بلفظِ (الرَّبِّ)، وإضافتُه إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ في قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي؛ للإشارةِ إلى أنَّ الحقَّ في جانبِه، وأنَّه مؤيَّدٌ مِن ربِّه؛ فإنَّ الرَّبَّ يَنصُرُ مَربوبَه ويُؤيِّدُه [799] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/237). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه رَبِّي على المُسنَدِ الفِعليِّ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ؛ للدَّلالةِ على الاختِصاصِ دونَ التَّقَوِّي؛ لأنَّ تَقوِّي الجُملةِ حَصَلَ بحَرْفِ التَّأكيدِ، وهذا الاختِصاصُ باعتبارِ ما في يَقْذِفُ بِالْحَقِّ مِن معنى: النَّاصرُ لي دُونَكم؛ فماذا يَنفَعُكم اعتِزازُكم بأموالِكم وأولادِكم وقُوَّتِكم [800] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/237، 238). ؟!
- وفي قولِه: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تَعريضٌ بالتَّهديدِ والتَّخويفِ مِن نَصرِ اللهِ المؤمنينَ على المُشرِكينَ، ووَعدٌ بإظهارِ الإسلامِ وإعلاءِ كَلمةِ الحقِّ [801] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/251)، ((تفسير أبي السعود)) (7/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/238). .
- وتَخصيصُ وَصْفِ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مِن بيْنِ الأوصافِ الإلهيَّةِ؛ للإشارةِ إلى أنَّه عالِمٌ بالنِّيَّاتِ، وأنَّ القائلَ يَعلَمُ ذلك؛ فالَّذي يَعلَمُ هذا لا يَجترِئُ على اللهِ بادِّعائه باطلًا أنَّه أرسَلَه إليكم، فالإعلامُ بهذه الصِّفةِ هنا يُشبِهُ استِعمالَ الخبَرِ في لازِمِ فائدتِه؛ وهو العِلمُ بالحُكمِ الخَبَريِّ، مع ما فيه مِن المُبالَغةِ [802] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/582)، ((تفسير أبي حيان)) (8/563)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/238). .
4- قَولُه تعالى: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ أُعِيدَ فِعلُ (قل)؛ للاهتِمامِ بالمَقولِ، وجُملةُ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ تأكيدٌ لِجُملةِ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ [سبأ: 48] ؛ فإنَّ الحقَّ قد جاء بنُزولِ القرآنِ ودَعوةِ الإسلامِ. ولَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّه يَقْذِفُ بِالْحَقِّ بصِيغةِ المُضارِعِ، أخبَرَ أنَّ الحقَّ قد جاء، وهو القرآنُ والوحيُ، وبطَلَ ما سِواهُ مِن الأديانِ؛ فلمْ يَبقَ لغيرِ الإسلامِ ثَباتٌ، لا في بَدْءٍ ولا في عاقبةٍ؛ فلا يُخافُ على الإسلامِ ما يُبطِلُه [803] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/562، 563)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/238). .
- وعطَفَ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ على جَاءَ الْحَقُّ؛ لأنَّه إذا جاء الحقُّ انقشَعَ الباطِلُ مِن المَوضِعِ الذي حلَّ فيه الحقُّ، وفيه كِنايةٌ عن اضْمِحْلالِ الباطِلِ وزوالِه، وهو مَثَلٌ في الهَلاكِ بالمرَّةِ [804] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/591)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/582)، ((تفسير أبي السعود)) (7/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/238)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/111). .
- وأيضًا قَولُه: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ تَذييلٌ؛ لأنَّ الآيةَ الثَّانيةَ مُقرِّرةٌ للأُولى، وعلى الأوَّلِ تَكميلٌ؛ لأنَّ الأُولى إثباتٌ للحَقِّ، والثَّانيةَ إزالةٌ للباطِلِ [805] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/581). .
5- قَولُه تَعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
- صِيغةُ القَصرِ في قَولِه: فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي لقَصرِ الضَّلالِ المَفْروضِ، أي: على نَفْسي لا عليكم؛ لأنَّهم كانوا يُحاوِلون أنْ يُقلِعَ عمَّا دَعاهُم إليه، ولم يَقتَصِروا على صُدودِهم. أمَّا قَولُه: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فهو كالاحتِراسِ مِن أنْ يكونَ حالُه مُقتَصِرًا على فَرضِ كَونِه مَظِنَّةَ الضَّلالِ، مع ما فيه مِن الاعتِرافِ للهِ بنِعمَتِه بأنَّ ما يَنالُه مِن خَيرٍ فهو بإرشادِ اللهِ، لا مِن نفْسِه [806] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/240). .
- وبيْنَ قَولِه: فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وقَولِه: فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي تَقابُلٌ من جِهةِ المَعْنى؛ لأنَّ النَّفْسَ كُلُّ ما عليها فهو بها، أي: أنَّ كُلَّ ما هو وَبالٌ عليها وضارٌّ لها فهو بسببِها: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53] ، وما لَها ممَّا يَنفَعُها فبِهدايةِ ربِّها وتَوفيقِه، وهذا حُكمٌ عامٌّ لكُلِّ مُكلَّفٍ، وإنَّما أمَرَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يُسنِدَه إلى نَفْسِه؛ لأنَّ الرَّسولَ إذا دخَلَ تحتَه مع جَلالةِ مَحَلِّه وسَدادِ طَريقتِه كان غيرُه أوْلى به [807] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/592)، ((تفسير أبي حيان)) (8/564). .
- واختِيرَ في جانبِ الهُدى فِعلُ اهْتَدَيْتُ الَّذي هو مُطاوعُ (هَدَى)؛ لِما فيه من الإيماءِ إلى أنَّ له هاديًا، وبيَّنَه بقَولِه: فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي؛ لِيَحصُلَ شُكرُه للهِ إجمالًا ثمَّ تفصيلًا. وفي قَولِه: فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إيماءٌ إلى أنَّه على هُدًى؛ لأنَّه أثبَتَ أنَّ وَحيًا من اللهِ واردٌ إليه، وقد استُفيدَ أنَّ الضَّلالَ المفروضَ إنْ حصَلَ فسببُه مِن قِبَلِ نَفْسِه، مِن إسنادِ فِعلِ أَضِلُّ إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ، ثمَّ ممَّا عَقِبَه مِن قَصْرِ الضَّلالِ على الحُصولِ مِن المُتكلِّمِ، وهو أعرَقُ في التَّعلُّقِ به. وفي هذا مُقابَلةٌ يُعلَمُ منها أنَّ سببَ الضَّلالِ والاهتداءِ مُختلِفٌ مِن جِهةِ المعنى، ولا سيَّما حينَ رجَّحَ جانبَ اهتدائِه بقَولِه: فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي، على أنَّ المُقابَلةَ بيْنَ الشَّرطَينِ يَنقدِحُ بها في ذِهنِ السَّامِعِ أنَّ الضَّلالَ مِن تَسْويلِ النَّفْسِ، ولو حصَلَ لَكان جِنايةً مِن النَّفْسِ عليه، وأنَّ الاهتِداءَ مِن اللهِ، وأنَّه نفْعٌ ساقَه إليه بوَحيِه [808] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/240). .
- وجُملةُ: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَذييلٌ لِما أفادَتْه الجُمْلتانِ المَقولتانِ قبْلَه مِن التَّرديدِ في نِسبةِ الاهتِداءِ والضَّلالِ، أي: إنَّ اللهَ يَعلَمُ أنِّي على هُدًى أو ضِدِّه، ويَحصُلُ مِن ذلك عِلمُ مُقابِلِه مِن أحوالِ خُصومِه؛ لأنَّه سميعٌ لِما يقولُه الفَريقانِ، قَريبٌ ممَّا يُضمِرونَهُ فلا يَخْفَى عليه. وفيه تعريضٌ بالتَّهديدِ [809] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/241). .