موسوعة التفسير

سُورةُ يُوسُفَ
الآيات (50-53)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ

غريب الكلمات:

خَطْبُكُنَّ: أي: أمرُكنَّ وشَأنُكنَّ. والخَطْبُ: الأمرُ العظيمُ، وأصلُ (خطب): يدُلُّ على الأمرِ يقَعُ؛ وإنَّما سُمِّيَ بذلك لِما يقَعُ فيه من التَّخاطُبِ والمُراجَعةِ [603] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 218)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/198)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 198). .
حَصْحَصَ: أي: وضَحَ وتَبيَّنَ، وأصلُ (حصَّ): يدلُّ على وُضوحِ الشَّيءِ وتَمكُّنِه [604] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 218)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 192)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/12)، ((المفردات)) للراغب (ص: 237)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 173). .
لَأَمَّارَةٌ: أي: كثيرةُ الأمرِ، وأصلُ (أمر): خلافُ النَّهيِ [605] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/137)، ((تفسير السمعاني)) (3/39)، ((تفسير القرطبي)) (9/210). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى أنَّ  المَلِكَ لَمَّا علِمَ بتأويلِ رُؤياه قال لأعوانِه: أخرِجوا هذا الرجُلَ المعبِّرَ للرُّؤيا من السِّجنِ، وأحضِروه لي، فلمَّا جاءه رسولُ المَلِك يدعوه، قال يوسُفُ للرَّسولِ: ارجِعْ إلى سَيِّدِك المَلِك، واطلُبْ منه أن يسألَ النِّسوةَ اللَّاتي جَرَحْنَ أيديَهنَّ عن حقيقةِ أمْرِهنَّ وشأنِهنَّ معي؛ لتظهَرَ الحقيقةُ للجميعِ، وتتَّضِحَ براءتي، إنَّ رَبِّي عليمٌ بصَنيعهِنَّ وأفعالِهنَّ، لا يخفى عليه- سُبحانه- شَيءٌ مِن ذلك، فدعا المَلِكُ النِّسوةَ اللَّاتي جرَحْنَ أيديَهنَّ، وقال لهنَّ: ما شأنُكنَّ حين راودتُنَّ يوسُفَ عن نفسِه يومَ الضِّيافةِ؟ فهل رأيتُنَّ منه ما يَريبُ؟ قُلنَ: معاذَ اللهِ ما عَلِمْنا عليه أدنى شيءٍ يَشِينُه، عند ذلك قالت امرأةُ العزيزِ: الآنَ ظهرَ الحَقُّ بعدَ خفائِه، فأنا التي حاوَلْتُ فِتنَتَه بإغرائِه فامتنَعَ، وإنَّه لَمِنَ الصَّادقينَ في كُلِّ ما قاله، ذلك القَولُ الذي قُلتُه في تنزيهِه والإقرارِ على نفسي؛ ليعلمَ يوسُفُ أنِّي لم أخُنْه بالكَذِبِ عليه حالَ غَيبتِه عنِّي، وأنَّ اللهَ لا يُوَفِّقُ أهلَ الخيانةِ، ولا يُرشِدُهم في خيانِتِهم، قالت امرأةُ العزيز: وما أزَكِّي نفسي ولا أُبَرِّئُها؛ إنَّ النَّفسَ لَكثيرةُ الأمرِ لصاحِبِها بعمَلِ المعاصي؛ طلبًا لمَلذَّاتِها، إلَّا مَن عصَمَه الله، إنَّ اللهَ غفورٌ لذُنوبِ مَن تاب مِن عبادِه، رحيمٌ بهم.

تفسير الآيات:

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50).
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ.
أي: ولَمَّا عَلِمَ المَلِكُ بتأويلِ رُؤياه قال: أخرِجوا الذي عبَّرَ رُؤيايَ هذه مِن السِّجنِ، وأحضِروه إليَّ [606] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/198)، ((تفسير القرطبي)) (9/206)، ((تفسير ابن كثير)) (4/393)، ((تفسير السعدي)) (ص: 400). .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.
أي: فلمَّا جاء يوسفَ رسولُ المَلِك؛ ليُخرِجَه من السِّجنِ، قال له يوسُفُ: ارجِعْ إلى سيِّدِك المَلِك فاسأَلْه ما شأنُ النِّساءِ اللَّاتي قطَّعْنَ أيديَهنَّ؛ ليعلَمَ صِحَّةَ براءتي [607] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/199)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/616)، ((تفسير القرطبي)) (9/206)، ((تفسير ابن كثير)) (4/393)، ((تفسير السعدي)) (ص: 400). .
عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لو لبثتُ في السِّجنِ طولَ لُبْثِ يوسُفَ، لأجبتُ الدَّاعيَ [608] قال ابن حجر: («لأجَبْتُ الدَّاعِي» أي لأسرعتُ الإجابةَ في الخروجِ مِن السِّجنِ ولَمَا قَدَّمْتُ طَلَبَ البراءةِ، فوصَفَه بشِدَّةِ الصَّبرِ، حيثُ لم يُبادِرْ بالخروجِ، وإنَّما قاله صلَّى الله عليه وسلَّم تواضعًا، والتَّواضعُ لا يَحُطُّ مرتبةَ الكبيرِ، بل يَزيدُه رِفعةً وجلالًا، وقيلَ هو مِن جنسِ قولِه: «لا تُفَضِّلونِي على يُونُسَ» وقد قيلَ: إنَّه قالَه قبلَ أنْ يعلمَ أنَّه أفضلُ مِن الجميعِ). ((فتح الباري))  (6/413). ) [609] رواه البخاري (3372) ومسلم (151)، واللفظ له. .
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ بمَكرِ النِّساءِ بي وبغيري من النَّاسِ عليمٌ، لا يخفى عليه ذلك [610] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/202)، ((تفسير البغوي)) (2/496)، ((تفسير الخازن)) (2/533). .
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51).
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ.
أي: فرجَع رسولُ الملكِ إليه، وأخبَره برسالةِ يوسفَ، فدعا الملكُ النسوةَ اللاتي قطَّعن أيديهنَّ وامرأةَ العزيزِ، فقال لهن: ما شأنُكنَّ وخبَرُكنَّ حين راودتُنَّ يوسُفَ عن نفسِه [611] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/203)، ((تفسير ابن عطية)) (3/253)، ((تفسير ابن كثير)) (4/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 400). ؟!
قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ.
أي: قال النِّسوةُ للمَلِك: معاذَ اللهِ أن يكونَ يوسُفُ متَّهمًا بسوءٍ، ما عَلِمْنا على يوسُفَ مِن ذنبٍ صغيرٍ ولا كبيرٍ [612] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/207)، ((تفسير البيضاوي)) (3/167)، ((تفسير ابن كثير)) (4/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 400). !
قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
أي: قالت امرأةُ العزيزِ: الآن تبيَّنَ الحَقُّ وظهر، أنا راودتُ يوسُفَ عن نفسِه، وإنَّه لَمِنَ الصَّادقينَ في قولِه: هي راودَتْني عن نفسي [613] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/203)، ((تفسير ابن كثير)) (4/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 400). .
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52).
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ.
أي: قالت امرأةُ العزيزِ: ذلك الإقرارُ والاعترافُ بالحَقِّ؛ ليعلمَ يوسُفُ أنِّي لم أكذِبْ عليه، ولم أرْمِه بالذِّنبِ في حالِ غَيبتِه عنِّي [614] وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ تيميَّة، وأبو حيانَ، وابنُ القيمِ، والقاسميُّ، ومحمد رشيد رضا، واستظهره ابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/298) و (15/139 - 144)، ((تفسير أبي حيان)) (6/288، 289)، ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 319 - 321)، ((تفسير القاسمي)) (6/186)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/292). قال السعدي: (يحتملُ أنَّ مُرادَها بذلك زوجُها، أي: ليعلمَ أني حين أقررتُ أنِّي راودتُ يوسُفَ، أنِّي لم أخُنْه بالغيبِ، أي: لم يجْرِ مني إلَّا مجرَّدُ المراودةِ، ولم أُفسِدْ عليه فِراشَه، ويحتملُ أنَّ المراد بذلك: ليعلمَ يوسُفُ حين أقررتُ أنِّي أنا الذي راودتُه، وأنَّه صادِقٌ، أني لم أخُنْه في حالِ غيبتِه عنِّي). ((تفسير السعدي)) (ص: 400)، ويُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/186). والاحتمالُ الأولُ هو اختيارُ ابنِ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/394، 395). وقيل: القائل هو يوسُفُ، والمعنى: ما فعلتُه مِن عدَمِ خُروجي من السِّجنِ مع رسولِ المَلِك، وطَلَبي من المَلِك أن يسأل النسوةَ اللاتي قطَّعنَ أيديَهنَّ عن قصَّتِهنَّ، إنَّما فعَلْتُه ليعلمَ العزيزُ أنِّي لم أرتكِبْ فاحشةً مع زوجتِه في حالِ غَيبتِه عنِّي. وممن اختار هذا المعنى: ابنُ جرير، والواحديُّ- ونسبه لعامة المفسِّرين- والزمخشري، والجلال السيوطيُّ، والألوسي، ونسبه الشوكانيُّ إلى أكثرِ المفسرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/208)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2157)، ((البسيط)) للواحدي (12/148)، ((تفسير الزمخشري)) (2/479، 481)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 311)، ((تفسير الألوسي)) (6/450)، ((تفسير الشوكاني)) (3/41). وممن قال مِن السلف أنَّ هذا من قولِ يوسفَ: مجاهدٌ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، وعكرمة، وابنُ أبي الهذيلِ، والضحَّاكُ، والحسنُ، وقتادةُ، والسديُّ، وابنُ إسحاقَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/208)، ((تفسير ابن كثير)) (4/395). .
وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ.
أي: وصدْعتُ بالحَقِّ؛ لأنَّ الله لا يسَدِّدُ حِيَلَ مَن خان الأماناتِ، بل يُبطِلُ كَيدَهم، ويَحرِمُهم الهِدايةَ [615] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (12/151)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/359)، ((تفسير الشوكاني)) (3/42)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/293). .
وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان في الكلامِ السَّابقِ نوعُ تَزكيةٍ لنَفسِها، وأنَّه لم يجْرِ منها ذنبٌ في شأنِ يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ استدركَتْ فقالت [616] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:400). :
وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي.
أي: ولسْتُ أُبرِّئُ نفسي من الخطأِ والهَمِّ بذلك الإثمِ، والقيامِ بالمكائدِ والحِيَلِ؛ لأجلِ ذلك [617] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 400)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/5). واختار أنَّ هذا قولُ امرأةِ العزيزِ: ابنُ تيمية، وأبو حيان، وابنُ القيم، وابنُ كثيرٍ، والقاسمي، ومحمد رشيد رضا، والسعدي، واستظهره ابنُ عاشور. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/298) و (15/139-144)، ((تفسير أبي حيان)) (6/288، 289)، ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 319-321)، ((تفسير ابن كثير)) (4/394)، ((تفسير القاسمي)) (6/186)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 400)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/292). قال ابن تيمية: (ما ذُكِرَ مِن قَولِه: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف: 53] إنما يناسِبُ حالَ امرأة العزيزِ، لا يناسِبُ حال يوسف؛ فإضافةُ الذنوبِ إلى يوسُفَ في هذه القضيةِ فِريةٌ على الكتابِ والرَّسولِ، وفيه تحريفٌ للكَلِم عن مواضعه، وفيه الاغتيابُ لنبيٍّ كريمٍ، وقولُ الباطلِ فيه بلا دليلٍ، ونِسبتُه إلى ما نزَّهَه الله منه، وغيرُ مُستبعَدٍ أن يكونَ أصلُ هذا من اليهودِ أهلِ البُهتِ، الذين كانوا يرمونَ موسى بما برَّأه الله منه، فكيف بغيرِه من الأنبياءِ؟!). ((مجموع الفتاوى)) (15/149، 150). وقيل: هو قولُ يوسُفَ عليه الصَّلاة والسَّلام. ونسبه الخازن إلى أكثر المفسِّرين. يُنظر: ((تفسير الخازن)) (2/534). واختاره ابنُ جريرٍ وغيره. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/209). قال القرطبي: (قولُه تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي قيل: هو مِن قولِ المرأةِ. وقال القشيري: فالظَّاهِرُ أنَّ قولَه: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ، وقولَه: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي من قولِ يوسُفَ. قلت: إذا احتمَل أن يكونَ مِن قولِ المرأةِ فالقولُ به أولَى حتى نبرئَ يوسفَ مِن حلِّ الإزارِ والسراويلِ، وإذا قدَّرناه مِن قولِ يوسفَ فيكونُ مما خطَر بقلبِه، على ما قدَّمناه مِن القولِ المختارِ في قولِه: وَهَمَّ بِهَا [يوسف: 24] ). ((تفسير القرطبي)) (9/209). .
إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ.
أي: لا أدَّعي براءةَ نفسي؛ لأنَّ نُفوسَ العبادِ كثيرًا ما تأمُرُهم بما تَهواه من المعاصي، إلَّا مَن رَحِمَ الله فعصَمَهم [618] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/209) ، ((تفسير القرطبي)) (9/210)، ((تفسير ابن كثير)) (4/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 400)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/5). قال ابنُ عطية : (النَّفْسَ اسمُ جنسٍ، فصحَّ أن تقعَ مَا مكان «من»؛ إذ هي كذلك في صفاتِ مَن يعقلُ، وفي أجناسِه... ويجوزُ أن تكونَ مَا ظرفيةً، والمعنى: إنَّ النفسَ لأمارةٌ بالسوءِ إلا مدةَ رحمةِ الله العبدَ، وذهابِه عن اشتهاءِ المعاصي). ((تفسير ابن عطية)) (3/254).
إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ مِن شأنِه أنَّه كثيرُ الصَّفحِ عن ذنوبِ عبادِه التَّائبينَ، فيَستُرُها عليهم، ويتجاوَزُ عن مؤاخَذتِهم بها، رحيمٌ بهم فلا يعذِّبُهم، ويقبَلُ توبتَهم، ويوفِّقُهم للخيرِ [619] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/210)، ((تفسير الشوكاني)) (3/42)، ((تفسير السعدي)) (ص: 400). قال ابنُ القيِّم: (فتأمَّلْ: ما أعجَبَ أمْرَ هذه المرأةِ؛ أقَرَّت بالحَقِّ، واعتَذَرت عن محبوبِها، ثمَّ اعتَذَرت عن نَفسِها، ثمَّ ذَكَرت السَّببَ الحامِلَ لها على ما فعَلَت، ثمَّ ختمت ذلك بالطَّمَعِ في مَغفرةِ اللهِ ورَحمتِه، وأنَّه إن لم يرحَمْ عَبدَه وإلَّا فهو عُرضةٌ للشَّرِّ!! فوازِنْ بين هذا وبين تقديرِ كَونِ هذا الكلامِ كَلامَ يُوسُفَ عليه السَّلامُ لفظًا ومعنًى، وتأمَّلْ ما بين التَّقديرينِ مِن التفاوُتِ! ولا يُستبعَدُ أن تَقولَ المرأةُ هذا وهي على دينِ الشِّركِ؛ فإنَّ القومَ كانوا يُقِرُّونَ بالرَّبِّ سُبحانه وتعالى وبحَقِّه، وإن أشركوا معه غيرَه، ولا تنْسَ قَولَ سَيِّدِها لها في أوَّلِ الحالِ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ). ((روضة المحبين)) (ص: 321).

الفوائد التربوية :

1- قولُ الله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ يدلُّ على فضيلةِ العِلمِ؛ فإنَّه سُبحانه جعل علمَ يوسُفَ عليه السَّلامُ سببًا لخَلاصِه مِن المِحنةِ الدُّنيويَّة، فكيف لا يكونُ العِلمُ سَببًا للخَلاصِ مِن المِحَن الأُخرويَّة [620] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/466). .
2- قولُ الله تعالى: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيه سَعيُ الإنسانِ في براءةِ نَفسِه؛ لئلَّا يُتَّهمَ بخيانةٍ أو نَحوِها، خصوصًا الأكابرَ، ومَن يُقتدى بهم [621] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:155). ، فتبرئةُ العِرضِ مِن التُّهَمِ الباطلةِ مَقصِدٌ شَرعيٌّ [622] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/288). .
3- قولُ الله تعالى: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ هذه حِكمةٌ عظيمةٌ تحِقُّ بأن يُؤتَسى بها، وهي تطَلُّبُ المسجونِ باطلًا أن يبقى في السِّجنِ حتى تتبيَّنَ براءتُه من السبَبِ الذي سُجِنَ لأجلِه، وهي راجِعةٌ إلى التحلِّي بالصبرِ حتى يظهرَ النَّصرُ [623] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/288). .
4- قولُ الله تعالى: قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ في اعترافِ امرأةِ العزيزِ بحضرةِ المَلِك عِبرةٌ بفضيلةِ الاعترافِ بالحَقِّ، وتبرئةِ البَريءِ ممَّا أُلصِقَ به، ومِن خشيةِ عِقابِ الله الخائنينَ [624] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/6). .
5- مِنْ عَجائبِ الجَزاءِ في الدُّنْيا أنَّه لمَّا بَغَتْ على يوسف عليه السلام المرأةُ بدَعْواها: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا أنْطَقَها الحقَّ بقولِها: أَنَا رَاوَدْتُهُ [625] يُنظر: ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 66). .
6- عاقبَ اللهُ كلَّ خائنٍ بأنَّه يُضِلُّ كَيدَه ويُبطِلُه، ولا يهديه لمقصودِه وإن نال بعضَه، فالذي ناله سببٌ لزيادةِ عُقوبتِه وخَيبتِه؛ قال تعالى: وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [626] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/359). .
7- قولُ الله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ أُطلِقَت الهدايةُ- التي هي الإرشادُ إلى الطريقِ المُوصلةِ إلى تيسيرِ الوُصولِ- وأُطلِقَ نفيُها على نفيِ ذلك التَّيسيرِ، أي: أنَّ سُنَّةَ الله في الكونِ جَرَت على أنَّ فُنونَ الباطِلِ- وإن راجَت أوائِلُها- لا تلبَثُ أن تنقَشِعَ [627] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/293). .
8- قولُ الله تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي أصلٌ في التَّواضُعِ، وكَسرِ النَّفسِ، وهَضمِها [628] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:155). .
9- في قوله تعالى : إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي دليلٌ على أنَّ هذا وصفُ النَّفسِ مِن حيثُ هي، وأنَّها لا تخرُجُ عن هذا الوَصفِ إلَّا برَحمةٍ مِن اللهِ وعنايةٍ منه؛ لأنَّ النَّفسَ ظالِمةٌ جاهِلةٌ، والظُّلمُ والجَهلُ لا يأتي منهما إلَّا كُلُّ شَرٍّ، فإنْ رَحِمَ اللهُ العبدَ، ومَنَّ عليه بالعِلمِ النَّافعِ، وسُلوكِ طريقِ العَدلِ في أخلاقِه وأعمالِه، خرَجَت نفسُه مِن هذا الوَصفِ، وصارت مُطمَئنَّةً إلى طاعةِ اللهِ وذِكرِه، ولم تأمُرْ صاحِبَها إلَّا بالخيرِ، ويكونُ مآلُها إلى فضلِ الله وثوابِه؛ قال تعالى : يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي الفجر: 27-30 فعلى العبدِ أن يسعَى في إصلاحِ نَفسِه، وإخراجِها مِن هذا الوصفِ المذمومِ، وهو أنَّها أمَّارةٌ بالسُّوءِ، وذلك بالاجتهادِ، وتخَلُّقِها بأحسَنِ الأخلاقِ، وسُؤالِ اللهِ على الدَّوامِ، وأن يُكثِرَ مِن الدعاءِ المأثورِ [629]  أخرجه مسلم (771) مطولًا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. : ((اهدِني لأحسَنِ الأخلاقِ؛ لا يَهدي لأحسَنِها إلَّا أنت، واصرِفْ عنِّي سَيِّئَها؛ لا يصرِفُ عني سَيِّئَها إلَّا أنت )) [630] يُنظر: ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) للسعدي (ص: 43). .
10- قال الله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي هذا يدُلُّ على أنَّه ليس كلُّ نفسٍ أمَّارةً بالسُّوءِ، بل ما رَحِمَ ربِّي ليس فيه النَّفسُ الأمَّارةُ بالسُّوءِ، وقد ذكَرَ طائفةٌ مِن النَّاسِ أنَّ النَّفسَ لها ثلاثةُ أحوالٍ: تكونُ أمَّارةً بالسُّوءِ، ثم تكونُ لوَّامةً، أي: تفعلُ الذَّنبَ، ثمَّ تلومُ عليه، أو تتلوَّمُ فتترَدَّدُ بين الذَّنبِ والتَّوبة، ثمَّ تصيرُ مُطمَئنَّةً [631] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/143). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ... الذي فَعلَه يُوسُف مِن الصَّبْر والتَّوَقُّف إلى أن تَفَحَّصَ المَلِكُ عن حالِه هو اللَّائِق بالحَزْم والعَقْل، وبَيانُه مِن وُجوه:
الأَوَّل: أنَّه لو خَرَج في الحالِ فرُبَّما كان يَبْقَى في قلبِ المَلِك مِن تلك التُّهْمَةِ أثرُها، فلمَّا الْتَمَس مِن المَلِكِ أن يَتَفَحَّص عن حالِ تلك الواقِعَة دَلَّ ذلك على بَراءَتِه مِن تلك التُّهْمَة، فبعدَ خُروجِه لا يَقدِرُ أحدٌ أن يُلَطِّخَه بتلك الرَّذيلَةِ، وأن يَتَوَسَّل بها إلى الطَّعْنِ فيه.
الثَّاني: أنَّ الإنسانَ الذي بَقِيَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنين إذا طَلَبه المَلِكُ وأمَر بإخْراجِه؛ الظَّاهِرُ أنَّه يُبادِرُ بالخُروجِ، فحيثُ لم يَخرُجْ عرَف منه كونَه في نِهايةِ العَقْلِ والصَّبرِ والثَّباتِ، وذلك يَصيرُ سَبَبًا لأن يَعتَقِدَ فيه بالبَراءَةِ عن جَميعِ أَنواعِ التُّهَمِ، ولأن يَحكُمَ بأنَّ كُلَّ ما قِيلَ فيه كان كَذِبًا وبُهتانًا.
الثَّالِث: أنَّ الْتِماسَه مِن المَلِك أن يَتَفَحَّصَ عن حالِه مِن تلك النِّسْوَة يَدُلُّ أيضًا على شِدَّةِ طَهارَتِه؛ إذ لو كان مُلَوَّثًا بوجهٍ ما، لكان خائِفًا أن يَذكُرَ ما سبَق [632] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/466). .
2- قال اللَّهُ تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، إنَّما قال: فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ وسَكَتَ عنِ امرأةِ العَزيزِ، وفي ذلك عدةُ أوجهٍ:
الأول: أنَّه جعَلَ السُّؤالَ عن النِّسوةِ اللاتي قطَّعنَ أيديَهنَّ دونَ امرأةِ العزيز؛ تسهيلًا للكشفِ عن أمرِها؛ لأنَّ ذِكرَها مع مكانةِ زَوجِها من المَلِك ربَّما يصرِفُ المَلِكَ عن الكشفِ؛ رعيًا للعزيز، ولأنَّ حديثَ المتَّكأِ شاع بينَ الناسِ، وأصبحت قضيَّةُ يوسفَ عليه السلام مشهورةً بذلك اليوم، وأيضًا فإنَّ النسوةَ كنَّ شواهدَ على إقرارِ امرأةِ العزيزِ بأنَّها راودَتْ يوسُفَ عليه السلامُ عن نفسِه [633] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/289). .
الثاني: أنَّه سكَت عنها، أدبًا واحترامًا، وحُسْنَ عِشْرَةٍ [634] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/115)، ((تفسير البغوي)) (2/495)، ((تفسير القرطبي)) (9/207). ورِعايَةً لِذِمَامِ العَزيزِ، ووفاءً له فهو زوجُها [635]  يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/41)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/266). .
الثالثُ: أنَّ في سؤالِه عنها تهمةً، ربَّما صار بها متَّهمًا [636]  يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (3/46). .
الرابعُ: خَوْفًا مِن كَيْدِها، وعَظيمِ شَرِّها، واحترازًا عن مكرِها [637] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/41)، ((روح البيان)) للخلوتي (4/271). .
3- في قولِه: فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حثٌّ للمَلِكِ على الجِدِّ في التَّفتيشِ؛ لِتتبيَّنَ بَرءاتُه، وتتَّضِحَ نَزاهتُه؛ إذ السُّؤالُ ممَّا يُهيِّجُ الإنسانَ على الاهتمامِ في البحثِ للتَّقصِّي عمَّا توجَّه إليه؛ لأنَّه يأنفُ مِن الجهلِ، وأمَّا الطَّلبُ فمِمَّا قد يُتسامَحُ ويُتساهَلُ فيه، ولا يُبالَى به؛ لذا لم يَقُلْ: فاسأَلْه أن يُفتِّشَ عن ذلك [638] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/284)، ((تفسير الألوسي)) (6/447). .
4- في قولِ اللَّهِ تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ذَكَرَ يُوسفُ عليه السَّلامُ السَّؤالَ عن تَقْطِيعِ الأَيْدِي، ولم يذكُرْ مُراودتَهنَّ له؛ تَنَزُّهًا منه عن نِسْبَةِ ذلك إليهنَّ، ولذلك لم يَنْسِبِ المُراودةَ فيما تَقَدَّمَ إلى امرأةِ العَزيزِ إلَّا بعدَ أنْ رَمَتْه بِدائِها وانْسَلَّتْ. وقد اكتَفَى هنا بالإِشارَةِ الإجماليَّةِ بقولِه: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، فجَعَل عِلْمَ اللَّهِ سبحانه بما وَقَع عليه مِن الكيدِ منهنَّ مُغْنيًا عن التَّصريحِ [639] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/41). ، مُجاملةً معَهنَّ، واحتِرازًا عن سوءِ قالَتِهنَّ عندَ المَلِكِ وانتِصابِهنَّ للخُصومةِ؛ مُدافَعةً عن أنفُسِهنَّ متى سَمِعنَ بنِسْبتِه لهنَّ إلى الفسادِ [640] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/284). . وقيل: اقتصَر على وصفِهنَّ بتَقطيعِ الأيدي، ولم يُصرِّحْ بمُراودَتِهنَّ له؛ لأنَّه كان يَطمَعُ في صَدْعِهنَّ بالحقِّ، وشَهادتِهنَّ بإقرارِها بأنَّها راوَدَتْه عن نفسِه، فاستَعصَم [641] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/285). .
5- قولُ الله تعالى: قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ في قَولِ المَلِك لهنَّ: رَاوَدْتُنَّ دليلٌ على أنَّ براءتَه كانت متحَقِّقةً عند كلِّ مَن عَلِمَ القِصَّةَ [642] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/125). .
6- في قَولِه تعالى عن امرأةِ العزيزِ: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وكذا عن النِّسوةِ: قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ إشارةٌ إلى نَفيِ ما قد ذَكَرَه طائفةٌ مِن المفسِّرينَ مِن أنَّه وُجِدَ مِن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعضُ المقَدِّماتِ، مثلُ حَلِّ السَّراويلِ، والجلوسِ مَجْلِسَ الخاتِنِ، فلو كان قد بَدَتْ منه هذه المقَدِّماتُ لكانت المرأةُ قد رأتْ ذلك، وقولُه تعالى: مِنْ سُوءٍ نكرةٌ في سياقِ النَّفيِ، فدلَّ ذلك على أنَّ المرأةَ لم تَرَ منه سوءًا [643] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/30). .
7- قولُ امرأةِ العزيز: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ هذا القولُ منها- وإنْ لم يكُنْ سأل عنه- إظهارٌ لتوبتِها، وتحقيقٌ لِصدقِ يوسُفَ وكرامتِه؛ لأنَّ إقرارَ المُقِرِّ على نفسِه أقوى من الشَّهادةِ عليه، فجمع اللهُ تعالى ليوسُفَ- لإظهارِ صِدقِه- الشَّهادةَ والإقرارَ، حتى لا يخامِرَ نَفسًا ظَنٌّ، ولا يُخالِطَها شَكٌّ [644] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/208). .
8- تَمَدَّحَت امْرأةُ العَزيز بِعَدَم الخِيانَة على أَبلَغِ وَجْهٍ بِقَولِها: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ إِذْ نَفَت الخِيانَة في المَغيبِ، وهو حائِل بينه وبين دِفاعِه عن نَفسِه، وحالةُ المَغِيب أَمكَن لِمُريدِ الخِيانَة أن يَخونَ فيها مِن حالَةِ الحَضْرَةِ؛ لأنَّ الحاضِر قد يَتَفَطَّن لِقَصْدِ الخائِن فَيَدفَع خِيانَتَه بالحُجَّة [645]  يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/292). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
- قولُه: فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، هذا السُّؤالُ مُستعمَلٌ في التَّنبيهِ دُون طلَبِ الفَهمِ؛ لأنَّ السائِلَ عالِمٌ بالأمْرِ المسؤولِ عنه، وإنَّما يُريدُ السائلُ حَثَّ المسؤولِ عن عِلمِ الخَبرِ على ما يُريدُ [646] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/288، 289). .
- وقدَّمَ سُؤالَ النِّسوةِ؛ لِيُظهِرَ بَراءَةَ ساحَتِه عمَّا رُمي به وسُجِن فيه؛ لِئَلَّا يتَسلَّقَ به الحاسِدون إلى تَقْبيحِ أمْرِه عِندَه، ويَجعَلوه سُلَّمًا إلى حَطِّ مَنزِلتِه لدَيْه، ولِئَلَّا يَقولوا: ما خُلِّد في السِّجنِ بضعةَ سِنينَ إلَّا لأمْرٍ عَظيمٍ، وجُرْمٍ كبيرٍ، حقَّ به أن يُسجَنَ ويُعذَّبَ، ويُستَكَفَّ شَرُّه [647] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/477)، ((تفسير أبي حيان)) (6/287). .
- جملةُ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ تَذييلٌ وتعريضٌ بأنَّ الكشْفَ المطلوبَ سيَنْجَلي عن بَراءتِه، وظهورِ كَيْدِ الكائداتِ له؛ ثِقةً باللهِ ربِّه أنَّه ناصِرُه [648] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/289). .
2- قولُه تعالى: قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
- جُمْلَةُ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ الجُمَلَ الَّتي سبَقَتْها تُثيرُ سُؤالًا في نَفْسِ السَّامعِ عمَّا حصَل مِن الملِكِ لَمَّا أُبلِغَ إليه اقتراحُ يوسُفَ عليه السَّلامُ [649] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/289). .
- قولُه: قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ فيها مُبالَغةٌ في النَّفيِ والتَّنزيهِ، وتَعجُّبٌ مِن نَزاهتِه وعِفَّتِه عليه السَّلامُ [650] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/284)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/290). .
- وجملةُ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ مُبيِّنةٌ لإجمالِ النَّفيِ الَّذي في حَاشَ لِلَّهِ، وفيها مُبالَغةٌ في نَفْيِ جِنْسِ السُّوءِ عنه بتَنْكيرِ سُوءٍ، وزيادةِ مِنْ [651] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/284)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/290). .
- وجاءت جُملةُ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ مَفصولةً- أي: غيرَ مَعطوفةٍ على التي قَبْلَها-؛ لأنَّها حِكايةُ جوابٍ عن سؤالِ الملِكِ، والتَّعبيرُ بالماضِي حَصْحَصَ الْحَقُّ مع أنَّه لم يَثبُتْ إلَّا مِن إقرارِها الذي لم يَسبِقْ؛ لأنَّه قريبُ الوقوعِ؛ فهو لتقريبِ زَمَنِ الحالِ مِن المضيِّ، ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ ثُبوتَ الحقِّ بقولِ النِّسوةِ: مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ؛ فيَكونَ الماضِي على حقيقتِه [652] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/291). .
- وفي قولِها: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ تقديمُ اسم الزَّمانِ الْآنَ؛ للدَّلالةِ على الاختصاصِ، أي: الآن لا قبْلَه؛ للدَّلالةِ على أنَّ ما قَبلَ ذلك الزمانِ كان زَمنَ باطلٍ، وهو زمنُ تُهمةِ يُوسُفَ عليه السَّلامُ بالمراودةِ؛ فالقَصرُ قَصْرُ تعيينٍ؛ إذ كان الملكُ لا يَدري أيُّ الوقتَينِ وقتُ الصِّدقِ؛ أهو وقتُ اعترافِ النِّسوةِ بنزاهةِ يُوسفَ عليه السَّلامُ، أم هو وقتُ رمْيِ امرأةِ العزيزِ إيَّاه بالمُراودةِ [653] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/291). .
- وجملةُ أَنَا رَاوَدْتُهُ فيها تَقديمُ المسنَدِ إليه أَنَا على المسنَدِ الفعليِّ رَاوَدْتُهُ وهو يُفيدُ القَصْرَ؛ وذلك لإبطالِ أن يَكونَ هو راوَدَها، فهذا إقرارٌ مِنها على نَفْسِها، وشَهادةٌ لِغَيرِها بالبراءةِ، وزادَت فأكَّدَت صِدقَه بـ (إنَّ) واللَّامِ في: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [654] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/292). .
3- قولُه تعالى: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ
- وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي كالاحْتِراسِ ممَّا يقْتَضيه قولُها: ذَلِكَ لَيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ يوسف: 52 مِن أنَّ تَبْرِئةَ نَفْسِها مِن هذا الذَّنْبِ العظيمِ ادَّعاءٌ بأنَّ نَفْسَها بَريئةٌ بَراءةً عامَّةً فقالتْ: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [655] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/5). .
- جُمْلَةُ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ تعليلٌ لجملةِ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي؛ أي: لا أدَّعي بَراءةَ نَفْسي مِن ارتكابِ الذَّنبِ؛ لأنَّ النُّفوسَ كثيرةُ الأمرِ بالسُّوءِ [656] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/5). .
- قولُه: إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ فيه إيثارُ الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ مع التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ؛ لتربيةِ مَبادئِ المغفرةِ والرَّحمةِ [657] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/286). .