موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيات (43-45)

ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ

غَريبُ الكَلِماتِ:

يَصُدَّكُمْ: أي: يَصرِفَكم ويَمنعَكم، والصَّدُّ والصُّدُودُ: الانصرافُ عن الشَّيءِ والامتناعُ، وأيضًا: الصَّرفُ والمنعُ، وأصلُ (صدد): يَؤولُ إلى إعراضٍ وعُدولٍ [680] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/94)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/282)، ((تفسير السمعاني)) (4/339)، ((المفردات)) للراغب (ص: 477). .
إِفْكٌ: أي: كَذِبٌ، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ شَيءٍ، وصَرفِه عن جِهتِه [681] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/301)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 108)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((تفسير القرطبي)) (14/310)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 310). .
مُفْتَرًى: أي: مُختَلَقٌ، والافتِراءُ: اختِلاقُ الكَذِبِ، وأصلُه مِن: (فَرْيِ الأديمِ)، وهو: قَطْعُه، فقيل للكَذِبِ: افتراءٌ؛ لأنَّ الكاذِبَ يقطَعُ به على التَّقديرِ، مِن غيرِ تحقيقٍ [682] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31، 280)، ((تفسير ابن جرير)) (19/301)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((البسيط)) للواحدي (5/431)، ((المفردات)) للراغب (ص: 634)، ((تفسير ابن عطية)) (3/179)، ((تفسير القرطبي)) (14/310)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/120)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 154). .
يَدْرُسُونَهَا: أي: يَقرؤُونَها، والدَّرْسُ: الطَّريقُ الخفيُّ، يقالُ: دَرَسْتُ القرآنَ وغيرَه؛ وذلك أنَّ الدَّارسَ يَتَتبَّعُ ما كان قَرَأ، كالسَّالِك للطَّريقِ يَتتبَّعُه، وأصلُ (درس): يدُلُّ على خَفاءٍ وخفضٍ وعَفاءٍ [683] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/267)، ((المفردات)) للراغب (ص: 311)، ((تفسير القرطبي)) (14/310). .
مِعْشَارَ: أي: عُشْرَ، وأصلُ (عشر) هنا: عددٌ معلومٌ، ثمَّ يُحمَلُ عليه غيرُه [684] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 358)، ((تفسير ابن جرير)) (19/302)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 456)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/324)، ((المفردات)) للراغب (ص: 567)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 344). .
نَكِيرِ: أي: إنكاري وتَغْييري وعُقوبَتي، وأصلُ (نكر): يدُلُّ على خِلافِ المعرفةِ الَّتي يَسْكُنُ إليها القلبُ [685] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (96/303)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/476)، ((تفسير السمعاني)) (4/340)، ((تفسير الشوكاني)) (4/382). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا جانبًا مِن أقوالِ المشركينَ في شأنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والقرآنِ: وإذا تُتلى على مُشرِكي قُرَيشٍ آياتُ القُرآنِ الواضِحةُ الدَّلالةِ على أنَّها مِن عندِ اللهِ، قالوا عندَ سماعِهم لها: ما محمَّدٌ إلَّا رجلٌ يُريدُ أن يَصرِفَكم عن عِبادةِ الأصنامِ الَّتي كان يَعبُدُها آباؤكم! وقالوا: ما هذا الَّذي يَتلوه علينا إلَّا كَذِبٌ مُختَلَقٌ! وقال الكُفَّارُ في القُرآنِ لَمَّا جاءَهم: ما هذا إلَّا سِحرٌ ظاهِرٌ!
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه أنَّ أقوالَهم هذه لا تَستنِدُ إلى دليلٍ، فيقولُ: وما أنزَلْنا على كُفَّارِ قُرَيشٍ كُتُبًا قبْلَ القُرآنِ يَقرَؤونَها، وما أرسَلْنا إليهم قَبْلَك -يا محمَّدُ- مِن نذيرٍ يُنذِرُهم عذابَ اللهِ.
ثمَّ يُبيِّنُ لهم الله تعالى هَوانَ أمرِهم بالنِّسبةِ لِمَن سبَقوهم، فيقولُ: وكذَّب الَّذين مِن قبْلِ كُفَّارِ قُرَيشٍ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقةِ، وما بلغَ كفَّارُ قُرَيشٍ عُشْرَ ما آتَيْناه لأولئك المكَذِّبينَ مِن قَبْلِهم؛ مِنَ الأموالِ والأولادِ والقُوَّةِ، فلمَّا كذَّبوا أهلَكْناهم، فكيف كان إنكاري عليهم وعِقابي لهم؟!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أنْ ذكَرَ أنَّ المُشرِكينَ هم أهلُ النَّارِ يومَ القيامةِ، وأنَّه يُقالُ لهم يَومَئذٍ: ذوقوا عذابَها الَّذي كُنتُم به تُكَذِّبونَ- أعقَبَ ذلك بذِكرِ ما لأجْلِه استَحَقُّوا هذا العذابَ [686] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (22/93). .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ.
أي: وإذا تُتلى على مُشرِكي قُرَيشٍ آياتُ القُرآنِ، والحالُ أنَّها واضِحةُ الدَّلالةِ في ألفاظِها ومَعانيها، وأنَّها حَقٌّ مِن عندِ اللهِ؛ قالوا عندَ سَماعِهم لها: ما مُحمَّدٌ إلَّا رَجُلٌ يريدُ بدَعوتِكم أن يَصرِفَكم عن عبادةِ الأصنامِ والأوثانِ الَّتي كان يَعبُدُها آباؤُكم [687] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/300، 301)، ((تفسير القرطبي)) (14/309، 310)، ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 682)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 260-263). !
وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى.
أي: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ: ما هذا الَّذي يُتْلى علينا إلَّا كَذِبٌ مُختلَقٌ [688] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/301)، ((تفسير القرطبي)) (14/310)، ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 682). ومعنى إإِفْكٌ مُفْتَرًى: أي أنَّه كَذِبٌ في حَدِّ ذاتِه غيرُ مُطابِقٍ للواقِعِ، وهو مُختَلَقٌ على اللهِ مِن حيثُ نِسبتُه إليه؛ وعليه فـ مُفْتَرًى تأسيسٌ لا تأكيدٌ. وممَّن قال بهذا المعنى: العُلَيمي، والقِنَّوْجي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (5/430)، ((تفسير القنوجي)) (11/205)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 263). قال ابن عاشور: (والإفْكُ: الكَذِبُ، ووَصْفُه بالمُفترى: إمَّا أن يتوجَّهَ إلى نِسبتِه إلى اللهِ تعالى، أو أُريدَ أنَّه في ذاتِه إفكٌ، وزادوا فجعَلوه مُخترَعًا مِن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ليس مسبوقًا به؛ فكَوْنُه إفكًا يَرجِعُ إلى جميعِ ما في القُرآنِ، وكَوْنُه مُفترًى يُرجِعونَه إلى ما فيه مِن قَصَصِ الأوَّلينَ. وهذا القَولُ مِن بهتانِهم؛ لأنَّهم كثيرًا ما يقولونَ: أساطيرُ الأوَّلينَ؛ فليس مُفْتَرًى تأكيدًا لـ إِفْكٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/226، 227). !
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
أي: وقال الكُفَّارُ لَمَّا جاءَهم القُرآنُ: ما هذا إلَّا سِحرٌ واضِحٌ [689] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/768)، ((تفسير ابن جرير)) (19/301)، ((تفسير الزمخشري)) (3/588)، ((تفسير البيضاوي)) (4/250)، ((تفسير السعدي)) (ص: 682)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/227). .
كما قال تعالى: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 29، 30].
وقال سُبحانَه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأحقاف: 7].
وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى ما ردَّ الكافِرونَ به الحَقَّ، وأنَّها أقوالٌ دونَ مَرتبةِ الشُّبهةِ، فَضلًا أن تكونَ حُجَّةً؛ ذكَرَ أنَّهم وإن أراد أحَدٌ أن يحتَجَّ لهم، فإنَّهم لا مُستندَ لهم، ولا لهم شَيءٌ يعتَمِدونَ عليه أصلًا [690] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 682). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/526). .
وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44).
أي: وما أنزَلْنا على كُفَّارِ قُرَيشٍ كُتُبًا قَبلَ القُرآنِ يَقرَؤونَها، وما أرسَلْنا إليهم قَبلَك -يا مُحمَّدُ- رَسولًا يُنذِرُهم عذابَ اللهِ [691] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/301)، ((تفسير القرطبي)) (14/310)، ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 682)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/228). قال ابنُ عطية: (المعنى: وما أرسَلْنا مِن نذيرٍ يُشافِهُهم بشَيءٍ، ولا يُباشِرُ أهلَ عَصرِهم ولا مَن قَرُب مِن آبائِهم، وإلَّا فقد كانت النِّذارةُ في العالَمِ وفي العَرَبِ مع شُعَيبٍ وصالحٍ وهودٍ، ودعوةُ الله وتوحيدُه قائمٌ، لم تَخْلُ الأرضُ مِن داعٍ إليه؛ فإنَّما معنى هذه الآيةِ: مِنْ نَذِيرٍ يختَصُّ بهؤلاءِ الَّذين بعَثْناك إليهم). ((تفسير ابن عطية)) (4/424). واختلَف المفَسِّرون في المرادِ بهذه الآيةِ، فقيل: المعنى: أنَّهم لم يَقرؤوا بُطلانَ ما جِئتَ به في كتابٍ أُوتوه، ولا سَمِعوه مِن رسولٍ بُعِث إليهم؛ فليس لتكذيبِهم وجْهٌ يَتشَبَّثونَ به، ولا مُستَندٌ يَعتَمِدونَ عليه. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: القرطبيُّ، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/310)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/526، 527)، ((تفسير السعدي)) (ص: 682). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/709). وقيل: المعنى: أنَّهم قَومٌ أُمِّيُّونَ لا يَقرؤونَ ولم يُبعَثْ إليهم نبيٌّ؛ فكان الأليقُ بهم أن يَفرَحوا بالقُرآنِ وبإرسالِ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأن يَقبَلوا ما جاء به؛ فهم في أشدِّ الحاجةِ لذلك؛ فكيف رفَضوا اتِّباعَ الرَّسولِ وتلقِّي القُرآنِ، وكان الأجدَرُ أن يَغتَبِطوا بذلك؟! وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ كثير، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/228). وممَّن حمَل الآيةَ على كِلا الوجهَينِ: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 270-272). .
كما قال تعالى: أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [فاطر: 40] .
وقال سُبحانَه: أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 21، 22].
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن بشَّر اللهُ تعالى وأنذَرَ، وأبان بالحُجَّةِ والبُرهانِ ما كان فيه المَقنَعُ لهم لو كانوا يَعقِلونَ؛ سَلَك بهم سَبيلَ التَّهديدِ والوعيدِ، وضَرَب لهم المَثَلَ بالأُمَمِ الَّتي كانت قَبْلَهم [692] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (22/95). .
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ.
أي: وكذَّب الَّذين مِن قَبلِ كُفَّارِ قُرَيشٍ مِن الأُمَمِ السَّابِقةِ، كعادٍ وثمودَ، وما بلَغَ كُفَّارُ مَكَّةَ عُشْرَ الَّذي آتَيْناه لتلك الأُمَمِ الماضيةِ؛ مِن العَدَدِ، والأموالِ، والأولادِ، والقُوَّةِ، وغَيرِ ذلك مِنَ النِّعَمِ [693] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/537)، ((تفسير ابن جرير)) (19/302)، ((تفسير القرطبي)) (14/310)، ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((تفسير الشوكاني)) (4/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 682)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/273). قال السمعاني: (أكثرُ أهلِ التَّفسيرِ أنَّ المرادَ مِن الآيةِ هو أنَّ هؤلاء الكفَّارَ -وهم قُرَيشٌ- ما بلَغوا مِعشارَ ما آتَيْنا الَّذين مِن قَبْلِهم في القوَّةِ والمالِ والآلةِ). ((تفسير السمعاني)) (4/339). !
كما قال تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا [التوبة: 69].
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا [الروم: 9] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر: 82] .
فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ.
أي: فكذَّب كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ رُسُلي فيما جاؤوهم به مِنَ الحَقِّ، فأهلَكْناهم، فكيف كان إنكاري عليهم وعِقابي لهم [694] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/303)، ((تفسير القرطبي)) (14/310)، ((تفسير ابن كثير)) (6/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 682)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/230)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 274، 275). قال السعدي: (فاحذَروا -يا هؤلاءِ المكذِّبونَ- أن تَدوموا على التَّكذيبِ؛ فيَأخُذَكم كما أخَذَ مَن قَبْلَكم، ويُصيبَكم ما أصابهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 682). ؟

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ أنَّ آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ بيِّناتٌ ليس فيها خَفاءٌ، وعلى هذا فما يُشكِلُ على بعضِ أهلِ العلمِ مِن أحكامِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، فليس مَصدرُه أنَّ الوَحيَ خَفِيٌّ، ولكِنَّ مَصدرَه قصورُ النَّاظرِ في الوَحيِ أو تقصيرُه: قصورُه بحيثُ لا يكونُ عنده عِلْمٌ، أو لا يكونُ عنده فَهمٌ؛ وتقصيرُه بحيثُ لا يَطلُبُ العِلمَ، ولا يَطلُبُ الفَهمَ؛ وإلَّا فإنَّ آياتِ اللهِ تعالى بيِّناتٌ، ولا يمكنُ أنْ تَحدُثَ حادِثةٌ إلى يومِ القيامةِ إلَّا في كتابِ اللهِ تعالى بيانُها، ولكنْ ليس كلُّ أحدٍ يستطيعُ أنْ يَتبيَّنَها مِن القرآنِ؛ فتجدُ الآيةَ الواحدةَ يتلوها جماعةٌ ويَتفكَّرونَ فيها، يَستنبِطُ أحدُهم منها مَسائِلَ عديدةً، والآخَرُ لا يَستنبِطُ منها إلَّا مسألةً أو مَسألتَينِ!
وبيانُ الآياتِ إمَّا أنْ تكونَ هي بذاتِها بَيِّنةً واضحةً، وإمَّا أنْ يكونَ عن طريقِ السُّنَّةِ: تُبَيِّنُ المُجمَلَ، وتُفَسِّرُ المُشْكِلَ، وتُقَيِّدُ المُطْلَقَ، وتُخَصِّصُ العامَّ [695] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 267). .
2- قال الله عزَّ وجَلَّ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ، فقالوا كما حكاه الله عنهم: عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ، ولم يقولوا: «عَمَّا كنتم تعبُدونَ»؛ لإثارةِ الحَمِيَّةِ في نفوسِهم؛ لأنَّ الإنسانَ يَصعُبُ عليه أنْ يَدَعَ ما كان آباؤُه عليه، لا سيَّما مِثلُ هؤلاءِ الجَهَلةِ، ولو قالوا: «عمَّا كنتُم تَعبُدونَ» لَكان يمكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهم عبَدوا على غيرِ أساسٍ، لكنْ لَمَّا قالوا: عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ كأنَّ هذه العبادةَ لهذه الأصنامِ أمرٌ مُستقِرٌّ كان عليه الآباءُ، ولا ينبغي لكم أنْ تَترُكوا مِلَّةَ آبائِكم؛ ولهذا يقولونَ كما حكى اللهُ عنهم في آياتٍ أخرى: قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] أو مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] آيَتانِ [696] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 262). ؛ لأنَّهم يَجعَلونَ آباءَهم أهلَ الرَّأيِ فيما ارتَأَوا، والتَّسديدِ فيما فَعَلوا؛ فلا يَرَونَ إلَّا حَقًّا، ولا يَفعَلونَ إلَّا صَوابًا وحِكمةً [697] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/226). !
3- في قَولِه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ بيانُ عُتُوِّ المكَذِّبينَ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ حيث كانوا -مع هذه الآياتِ البَيِّناتِ- يَدَّعُونَ هذه الدَّعوى الباطِلةَ، وهي أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا يريدُ إلَّا أنْ يَصُدَّهم عمَّا كان يَعبُدُ آباؤُهم [698] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 268). !
4- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أنَّ ما جاء به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الآياتِ هو مِن أفصَحِ الكلامِ وأبلَغِه وأبيَنِه؛ فهم لم يَصِفوه بالسِّحرِ إلَّا لأنَّه يأخُذُ بالقُلوبِ، ويَجُرُّ النَّاسَ إليه جَرًّا، كما قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّ مِن البيانِ لَسِحرًا )) [699] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 269). والحديث أخرجه البخاريُّ (5767) مِن حديثِ عبدِ الله بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. .
5- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ في قَولِه تعالى: لَمَّا جَاءَهُمْ دليلٌ على أنَّه حينَ جاءَهم لم يُفَكِّروا فيه، بل بادَروه بالإنكارِ [700] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/558). .
6- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أنَّ مَن نَسَبَ الكَذِبَ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما أوحى اللهُ تعالى إليه، فهو كافِرٌ؛ لأنَّه وصَفَهم بالكُفرِ مُسنَدًا إلى هذا القَولِ؛ فيكونُ ذلك سبَبًا لِكُفرِهم [701] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 264، 269). .
7- في قَولِه تعالى: وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ بيانُ مِنَّةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى العُظمَى على العَرَبِ بما بعَثَ إليهم، وهو محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وجْهُ ذلك: أنَّهم كانوا أُمَّةً جاهِلةً ليس عندَهم كُتُبٌ تُدرَسُ، ولم يأتِهم نذيرٌ يُخبِرُهم ويُعَلِّمُهم؛ فهم أشدُّ النَّاسِ حاجةً إلى الرَّسولِ، وإذا اشتدَّتِ الحاجةُ ثمَّ جاء ما يُزيلُ تلك الحاجةَ، كان هذا أعظَمَ مِنَّةً [702] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 272). .
8- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أنَّه ليس في العَرَبِ رسولٌ -بعدَ إسماعيلَ عليه السَّلامُ- إلَّا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو كذلك، وما ذَكَرَ بعضُ المُؤَرِّخينَ مِن أنَّه وُجِدَ في الجاهليَّةِ رُسُلٌ -منهم خالدُ ابنُ سِنَان- فهذا لا أصلَ ولا صِحَّةَ له؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة: 19] ، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ليسَ بيني وبينَ عيسَى نبيٌّ )) [703] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 273). والحديث أخرجه مسلم (2365). قال ابنُ كثير: (قال غيرُ واحدٍ مِن العلماءِ: إنَّ الله تعالى لم يبعَثْ بعدَ إسماعيلَ نبيًّا في العربِ إلَّا محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم خاتمَ الأنبياءِ). ((البداية والنهاية)) (3/251). .
9- قَولُ الله تعالى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فيه سؤالٌ: ما معنى فَكَذَّبُوا رُسُلِي وهو مُستغنًى عنه بقَولِه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟
الجوابُ: لَمَّا كان معنى قَولِه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: وفَعَلَ الَّذين مِن قَبلِهم التَّكذيبَ، وأقدَموا عليه- جعَل تكذيبَ الرُّسُلِ مُسَبَّبًا عنه، ونظيرُه أن يقولَ القائِلُ: (أقدَمَ فُلانٌ على الكُفرِ، فكفَرَ بمُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم)، ويجوزُ أن يُعطَفَ على قَولِه: وَمَا بَلَغُوا، كقولِك: ما بلَغ زَيدٌ مِعشارَ فَضلِ عَمرٍو فيُفضَّلَ عليه [704] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/589). .
10- في قَولِه تعالى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وقولِه سُبحانَه: فَكَذَّبُوا رُسُلِي وغَيرِها مِن الآياتِ الَّتي تُضيفُ الفِعلَ إلى الفاعِلِ: ردٌّ على الجَبريَّةِ الَّذين يقولونَ: إنَّ العبدَ مُجبَرٌ على فِعلِه، ليس له فيه اختيارٌ [705] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 276). !
11- قَولُ الله تعالى: فَكَذَّبُوا رُسُلِي أفرد الضَّميرَ كما هو حقُّه، ونصًّا على أنَّ النُّونَ فيما مضى -في قولِه: أَرْسَلْنَا- للعَظَمةِ لا للجَمعِ؛ دفعًا لتعنُّتِ مُتعَنِّتٍ [706] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/528). .
12- في قَولِه تعالى: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أنَّ الإنكارَ يكونُ بالفعلِ كما يكونُ بالقولِ؛ وجْهُ ذلك: أنَّ إنكارَ اللهِ تعالى عليهم ليس بالقولِ فقط، بل بالفعلِ والعقوبةِ، فعقوبةُ المجرمينَ هي إنكارٌ بالفعلِ [707] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 276). .
13- في قَولِه تعالى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ استِعمالُ قياسِ الأَولى؛ فإذا أخَذَ اللهُ تعالى هؤلاءِ الأقوياءَ الأشِدَّاءَ الأكثَرَ أموالًا وأولادًا بجُرْمِهم: فهؤلاء الَّذين دُونَهم مِن بابِ أَولى [708] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 276، 277). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ بَيانٌ لِبَعضٍ آخَرَ مِن كُفرانِهم، وانتِقالٌ مِن حِكايةِ كُفرِهم وغُرورِهم، وازْدِهائِهم بأنفُسِهم، وتَكذيبِهم بأُصولِ الدِّيانةِ؛ إلى حِكايةِ تَكذيبِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأتبَعَ ذلك بحِكايةِ تَكذيبِهم الكتابَ والدِّينَ الَّذي جاء به؛ فكان كالفَذْلَكةِ [709] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أنْهاهُ وفرَغَ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِمَا تَقدَّمَ مِن كُفرِهم [710] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/225). .
- قولُه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا ... فيه إيرادُ حِكايةِ تَكذيبِ الكفَّارِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُقيَّدةً بالزَّمنِ الَّذي تُتْلى عليهم فيه آياتُ اللهِ البيِّناتُ؛ للتَّعجُّبِ مِن وَقاحتِهم؛ حيثُ كذَّبوه في أجدَرِ الأوقاتِ بأنْ يُصَدِّقوه عندَها؛ لأنَّه وَقتُ ظُهورِ حُجَّةِ صِدقِه لكلِّ عاقلٍ مُتبصِّرٍ. وللاهتِمامِ بهذا الظَّرفِ والتَّعجُّبِ مِن مُتعلَّقِه قُدِّمَ الظَّرفُ على عامِلِه، والتَّشوُّقِ إلى الخبَرِ الآتي بعْدَه، وأنَّه مِن قِبَلِ البُهتانِ والكُفرِ البَواحِ [711] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/225). .
- وحُذِفَ فاعلُ التِّلاوةِ؛ لِظُهورِ أنَّه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ هو تالي آياتِ اللهِ. والإشارةُ في قولِهم: مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واستَحْضَروه بطَريقِ الإشارةِ دونَ الاسمِ؛ إفادةً لِحُضورِه مَجلسَ التِّلاوةِ، وذلك مِن تَمامِ وَقاحتِهم، وابتَدؤوا بالطَّعنِ في التالي؛ لأنَّه الغرَضُ الَّذي يَرْمُون إليه، وأثْبَتوا له إرادةَ صَدِّهم عن دِينِ آبائِهم قَصْدَ أنْ يُثِيرَ بعضُهم حَميَّةَ بَعضٍ؛ لأنَّهم يَجعَلون آباءَهم أهلَ الرَّأيِ والتَّسديدِ، والصَّوابِ والحِكمةِ؛ فلا جَرَمَ أنَّ يكونَ مُريدُ الصَّدِّ عنها مُحاوِلًا الباطلَ، وكاذبًا في قولِه؛ لأنَّ الحقَّ مُطابِقُ الواقعِ، فإبطالُ ما هو حقٌّ في زَعمِهم قولٌ غيرُ مُطابقٍ للواقعِ؛ فهو الكذِبُ [712] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/226). ! وقيل: أَتَوا بصيغةِ الحاضرِ: مَا هَذَا وإن كان غائبًا؛ للاحتقارِ، وقولُهم: إِلَّا رَجُلٌ للإنكارِ؛ لأنَّهم أتَوْا به بصيغةِ النَّكرةِ، كأنَّهم لا يَعرِفونَه، كأنَّه رجُلٌ أجنبيٌّ منهم [713] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 262، 268). !
- وفي التَّعبيرِ بالفِعلِ (كان) في قولِهم: عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ: إشارةٌ إلى أنَّهم عَنَوا أنَّ تلك عِبادةٌ قَديمةٌ ثابتةٌ، وفي ذلك إلْهابٌ لِقُلوبِ قَومِهم وإيغارٌ لِصُدورِهم؛ لِيَتألَّبوا على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَزْدادوا تَمسُّكًا بدِينِهم. وفي قولِهم: مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ قد قَصَروا الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على صِفَةِ إرادةِ صَدِّهم قَصْرًا إضافيًّا [714] الحَصرُ أو القَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِع، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصفُ الإِلَهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو الله وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن ابن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: إلَّا رجلٌ صادٌّ، فما هو برَسولٍ [715] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/226). .
- وفي قولِهم: آَبَاؤُكُمْ إضافةُ الآباءِ إلى المخاطَبينَ لا إلى أنفُسِهم؛ لِتَحريكِ عِرْقِ العَصبيَّةِ منهم؛ مُبالَغةً في تَقريرِهم على الشِّركِ، وتَنفيرِهم عن التَّوحيدِ [716] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/138). .
- وفي قولِه: وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى أتْبَعوا وَصْفَ التَّالي بوَصْفِ المَتلُوِّ بأنَّه كذِبٌ مُفترًى. وإعادةُ فِعلِ القولِ؛ للاهتِمامِ بحِكايةِ قَولِهم؛ لِفَظاعتِه، وكذلك إعادةُ فِعلِ القولِ إعادةً ثابتةً؛ للاهتِمامِ بكلِّ قَولٍ مِن القَولَينِ الغَريبَينِ؛ تَشنيعًا لهما في نفْسِ السَّامعينَ [717] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/226). .
- ثمَّ حَكَى تَكذيبَ الكافرينَ الَّذي يَعُمُّ جميعَ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ مِن وَحيٍ يُتْلَى، أو دَعوةٍ إلى التَّوحيدِ وغيرِه، أو استِدلالٍ عليه، أو مُعجزةٍ؛ بقولِهم: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، فهذا المقالُ الثَّالثُ في الآيةِ، ويَشملُ ما تقدَّمَ وغيرَه؛ فحِكايةُ مَقالِهم هذا تَقومُ مَقامَ التَّذييلِ [718] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/227). .
- قولُه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا في تَكريرِ الفعلِ (قالَ)، والتَّصريحِ بذِكرِ الكفرةِ، وفي قولِه: لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ، وما في اللَّامينِ مِن الإشارةِ إلى القائلينَ والمَقولِ فيه، وفي لَمَّا مِن المُبادَهةِ بالكُفرِ؛ دليلٌ على صُدورِ الكلامِ عن إنكارٍ عظيمٍ، وغَضبٍ شديدٍ، وتَعجُّبٍ مِن أمْرِهم بليغٍ؛ كأنَّه قال: وقال أولئك الكَفَرةُ المُتمرِّدون بجَراءتِهم على اللهِ، ومُكابَرتِهم لِمثلِ ذلك الحقِّ النَّيِّرِ قبْلَ أنْ يَذوقُوه: إنْ هذا إلَّا سِحْرٌ مُبينٌ، فبَتُّوا القَضاءَ على أنَّه سِحرٌ، ثمَّ بَتُّوه على أنَّه بيِّنٌ ظاهرٌ، كلُّ عاقلٍ تأمَّلَه سمَّاهُ سِحرًا [719] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/588)، ((تفسير البيضاوي)) (4/250)، ((تفسير أبي السعود)) (7/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/227)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/108). !
2- قَولُه تعالى: وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ
- قولُه: وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ... فيه تَحميقٌ لجهالتِهم، وتَسفيهٌ لِرَأيِهم، وتَعجُّبٌ مِن حالِهم، ورَفْضِهم الحقَّ حينَ لا مانعَ يَصُدُّهم [720] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/250)، ((تفسير أبي السعود)) (7/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/228). .
- ولم يُقيَّدْ إيتاءُ الكُتبِ بقَيدٍ -كما قُيِّدَ الإرسالُ بقولِه: قَبْلَكَ-؛ لأنَّ الإيتاءَ هو التَّمكينُ مِن الشَّيءِ، وهمْ لم يَتمكَّنوا مِن القُرآنِ، بخِلافِ إرسالِ النَّذيرِ؛ فهو حاصلٌ سواءٌ تَقبَّلوه أمْ أعْرَضوا عنه [721] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/228). .
3- قَولُه تعالى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
- قولُه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ ... تَسليةٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَهديدٌ لِلَّذين كذَّبوه، ومَوقعُ التَّسليةِ في قولِه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ومَوقعُ التَّهديدِ بقيَّةُ الآيةِ؛ فالتَّسليةُ في أنَّ له أُسوةً بالرُّسلِ السَّابقينَ، والتَّهديدُ بتَذكيرِهم بالأُمَمِ السَّالفةِ الَّتي كذَّبَت رُسلَها، وكيف عاقَبَهم اللهُ على ذلك وكانوا أشَدَّ قوَّةً منهم [722] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/559)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/229). .
- وجُملةُ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ جُملةٌ مُعترِضةٌ؛ لأنَّ المُرادَ منهم المُشرِكون، فقُدِّمَ اهتمامًا، وإيذانًا بأنَّ إيرادَ هذا الكلامِ سَببُه هؤلاء المُكذِّبون؛ تَهديدًا ووَعيدًا. والفاءُ في قولِه: فَكَذَّبُوا رُسُلِي للتَّفريعِ على قولِه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ باعتِبارِ أنَّ المُفرَّعَ عُطِفَ عليه قولُه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، وبذلك كانت جُملةُ فَكَذَّبُوا رُسُلِي تأكيدًا لِجُملةِ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ونَظيرُه قولُه تعالى في سورة (القمرِ): كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا [القمَرِ: 9]، وتكونُ الفاءُ الثَّانيةُ في قولِه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ تأكيدًا لفظيًّا للفاءِ في قولِه: فَكَذَّبُوا رُسُلِي. ويجوزُ ألَّا تكونَ مُعترِضةً، بلْ يكونُ قولُه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تَوطئةً وتَمهيدًا لقَولِه: وَمَا بَلَغُوا، ويَنعطِفُ قولُه: فَكَذَّبُوا على وَمَا بَلَغُوا، أي: وما بلَغَ هؤلاءِ المُكذِّبون مِعشارَ ما آتَيْنا أولئك المُكذِّبين السَّابقينَ مِن طُولِ الأعمارِ، وقوَّةِ الأجرامِ، وكثرةِ الأموالِ؛ فكيف أقْدَموا على كُفرٍ أعظَمَ، وتَكذيبٍ أبلَغَ مِن أولئك، فكذَّبوا سيِّدَ الرُّسلِ لدَلالةِ جميعِ الرُّسلِ؟! كقوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل: 120] . ويجوزُ أنْ يكونَ مِن قَبِيلِ قولِه: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ [الفرقان: 37] ، وإنَّما كذَّبوه وَحْدَه؛ لأنَّ الرِّسالةَ وصْفٌ جامعٌ، فيَلزَمُ مِن تَكذيبِه تَكذيبُهم [723] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/576، 577)، ((تفسير أبي حيان)) (8/559)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/229). .
- وقولُه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ مُفرَّعٌ على قولِه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. و(كيف) استِفهامٌ عن الحالةِ، وهو مُستعمَلٌ في التَّقريرِ والتَّفريعِ؛ فجُمْلَتا فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ في قوَّةِ جُملةٍ واحدةٍ مُفرَّعةٍ على جُملةِ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، والتَّقديرُ: وكذَّبَ الَّذين مِن قبْلِهم، فكيف كان نَكيري على تَكذيبِهم الرُّسلَ؟! ولكنْ لَمَّا كانت جُملةُ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَقصودًا منها تَسليةُ الرَّسولِ ابتداءً، جُعِلَت مَقصورةً على ذلك؛ اهتِمامًا بذلك الغرَضِ، وانتصارًا مِن اللهِ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ خُصَّت عِبرةُ تَسبُّبِ التَّكذيبِ في العِقابِ بجُملةٍ تَخُصُّها؛ تَهويلًا للتَّكذيبِ، وهو مِن مَقاماتِ الإطنابِ، فصادَفَ أنْ كان مَضمونُ الجُملتينِ مُتَّحِدًا اتِّحادَ السَّببِ لِمُسبَّبينِ، أو العِلَّةِ لِمَعلولينِ، كعِلَّةِ السَّرقةِ للقطْعِ والغُرْمِ. وبُنِيَ النَّظمُ على هذا الأُسلوبِ الشَّيِّقِ؛ تَجنُّبًا لِثِقَلِ إعادةِ الجُملةِ إعادةً ساذَجةً؛ ففُرِّعَت الثَّانيةُ على الأُولى، وأُظهِرَ فيها مَفعولُ (كَذَّبَ)، وبُنِيَ عليه الاستِفهامُ التَّقريريُّ التَّفظيعيُّ، أو فُرِّعَ التَّكذيبُ الخاصُّ على التَّكذيبِ الَّذي هو سَجيَّتُهم العامَّةُ، على الوَجْهِ الثَّاني في مَعنى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [724] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/230). .
- ولفظُ نَكِيرِ بكَسرِ الرَّاءِ، وهو مُضافٌ إلى ياءِ المُتكلِّمِ، وحُذِفَت الياءُ للتَّخفيفِ، مع التَّنبيهِ عليها ببَقاءِ الكَسرةِ على آخِرِ الكلمةِ، ولِيُناسِبَ الفاصِلةَ، وكُتِبَ في المُصحَفِ بدُون ياءٍ وبوَقفٍ عليه بالسُّكونِ [725] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/230). .