موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (90-93)

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ

غريب الكلمات:

الْمُعَذِّرُونَ: أي: المُعتَذِرونَ الَّذين لَهُم عُذرٌ، وَقد يكون المعَذِّرُ غيرَ مُحِقٍّ، فالمعنى المقصِّرونَ بِغَيْر عُذرٍ. والعُذْرُ: تحرِّي الإنسانِ ما يمحو به ذُنوبَه [1519] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 191)، ((المفردات)) للراغب (ص: 555)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 144)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 644). .
الْأَعْرَابِ: أي: سُكَّانِ الباديةِ، وأصلُ (عرب): يدلُّ على الإبانةِ والإفصاحِ [1520] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/299)، ((المفردات)) للراغب (ص: 556)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 641). .
حَرَجٌ: أي: إثمٌ، والحرَجُ كذلك: الشكُّ والضِّيقُ، وأصلُ الحَرَجِ: تجمُّعُ الشَّيءِ وضِيقُه [1521] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 130)، ((تفسير ابن جرير)) (10/54)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/50)، ((المفردات)) للراغب (ص: 226)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 67). .
تَفِيضُ: أي: تَسيلُ، وفَيضُ العَينِ مِن الدَّمعِ: امتلاؤُها منه، ثمَّ سَيلانُه منها كفَيضِ النَّهرِ من الماءِ، وفيضِ الإناءِ، وأصلُ (فيض): يدلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ بِسُهولةٍ [1522] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/601)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 141)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/465)، ((المفردات)) للراغب (ص: 648)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227). .
السَّبِيلُ: أي: العقوبةُ والمأثَمُ، ويُستعمَلُ السَّبيلُ لكُلِّ ما يُتوصَّلُ به إلى شيءٍ، خيرًا كان أو شرًّا، وأصلُ (سبل): يدلُّ على امتدادِ شَيءٍ [1523] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /129)، ((المفردات)) للراغب (ص: 395)، ((تفسير القرطبي)) (8/230). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُعتَذرينَ مِن الأعرابِ أتَوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليأذَنَ لهم في التخلُّفِ عن الجهادِ، وقعدَ عن المجيءِ للاعتذارِ المُنافِقونَ الذين كَذَبُوا اللهَ ورَسولَه، وأخبَرَ أنَّه سيُصيبُ الكافرينَ مِن الأعرابِ عَذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ.
ثم ذكَر الله تعالى الأعذارَ المقبولةَ في التخلُّفِ عن الجهادِ، فقال: ليس هناك إثمٌ في التخلُّفِ عن الجهادِ مِن قِبَل الضُّعَفاءِ والمَرضى، والذين لا يجِدونَ مالًا يتجهَّزونَ به، إذا كانوا ناصحينَ لله ورسولِه، ما على المُحسنينَ مِن طريقٍ لِمُؤاخَذتِهم وعُقوبتِهم، واللهُ غفورٌ رحيم. ولا عقوبةَ أيضًا على الذين إذا أتَوْك- يا مُحمَّدُ- يطلبونَ منك ما يركبونَ عليه للغَزوِ معك، قلتَ لهم مُعتذرًا: لا أجِدُ ما تَركبونَ عليه، فانصَرَفوا مِن عِندِك، وهم يَبكونَ مِن الحَزَنِ على عدَمِ تَوفُّرِ ما يتجَهَّزونَ به للجِهادِ.
ثم بيَّن تعالى أحكامَ أصحابِ الأعذارِ الكاذبةِ، فقال: إنَّما العقوبةُ والمؤاخذةُ على المنافقينَ الذين يَستأذِنونَك في التخلُّفِ عن الجهادِ وهم أغنياءُ، رضُوا بأن يكونُوا في بيوتِهم مع النِّساءِ، وختَمَ اللهُ على قلوبِهم، فهم لا يَعلَمونَ.

تفسير الآيات:

وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا شرَحَ الله تعالى أحوالَ المُنافِقينَ الذين كانوا في المدينةِ؛ ابتدأ في هذه الآيةِ بشَرحِ أحوالِ المنافقينَ مِن الأعرابِ [1524] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/120). .
وأيضًا لَمَّا خَتمَ قَصصَ أهلِ المَدَرِ بذَمِّ أُولي الطَّولِ منهم بتخلُّفِهم، وكان ذمُّهم إنَّما هو لِكَونِهم قادرينَ على الخروجِ في ذلك الوَجهِ، وقدَّمَهم لِكَثرةِ سمَاعِهم للحِكمةِ، وكان أهلُ الوَبَرِ أقدَرَ النَّاسِ على السَّفَرِ؛ لأنَّ مبنى أمرِهم على الحَلِّ والارتحالِ، فهم أجدَرُ بالذمِّ؛ لأنَّهم في غايةِ الاستعدادِ لذلك- تلاهم بهم، فقال تعالى [1525] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/572). :
وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ.
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
قراءةُ الْمُعْذِرُونَ بسكونِ العينِ وتخفيفِ الذالِ، بمعنى: الذينَ جاؤوا بعُذرٍ صحيحٍ [1526] قرأ بها يعقوبُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/280). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((البسيط)) للواحدي (10/588)، ((معاني القراءات)) للأزهري (1/460)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 321)، ((تفسير ابن عطية)) (3/69، 70)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/288). .
قراءةُ الْمُعَذِّرُونَ بفتحِ العينِ وتشديدِ الذالِ، أي: المُعتذرونَ، قيل: بمعنى اعتذروا بحقٍّ، فتكونُ بمعنَى القراءةِ الأُولَى، وقيل: المعنى: المقصِّرون الذين أوْهَموا أنَّ لهم عذرًا، ولا عُذرَ لهم [1527] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/280). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((البسيط)) للواحدي (10/589 - 591)، ((معاني القراءات)) للأزهري (1/460)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 321)، ((تفسير ابن عطية)) (3/69، 70)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/288)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/292). قال محمد رشيد رضا: (والحكمةُ في القِراءَتين على اختلافِ معاني الصِّيغَتينِ بيانُ اختلافِ أحوالِ أولئك الأعرابِ في أعذارِهم؛ فمنهم مَن له عُذرٌ صَحيحٌ هو موقِنٌ به، ومن له عُذرٌ صوريٌّ لا حقيقيٌّ، وهو يُوهِمُ أنَّه حقيقيٌّ، عالِمًا بأنَّه مخادعٌ، ومنهم من له عُذرٌ ضَعيفٌ هو في شَكٍّ منه، إن نُوقِشَ فيه عجَزَ عن إثباتِه، ومنهم مَن لا عُذرَ له في الواقِعِ، فهو كاذبٌ في انتحالِه، وهذا من إيجازِ القُرآنِ العَجيبِ، بالإتيانِ بلَفظٍ مُفرَدٍ يتناوَلُ هذه الأقسامَ كُلَّها، مبهمةً إلَّا عند أهلِها؛ للحِكمةِ الآتيةِ المُقتَضيةِ لإبهامِها). ((تفسير المنار)) (10/504). .
وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ.
أي: وأتى المُعتَذِرونَ مِن سكَّانِ البوادي التي حولَ المدينةِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليأذَنَ لهم في التخلُّفِ عن الجِهادِ [1528] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/619، 620)، ((البسيط)) للواحدي (10/589، 590)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/288)، ((تفسير ابن كثير)) (4/197)، ((تفسير السعدي)) (ص: 347)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/293). قيل: المرادُ بالمعذِّرين هنا: الذين اعتَذَروا بأعذارٍ صادقةٍ وصَحيحةٍ، وممَّن اختار ذلك: الرازي، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/120)، ((تفسير ابن كثير)) (4/197-198)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/292). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلف: ابنُ عبَّاس والسُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1860). وقيل: المرادُ بهم: الذين اعتَذَروا بأعذارٍ كاذبةٍ، وممَّن اختار ذلك: ابنُ جريرٍ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/621)، ((تفسير السعدي)) (ص: 347). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلف: قتادةُ، ومجاهدٌ، والحسنُ، وأبو إسحاقَ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1860)، ((تفسير ابن جرير)) (11/621). .
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: وقعَدَ عن المجيءِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للاعتذارِ إليه عن الجهادِ معه، الأعرابُ المُنافِقونَ الذين كَذَبوا اللهَ ورَسولَه في دَعواهم الإيمانَ المُقتضيَ للخُروجِ للجِهادِ [1529] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/120)، ((تفسير ابن كثير)) (4/198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 347)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/293). .
سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: سيصيبُ الكافرينَ مِن الأعرابِ [1530] قال القاسمي: (الضميرُ في مِنْهُمْ إمَّا للأعرابِ مطلقًا، فالذين كفروا منافِقوهم، أو أعَمُّ، وإمَّا للمُعَذِّرينَ؛ فإنَّ منهم من اعتذرَ لكسَلِه، لا لكُفرٍ، وجُوِّز أن يكون المعنيَّ بالذين كَفَروا منهم، المُصِرُّونَ على الكُفرِ). ((تفسير القاسمي)) (5/476). وقال محمد رشيد رضا: (الظَّاهِرُ المختار أنَّ هذا الوعيدَ يعودُ على ما قبله من الفريقينِ، عامًّا في المكَذِّبين، وخاصًّا ببعض المعَذِّرينَ، كما هو المتبادِرُ مِن قوله تعالى: مِنْهُمْ أي: الأعراب الذين اعتذر بعضُهم، وقعد بعضٌ؛ فإنَّ الذين كَذَّبوا اللهَ ورَسولَه كُلُّهم كفَّارٌ، وأمَّا المُعتَذِرونَ فمنهم الصِّادقُ في عُذرِه والكاذِبُ فيه؛ لِمَرضٍ في قلبه، أو لتَكذيبِه لله ورَسولِه، وكلٌّ منهم يعرِفُ نَفسَه فيحاسِبُها إذا وجد الوعيدَ موضعًا للعِبرةِ منها، ولو جعل التبعيضَ لهم وحدَهم لظَلَّ القاعدونَ الكاذِبونَ بغَيرِ وعيدٍ، وهم شَرٌّ مِن شَرِّهم، فلا يصِحُّ التبعيضُ فيهم وَحدَهم، ومن ثمَّ اقتضى التحقيقُ أن يُوجَّهَ الوعيدُ إلى الذين كَفَروا منهم؛ لكُفرِهم لا لاعتذارِهم، وإلى الذين قَعَدوا لكُفرِهم لا لقُعودِهم، بل للكَذِبِ الذي كان سبَبَه، وهو عينُ الكفرِ). ((تفسير المنار)) (10/505). عذابٌ مُؤلِمٌ [1531] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/619، 620)، ((تفسير الزمخشري)) (2/300)، ((تفسير ابن عطية)) (3/70)، ((تفسير السعدي)) (ص: 347). قال ابن عطية: (توعَّدَ في آخِرِ الآيةِ الكافِرينَ بـ عَذَابٌ أَلِيمٌ فيحتمِلُ أن يريدَ في الدُّنيا بالقَتلِ والأسرِ، ويحتمل أن يريدَ في الآخرةِ بالنَّارِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/70). .
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ الله تعالى حالَ مَن تخلَّفَ عن الجهادِ مع القُدرةِ عليه؛ ذكرَ حالَ مَن له عُذرٌ في تَركِه [1532] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/482). ، فقال تعالى:
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ.
أي: ليس على ضُعَفاءِ الأبدانِ، العاجِزينَ عن الخُروجِ للقِتالِ، ولا على المرضى الذين لا يَقدِرونَ على الجهادِ، ولا على الفُقَراءِ الذين لا يجِدونَ مالًا يتجهَّزونَ به- إثمٌ في تخلُّفِهم عن الجِهادِ [1533] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/623)، ((تفسير ابن عطية)) (3/70)، ((تفسير ابن كثير)) (4/198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 347)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/294). .
كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح: 17] .
إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ.
أي: إذا أخلَصوا إيمانَهم وأعمالَهم وقَصدَهم وحُبَّهم في حال قُعودِهم، وبَذَلوا جُهدَهم في نُصرةِ الإسلامِ، ونَفْعِ المُسلِمينَ [1534] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/623)، ((البسيط)) للواحدي (10/593)، ((تفسير الرازي)) (16/121)، ((تفسير ابن عطية)) (3/70)، ((تفسير القرطبي)) (8/226، 227)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/57)، ((تفسير ابن كثير)) (4/198)، ((تفسير الألوسي)) (5/345)، ((تفسير القاسمي)) (5/477)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/507)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348). .
عن تميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الدِّينُ النَّصيحةُ. قلنا: لِمَن؟ قال: لِلَّهِ ولِكتابِه ولِرَسولِه ولأئمَّةِ المُسلِمينَ وعامَّتِهم )) [1535] رواه مسلم (55).
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ.
أي: ليس على المُحسِنينَ الذين نصَحوا للَّه ورَسولِه من طريقٍ إلى مؤاخَذتِهم وعُقوبتِهم [1536] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/623)، ((تفسير القرطبي)) (8/227)، ((تفسير الألوسي)) (5/346)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/507)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/294). قال ابن الجوزي: (لأنَّ المحسِنَ قد سدَّ بإحسانِه بابَ العِقابِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/288). .
وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أي: والله ساتِرٌ ذُنوبَ المُحسِنينَ، ومُتجاوِزٌ عن مؤاخَذتِهم بها، رحيمٌ بهم فلا يعاقِبُهم عليها، بل يُثيبُهم ثوابَ القادِرينَ العامِلينَ [1537] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/623)، ((تفسير أبي السعود)) (4/92)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/508)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348). .
وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الضُّعَفاءَ والمرضى والفُقَراءَ، وبَيَّنَ أنَّه يجوزُ لهم التخلُّفُ عن الجِهادِ، بشَرطِ أن يكونوا ناصِحينَ لله ورسولِه، وبيَّنَ كَونَهم مُحسِنينَ، وأنَّه ليس لأحدٍ عليهم سبيلٌ- ذكَرَ قِسمًا آخرَ مِن المعذورينَ، فقال [1538] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/122). :
وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ.
أي: ولا عقوبةَ على الذين إذا أتَوْك- يا مُحمَّدُ- يسألونَك ما يَركَبونَ عليه في غزوةِ تَبوكَ، قلتَ لهم مُعتذرًا: لا أجِدُ ما تركبونَ عليه، فانصرفوا مِن عِندِك، وهم يبكونَ مِن الحَزَنِ على عدَمِ توفُّرِ ما يتجهَّزونَ به للجِهادِ [1539] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/624)، ((تفسير ابن عطية)) (3/71)، ((تفسير الشوكاني)) (2/447)، ((تفسير القاسمي)) (5/477)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/508، 509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348). قال ابن تيمية: (هذه الآيةُ نزلت بالإجماعِ في غَزوةِ تَبوكَ). ((مجموع الفتاوى)) (29/375). .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ كُلَّ أولئك ما عليهم مِن سَبيلٍ، بَقِيَ بيانُ مَن عليهم السَّبيلُ في تلك الحالِ، فذَكَرَهم [1540] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/509). ، فقال:
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء.
أي: إنَّما العُقوبةُ- يا مُحمَّدُ- على المُنافِقينَ الذين يَستأذنِونَك في التخَلُّفِ عن الجهادِ، وهم أغنياءُ قادِرونَ على الخُروجِ معك للقِتالِ [1541] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/627)، ((تفسير ابن عطية)) (3/71)، ((تفسير القرطبي)) (8/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348). .
رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ.
أي: رَضِيَ المُنافِقونَ الذين يستأذِنونَك في التخَلُّفِ عن الجهادِ، بالقُعودِ في بيوتِهم مع النِّساءِ اللاتي لا يجِبُ عليهنَّ الجِهادُ [1542] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/627، 628)، ((تفسير البغوي)) (2/379)، ((تفسير الألوسي)) (5/344)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348). .
وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
أي: وختَمَ اللهُ على قلوبِ المُنافِقينَ عُقوبةً لهم، فهم لا يَعلمونَ سُوءَ عاقِبةِ تخلُّفِهم عن الجهادِ عاجلًا وآجلًا، ولا ما يفوتُهم بذلك مِن مَصالحِ الدُّنيا والآخرةِ [1543] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/628)، ((تفسير الرازي)) (16/123)، ((تفسير الألوسي)) (6/4)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348). .

الفوائد التربوية:

1- إذا أحسَنَ العَبدُ فيما يَقدِرُ عليه، سقَطَ عنه ما لا يقدِرُ عليه؛ نَستفيدُ ذلك مِن قَولِ اللهِ تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [1544] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:347). وينبغي التنبيهُ هنا على أن مَن تبرَّع بالقيامِ بعملٍ فلا يحلُّ له أن يخلَّ به، ويفرطَ فيما أُسنِد إليه؛ بحجةِ أنَّه متبرعٌ، وأنَّه (ما على المحسنين من سبيل)، فهذا وضعٌ للآيةِ في غيرِ موضعِها؛ لأنَّ الواجبَ أن يلتزمَ بما التزمَ بالقيامِ به، وأن يقومَ به على وجهِ الكمالِ. .
2- قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ قال بعضُ العُلَماءِ: هذا-واللهِ- بُكاءُ الرِّجالِ؛ بكَوا على فَقْدِهم رواحِلَ يُحمَلونَ عليها إلى الموتِ، في مواطِنَ تُراقُ فيها الدِّماءُ في سبيلِ اللهِ، وتُنزَعُ فيها رؤوسُ الرِّجالِ عن كواهلِها بالسُّيوفِ، فأمَّا من بكى على فَقْدِ حظِّه من الدُّنيا وشَهواتِه العاجلةِ، فذلك شبيهٌ ببُكاءِ الأطفالِ والنِّساءِ على فَقْدِ حُظوظِهم العاجلةِ [1545] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 243). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قَولُ اللهِ تعالىلَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ فيه رفعُ الجِهادِ عن الضَّعيفِ والمريضِ، ومَن لا يجِدُ نَفقةً ولا أُهبةً للجِهادِ، ولا مَحمَلًا [1546] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:143). .
2- قال اللهُ تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ في الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ النُّصحَ في الدِّينِ واجبٌ، وأنَّه يدخُلُ في ذلك الأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكَر، والشَّهاداتُ والأحكامُ، والفَتاوى وبيانُ الأدلَّةِ [1547] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (5/478). .
3- قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذه الآيةُ أصلٌ في سُقوطِ التَّكليفِ عن العاجزِ، فكُلُّ من عجَزَ عن شيءٍ سَقَط عنه، فتارةً إلى بدَلٍ هو فِعلٌ، وتارةً إلى بدَلٍ هو غُرمٌ، ولا فَرقَ بين العَجزِ من جهةِ القُوَّةِ، أو العَجزِ مِن جهةِ المالِ [1548] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/226). .
4- قال الله تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ هذه الآيةُ أصلٌ في رَفعِ العِقابِ عن كلِّ مُحسنٍ [1549] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/227). .
5- فائدةُ قَولِه: إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بعدما ذكَرَ عُذرَهم: أنَّ المَعذورَ يكونُ على قِسمينِ: أحدُهما فريقٌ منهم يغتَنِمونَ عُذرَهم، فهؤلاء ليسوا ممَّن نصحَ للَّهِ ورَسولِه، وفريقٌ يتمَنَّونَ أنْ لم يكُنْ لهم عذرٌ فيتمَكَّنوا من الجهادِ، فهؤلاء هم الذينَ نَصَحوا لله ورسولِه [1550] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (10/593- 594). .
6- قَولُ الله تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ يُستدَلُّ به على أنَّ مَن أحسَنَ على غيرِه، في نفسِه أو في مالِه، ونحو ذلك، ثمَّ ترتَّبَ على إحسانِه نَقصٌ أو تلَفٌ، أنَّه غيرُ ضامنٍ؛ لأنَّه مُحسِنٌ، ولا سبيلَ على المُحسنينَ، كما أنَّه يدُلُّ على أنَّ غيرَ المُحسِنِ- وهو المُسيءُ- كالمُفَرِّط، أنَّ عليه الضَّمانَ [1551] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:347). .
7- قال اللهُ تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَولُه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إشارةٌ إلى أنَّ كُلَّ أحدٍ عاجِزٌ محتاجٌ للمغفرةِ والرَّحمةِ؛ إذ الإنسانُ لا يخلو من تفريطٍ ما، فلا يقالُ: إنَّه نفى عنهم الإثمَ أوَّلًا، فما الاحتياجُ إلى المغفرةِ المقتضيةِ للذَّنبِ؟ فإن أريدَ ما تقدَّمَ مِن ذُنوبِهم دخلوا بذلك الاعتبارِ في المُسيءِ [1552] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (5/346). .
8- دلَّ قَولُه تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ على أنَّ العادِمَ للنَّفَقةِ، الطَّالِبَ للإعانةِ، إذا لم تحصُلْ له، فلا حرَجَ عليه. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ المعونةَ إذا بُذِلَت له من الإمامِ، لَزِمَه الخروجُ [1553] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (5/478). .
9- دلَّ قولُه تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ على أنَّ العاجزَ بمالِه لا يُعْذَرُ حتى يبذُلَ جُهدَه، ويتحقَّقَ عَجزُه؛ فإنَّ اللهَ سُبحانه إنَّما نفى الحرجَ عن هؤلاءِ العاجِزينَ بعد أنْ أتَوْا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليحمِلَهم [1554] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/489). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ هذه قصَّةُ البكَّائينَ صَرَّحَ بها-وإن كانوا داخلينَ في الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ- إظهارًا لِشَرفِهم وتقريرًا؛ لأنَّ النَّاصِحَ- وإن اجتهَدَ- لا غنى له عن العَفوِ؛ حيثُ بيَّنَ أنَّهم- مع اجتهادِهم في تحصيلِ الأسبابِ، وتحسُّرِهم عند فَواتِها بما أفاض أعيُنَهم- ممَّن لا سبيلَ عليه، أو ممَّن لا حرَجَ عليه، المَغفورِ له [1555] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/574). .
11- قال اللهُ تعالى: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا دلَّت الآيةُ على جوازِ البُكاءِ، وإظهارِ الحُزنِ على فواتِ الطَّاعةِ، وإن كان معذورًا [1556] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (5/478). .
12- دلَّ قولُه تعالى: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ على قُوَّةِ رغبةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، في الأعمالِ الصَّالحةِ المُوجِبةِ للدَّرَجاتِ العُلا، والنَّعيمِ المُقيمِ؛ وأنَّهم كانوا يَحزَنونَ على العَجزِ عن شَيءٍ مِن الطَّاعاتِ ممَّا يَقْدِرُ عليه غيرُهم [1557] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (5/241). .
13- قولُه تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ لم يُمدَحوا على نَفسِ الحزنِ، وإنَّما مُدِحوا على ما دلَّ عليه الحزنُ مِن قُوَّةِ إيمانِهم؛ حيث تخلَّفوا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِعَجزِهم عن النَّفقةِ، ففيه تعريضٌ بالمُنافِقينَ الذين لم يَحزَنوا على تخلُّفِهم، بل غَبَطوا نفوسَهم به [1558] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/501). .
14- في قوله تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ دليلٌ على أنَّ تمنِّي المالِ ليُطاعَ اللهُ فيه، والحزنَ على فواتِه طاعةٌ، وهو رَدٌّ على مَن يزعمُ مِن متنطعي المتصوفة أنَّ عَدَمَ المالِ أربحُ للمرء مِن وجودِه - وإنْ كان ناويًا طاعةَ اللهِ فيه- للمخاطرةِ دونَ القيامِ بالطاعةِ، وأداءِ حقِّ اللهِ فيه [1559] يُنظر: ((النُّكتُ الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/569). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قوله: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ فيه مِن لَطائِفِ بَلاغةِ القرآنِ: اختيارُ صِيغةِ (المُعذِّرين)؛ لتشمَلَ الذين صَدَقوا في العُذرِ، والذين كَذَبوا فيه [1560] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/292). .
وجملةُ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مُستأنَفة لابتداءِ وعيدٍ، وتَنكيرُ عَذَابٌ؛ للتَّهويلِ [1561] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/293). .
2- قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
قولُه: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ... اسْتِئنافٌ بيانيٌّ لجوابِ سؤالٍ مُقدَّرٍ يَنْشأُ عَنْ تهويلِ القُعودِ عَنِ الغزوِ، وما تَوجَّهَ إلى المُخلَّفينَ مِنَ الوعيدِ [1562] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/294). .
قوله: وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ.. فيه إعادةُ حَرْفِ النَّفْي لَا في عَطْفِ الضُّعفاءِ والمَرْضى؛ لتوكيدِ نَفْي المؤاخذةِ عَنْ كُلِّ فريقٍ بخُصوصِهِ [1563] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/294). .
قولُه: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ اسْتِئنافٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما سَبَق، أي: ليس عليهم جُناحٌ، ولا إلى مُعاتَبتِهم سبيلٌ، وهذه الجُمْلةُ واقعةٌ مَوقِعَ التَّعليلِ لنَفْي الحَرَجِ عنهم، والمعنى: ليس على الضُّعفاءِ، ولا على مَنْ عُطِفَ عليهم حَرَجٌ إذا نَصَحوا للهِ ورَسولِهِ؛ لأنَّهم مُحْسنونَ، غيرُ مُسيئينَ [1564] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/294). قال محمد رشيد رضا: (الجملةُ تتضمَّنُ تعليلَ رفعِ الحَرَجِ عنهم بما ينتظِمونَ به في سِلك المُحسِنينَ، فيكونُ رفعُه عنهم مَقرونًا بالدَّليلِ، فكلُّ ناصحٍ لله ورسولِه مُحسِنٌ، ولا سبيلَ إلى مُؤاخَذةِ المُحسِن، وإيقاعِه في الحَرَج، وهذه المبالغةُ في أعلى مكانةٍ مِن أساليبِ البلاغةِ). ((تفسير المنار)) (10/508). .
ووُضِعَ المُحْسِنينَ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ للدَّلالةِ على انْتِظامِهم بنُصْحِهم للهِ ورسولِهِ في زُمرةِ المُحْسنينَ، أو ليكونَ تعليلًا لنَفْي الحَرَجِ عنهم، أي: ما على جِنْسِ المُحْسنينَ مِنْ سبيلٍ، وهم مِن جُمْلتِهم [1565] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/92). .
و(مِن) في قولِه: مِنْ سَبِيلٍ صِلةٌ للتَّأكيدِ، وهي مؤكِّدةٌ لشُمولِ النَّفي لكُلِّ سبيلٍ [1566] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/295). .
قولُه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييلٌ مؤيِّدٌ لِمَضمونِ ما ذُكِرَ، وهو يُشيرُ إلى أنَّ بهم حاجةً إلى المغفرةِ، وإنْ كان تَخلُّفُهم بعُذْرٍ [1567] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/92). .
3- قوله تعالى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ
قوله: قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ في إيثارِ التعبيرِ بـ لَا أَجِدُ على (لَيْسَ عِنْدي): تَلطيفٌ للكَلامِ، وتَطييبٌ لقُلوبِ السَّائلينَ؛ كأنَّهُ صلَّى الله عليه وسلَّم يَطْلُبُ ما يَسألونَهُ على الاسْتِمرارِ فلا يَجِدُه [1568] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/92). .
و(مِنْ) في قولِه: وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ للبيانِ، وهي مَعَ المجرورِ في مَحلِّ النَّصْبِ على التَّمييزِ، والتَّقديرُ: تَفيضُ دَمْعًا، وهو أَبْلَغُ مِنْ (يَفيضُ دَمْعُها)؛ لأنَّ العَينَ جُعِلتَ كأنَّ كُلَّها دَمْعٌ فائضٌ [1569] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/301)، ((تفسير البيضاوي)) (3/93)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/296)، ((تفسير أبي السعود)) (4/92). .
4- قوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
قولُه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ صِيغةُ قَصرٍ، والقَصْرُ فيه إضافيٌّ بالنِّسبةِ للأصنافِ الذين نُفِي أنْ يكونَ عليهم سَبيلٌ، وفي هذا الحَصْرِ تأكيدٌ للنَّفي السَّابقِ، أي: لا سَبيلَ عِقابٍ إلَّا على الذين يَسْتأذنونَكَ وهم أغنياءُ [1570] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/5). .
وقولُه: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ اسْتِئنافٌ تعليليٌّ لِما سَبَقَ، وهو اسْتِئنافٌ قُصِدَ منه التَّعجيبُ مِنْ دَناءةِ نُفوسِهم، وقِلَّةِ رُجْلَتِهم؛ بأنَّهم رَضُوا لأَنْفُسِهم بأنْ يَكونوا تَبَعًا للنِّساءِ، كأنَّهُ قيل: ما بالُهم اسْتأذَنوا وهم أغنياءُ؟! فقيل: رَضُوا بالدَّناءةِ والضَّعةِ، والانْتِظامِ في جُملةِ الخَوالفِ [1571] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/301)، ((تفسير أبي حيان)) (5/489)، ((تفسير أبي السعود)) (4/93)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/289). .