موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (94-96)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ

غريب الكلمات:

انْقَلَبْتُمْ: أي: رَجعْتُم، وأصلُ (قلب): يدلُّ على ردِّ الشَّيءِ مِن جِهةٍ إلى جهةٍ [1572] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((تفسير ابن جرير)) (11/629)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17). .
رِجْسٌ: أي: نجسٌ، والرجسُ كذلك: القذرُ والمنتنُ، وأصلُ (رجس): يدلُّ على اختلاطٍ [1573] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((تفسير ابن جرير)) (11/629)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 342)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 199). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى المؤمِنينَ قائلًا لهم: إنَّ المُنافِقينَ المُتخلِّفينَ عن الجهادِ بلا عُذرٍ، سيعتَذِرونَ إليكم إذا رَجَعْتُم إليهم مِن سفَرِكم وجهادِكم، فقلُ لهم يا مُحمَّدُ: لا تعتَذِروا، لن نُصَدِّقَكم؛ قد أعلَمَنا اللهُ بأسرارِكم، وعَرَفْنا كذِبَكم في اعتذارِكم، وسيرى اللهُ عمَلَكم ورسولُه، ثمَّ تُرجَعونَ بعد مَوتِكم إلى عالِمِ كُلِّ سِرٍّ وعلانِيةٍ، وظاهرٍ وباطنٍ، فيُخبِرُكم بما كُنتم تَعمَلونَه في الدُّنيا، ويُجازيكم عليه.
سيَحلِفونَ لكم باللهِ إذا رجَعْتُم إليهم من غزوةِ تَبوكَ: إنَّهم لم يستَطيعوا الخروجَ معكم؛ لكي تُعرِضوا عنهم؛ فلا توبِّخوهم على قعودِهم ولا تعاتبوهم، فأعْرِضوا عنهم؛ احتقارًا وإهانةً لهم؛ لأنَّهم نَجَسٌ وقَذَرٌ، ومَصيرُهم في الآخرةِ نارُ جهنَّمَ؛ بسبَبِ ما كسَبوا.
يحلِفُ لكم هؤلاءِ المُنافِقونَ لِتَرضَوا عنهم، فإن تَرضَوا عنهم، فلا ينفَعُهم رِضاكم، ولا ينبغي أن يكونَ منكم رضًا عنهم؛ فإنَّ اللهَ لا يَرضى عن القَومِ الفاسِقينَ.

تفسير الآيات:

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94).
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ.
أي: يَعتَذِرُ إليكم المُنافِقونَ المتخَلِّفونَ عن الجِهادِ بلا عُذرٍ، إذا رَجَعْتُم- أيُّها المؤمِنونَ- إليهم من سَفَرِكم وجِهادِكم [1574] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/628)، ((تفسير القرطبي)) (8/230)، ((تفسير ابن كثير)) (4/201)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/3)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/7). .
قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ.
أي: قلُ لهم- يا مُحمَّدُ-: لا تعتَذِروا إلينا؛ إذ لن نصَدِّقَكم في اعتذارِكم الكاذِبِ [1575] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/628)، ((تفسير ابن عطية)) (3/72)، ((تفسير ابن كثير)) (4/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348). .
قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ.
أي: قد أخبَرَنا اللهُ بأسرارِكم- أيُّها المنافِقونَ- وعَلِمْنا كذِبَكم في اعتذارِكم [1576] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/628)، ((البسيط)) للواحدي (11/7)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/300)، ((تفسير ابن كثير)) (4/201)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/3)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/7). قال محمد رشيد رضا: (ولم يقُل: «نبَّأني» وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنبَّأُ من اللهِ وَحدَه؛ لأنَّ المرادَ أنَّه أمَرَه أن ينبِّئَ بذلك أصحابَه، ولم يكن هذا النبأُ خاصًّا به، واعتذارُهم للجميع يقتضي أن يعلَموا أنَّ الجميعَ عالِمونَ بما فضَحَهم الله به، وإن كان المبَلِّغُ لهم هو الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بما له من الرِّياسة، وما لِخَبَره من الثقةِ التي لا يشُكُّ فيها أحَدٌ، والتأثيرِ الذي يُحسَبُ له كلُّ حِسابٍ. فهو من قَبيلِ التبليغاتِ الرَّسميةِ العُليا الصادرةِ عن الملوكِ والسَّلاطينِ، دَعْ كونَه أسمى وأعلى؛ لأنَّه نبأُ الرَّسولِ المعصومِ عن اللهِ عَزَّ وجَلَّ). ((تفسير المنار)) (11/4). .
وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ.
أي: وسيرى اللهُ ورَسولُه أعمالَكم- أيُّها المنافِقونَ- في الدُّنيا، ويَظهَرُ صِدقُكم أو كذِبُكم في التَّوبةِ مِن النَّفاقِ [1577] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/628)، ((البسيط)) للواحدي (11/7)، ((تفسير ابن عطية)) (3/72)، ((تفسير ابن كثير)) (4/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/7). قال ابنُ عاشور: (جملة: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ عطفٌ على جملةِ لَا تَعْتَذِرُوا، أي: لا فائدةَ في اعتذارِكم، فإن خَشِيتُم المؤاخذةَ، فاعملوا الخيرَ للمُستقبَلِ، فسَيَرى اللهُ عَمَلَكم ورسولُه إن أحسَنْتُم، فالمقصودُ فَتحُ بابِ التوبةِ لهم، والتنبيهُ إلى المَكِنة من استدراكِ أمرِهم. وفي ذلك تهديدٌ بالوعيدِ إن لم يتوبُوا). ((تفسير ابن عاشور)) (11/7). .
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: ثمَّ تُرجَعونَ- أيُّها المُنافِقونَ- بعد مَوتِكم إلى اللهِ الذي يعلَمُ كُلَّ سِرٍّ وعلانيةٍ، وظاهرٍ وباطنٍ، فيُخبِرُكم بما كنتُم تَعملونَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، ويُجازيكم عليه [1578] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/628، 629)، ((البسيط)) للواحدي (11/7)، ((تفسير ابن كثير)) (4/201)، ((تفسير القاسمي)) (5/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/8). .
سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن المنافِقينَ في الآيةِ الأولى أنَّهم يعتَذِرونَ؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ أنَّهم كانوا يؤكِّدونَ تلك الأعذارَ بالأيمانِ الكاذبةِ [1579] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/124). ، فقال تعالى:
سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ.
أي: سيحلِفُ المُنافِقونَ المتخَلِّفونَ، باللَّهِ لكم- أيُّها المؤمنونَ- إذا رجَعْتُم إليهم مِن غزوةِ تبوكَ: إنَّهم ما استطاعُوا الخروجَ مَعَكم للجهادِ؛ لِتَترُكوا تأنيبَهم ومعاتَبتَهم [1580] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/629)، ((البسيط)) للواحدي (11/7)، ((تفسير القرطبي)) (8/230، 231). .
فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ.
أي: فاترُكوا- أيُّها المؤمنونَ- تأنيبَهم ولَومَهم؛ احتقارًا وإهانةً لهم؛ لا مسامحةً وعفوًا، لأنَّهم نجَسٌ وقذَرٌ، خَبيثةٌ بَواطِنُهم، وقبيحةٌ أعمالُهم [1581] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/629)، ((تفسير ابن عطية)) (3/73)، ((تفسير القرطبي)) (8/231)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/384)، ((تفسير ابن كثير)) (4/201)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/4)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/9، 10). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] .
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ.
أي: ومصيرُ المُنافِقينَ في الآخرةِ نارُ جهنَّمَ؛ مجازاةً لهم بسببِ ذُنوبِهم التي كانوا يَعمَلونَها في الدُّنيا [1582] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/629)، ((تفسير ابن كثير)) (4/201)، ((تفسير الشوكاني)) (2/450)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/10). .
عن كعبِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نِعمةٍ قطُّ، بعد إذ هدَاني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسِي مِن صِدقِي رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألَّا أكونَ كَذَبتُه فأَهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا، إنَّ الله قال للذينَ كَذَبوا- حين أنزَلَ الوَحيَ- شَرَّ ما قال لأحَدٍ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [1583] رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769). .
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابقةِ أنَّهم يحلِفونَ باللهِ؛ لِيُعرِضَ المسلِمونَ عن إيذائِهم- بَيَّنَ أيضًا هنا أنَّهم يحلِفونَ لِيَرضى المسلِمونَ عنهم، ثمَّ إنَّه تعالى نهى المُسلِمينَ عن أن يَرضَوا عنهم [1584] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/124). ، فقال:
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ.
أي: يحلِفُ هؤلاءِ المُنافِقونَ لكم- أيُّها المؤمِنونَ- بالكَذِبِ؛ مِن أجلِ أن ترضَوا عنهم، فتَستَديموا مُعاملَتَهم السَّابقةَ، كأنَّهم لم يُذنِبوا [1585] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/631)، ((تفسير القاسمي)) (5/481)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348). .
فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ.
أي: فإنْ تَرضَوا- أيُّها المؤمِنونَ- عن المُنافِقينَ، فَرِضاكم عنهم لا ينفَعُهم، ولا ينبغي لكم أن ترضَوا عنهم؛ فإنَّ اللهَ لا يرضَى عن القومِ الخارجينَ عن طاعَتِه [1586] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/631)، ((تفسير الرازي)) (16/124)، ((تفسير ابن كثير)) (4/201)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/5)، ((تفسير السعدي)) (ص: 348). وقال محمد رشيد رضا: (مُقتضاه أنَّه إذا فُرِضَ أنَّ بعضَ المؤمنينَ رَضِيَ عنهم وآمَنَ لهم باعتذارِهم بعد النَّهيِ عنه، كان فاسقًا مِثلَهم، محرومًا مِن رضائِه تعالى). ((تفسير المنار)) (11/5). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ مِن الفِقهِ في الآيةِ أنَّ مِن آدابِ الإسلامِ تحاميَ كلِّ ذَنبٍ أو تقصيرٍ يحتاجُ فاعِلُه إلى الاعتذارِ [1588] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/4). .
2- العمَلُ هو ميزانُ الصِّدقِ مِن الكَذِبِ، وأمَّا مجرَّدُ الأقوالِ، فلا دلالةَ فيها على شيءٍ مِن ذلك، قال الله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [1589] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:348). .
3- في قَولِه تعالى: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إرشادٌ إلى أنَّه لا ينبغي لأحدٍ أنْ يزكِّيَ عملَه، وإنَّما يُفوِّضُه إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى [1590] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/504). .
4- في قَولِ الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ذكَرَ العِلَّةَ في وجوبِ الإعراضِ عنهم، فقال: إِنَّهُمْ رِجْسٌ والمعنى: أنَّ خُبثَ باطِنِهم رِجسٌ رُوحانيٌّ، فكما يجِبُ الاحترازُ عن الأرجاسِ الجُسمانيَّة، فوجوبُ الاحترازِ عن الأرجاسِ الرُّوحانيَّةِ أَولى؛ خَوفًا من سَرَيانِها إلى الإنسانِ، وحَذرًا مِن أن يميلَ طَبعُ الإنسانِ إلى تلك الأعمالِ [1591] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/124). .
5- قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فإن رَضِيَ المسلِمونَ عنهم وأعرضوا عن لَوْمِهم؛ فإنَّ اللهَ لا يرضى عن المُنافِقينَ، وهذا تحذيرٌ للمُسلِمينَ من الرِّضا عن المُنافِقينَ بطريقِ الكِنايةِ؛ إذ قد عَلِمَ المُسلِمونَ أنَّ ما لا يُرضي اللهَ، لا يكونُ للمُسلِمينَ أن يرضَوا به [1592] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/10). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ حجةٌ في تَرْكِ قَبولِ الاعتذارِ ممَّن يُعْرَفُ كَذِبُهُ، بأيِّ وجهٍ عُرِفَ منه؛ بعد أنْ يكونَ يقينًا [1593] يُنظر: ((النُّكتُ الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/569). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ لله، الواقعةِ بمشيئتِه تعالى وقُدرَتِه [1594] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:348). .
3- لم يُذكرِ المُؤمِنونَ في قَولِه تعالى: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ لأنَّ هذا خِطابٌ للمُنافِقينَ؛ وهم لم يَكونوا يُطْلِعونَ المؤمِنينَ على ما في بُطونِهم [1595] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/880). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فيه إثباتُ الرِّضا لله عن المُحسِنينَ، والغضَبِ والسَّخَطِ على الفاسقينَ [1596] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 348). .
5- في قولِه تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ دليلٌ على أنَّ مَن لم يُقْبَلْ عُذْرُه مِن الكذَّابين بغيرِ يمينٍ؛ فحَلَفَ قُبِلَ منه؛ لأنَّ اللهَ تبارك وتعالى لم يأمرْ برَدِّ اليمينِ عليهم، كما أَمَرَ برَدِّ الاعتذارِ، حيث قال سبحانه: قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ، فإنَّما أخْبَر سبحانَه عن نفسِه بأنَّه لا يرضَى عنهم- وإنْ رضِي عنهم المحلوفُ له- ويؤيدُ هذا المعنَى حديثُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن حَلَفَ بالله فلْيَصْدُقْ، ومَن حُلِفَ له بالله فلْيَرْضَ، ومَن لم يَرْضَ بالله فليس مِن الله )) [1597]  أخرجه ابن ماجه (2101)، والبيهقي (21240) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال البيهقي : له متابعةٌ، وجوَّد إسنادَه وقوَّاه ابنُ كثيرٍ في ((إرشاد الفقيه)) (2/413)، وصحَّح إسنادَه، ووثَّق رجالَه البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (1/360)، وحسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (11/544)، وذكر الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/224) أنَّ فيه محمدَ بنَ إسماعيل ثقةٌ، وبقيةُ إسنادِه رجالُ الصحيح، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2101). ، فالمُتَعَذَّرُ إليه ينبغي له أنْ يَقْبَلَ يمينَ المعتذرِ على الظاهر؛ ويَكِلَ سريرتَه إلى الله تعالى [1598] يُنظر: ((النُّكتُ الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/570). .
6- قَولُ الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لم يُذكَرِ المحلوفُ عليه؛ للدَّلالةِ على شُمولِه لكُلِّ ما يُعتَذرُ عنه [1600] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/4). .
7- في قَولِه تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ دَلالةٌ على أنَّ أحكامَ الإسلامِ تجري على الظَّاهِرِ؛ فلم يَجعَلِ اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يقضِيَ عليهم في الدُّنيا بخلافِ ما أظهَروا، وقد جعلَ اللهُ حُكْمَه عليهم على سرائِرِهم، فأعلَمَ نبيَّه أنَّهم في الدَّركِ الأسفَلِ مِن النَّارِ، وجعَلَ حُكْمَ نبيِّه عليهم في الدُّنيا على علانِيَتِهم، بإظهارِ التَّوبةِ وما قامَتْ عليه بيِّنَةٌ من المسلِمينَ، وبما أقرُّوا بِقَولِه، وبما جَحَدوا به [1601] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/83). .
8- المنافقونَ هم أخبثُ بني آدَمَ وأقذَرُهم وأرذَلُهم؛ فقد قال تعالى واصفًا لهم: إِنَّهُمْ رِجْسٌ والرِّجسُ مِن كُلِّ جِنسٍ أخبَثُه وأقذرُه [1602] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 405). .
9- قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ هذه الآيةُ وما قَبْلَها دليلٌ على أنَّ المنافِقينَ تُحقَنُ دِماؤُهم؛ بسبَبِ الشَّهادَتينِ، ولا تجوزُ مُوالاتُهم والرِّضا عنهم [1603] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/10). .
10- قَولُه تعالى: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ شرطٌ يتضَمَّنُ النَّهيَ عن الرِّضا عنهم، وحُكمُ هذه الآيةِ يستمِرُّ في كلِّ مَغموصٍ عليه ببدعةٍ ونَحوِها، فإنَّ المؤمِنَ ينبغي أن يُبغِضَه، ولا يرضَى عنه لسبَبٍ مِن أسبابِ الدُّنيا [1604] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/73). .
11- في قَولِه تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ إرشادٌ إلى أنَّ رِضا المُسلِمينَ عن القَومِ الفاسِقينَ، ليس مِمَّا يُحبُّه اللهُ ويَرضاه، وهو سُبحانَه لا يرضَى عنهم [1605] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/708). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
قولُه: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ استِئْنافٌ لِبَيانِ ما يتَصدَّرون له عِندَ القُفولِ إليهِم [1606] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/93). .
قولُه: قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا تَخْصيصُ هذا الخِطابِ برسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ تَعميمِه فيما سبَق لأصحابِه أيضًا؛ لأنَّ الجوابَ وظيفتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَّا اعتِذارُهم فكان شامِلًا للمُسلمين شُمولَ الرُّجوعِ لهم [1607] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/93). .
قولُه: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ استِئْنافٌ تعليليٌّ للنَّهيِ: لَا تَعْتَذِرُوا، مبنيٌّ على سؤالٍ نشَأ مِن قِبَلِهم، مُتفرِّعٍ على ادِّعاءِ الصِّدقِ في الاعتِذارِ، كأنَّهم قالوا: لِمَ لا نَعتَذِرُ؟ فقيل: لأنَّا لا نُصدِّقُكم أبدًا [1608] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/93). ؛ فالجُملةُ علَّةٌ للنَّهيِ عَن الاعتِذارِ؛ لأنَّ غرَضَ المعتَذِرِ أن يُصدَّقَ فيما يَعتَذِرُ به، فإذا علِم أنَّه لا يُصدَّقُ، ترَك الاعتذارَ [1609] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/302)، ((تفسير أبي حيان)) (5/489)، ((تفسير الشوكاني)) (2/449) . .
قولُه: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ جمَعَ ضميرَ المتكلِّمِ في نُؤْمِنَ- نَبَّأَنَا؛ للمُبالَغةِ في حَسْمِ أطماعِهِم مِن التَّصديقِ رأسًا؛ ببَيانِ عدَمِ رَواجِ اعتِذارِهم عندَ أحَدٍ مِن المؤمِنين أصلًا [1610] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/93). .
قولُه: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ تعليلٌ لنفيِ تَصْديقِهم، أي: قد نبَّأَنا اللهُ مِن أخبارِكم بما يَقْتَضي تَكذيبَكم [1611] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/7). ، وهذه الجُملَةُ علَّةٌ لانتِفاءِ تَصْديقِهم؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ إذا أوحَى إلى رسولِه الإعلامَ بأخبارِهم، وما في ضَمائرِهم مِن الشَّرِّ والفسادِ، لم يَستَقِمْ معَ ذلك تَصديقُهم في مَعاذيرِهم [1612] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/302)، ((تفسير أبي حيان)) (5/489). .
قولُه: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ تقديمُ مَفعولِ الرُّؤيةِ عَمَلَكُمْ على ورَسُولُهُ المعطوفِ على الفاعِلِ اللَّهُ؛ للإيذانِ باختلافِ حالِ الرُّؤيتَينِ وتَفاوُتِهما، وللإشعارِ بأنَّ مَدارَ الوعيدِ هو عِلمُه عزَّ وجلَّ بأعمالِهم [1613] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/93). .
قولُه: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فيه وَضْعُ المُظهَرِ عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ مَوضِعَ المُضمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: (إليه)- لِتَشديدِ الوَعيدِ؛ فإنَّ عِلمَه سُبحانَه وتَعالى بجَميعِ أعمالِهم الظَّاهرةِ والباطنةِ، وإحاطتَه بأحوالِهم البارزةِ والكامِنةِ ممَّا يوجِبُ الزَّجرَ العَظيمَ [1614] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/94). ، ففي الإظهارِ تنبيهٌ على أنَّه لا يَعزُبُ عنه شيءٌ مِن أعمالِهم، زيادةً في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ ليعلَموا أنَّه لا يخفى على اللهِ شَيءٌ [1615] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/8). .
2- قولُه تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
قولُه: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ... الجُملةُ مُستأنَفةٌ ابتِدائيَّةٌ، تَعْدادٌ لأحوالِهم، ومَعناها ناشئٌ عن مضمونِ جُملةِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ؛ تنبيهًا على أنَّهم لا يَرْعَوُون عَن الكذبِ، ومُخادَعةِ المسلِمين [1616] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/7). .
قولُه: إِنَّهُمْ رِجْسٌ تعليلٌ للأمرِ بالإعراضِ، ووُقوعُ (إنَّ) في أوَّلِها مُؤْذِنٌ بمَعنى التَّعليلِ [1617] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/9). ؛ فالجُملةُ تَعليلٌ لِتَرْكِ مُعاتبَتِهم، يَعْني: أنَّ المُعاتَبةَ لا تَنفَعُ فيهم ولا تُصلحُهم، إنَّما يُعاتَبُ الأديمُ ذو البَشَرةِ [1618]  أي: إِنَّمَا يُعَاتب من فيه رَجاءٌ ومُستعتَبٌ، ويُراجَع من تصلُحُ مُرَاجعَتُه، والمعاتبةُ: المعاودةُ، وبَشَرةُ الأديمِ: ظاهرُه الذي عليه الشَّعَر، أي أنَّ ما يُعادُ إلى الدباغِ مِن الأديمِ ما سلِمت بشرتُه. يُنظر: ((جمهرة الأمثال)) للعسكري (1/69)، ((مجمع الأمثال)) للميداني (1/40)، ((المعجم الوسيط (1/58). ، والمؤمنُ يُوبَّخُ على زَلَّةٍ تَفرُطُ منه؛ ليُطهِّرَه التوبيخُ بالحملِ على التَّوبةِ والاستغفارِ، وأمَّا هؤلاء فأرجاسٌ لا سبيلَ إلى تَطهيرِهم [1619] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/302). .
والإعراضُ في قَوله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُم إعراضُ إهانةٍ واحتقارٍ، لا إعراضُ صَفحٍ وإعذارٍ، وهذا التعبيرُ مِن أسلوبِ الحَكيمِ: وهو قَبولُ ما يَبغونَ من الإعراضِ عنهم، ولكِنْ على غيرِ الوَجهِ الذي يرجونَه منه، بل على ضِدِّه [1620] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/4).
3- قولُه تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فيه احتراسٌ؛ لئلَّا يَتوهَّمَ مُتوهِّمٌ أنَّ رِضا المؤمنين يَقتضِي رِضَا الله عنهم [1621] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/302). .
قوله: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ على القولِ بأنَّ المرادَ به النهيُ؛ فيكون فيه نهيُ المُخاطَبِينَ عن الرِّضا عنهم، والاغتِرارِ بمعاذيرِهم الكاذبةِ على أَبلغِ وجهٍ وآكدِه؛ فإنَّ الرِّضا عمَّن لا يَرضَى عنه الله تعالى ممَّا لا يَكادُ يصدُرُ عن المؤمنِ [1622] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/94- 95). ؛ فأبرز النَّهيَ عن الرِّضا في صورةٍ شَرطيَّةٍ، لأنَّ الرِّضا مِن الأمورِ القَلبيَّةِ التي تَخفَى، وخرَج مخرجَ المتردِّدِ فيه، وجُعِلَ جوابُه انتفاءَ رضا الله عنهم؛ فصار رضا المؤمنين عنهم أبعدَ شيءٍ في الوقوعِ؛ لأنَّه معلومٌ منهم أنَّهم لا يَرْضَونَ عمَّن لا يَرضَى اللهُ عنهم [1623] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/491). ، وهو أيضًا تحذيرٌ للمُسلِمينَ مِن الرِّضا عن المُنافِقين بطريقِ الكنايةِ؛ إذ قد علم المسلمون أنَّ ما لا يُرضِي اللهَ لا يكونُ للمُسلِمينَ أن يَرْضَوْا به [1624] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/10). .
قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ فيه وضْعُ المُظهَرِ عَنِ الْقَوْمِ الفَاسِقِينَ مَوضِعَ ضَميرِهم (عنهم)؛ فعدَل عن الإتيانِ بضَميرِ (هم) إلى التَّعبيرِ بصِفتِهم؛ للتسجيل عليهم بالخُروجِ عن الطاعةِ، المُستوجِبِ لِمَا حلَّ بهم مِن السُّخطِ، وللإيذانِ بشُمولِ الحُكمِ لِمَن شارَكهم في ذلك الفسق؛ ففيه دَلالةٌ على ذَمِّهم، وتَعليلِ عَدمِ الرِّضا عنهم؛ فاشتملَ الكلامُ على خبَرٍ وعلى دَليلِه؛ فأفاد مَفادَ كلامَينِ؛ إذ التقديرُ: (فإنْ تَرْضَوا عنهم فإنَّ الله لا يَرضَى عنهم؛ لأنَّ الله لا يَرضَى عن القومِ الفاسِقين) [1625] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/10). ، وأيضًا ليدُلَّ ذلك على أنَّ بابَ التوبةِ مَفتوحٌ، وأنَّهم مهما تابوا هم أو غيرُهم، فإنَّ الله يتوبُ عليهم، ويرضَى عنهم، وأمَّا ما داموا فاسِقينَ، فإنَّ اللهَ لا يرضَى عليهم، لوجودِ المانِعِ مِن رضاه، وهو خروجُهم عمَّا رَضِيَه اللهُ لهم من الإيمانِ والطَّاعةِ، إلى ما يُغضِبُه من الشِّرك، والنِّفاقِ، والمعاصي [1626] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (348). .