موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (97-98)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ

غريب الكلمات:

مَغْرَمًا: أي: غُرمًا وخُسرانًا، وأصلُ (غرم): يدلُّ على مُلازمةٍ [1627] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 191)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 417)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/419)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 145). قال الواحدي: (معنى الغُرمِ: لُزومُ نائبةٍ في المالِ، مِن غيرِ جِنايةٍ، فيثقُلُ ذلك على الإنسانِ). ((البسيط)) (11/15). وقال ابن عطية: (أصلُ «المَغرَم» الدَّيْنُ، ومنه تعوَّذَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن المَغرَمِ والمَأثَم، ولكنْ كثُرَ استعمالُ المَغرَمِ فيما يؤدِّيه الإنسانُ، ممَّا لا يلزَمُه بحَقٍّ، وفي اللَّفظِ معنى اللُّزومِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/73). .
وَيَتَرَبَّصُ: أي: ينتَظِرُ، وأصلُ التربُّصِ: الانتظارُ والتمَكُّثُ [1628] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/606)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/477)، ((المفردات)) للراغب (ص: 338)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 145)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .
الدَّوَائِرَ: أي: دوائِرَ الزَّمانِ بالمَكروهِ. ودوائِرُ الزَّمانِ: صُروفُه التي تأتي مرَّةً بخيرٍ ومرَّةً بشَرٍّ. والدائرةُ تكونُ في المَكروهِ، وأصلُ (دور): يدلُّ على إحداقِ الشَّيءِ بالشَّيءِ مِن حوالَيه [1629] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 144)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 220)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/310)، ((المفردات)) للراغب (ص: 321)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 145)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 228). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ الأعرابَ أشَدُّ كُفرًا باللهِ، وأشَدُّ نِفاقًا مِن كُفَّارِ ومُنافِقي أهلِ الحضَرِ، وأَولى وأحرى ألَّا يَعلَموا الحلالَ والحَرامَ، والشَّرائِعَ التي أنزَلَها اللهُ على رَسولِه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واللهُ عليمٌ حَكيمٌ.
ويُخبِرُ أنَّ مِن الأعرابِ مَن يحتَسِبُ ما يُنفِقُه في الخيرِ غُرمًا وخَسارةً، فيُنفِقُ وهو كارهٌ، لا يرجو ثوابًا عندَ الله تعالى، ويتربَّصُ بالمُسلِمينَ المصائِبَ، واختلالَ الأمورِ، وغَلَبةَ الأعداءِ عليهم، جعَلَ اللهُ عليهم وَحْدَهم المصائِبَ التي تَسوؤُهم، وتُفسِدُ أمورَهم، واللهُ سَميعٌ عَليمٌ.

تفسير الآيتين:

الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ عَزَّ وجَلَّ أحوالَ المُنافِقينَ بالمدينةِ؛ ذكَرَ مَن كان خارجًا منها، ونائيًا عنها مِن الأعرابِ [1630] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/231)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/416). .
وأيضًا لَمَّا رتَّبَ اللهُ سُبحانه الاستئذانَ في القُعودِ، والرِّضا بما فيه من الدَّناءةِ، على عدَمِ الفِقهِ تارةً، والعِلمِ أُخرَى، وختَمَ بصِنفِ الأعرابِ؛ بيَّنَ أنَّ الأعرابَ أوْلَى بذلك؛ لِكَونِهم أعرَقَ في هذا الوصفِ، وأجرأَ على الفِسقِ؛ لبُعدِهم عن مَعدِنِ العِلمِ، وصَرفِهم أفكارَهم في غير ذلك مِن أنواع المَخازي لتحصيلِ المال، الذي كلَّما داروا عليه طار عنهم فأبعَدَ، فهم لا يزالونَ في همِّه، قد شغَلَهم ذلك عن كُلِّ هَمٍّ، وهم يحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنعًا [1631] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/4). .
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا.
أي: سُكَّانُ البوادي [1632] قال ابن تيمية: (لفظُ: (الأعرابِ) هو في الأصلِ: اسمٌ لِبَاديةِ العَربِ؛ فإنَّ كُلَّ أمَّةٍ لها حاضرةٌ وباديةٌ، فبادِيةُ العَربِ: الأعرابُ). ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/418). أشَدُّ كُفرًا باللهِ، وأشَدُّ نِفاقًا، مِن كفَّارِ ومُنافقي أهلِ الحضَرِ في المُدنِ والقُرى [1633] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/632)، ((البسيط)) للواحدي (11/13)، ((تفسير ابن عطية)) (3/73)، ((تفسير القرطبي)) (8/231)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/416)، ((تفسير ابن كثير)) (4/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 349)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/11). قال ابن جرير: (وإنَّما وصَفَهم جلَّ ثناؤه بذلك؛ لِجَفائِهم، وقسوةِ قُلوبِهم، وقلَّةِ مُشاهَدتِهم لأهلِ الخَيرِ؛ فهم لذلك أقسَى قلوبًا، وأقَلُّ عِلمًا بحقوقِ اللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (11/632). وقال الواحدي: (قال أبو إسحاقَ: كُفرُهم أشَدُّ؛ لأنَّهم أقسَى وأجفَى مِن أهلِ المَدَر، وهم أيضًا أبعَدُ عن سَماعِ التَّنزيلِ، وإنذارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمعنى: أشدُّ كفرًا مِن أهلِ الحَضَر؛ لجَفاءِ صُدورِهم ونبُوِّ طِباعِهم). ((البسيط)) (11/13). وقال ابنُ عطيةَ: (هذه الآيةُ إنَّما نزَلَت في مُنافِقينَ كانوا في البوادي، ولا محالةَ أنَّ خَوفَهم هناك أقلُّ مِن خوفِ مُنافقي المدينةِ، فألسِنَتُهم لذلك مُطلَقةٌ، ونِفاقُهم أنجَمُ). ((تفسير ابن عطية)) (3/73). وقال ابن عاشور: (أَشَدُّ وأَجْدَرُ اسمَا تفضيلٍ، ولم يُذكَرْ معهما ما يدُلُّ على مُفضَّلٍ عليه، فيجوزُ أن يكونَا على ظاهِرِهما، فيكون المفضَّلُ عليه أهلَ الحضَرِ، أي: كفَّار ومُنافِقي المدينةِ. وهذا هو الذي تواطأَ عليه جميعُ المفَسِّرينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (11/11). .
وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ.
أي: والأعرابُ أَوْلى وأحرَى بألَّا يَعلَموا الحلالَ والحرامَ، والشَّرائِعَ التي أنزَلَها اللهُ على رَسولِه محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [1634] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/632)، ((تفسير ابن عطية)) (3/73)، ((تفسير القرطبي)) (8/233)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/417)، ((تفسير الشوكاني)) (2/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 349)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/11، 12). قال ابن عاشور: (إنَّما كانوا أجدَرَ بعَدمِ العِلمِ بالشَّريعةِ؛ لأنَّهم يَبعُدونَ عن مجالِسِ التَّذكيرِ ومنازِلِ الوَحيِ، ولقلَّةِ مُخالَطتِهم أهلَ العِلمِ، مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عاشور)) (11/12) . .
وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي: واللهُ عليمٌ بخَلقِه، لا يخفى عليه شيءٌ مِن أحوالِهم، فيعلَمُ مُنافِقَهم وكافِرَهم، ويَعلَمُ مَن يستحِقُّ أن يُعلِّمَه منهم العِلمَ والإيمانَ، ممَّن لا يستحِقُّ، كأولئك الأعرابِ، حكيمٌ في تدبيرِ خَلْقِه ومُجازاتِهم، فيضَعُ كُلَّ شَيءٍ في موضِعِه اللَّائِقِ به [1635] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/633)، ((تفسير ابن كثير)) (4/202)، ((تفسير الشوكاني)) (2/450، 451). .
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا.
أي: ومِن سُكَّانِ البوادي من يَعُدُّ ما يُنفِقُه في الخيرِ غُرمًا ونَقصًا وخَسارةً، فيُنفِقُ ما يُنفِقُ مُكرَهًا لا يرجو ثوابَه عند اللهِ تعالى [1638] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/633)، ((البسيط)) للواحدي (11/15)، ((تفسير ابن عطية)) (3/73)، ((تفسير القرطبي)) (8/234)، ((تفسير ابن كثير)) (4/202)، ((تفسير السعدي)) (ص: 349)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/13). .
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ.
أي: ومِن الأعرابِ مَن ينتَظِرُ أن تحُلَّ بكم- أيُّها المُسلِمونَ- المصائِبَ، واختلالَ الأمورِ، وغَلَبةَ الأعداءِ عليكم [1639] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/633)، ((البسيط)) للواحدي (11/15، 16)، ((تفسير القرطبي)) (8/234)، ((تفسير ابن كثير)) (4/202)، ((تفسير أبي السعود)) (4/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 349)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/13). قال ابن عاشور: (المعنى أنَّهم ينتظرونَ ضَعْفَكم وهزيمَتَكم، أو يَنتَظِرونَ وفاةَ نَبِيِّكم، فيُظهِرونَ ما هو كامِنٌ فيهم من الكُفرِ. وقد أنبأَ اللهُ بحالِهم التي ظهَرَت عَقِبَ وفاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهم أهلُ الرِّدَّةِ من العَرَبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (11/14). .
عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ.
أي: جعَلَ اللهُ على الأعرابِ المُنافِقينَ- وَحْدَهم- المصائِبَ التي تَسوؤُهم، وتُفسِدُ أمورَهم، لا عليكم أيُّها المؤمِنونَ [1640] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/633)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 322)، ((تفسير ابن كثير)) (4/202)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/9)، ((تفسير السعدي)) (ص: 349)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/13). قال محمد رشيد رضا: (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ دعاءٌ عليهم بما يتربَّصونَه بالمؤُمنينَ، أو خبرٌ بحقيقةِ حالِهم معهم، ومآلُ الاحتمالينِ واحِدٌ؛ لأنَّ الخَبَرَ في كلامِه تعالى حقٌّ، ومَضمونَه كمضمونِ الدُّعاءِ واقِعٌ ما له من دافِعٍ، والدعاءُ منه عزَّ وجَلَّ يرادُ به مآلُه، وهو وقوعُ السَّوءِ عليهم وإحاطَتُه بهم). ((تفسير المنار)) (11/9). .
كما قال تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] .
وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ سَميعٌ لأقوالِ عِبادِه من الأعرابِ المُنافِقينَ وغَيرِهم، عليمٌ ببواطِنِهم، عليمٌ بتَدبيرِهم، وبمن يستحِقُّ منهم النَّصرَ، ومَن يستحِقُّ الخِذلانَ [1641] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/633)، ((تفسير ابن كثير)) (4/202)، ((تفسير أبي السعود)) (4/96)، ((تفسير السعدي)) (ص: 349)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/14). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فضيلةُ العِلمِ، وأنَّ فاقِدَه أقربُ إلى الشرِّ ممَّن يَعرِفُه؛ لأنَّ اللهَ ذَمَّ الأعرابَ، وأخبَرَ أنَّهم أشَدُّ كُفرًا ونِفاقًا، وذكرَ السَّبَب الموجِبَ لذلك، وأنَّهم أجدَرُ ألَّا يَعلَموا حدودَ ما أنزَلَ اللهُ على رسولِه [1642] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:349). .
2- في قَولِه تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أنَّ العِلمَ النَّافِعَ الذي هو أنفَعُ العلومِ، معرفةُ حُدودِ ما أنزَلَ الله على رسولِه، من أصولِ الدِّينِ وفُروعِه؛ كمَعرفةِ حُدودِ الإيمانِ والإسلامِ والإحسانِ، والتَّقوى والفَلاحِ، والطَّاعةِ والبِرِّ، والصِّلةِ والإحسانِ، والكُفرِ والنِّفاقِ، والفُسوقِ والعِصيانِ، والزِّنا والخَمرِ والرِّبا، ونحو ذلك؛ فإنَّ في معرفتها يتمَكَّنُ مِن فِعْلِها- إن كانت مأمورًا بها- أو تَرْكِها- إن كانت محظورةً- ومِن الأمرِ بها، أو النَّهيِ عنها [1643] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:349). .
3- لَمَّا ذكر اللهُ المُنافِقينَ الذين استأذَنُوه في التخلُّفِ عن الجهادِ في غزوةِ تَبوكَ، وذَمَّهم، وهؤلاء كانوا من أهلِ المَدينةِ؛ قال سبحانه: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ؛ فإنَّ الخَيرَ كُلَّه- أصلَه وفَصْلَه- مُنحصِرٌ في العلمِ والإيمانِ كما قال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ [الروم: 56] وضِدُّ الإيمانِ: إمَّا الكُفرُ الظَّاهِرُ، أو النِّفاقُ الباطِنُ، ونقيضُ العِلمِ: عَدَمُه [1644] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/416). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا أنَّ الكُفرَ والنِّفاقَ يَزيدُ وينقُصُ، ويَغلُظُ ويخِفُّ بحسَبِ الأحوالِ [1645] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 349). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ إن كان اللهُ تعالى قد وصفَ العرَبَ بالجهلِ في القرآنِ، بِقَولِه تعالى: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فكيف يصيرُ الاحتجاجُ بألفاظِهم وأشعارِهم على كتابِ اللهِ تعالى وسنَّةِ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ فالجواب: هذا وصفٌ مِن اللهِ تعالى لهم بالجَهلِ في أحكامِ القُرآنِ لا في ألفاظِه، ونحن لا نحتَجُّ بلُغَتِهم في بيانِ الأحكامِ، بل نحتَجُّ بلُغَتِهم في بيانِ مَعاني الألفاظِ؛ لأنَّ القُرآنَ والسنَّةَ جاءا بلُغَتِهم [1646] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 240). .
3- قال الله تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمَّا كانت الغِلظةُ والجَفاءُ في أهلِ البوادي، لم يبعَثِ اللهُ منهم رسولًا، وإنما كانت البَعثةُ مِن أهلِ القُرى، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [1647] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/202). .
4- في قَولِه تعالى عن الأعرابِ: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مدحٌ للحافِظينَ لِحُدودِ الله، وذَمٌّ لِمَن لا يعرفُ حدَّ الحَلالِ منَ الحَرامِ [1648] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/161). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ هؤلاء وإن كانوا من جملةِ مُنافقي الأعرابِ، فتخصيصُهم بالتَّقسيمِ هنا منظورٌ فيه إلى ما اختُصُّوا به من أحوالِ النِّفاقِ؛ لأنَّ التَّقاسيمَ في المقاماتِ الخِطابيَّةِ والمجادلاتِ، تعتمِدُ اختلافًا ما في أحوالِ المُقَسِّم، ولا يُعبأُ فيها بدخولِ القسمِ في قَسيمِه [1649] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/13). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ رجَع به الكلامُ إلى أحوالِ (المُعذِّرين مِن الأعرابِ)، و(الَّذين كذَبوا اللهَ ورسولَه مِنهم)، وما بينَ ذلك استِطرادٌ دَعا إليه قَرْنُ الَّذين كذَبوا اللهَ ورسولَه في الذِّكرِ معَ الأعرابِ، فلمَّا تَقضَّى الكلامُ على أولئك تخلَّص إلى بقيَّةِ أحوالِ الأعرابِ؛ وللتَّنبيهِ على اتِّصالِ الغرَضَينِ وقعَ تَقديمُ المسنَدِ إليه، وهو لفظُ الْأَعْرَابُ؛ للاهتِمامِ به مِن هذه الجِهَةِ، ومِن وراءِ ذلك تنبيهُ المسلِمين لأحوالِ الأعرابِ؛ لأنَّهم لِبُعدِهم عَن الاحتِكاكِ بهم، والمُخالَطةِ معَهم قد تَخْفَى عليهم أحوالُهم، ويَظُنُّون بجَميعِهم خيرًا [1650] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/10- 11). .
وإنَّما أعادَ هذه الأحكامَ؛ لأنَّ المقصودَ مِنها مُخاطَبةُ مُنافِقي الأعرابِ؛ ولهذا السَّببِ بيَّن أنَّ كُفرَهم ونِفاقَهم أشدُّ، وجَهْلَهم بحُدودِ ما أنزَل اللهُ أكمَلُ [1651] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/124). .
ولفظةُ الْأَعْرَابُ لفظةٌ عامَّةٌ، ومَعْناها الخُصوصُ، وهم جَمعٌ مُعيَّنون مِن مُنافِقي الأعرابِ، كانوا يُوالون مُنافِقي المدينةِ، فانصرَف هذا اللَّفظُ إليهم، وهذا مَعلومٌ بالوُجودِ، وكيف كان الأمرُ، وهو مِن بابِ وصْفِ الجِنْسِ بأحَدِ أفرادِه أو بَعضِهم؛ كما في قولِه تعالى: وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] ؛ إذ ليس كلُّهم كما ذُكِر [1652] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/73)، ((تفسير الرازي)) (16/125)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (4/161). .
وجملةُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْييلٌ لهذا الإفصاحِ عَن دَخيلَةِ الأعرابِ وخُلقِهم، أي: عليمٌ بهِم وبِغَيرِهم، وحَكيمٌ في تَمييزِ مَراتبِهم [1653] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/13). .
2- قوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
قوله: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ السَّوْءِ بالفَتحِ مصدرٌ، وأُضيفَ إلى الدَّائرةِ- الَّتي هي في الأصلِ مصدرٌ أو اسمُ فاعلٍ، مِن دارَ يَدورُ، وسُمِّي به عاقبةُ الزَّمانِ (أي: حادثته) للمُبالَغةِ؛ مِثلُ: رَجُلُ صِدْقٍ [1654] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/95). . وقيلَ: معنى الدَّائرةِ يَقتَضي مَعنى السَّوْءِ؛ وإنَّما هي إضافةُ بيانٍ وتأكيدٍ، كما قالوا: شَمسُ النَّهارِ [1655] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/74)، وينظر أيضا: ((فتح البيان)) للقنوجي (13/91). .