موسوعة التفسير

سُورةُ الفَتْحِ
الآيات (4-7)

ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غَريبُ الكَلِماتِ:

السَّكِينَةَ: أي: السُّكونَ والطُّمَأنينةَ؛ مِنَ السُّكونِ الَّذي هو الوَقارُ، وزوالُ الرُّعبِ، وأصلُ (سكن): يدُلُّ على خِلافِ الاضطِرابِ [61] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 92، 186)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/88)، ((المفردات)) للراغب (ص: 417)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 138)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 222). .
وَيُكَفِّرَ: أي: يَستُرَ، ويَمحُوَ، وأصلُ (كفر): يدُلُّ على سَترٍ وتَغطيةٍ [62] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 409)، ((تفسير ابن جرير)) (21/180)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/191)، ((المفردات)) للراغب (ص: 714). .
دَائِرَةُ السَّوْءِ: أي: دائِرةُ الهَزيمةِ والشَّرِّ والعَذابِ، والدَّائِرةُ تكونُ في المكروهِ، وأصلُ (دور): يدُلُّ على إحداقِ الشَّيءِ بالشَّيءِ، وأصلُ (سوء): القُبحُ [63] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 144)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 220)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/310)، و(3/113)، ((البسيط)) للواحدي (20/287)، ((المفردات)) للراغب (ص: 321)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 83)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 228). .

المعنى الإجماليُّ:

يُخبِرُ اللهُ سُبحانَه وتعالَى عن جانبٍ مِن مَظاهرِ فضْلِه على المؤمنينَ، فيقولُ: هو الَّذي أنزَلَ الطُّمَأْنينةَ في قُلوبِ المُؤمِنينَ مِن أصحابِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -وذلك حينَ منَعَهم كُفَّارُ قُرَيشٍ مِن دُخولِ المَسجِدِ الحَرامِ عامَ الحُدَيبيَةِ-؛ لِيَزدادوا بذلك إيمانًا فَوقَ إيمانِهم.
ثمَّ يُبيِّن اللهُ تعالَى عَظيمَ مُلْكِه وقُدرتِه، فيقولُ: وللهِ جُنودُ السَّمَواتِ والأرضِ؛ مِن الملائِكةِ والجِنِّ والإنسِ وغَيرِهم، وكان اللهُ عَليمًا حَكيمًا سُبحانَه.
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالَى عاقبةَ المؤمنينَ وغيرِهم مِن المنافقينَ والمشركينَ، فيقولُ: لِيُدخِلَ اللهُ المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ جَنَّاتٍ تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ ماكِثينَ فيها أبَدًا، ولِيَمحوَ عنهم ذُنوبَهم، وكان ذلك الوَعدُ فَوزًا عَظيمًا، ولِيُعَذِّبَ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ، والمُشرِكينَ والمُشرِكاتِ؛ في الدُّنيا، الَّذين يَظُنُّونَ أنَّ اللهَ لنْ يَنصُرَ رَسولَه والمُؤمِنينَ، وأنَّه لن يُظهِرَ دِينهَ وكَلِمتَه على الكُفرِ وأهلِه، عليهم دائِرةُ الشُّرورِ والمَساوئِ والمصائِبِ تَدورُ عليهم، وتُحيطُ بهم في الدُّنيا، وغَضِبَ اللهُ عليهم، وأبعَدَهم مِن رَحمتِه، وهَيَّأَ لهم جَهنَّمَ يَدخُلونَها في الآخِرةِ، وساءَت جَهنَّمُ مَنزِلًا يَصيرونَ إليه يومَ القِيامةِ!
ثمَّ يقولُ تعالَى مؤكِّدًا على عَظيمِ مُلْكِه وقُدرتِه: وللهِ جُنودُ السَّمَواتِ والأرضِ؛ مِنَ الملائِكةِ والجِنِّ والإنسِ وغَيرِهم، وكان اللهُ عَزيزًا لا يَغلِبُه أحَدٌ، حَكيمًا يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به.

تَفسيرُ الآياتِ:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قبْلَها:
أنَّه لَمَّا قال اللهُ تعالَى: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ [الفتح:3] ؛ بيَّن وجْهَ النَّصرِ [64] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/67). ، فقال:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: اللهُ هو الَّذي أنزَلَ الطُّمَأْنينةَ في قُلوبِ المُؤمِنينَ مِن أصحابِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فسَكَنَت قُلوبُهم إلى الحَقِّ حينَ منَعَهم كُفَّارُ قُرَيشٍ مِن دُخولِ المَسجِدِ الحَرامِ عامَ الحُدَيِبيَةِ؛ فلم تَضطَرِبْ نُفوسُهم [65] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/245)، ((الوسيط)) للواحدي (4/135)، ((الإيمان)) لابن تيميَّة (ص: 181)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/471)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/154-155)، ((تفسير ابن كثير)) (7/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791). قال ابنُ تيمية: (السَّكينةُ طُمأنينةٌ في القلبِ غيرُ علمِ القلبِ وتصديقِه). ((مجموع الفتاوى)) (7/229). .
عن البَراءِ بن عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((بيْنَما رجُلٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقرَأُ، وفَرَسٌ له مَربوطٌ في الدَّارِ، فجَعَل يَنفِرُ، فخَرَج الرَّجُلُ فنَظَر فلمْ يَرَ شَيئًا، وجعَلَ أي: الفَرَسُ يَنفِرُ، فلمَّا أصبَحَ ذَكَر ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: السَّكينةُ تَنزَّلَت بالقُرآنِ! )) [66] رواه البخاريُّ (4839) واللفظ له، ومسلمٌ (795). .
لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ.
أي: أنزَلَ اللهُ السَّكينةَ في قُلوبِ المُؤمِنينَ؛ لِيَزدادوا بذلك إيمانًا فَوقَ إيمانِهم السَّابِقِ مِن قَبلِ صُلحِ الحُدَيِبيَةِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/245)، ((الوسيط)) للواحدي (4/135)، ((تفسير القرطبي)) (16/264)، ((تفسير ابن كثير)) (7/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791). .
كما قال تعالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2] .
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: وللهِ جُنودُ السَّمَواتِ والأرضِ؛ مِن الملائِكةِ والجِنِّ والإنسِ وغَيرِهم، يَنتَقِمُ بهم ممَّن يَشاءُ مِن أعدائِه [68] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/246)، ((تفسير السمرقندي)) (3/312)، ((تفسير ابن عطية)) (5/127-128)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/150-151). .
كما قال تعالَى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] .
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ تعالَى مُتَّصِفٌ أزَلًا وأبَدًا بالعِلمِ التَّامِّ؛ فلا يَخفَى عليه شَيءٌ، وبالحِكمةِ التَّامَّةِ؛ فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به [69] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/246)، ((الوسيط)) للواحدي (4/135)، ((تفسير القرطبي)) (16/264)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/151). قال السعديُّ: (ولكِنَّه تعالَى عليمٌ حَكيمٌ، فتَقتَضي حِكمتُه المداوَلةَ بيْنَ النَّاسِ في الأيَّامِ، وتأخيرَ نَصْرِ المُؤمِنينَ إلى وَقتٍ آخَرَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 791). .
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5).
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: لِيُدخِلَ اللهُ المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ جَنَّاتٍ تَجري الأنهارُ مِن تَحتِ غُرَفِها وأشجارِها، وهم ماكِثونَ فيها أبَدًا [70] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/246-247)، ((الهداية)) لمكي (11/6940)، ((تفسير القرطبي)) (16/264)، ((تفسير القنوجي)) (13/90)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 394-395). قال السَّمين الحلبيُّ: (قوله: لِيُدْخِلَ: في مُتعلَّقِ هذه اللَّامِ أربعةُ أوجهٍ: أحدُها: مَحذوفٌ، تقديرُه: يَبْتَلي بتلك الجنودِ مَنْ شاء، فيَقبلُ الخيرَ مِمَّن أهَّله له، والشرَّ مِمَّن قَضى له به؛ ليُدْخِلَ ويُعَذِّبَ. الثاني: أنها مُتعلِّقةٌ بقولِه: إِنَّا فَتَحْنَا. الثالث: أنَّها مُتعلِّقةٌ بـ «يَنْصُرَكَ». الرابع: أنها مُتعلِّقة بـ «يَزْدَادُوا»). ((الدر المصون)) (9/710). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/69). ممَّن اختار القولَ الأولَ: أبو حيَّان، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/485)، ((تفسير الشوكاني)) (5/54). وممَّن اختار القولَ الثانيَ -أي أنَّها مُتعَلِّقةٌ بقَولِه تعالى: فَتَحْنَا لَكَ أي: إنَّا فتَحْنا لك فَتحًا مُبِينًا؛ لِيَغفِرَ اللهُ لك، ولِيُدخِلَ المُؤمِنينَ والمُؤمنِاتِ جَنَّاتٍ-: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/247). وممَّن اختار القولَ الرَّابعَ: أنها مُتعَلِّقةٌ بـ (يَزْدَادُوا) في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4] ، أي: فبِسَبَبِ زيادةِ إيمانِهم نُدخِلُهم جَنَّاتٍ. ممَّن اختارَ هذا المعنى في الجُملةِ: القُرطبيُّ، وابنُ عاشور، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/264)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/151)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/394). قال السَّمين الحلَبيُّ: (واسْتُشْكِل هذا: بأنَّ قولَه تعالى: وَيُعَذِّبَ عطفٌ عليه، وازديادُهم الإِيمانَ ليس مُسَبَّبًا عن تعذيبِ اللهِ الكُفَّارَ. وأُجيبَ: بأنَّ اعتقادَهم أنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الكفَّارَ يَزيدُ في إيمانِهم لا مَحالةَ). ((الدر المصون)) (9/710). وقال الرازيُّ: (فإنْ قيل: فقولُه: وَيُعَذِّبَ عطْفٌ على قولهِ لِيُدْخِلَ، وازديادُ إيمانِهم [أي: المؤمنين] لا يَصلُحُ سَببًا لتَعذيبِهم [أي: المنافِقين والكافِرين]، نَقولُ: بلَى، وذلك مِن وَجهينِ: أحدُهما: أنَّ التَّعذيبَ مَذكورٌ لكونِه مَقصودًا للمؤمنين، كأنَّه تعالَى يقولُ: بسَببِ ازديادِكم في الإيمانِ يُدخِلُكم في الآخرةِ جنَّاتٍ، ويُعذِّبُ بأيْدِيكم في الدُّنيا الكفَّارَ والمنافقينَ. الثَّاني: تَقديرُه: ويُعَذِّبَ بسَببِ ما لكمْ مِن الازديادِ، يُقال: فعَلْتُه لأجُرِّبَ به العدُوَّ والصَّديقَ، أي: لأعْرِفَ بوُجودِه الصَّديقَ، وبعَدَمِه العدُوَّ، فكذلك لِيَزدادَ المؤمنُ إيمانًا فيُدخِلَه الجنَّةَ، ويَزدادَ الكافرُ كفْرًا فيُعذِّبَه به. ووجْهٌ آخَرُ ثالثٌ: وهو أنَّ سَببَ زِيادةِ إيمانِ المؤمنينَ بكثْرةِ صَبْرِهم وثَباتِهم، فيَعِيى المنافقُ والكافرُ معه ويَتعذَّبُ، وهو قَريبٌ ممَّا ذكَرْنا). ((تفسير الرازي)) (28/69). وقال ابنُ عطيَّة: (قَولُه تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ معناه: فازْدادوا وتلَقَّوا ذلك، فتمَكَّنَ بعْدَ ذلك قَولُه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ أي: بتكَسُّبِهم القَبولَ لِما أنزَلَ اللهُ عليهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/127). .
وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ.
أي: ولِيَمحوَ اللهُ عن المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ ذُنوبَهم، فلا يُؤاخِذَهم بها [71] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/68)، ((تفسير ابن جرير)) (21/247)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329). .
كما قال تعالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التغابن: 9].
وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا.
أي: ذلك الوَعدُ بإدخالِ المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ الجَنَّةَ، وتَكفيرِ سَيِّئاتِهم: فَوزٌ عَظيمٌ، فيَظفَرونَ بكُلِّ خَيرٍ، ويَنجُونَ مِن كُلِّ شَرٍّ [72] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/247)، ((الوسيط)) للواحدي (4/135)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/288)، ((تفسير الشوكاني)) (5/54)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791). .
كما قال تعالَى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] .
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6).
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ.
أي: ولِيُعَذِّبَ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ، والمُشرِكينَ والمُشرِكاتِ؛ في الدُّنيا [73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/248)، ((تفسير القرطبي)) (16/265)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/289)، ((تفسير الشوكاني)) (5/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/153). .
كما قال تعالَى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة: 101] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 21] .
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
مُناسبتُها لِما قبلَها:
لَمَّا أخبَرَ بعَذابِهم؛ أتْبَعَه وَصْفَهم بما سَبَّبَ لهمْ ذلك، فقال تعالَى [74] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/289). :
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
أي: الَّذين يَظُنُّونَ أنَّ اللهَ لنْ يَنصُرَ رَسولَه والمُؤمِنينَ على أعدائِهم، وأنَّه سيُسْلِمُهم للقَتلِ، وأنَّه لنْ يُظهِرَ دِينَه وكَلِمتَه على الكُفرِ وأهلِه؛ فيَنسُبونَ إلى اللهِ ما لا يَليقُ بحِكمتِه وقَضائِه [75] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/248)، ((تفسير القرطبي)) (16/265)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/205)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329)، ((تفسير الشوكاني)) (5/54). قال البقاعيُّ: (قال تعالَى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ أي: المحيطِ بجَميعِ صِفاتِ الكَمالِ ظَنَّ السَّوْءِ مِن أنَّه لا يَفي بوَعدِه في أنَّه يَنصُرُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأتْباعَه المُؤمِنينَ، أو أنَّه لا يَبعَثُهم، أو أنَّه لا يُعَذِّبُهم لِمُخالفةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُشاقَقةِ أتباعِه). ((نظم الدرر)) (18/289). .
كما قال تعالَى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران: 154] .
وقال سُبحانَه: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح: 12] .
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ السُّوءِ بضَمِّ السِّينِ، بمعنى: الهزيمةِ والشَّرِّ والبَلاءِ، أي: عليهم دائِرةُ الشَّرِّ والهَزيمةِ والبَلاءِ والضَّرَرِ [76] قرَأ بها ابنُ كثير، وأبو عمرٍو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 283). ويُنظر لمعنى هذه القِراءةِ: ((الحُجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 177)، ((معاني القراءات)) للأزهري (1/461)، ((الحُجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (4/206-209)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 322)، ((الكشف)) لمكي (1/505). .
2- قِراءةُ: السَّوْءِ بفَتحِ السِّينِ، بمعنى: الرَّداءةِ والفَسادِ، أي: عليهم دائِرةُ الفَسادِ. وقيل: المعنى: عليهم الدَّائِرةُ التي تَسوءُهم سَوءًا. وقيل: القِراءتانِ بمعنًى واحدٍ، كالضُّعْفِ والضَّعْفِ [77] قرَأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 283). ويُنظر لمعنى هذه القِراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (11/634)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 177)، ((معاني القراءات)) للأزهري (1/461)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (4/206-209)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 322)، ((الكشف)) لمكي (1/505)، ((تفسير الزمخشري)) (4/334). .
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ.
أي: على المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ والمُشرِكينَ والمُشرِكاتِ، الَّذين يَظُنُّونَ باللهِ ظَنَّ السَّوءِ: دائِرةُ العَذابِ والشُّرورِ والمَساوئِ والمصائِبِ، تَدورُ عليهم وتُحيطُ بهم في الدُّنيا [78] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/248)، ((تفسير السمرقندي)) (3/312)، ((تفسير ابن عطية)) (5/128)، ((تفسير القرطبي)) (16/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791). .
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
أي: وغَضِبَ اللهُ على المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ والمُشرِكينَ والمُشرِكاتِ [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/249)، ((تفسير الشوكاني)) (5/54)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/395). .
وَلَعَنَهُمْ.
أي: وأبعَدَهم اللهُ وطرَدَهم مِن رَحمتِه [80] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/249)، ((تفسير ابن عطية)) (5/128)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/395). .
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ.
أي: وهَيَّأَ لهم جَهنَّمَ يَدخُلونَها في الآخِرةِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/249)، ((تفسير السمرقندي)) (3/312)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/290)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/395). .
وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
أي: وساءَت جَهنَّمُ مَنزِلًا يَصيرونَ إليه يومَ القِيامةِ [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/249)، ((تفسير السمرقندي)) (3/312)، ((تفسير مكي)) (11/6941). .
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7).
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: وللهِ جُنودُ السَّمَواتِ والأرضِ؛ مِنَ الملائِكةِ والجِنِّ والإنسِ وغَيرِهم، يَنتَقِمُ بهم ممَّن يَشاءُ مِن أعدائِه [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/249)، ((تفسير السمرقندي)) (3/312)، ((تفسير ابن عطية)) (5/127-128)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329). .
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.
أي: إنَّ اللهَ تعالَى مُتَّصِفٌ أزَلًا وأبَدًا بالعِزَّةِ الكامِلةِ؛ فهو القاهِرُ الغالِبُ لكُلِّ شَيءٍ، لا يَغلِبُه أحَدٌ، ولا يَمنَعُه مِمَّا أراده أحَدٌ، وهو المتَّصِفُ بالحِكمةِ التَّامَّةِ؛ فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/249)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 791). .
كما قال تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 20، 21].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال تعالَى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] ، وإنَّما كان هذا ظَنَّ السَّوءِ، وظَنَّ الجاهِليَّةِ المَنسوبَ إلى أهلِ الجهلِ، وظَنَّ غَيرِ الحقِّ؛ لأنَّه ظَنُّ غَيرِ ما يَليقُ بأسمائِه الحُسنى، وصِفاتِه العُلْيا، وذاتِه المُبَرَّأةِ مِن كلِّ عَيبٍ وسُوءٍ، بخِلافِ ما يَليقُ بحِكمتِه وحَمدِه، وتَفرُّدِه بالرُّبوبيَّةِ والإلهيَّةِ، وما يَليقُ بوَعدِه الصَّادِقِ الَّذي لا يُخْلِفُه، وبِكَلِمتِه الَّتي سبَقَتْ لِرُسلِه أنَّه يَنصُرُهم ولا يَخذُلُهم، ولِجُندِه بأنَّهم هُمُ الغالِبونَ، فمَن ظَنَّ بأنَّه لا يَنصُرُ رَسولَه، ولا يُتِمُّ أمْرَه، ولا يُؤيِّدُه ويُؤيِّدُ حِزبَه، ويُعْلِيهم ويُظْفِرُهم بأعدائِه، ويُظهِرُهم عليهم، وأنَّه لا يَنصُرُ دِينَه وكِتابَه، وأنَّه يُدِيلُ الشِّركَ على التَّوحيدِ، والباطِلَ على الحقِّ إدالَةً مُستقِرَّةً يَضْمَحِلُّ معها التَّوحيدُ والحقُّ اضْمِحْلالًا لا يَقومُ بعدَه أبدًا -فقدْ ظَنَّ باللهِ ظَنَّ السَّوءِ، ونسَبَه إلى خِلافِ ما يَليقُ بكَمالِه وجَلالِه وصِفاتِه ونُعوتِه؛ فإنَّ حَمْدَه وعِزَّتَه وحِكمتَه وإلَهِيَّتَه تأبَى ذلك، وتأبَى أنْ يَذِلَّ حِزبُه وجُندُه، وأنْ تَكونَ النُّصرةُ المُستقِرَّةُ والظَّفَرُ الدَّائمُ لأعدائِه المُشركينَ به، العادِلينَ به، فمَن ظَنَّ به ذلك فما عرَفه، ولا عرَفَ أسماءَه، ولا عرَف صِفاتِه وكمالَه. وكذلك مَن أنكَرَ أنْ يَكونَ ذلك بقَضائِه وقَدَرِه، فما عرَفه ولا عرَفَ رُبوبيَّتَه ومُلْكَه وعَظَمتَه. وكذلك مَن أنكَرَ أن يَكونَ قَدَّر ما قدَّرَه مِن ذلك وغَيرِه لحِكمةٍ بالِغةٍ وغايةٍ مَحمودةٍ يَستحِقُّ الحَمدَ عليها، وأنَّ ذلك إنَّما صدَرَ عن مَشيئةٍ مُجَرَّدةٍ عن حِكمةٍ وغايةٍ مَطلوبةٍ هي أحَبُّ إليه مِن فَوْتِها، وأنَّ تلك الأسبابَ المكروهةَ المُفْضيةَ إليها لا يَخرُجُ تَقديرُها عن الحِكمةِ لإفضائِها إلى ما يُحِبُّ، وإنْ كانتْ مَكروهةً له، فما قدَّرها سُدًى، ولا أنشأها عَبَثًا، ولا خَلَقها باطلًا، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] . وأكثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ باللهِ غَيْرَ الحقِّ ظَنَّ السَّوءِ فيما يَختَصُّ بهم، وفيما يَفعَلُه بغَيرِهم، ولا يَسلَمُ عن ذلك إلَّا مَن عرَفَ اللهَ، وعرَفَ أسماءَه وصِفاتِه، وعرَفَ مُوجَبَ حَمدِه وحِكمتِه، فمَنْ قَنَطَ مِن رَحمتِه، وأيِسَ مِن رَوحِه؛ فقدْ ظَنَّ به ظَنَّ السَّوءِ. وأكثَرُ الخَلقِ يَظُنُّونَ باللهِ غيرَ الحقِّ ظَنَّ السَّوءِ؛ فإنَّ غالِبَ بَني آدمَ يَعتقِدُ أنَّه مَبخوسُ الحقِّ، ناقِصُ الحظِّ، وأنَّه يَستحِقُّ فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولسانُ حالِه يقولُ: ظَلَمَني ربِّي، ومَنَعَني ما أستحِقُّه! ونفْسُه تَشهَدُ عليه بذلك، وهو بِلِسانِه يُنكِرُه، ولا يَتجاسَرُ على التَّصريحِ به، ومَن فتَّشَ نفْسَه وتَغلغَلَ في مَعرفةِ دَفائنِها وطَواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كُمونَ النَّارِ في الزِّنادِ، فاقدَحْ زِنادَ مَن شِئتَ، يُنْبِئْكَ شَرَارُه عمَّا في زِنادِه، ولو فَتَّشْتَ مَن فتَّشْتَه لَرَأيتَ عِندَه تَعَتُّبًا على القَدَرِ، ومَلامةً له، واقتِراحًا عليه خِلافَ ما جرَى به، وأنَّه كان يَنبغي أنْ يَكونَ كذا وكذا! فمُستقِلٌّ ومُستكثِرٌ، وفَتِّشْ نفْسَك: هل أنت سالمٌ مِن ذلك؟
فإنْ تَنْجُ منها تَنْجُ مِن ذي عَظيمةٍ                وإلَّا فإنِّي لا إِخالُكَ ناجِيَا [85] البيتُ مَنسوبٌ للأسودِ بنِ سَريعٍ رَضِي الله عنه. يُنظر: ((البيان والتبين)) للجاحظ (1/293). ومَنسوبٌ للفرزدق. يُنظر: ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (3/75). ومَنسوبٌ لِذِي الرُّمة. يُنظر: ((ديوان ذي الرمة شرح الباهلي)) (3/1924).
فلْيَعتَنِ اللَّبيبُ النَّاصحُ لنفْسِه بهذا المَوضعِ، ولْيَتُبْ إلى اللهِ تعالَى، ولْيَستغفِرْهُ كلَّ وقتٍ مِن ظنِّه بربِّه ظَنَّ السَّوءِ، ولْيَظُنَّ السُّوءَ بنفْسِه الَّتي هي مأوَى كلِّ سُوءٍ، ومَنبَعُ كلِّ شرٍّ، المُرَكَّبةِ على الجهلِ والظُّلمِ؛ فهي أَوْلى بظَنِّ السَّوءِ مِن أحكَمِ الحاكِمينَ، وأعدَلِ العادِلينَ، وأرحَمِ الرَّاحمينَ، الغنيِّ الحميدِ، الَّذي له الغِنى التَّامُّ، والحمدُ التَّامُّ، والحِكمةُ التَّامَّةُ، المُنَزَّهُ عن كلِّ سُوءٍ في ذاتِه وصِفاتِه وأفعالِه وأسمائِه؛ فَذاتُه لها الكمالُ المُطْلَقُ مِن كلِّ وجهٍ، وصِفاتُه كذلك، وأفعالُه كذلك؛ كلُّها حِكمةٌ ومَصلحةٌ ورَحمةٌ وعدْلٌ، وأسماؤُه كلُّها حُسنى.
فلا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ                 فإنَّ اللهَ أَوْلى بالجَميلِ [86] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/205-211).
2- قولُه تعالَى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إشارةٌ إلى تَسكينِ النُّفوسِ، وأنْ تكونَ مُسلِّمةً؛ لأنَّه يَنصُرُ متى شاء، وعلى أيِّ صُورةٍ شاء ممَّا لا يُدبِّرُه البشَرُ، ومِن جُندِه: السَّكينةُ التي أنْزَلَها في قُلوبِ أصحابِ محمَّدٍ، فثبَّتَ بَصائرَهم [87] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/127). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- ذكَرَ اللهُ سُبحانَه السَّكينةَ في كِتابِه في سِتَّةِ مَواضِعَ:
الأوَّلُ: قَولُه تعالَى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 248] .
الثَّاني: قَولُه تبارك وتعالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 26] .
الثَّالِثُ: قَولُه تعالَى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة: 40] .
الرَّابعُ: قَولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4] .
الخامِسُ: قَولُه تعالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] .
السَّادِسُ: قَولُه تعالَى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 26] .
وكان شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ -رَحِمَه اللهُ- إذا اشتَدَّت عليه الأُمورُ قَرَأ آياتِ السَّكينةِ، وقال في واقِعةٍ عَظيمةٍ جَرَتْ له في مَرَضِه، تَعجِزُ العُقولُ عن حَمْلِها؛ مِن مُحاربةِ أرواحٍ شَيطانيَّةٍ ظَهَرتْ له إذ ذاك في حالِ ضَعفِ القُوَّةِ -قال: (فلمَّا اشتَدَّ علَيَّ الأمرُ قُلتُ لِأقاربي ومَن حَولي: اقرَؤوا آياتِ السَّكينةِ، قال: ثمَّ أقلَعَ عنِّي ذلك الحالُ، وجَلستُ وما بي قَلَبَةٌ [88] ما بي قَلَبَةٌ: أي: ما بي شَيءٌ، مأخوذٌ مِن القُلابِ: وهو داءٌ يَأخُذُ الإبِلَ في رُؤوسِها، فيَقلِبُها إلى فَوقٍ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (4/74). [89] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/470-471). قال ابنُ القيمِ: (وقد جرَّبتُ أنا أيضًا قِراءةَ هذه الآياتِ عندَ اضطِرابِ القَلبِ بما يَرِدُ عليه، فرأيْتُ لها تأثيرًا عَظيمًا في سُكونِه وطُمَأنينتِه). ((مدارج السالكين)) (2/471). .
2- قال اللهُ تعالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فكُلُّ مَن رَسَخ في الإيمانِ له في هذه الآيةِ نَصيبٌ جَناه - أي: قطْفُه وثمرتُه- دانٍ [90] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/284). .
3- قال اللهُ تعالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وقال في حَقِّ الكافِرينَ: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الأحزاب: 26] بلَفظِ (القَذفِ) المُزعِجِ، أمَّا في حَقِّ المُؤمِنينَ فبِلَفظِ الإنزالِ المُثَبِّتِ؛ وذلك لأنَّ مَن عَلِمَ شَيئًا مِن قَبلُ وتذَكَّرَه، واستَدامَ تذَكُّرَه، فإذا وقَعَ لا يتغيَّرُ، ومَن كان غافِلًا عن شَيءٍ، فيَقَعُ دَفعةً؛ يَرجُفُ فُؤادُه؛ ألَا تَرى أنَّ مَن أُخبِرَ بوُقوعِ صَيحةٍ، وقِيلَ له: لا تَنزَعِجْ منها، فوقَعَت الصَّيحةُ؛ لا يَرجُفُ، ومَن لم يُخبَرْ به أو أُخبِرَ وغَفَلَ عنه يَرتَجِفُ إذا وقَعَت، فكذلك الكافِرُ؛ أتاهُ اللهُ مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ، وقذَفَ في قَلْبِه؛ فارتجَفَ، والمؤمِنُ أتاهُ مِن حيثُ كان يَذكُرُه؛ فسَكَن [91] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/68). .
4- قَولُ اللهِ تعالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ فيه أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ، كما عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وقدْ دَلَّ عليه الوَحيُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ [92] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/394). .
5- السَّكينةُ هي طمأنينةُ القلبِ واستقرارُه، وأصلُها في القلبِ، ويظهَرُ أثرُها على الجوارحِ، وهي عامَّةٌ وخاصَّةٌ. فسَكينةُ الأنبياءِ صلواتُ اللَّه وسلامُه عليهم أخصُّ مراتبِها وأعلَى أقسامِها، كالسَّكينةِ التي حصَلت لإبراهيمَ الخليلِ حينَما أُلقِي في النَّارِ، وكذلك السَّكينةُ التي حصَلت لموسَى وقد غشِيَه فرعونُ وجنودُه مِن ورائِهم، والبحرُ أمامَهم، إلى غيرِ ذلك مِن المواقفِ التي حصَلت له فيها السَّكينةُ، وكذلك السَّكينةُ التي حصَلت لنبيِّنا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، وقد أشرَف عليه وعلى صاحبِه عدوُّهما وهما في الغارِ، فلو نظَر أحدُهم تحتَ قدميه لرآهما، وكذلك السكينةُ التي نزَلت عليه في مواقفِه العظيمةِ، وأعداءُ اللَّه قد أحاطوا به كيومِ بدرٍ ويومِ حُنينٍ ويومِ الخندقِ وغيرِه، فهذه السكينةُ أمرٌ فوقَ عقولِ البشرِ، وهي مِن أعظمِ معجزاتِه عندَ أَربابِ البصائرِ، فإنَّ الكذبَ، -ولا سيَّما على اللَّه تعالى- أقلَقُ ما يكونُ وأخوفُ ما يكونُ وأشدُّه اضطرابًا في مثلِ هذه المواطنِ، فلو لم يكُنْ للرُّسلِ صلواتُ اللَّه وسلامُه عليهم مِن الآياتِ إلَّا هذه وحدَها لكفَتْهم.
وتكونُ السَّكينةُ لأتباعِ الرُّسلِ بحسبِ متابعتِهم، وهي سكينةُ الإيمانِ، وهي سكينةٌ تُسكنُ القلوبَ عن الرَّيبِ والشكِّ، ولهذا أنزَلها اللَّه تعالى على المؤمنينَ في أَصعبِ المواطنِ أحوجَ ما كانوا إليها هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4] فذكَر نعمتَه عليهم بالجنودِ الخارجةِ عنهم، والجنودِ الداخلةِ فيهم، وهي السكينةُ عندَ القلقِ والاضطرابِ الذي لم يَصبِرْ عليه مثلُ عمرَ بنِ الخطَّابِ رضِي اللَّه عنه، وذلك يومَ الحديبيةِ قال اللَّه سبحانه وتعالى يذكُرُ نعمتَه عليهم بإنزالِها أحوجَ ما كانوا إليها: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] لمَّا علِم اللَّه سبحانه وتعالى ما في قلوبِهم مِن القلقِ والاضطرابِ لمَّا منَعهم كفَّارُ قريشٍ مِن دخولِ بيتِ اللَّه، وحبَسوا الهديَ عن محلِّه، واشتَرطوا عليهم تلك الشُّروطَ الجائرةَ الظالمةَ، فاضْطَربتْ قلوبُهم وقلقَتْ، ولم تُطِق الصَّبرَ، فعلِم تعالى ما فيها فثبَّتها بالسكينةِ رحمةً منه ورأفةً ولطفًا، وهو اللطيفُ الخبيرُ [93] يُنظر: ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) لابن القيم (4/154). .
6- قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ لمَّا أنزَل الله تعالى السَّكينةَ في قلوبِهم مرجعَهم مِن الحُديبيةِ؛ ليزدادوا إيمانًا معَ إيمانِهم دلَّ على أنَّ الإيمانَ المزيدَ حالٌ للقلبِ وصفةٌ له وعملٌ مثلُ طمأنينتِه وسكونِه ويقينِه [94] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/229). .
7- قال اللهُ تعالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، قَولُه عزَّ وجَلَّ: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، قال: حَكِيمًا بعْدَ قَولِه: عَلِيمًا؛ إشارةً إلى أنَّه يَفعَلُ على وَفقِ العِلمِ؛ فإنَّ الحَكيمَ مَن يَعمَلُ شيئًا مُتْقَنًا ويَعلَمُه، فإنَّ مَن يقَعُ منه صُنْعٌ عَجِيبٌ اتِّفاقًا لا يُقالُ له: حكيمٌ، ومَن يَعلَمُ ويَعمَلُ على خِلافِ العلمِ لا يقالُ له: حكيمٌ [95] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/68). .
8- قَولُ اللهِ تعالَى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ فيه سُؤالٌ: قال اللهُ تعالَى: وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ بعْدَ ذِكرِ الإدخالِ، مع أنَّ تَكفيرَ السَّيِّئاتِ قبْلَ الإدخالِ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: تَكفيرُ السَّيِّئاتِ والمَغفِرةُ وغَيرُهما: مِن تَوابِعِ كَونِ المُكَلَّفِ مِن أهلِ الجنَّةِ؛ فقُدِّمَ الإدخالُ في الذِّكْرِ، بمعنى: أنَّه مِن أهلِ الجنَّةِ
 الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الواوَ لا تَقتَضي التَّرتيبَ [96] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/70). ، والتَّرتيبُ المذكورُ هو تَرتيبٌ في الذِّكْرِ لا تَرتيبٌ في الوقوعِ. وكان التَّبشيرُ بدُخولِ الجنةِ أهمَّ، فبُدِئ به [97] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/485)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (5/127). .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ المرادَ بإدْخالِهم الجنَّةَ إدخالٌ خاصٌّ، وهو إدْخالُهم مَنازِلَ المُجاهِدينَ، وليْس هو الإدخالَ الذي استَحَقُّوه بالإيمانِ وصالحِ الأعمالِ الأُخرى؛ ولذلك عَطَف عليه: وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/152). .
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّه قدَّمَ الإدخالَ على التَّكفيرِ مع أنَّ الأمرَ بالعكسِ؛ لِلمُسارَعةِ إلى بيانِ ما هو المَطلَبُ الأعْلى، والمَقصَدُ الأَسْنى [99] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/54). .
الوجْهُ الخامسُ: أنَّ المعنى: يُدخِلُهم الجنَّةَ ويُغطِّي سيِّئاتِهم ويَستُرُها عنهم، فلا تَمُرُّ لهم ببالٍ، ولا يَذكُرونها أصلًا؛ لئلَّا يَخجَلوا فيَتكدَّرَ صَفْوُ عَيشِهم [100] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (13/248). .
9- قال اللهُ تعالَى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ، ثمَّ قال تعالَى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ زِيادةً في الإفادةِ؛ لأنَّ مَن كان به بَلاءٌ فقدْ يكونُ مُبتلًى به على وَجهِ الامتِحانِ، فيَكونُ مُصابًا لكي يَصيرَ مُثابًا، وقدْ يكونُ مُصابًا على وَجهِ التَّعذيبِ؛ فقَولُه: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إشارةٌ إلى أنَّ الَّذي حاق بهم على وَجهِ التَّعذيبِ، وقَولُه: وَلَعَنَهُمْ زِيادةُ إفادةٍ؛ لأنَّ المغضوبَ عليه قدْ يكونُ بحيثُ يَقنَعُ الغاضِبُ بالعَتْبِ والشَّتمِ أو الضَّربِ، ولا يُفضي غَضَبُه إلى إبْعادِ المغضوبِ عليه مِن جَنابِه، وطَردِه مِن بابِه، وقدْ يكونُ بحيثُ يُفضي إلى الطَّردِ والإبعادِ [101] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/71). .
10- قال اللهُ تعالَى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا لم يَجمَعْ على أحَدٍ مِنَ الوَعيدِ والعُقوبةِ ما جمَعَ على أهلِ الإشراكِ؛ فإنَّهم ظَنُّوا به ظَنَّ السَّوءِ، حتَّى أشرَكوا به، ولوْ أحسَنوا به الظَّنَّ لَوَحَّدوه حَقَّ تَوحيدِه [102] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/61). .

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
- قَولُه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ بَيانٌ لِمَا أفاضَ اللهُ عليهم مِن مَبادِئِ الفتْحِ مِن الثَّباتِ والطُّمأنينةِ، وفي التعبيرِ عن ذلِك بالإنزالِ إيماءٌ إلى عُلوِّ شأنِها [103] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/105)، ((تفسير الألوسي)) (26/92). .
- وهذه الجُملةُ بَدلُ اشتِمالٍ مِن مَضمونِ جُملةِ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح: 3] ، وحصَلَ منها الانتِقالُ إلى ذِكرِ حظِّ المُسلمين مِن هذا الفتْحِ؛ فإنَّ المُؤمِنين هم جُنودُ اللهِ الَّذين قدْ نصَرَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهمْ، فكان في ذِكْرِ عِنايةِ اللهِ بإصلاحِ نُفوسِهم، وإذهابِ خَواطِرِ الشَّيطانِ عنهم، وإلْهامِهم إلى الحقِّ في ثَباتِ عَزْمِهم، وقُرارةِ إيمانِهم؛ تَكوينٌ لِأسبابِ نصْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والفتْحِ المَوعودِ به؛ لِيَندَفِعوا حينَ يَستنفِرُهم إلى العدُوِّ بقُلوبٍ ثابتةٍ، ألَا تَرى أنَّ المُؤمِنين تَبلبَلتْ نُفوسُهم مِن صُلْحِ الحُديبيةِ؛ إذ انصَرَفوا عَقِبَه عن دُخولِ مكَّةَ بعْدَ أنْ جاؤوا لِلعُمرةِ بعَددٍ عَديدٍ حسِبُوه لا يُغلَبُ، وأنَّهم إنْ أرادَهم العدوُّ بسُوءٍ، أو صَدَّهم عن قصْدِهم؛ قابَلوه فانْتَصروا عليه، وأنَّهم يَدخُلون مكَّةَ قسْرًا [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/149) .
- وفي قَولِه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ جُعِلَ ذلك الازديادُ كالعِلَّةِ لِإنزالِ السَّكينة في قُلوبِهم؛ لأنَّ اللهَ عَلِمَ أنَّ السَّكينةَ إذا حصَلَتْ في قُلوبِهم رسَخَ إيمانُهم، فعُومِلَ المَعلومُ حُصولُه مِن الفِعلِ مُعامَلةَ العِلَّةِ، وجُعِلَت قُوَّةُ الإيمانِ بمَنزلةِ إيمانٍ آخَرَ دخَلَ على الإيمانِ الأسبقِ؛ لأنَّ الواحدَ مِن أفرادِ الجِنسِ إذا انضَمَّ إلى أفرادٍ أُخَرَ، زادها قُوَّةً؛ فلذلك عُلِّقَ بالإيمانِ ظَرْفُ (مع) في قَولِه: مَعَ إِيمَانِهِمْ، فكان في ذلك الحادثِ خَيرٌ عَظيمٌ لهم، كما كان فيه خَيرٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ بأنْ كان سَببًا لِتَشريفِه بالمَغفرةِ العامَّةِ، ولإتمامِ النِّعمةِ عليه، ولِهِدايتِه صِراطًا مُستقيمًا، ولِنَصرِه نصْرًا عزيزًا، فأعظِمْ به حَدَثًا أعقَبَ هذا الخيرَ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولِأصحابِه [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/150). !
- قَولُه: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا تَذْييلٌ لِلْكلامِ السَّابقِ؛ لأنَّه أفادَ أنْ لا عجَبَ في أنْ يَفتَحَ اللهُ لك فتْحًا عَظيمًا، ويَنصُرَك على أقوامٍ كَثيرينَ أشِدَّاءَ نصْرًا صَحِبَه إنزالُ السَّكينةِ في قُلوبِ المُؤمِنين بعْدَ أنْ خامَرَهم الفشَلُ، وانكسارُ الخواطِرِ؛ فاللهُ مَن يَملِكُ جَميعَ وَسائلِ النَّصرِ، وله القُوَّةُ القاهرةُ في السَّمواتِ والأرضِ، وما هذا النَّصْرُ إلَّا بعضٌ ممَّا للهِ مِن القُوَّةِ والقَهْرِ. والواوُ اعتِراضيَّةٌ، وجُملةُ التَّذييلِ مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وبيْنَ مُتعلَّقِها، وهو لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ [الفتح: 5] الآيةَ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/150). .
- وفي تَعقيبِ جُملةِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ... بجُملةِ التَّذييلِ: إشارةٌ إلى أنَّ المُؤمِنين مِن جُنودِ اللهِ، وأنَّ إنزالَ السَّكينةِ في قُلوبِهم تَشديدٌ لِعَزائمِهم؛ فتَخْصيصُهم بالذِّكْرِ قبْلَ هذا العُمومِ وبعْدَه تَنويهٌ بشَأْنِهم، ويُومِئُ إلى ذلك قَولُه بعْدُ: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ الآيةَ [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/151). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ على المُسنَدِ إليه في قَولِه: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لإفادةِ الحصْرِ، وهو حَصْرٌ ادِّعائيٌّ [108] الحَصرُ أو القَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أنْ يَختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِع، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإِلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصْرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتَنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ(إنَّما)، والقصرُ بتَقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/7- 17)، ((الإتقان)) للسيوطي (2/134- 135)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 87 - 95)، ((البلاغة العربية)) للميداني (1/523). ؛ إذ لا اعتِدادَ بما يَجمَعُه المُلوكُ والفاتِحون مِن الجُنودِ لِغَلَبةِ العدُوِّ بالنِّسبةِ لِمَا للهِ مِن الغَلَبةِ لِأعدائِه والنَّصرِ لِأوليائِه [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/151). .
- وجُملةُ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا تَذْييلٌ لِما قبْلَه مِن الفتْحِ والنَّصرِ وإنزالِ السَّكينةِ في قُلوبِ المُؤمِنين، والمَعْنى: أنَّه عَليمٌ بأسبابِ الفتْحِ والنَّصْرِ، وعَليمٌ بما تَطمِئنُّ به قُلوبُ المُؤمِنين بعْدَ البَلبَلةِ، وأنَّه حَكيمٌ يضَعُ مُقتضياتِ عِلْمِه في مَواضِعِها المُناسِبةِ، وأوقاتِها المُلائمةِ [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/151). .
- وأيضًا أثْبَت العِلمَ هنا إشارةً إلى أنَّه لا يَعْزُبُ عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّمواتِ ولا في الأرضِ [111] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/71). .
2- قَولُه تعالَى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا
- قَولُه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذِكْرُ المؤمناتِ مع المؤمنينَ هنا؛ لدَفْعِ تَوهُّمِ أنْ يكونَ الوعدُ بهذا الإدخالِ مُختَصًّا بالرِّجالِ؛ إذ كانتْ صِيغةُ الجمْعِ صِيغةَ المُذكَّرِ، مع ما قدْ يُؤكِّدُ هذا التَّوهُّمَ مِن وُقوعِه عِلَّةً أو عِلَّةَ عِلَّةٍ للفتْحِ وللنَّصرِ وللجُنودِ، وكلُّها مِن مُلابَساتِ الذُّكورِ، وإنَّما كان للمُؤمناتِ حظٌّ في ذلك؛ لأنَّهنَّ لا يَخلُونَ مِن مُشارَكةٍ في تلك الشَّدائدِ ممَّن يَقُمْنَ منهنَّ على المَرْضى والجَرحَى وسقْيِ الجيشِ وقتَ القِتالِ، ومِن صَبْرِ بَعضِهنَّ على الثُّكْلِ أو التَّأيُّمِ، ومِن صَبْرِهنَّ على غَيبةِ الأزواجِ والأبناءِ وذَوي القَرابةِ [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/152). ، وكذا في كلِّ مَوضعٍ يُوهِمُ الاختصاصَ يُصرَّحُ بذِكرِ النِّساءِ [113] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (13/248). .
- قَولُه: عِنْدَ اللَّهِ مُتعلِّقٌ بـ فَوْزًا، أي: فازوا عِندَ اللهِ، وتَقديمُه على مُتعلَّقِه؛ لِلاهتِمامِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/152). .
3- قَولُه تعالَى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
- قَولُه: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الحديثُ عن جُنودِ اللهِ في مَعرِضِ ذِكرِ نَصْرِ اللهِ، يَقْتَضي لا مَحالةَ فَريقًا مَهزومًا بتلك الجُنودِ، وهم العدُوُّ، فإذا كان النَّصرُ الذي قدَّرَه اللهُ مَعلولًا بما بشَّرَ به المُؤمِنين؛ فلا جَرَمَ اقْتَضى أنَّه مَعلولٌ بما يَسوءُ العدُوَّ وحِزْبَه، فذكَرَ اللهُ مِن عِلَّةِ ذلك النَّصرِ أنَّه يُعذِّبُ بسَببِه المُنافِقينَ حِزبَ العدُوِّ، والمُشركينَ صَميمَ العدُوِّ؛ فكان قولُه: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ مَعطوفًا على لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/152). [الفتح: 5] .
- وفي تَقديمِ المُنافِقينَ على المُشرِكين ما لا يَخفْى مِن الدَّلالةِ على أنَّهم أحقُّ منْهُم بالعَذابِ، وأنَّهم أشَدُّ منهم عَذابًا، ولِتَنْبيهِ المُسلِمينَ بأنَّ كُفْرَ المنافِقينَ خَفِيٌّ، فرُبَّما غفَلَ المُسلِمون عن هذا الفريقِ أو نَسُوه [116] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/105)، ((تفسير الشوكاني)) (5/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/153). .
ولأنَّه لَمَّا كان المُنافِقونَ أكثَرَ ضَررًا على المُسلِمينَ مِن المُشرِكينَ، بُدِئَ بذِكرِهم في التَّعذيبِ [117] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/485). . ولأنَّه لَمَّا كان مِن أعظَمِ الفَوزِ إقرارُ العَينِ بالانتِقامِ مِن العَدُوِّ، وكان العَدُوُّ المُكاتِمُ أشَدَّ مِن العَدُوِّ المجاهِرِ المُراغِمِ؛ قال تعالَى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ ... [118] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/289). .
- وعُطِفَ وَالْمُنَافِقَاتِ على الْمُنَافِقِينَ؛ لِدَفْعِ تَوهُّمِ أنْ يكونَ الوَعيدُ بهذا العَذابِ مُختصًّا بالرِّجالِ؛ لأنَّ نِساءَ المُنافِقين يُشارِكْنَهم في أسْرارِهم، ويَحُضُّون على ما يُبيِّتونَه مِن الكَيدِ، ويُهيِّئونَ لهم إيواءَ المُشرِكينَ إذا زارُوهم [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/153). .
- وجُملةُ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ دُعاءٌ أو وَعيدٌ؛ ولذلك جاءتِ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ لِصُلوحيَّتِها لذلك، بخِلافِ جُملةِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ؛ فإنَّها إخبارٌ عمَّا جَنَوه مِن سُوءِ فِعلِهم؛ فالتَّعبيرُ بالماضي منه أظهَرُ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/154). .
- قَولُه: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ عطْفٌ لِمَا استَحقُّوه في الآخِرةِ على ما اسْتَوجَبوه في الدُّنيا، والواوُ وُضِعَتْ مَوضِعَ الفاءِ؛ إذ اللَّعنُ سَببٌ للإعدادِ، والغضَبُ سَببٌ له؛ لاستِقلالِ الكلِّ في الوَعيدِ بلا اعتبارِ السَّببيَّةِ [121] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/127). .
4- قَولُه تعالَى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا في الآيةِ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّكريرِ؛ فقدْ قال تعالَى أوَّلًا: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4] وقال ثانيًا: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا؛ لأنَّه ذكَرَ قبْلَ الآيةِ الأُولى وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفتح: 4] ، ولَمَّا كان فيهم مَن هو أهلٌ لِلرَّحمةِ، ومَن هو أهلٌ للعَذابِ؛ ناسَبَ أنْ يكونَ خاتمةُ الأُولى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، ولَمَّا بالَغَ تعالَى في تَعذيبِ المُنافِقِ والكافِرِ وشِدَّتِه، ناسَبَ أنْ يكونَ خاتمةُ الثَّانيةِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا؛ فالأُولى دلَّتْ على أنَّه المُدبِّرُ لأمْرِ المَخلوقاتِ بمُقْتضَى حِكمتِه، والثَّانيةُ دلَّتْ على التَّهديدِ والوَعيدِ، وأنَّهم في قَبْضةِ المُنتقِمِ [122] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/486)، ((تفسير أبي السعود)) (8/106)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/154)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/234). .
وقيل: كرَّر الإخبارَ بأنَّ له مُلكَ السَّمَواتِ والأرضِ وما فيهما مِن الجُنودِ؛ لِيَعلَمَ العِبادُ أنَّه تعالَى هو المعِزُّ المُذِلُّ، وأنَّه سيَنصُرُ جُنودَه المنسوبةَ إليه، كما قال تعالَى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [123] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:791). [الصافات: 173] .