موسوعة التفسير

سُورةُ الفَتْحِ
الآيات (8-10)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَنَذِيرًا: أي: مُنذِرًا ومُحَذِّرًا ومُخَوِّفًا، وأصلُ (نذر): يدُلُّ على تخويفٍ [124] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((تفسير القرطبي)) (14/85)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 232). .
وَتُعَزِّرُوهُ: أي: تُعَظِّموه وتُقَوُّوه، وأصلُ التَّعزيرِ: النُّصرةُ معَ التَّعظيمِ [125] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 412)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/311)، ((المفردات)) للراغب (ص: 564)، ((تفسير القرطبي)) (16/266)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 320). .
وَتُوَقِّرُوهُ: أي: تُسَوِّدوه وتُعَظِّموه؛ مِنَ التَّوقيرِ: وهو الاحتِرامُ والإجلالُ والإعظامُ، وأصلُ (وقر): يدُلُّ على ثِقلٍ في الشَّيءِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/245)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/132)، ((تفسير القرطبي)) (16/267)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 320). .
بُكْرَةً: أي: أوَّلَ النَّهارِ، وأصلُ (بكر): يدُلُّ على أوَّلِ الشَّيءِ وبَدْئِه [127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/124)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/287)، ((المفردات)) للراغب (ص: 140)، ((تفسير القرطبي)) (14/198). .
وَأَصِيلًا: أي: آخِرَ النَّهارِ، وأصلُه: يدُلُّ على ما كان مِنَ النَّهارِ بعدَ العَشيِّ [128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/123)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/109)، ((المفردات)) للراغب (ص: 78)، ((تفسير القرطبي)) (14/198)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 215). .
نَكَثَ: أي: نَقَض، وأصلُ (نكث): يدُلُّ على نَقضِ شَيءٍ [129] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 462، 507)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 475)، ((المفردات)) للراغب (ص: 822)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 117)، ((تفسير القرطبي)) (7/271)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 222). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا وظيفةَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ المكلَّفَ بها، والحكمةَ مِن إرسالِه: إنَّا أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- شاهِدًا، ومُبَشِّرًا لِمَن أطاعك، ومُنذِرًا لِمَن عصاك، أرسَلْناه؛ لِتُؤمِنوا -أيُّها النَّاسُ- باللهِ ورَسولِه، ولِتُؤَيِّدوه وتَنصُروه، وتُعَظِّموه وتُجِلُّوه، ولِتُسَبِّحوا اللهَ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه.
ثمَّ يَمدَحُ الله سبحانَه الَّذينَ عاهَدوا الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم، ووَفَّوْا بعُهودِهم، فيقولُ: إنَّ الَّذين يُبايِعونَك -يا مُحمَّدُ- بالحُدَيبيَةِ على ألَّا يَفِرُّوا عندَ لِقاءِ الكُفَّارِ: إنَّما يُبايِعونَ اللهَ تعالى، يدُ اللهِ فَوقَ أيدي أولئك المُبايِعينَ.
ثمَّ يقولُ تَعالى مُحذِّرًا من نقضِ البيعةِ، ومُرغِّبًا في الوفاءِ بها: فمَنْ نَقَض بَيعَتَه فإنَّما يَضُرُّ نَفْسَه بذلك؛ لاستِحقاقِه العِقابَ، ومَن أَوفَى بما عاهَدَ اللهَ عليه في البَيعةِ فسيُؤتيه اللهُ ثَوابًا جَزيلًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8).
أي: إنَّا أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- شاهِدًا [130] قيل: المرادُ: شاهِدًا على أُمَّتِك يومَ القيامةِ. وممَّن اختاره: الزَّجَّاجُ، والسمعانيُّ، والزمخشري، والبيضاوي، والنسفي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/21)، ((تفسير السمعاني)) (5/193)، ((تفسير الزمخشري)) (4/334)، ((تفسير البيضاوي)) (5/127)، ((تفسير النسفي)) (3/335). وقال ابنُ جريرٍ، والقاسميُّ: المرادُ: شاهِدًا على أمَّتِك بما أجابوك فيما دَعَوْتَهم إليه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/249)، ((تفسير القاسمي)) (8/486). وقال الواحدي، والشوكاني: المرادُ: شاهِدًا على أمَّتِك بإبلاغِ الرِّسالةِ إليهم. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/136)، ((تفسير الشوكاني)) (5/56). ويُنظر أيضًا: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/69). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/250)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/516). قال ابنُ عطيَّة: (شاهِدًا على النَّاسِ بأعمالِهم وأقوالِهم حينَ بَلَّغْتَ إليهم الشَّرعَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/128). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/292). وقال ابنُ عاشور: (أرسَلْناك في حالِ أنَّك تَشهَدُ على الأُمَّةِ بالتَّبليغِ، بحيثُ لا يُعذَرُ المخالِفونَ عن شَريعتِك فيما خالَفوا فيه، وتَشهَدُ على الأُمَمِ، وهذه الشَّهادةُ حاصِلةٌ في الدُّنيا وفي يومِ القيامةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/155). وقيل: المرادُ: شاهِدًا لله بالوَحدانيَّةِ، وأنَّه لا إلهَ غَيْرُه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الرازي. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/72). وقال السعدي: (أي: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ أيُّها الرَّسولُ الكريمُ شَاهِدًا لأمَّتِك بما فَعَلوه مِن خَيرٍ وشَرٍّ، وشاهِدًا على المقالاتِ والمسائِلِ؛ حَقِّها وباطِلِها، وشاهِدًا لله تعالى بالوَحدانيَّةِ والانفِرادِ بالكَمالِ مِن كُلِّ وَجهٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 792). ، ومُبَشِّرًا بالخَيرِ والثَّوابِ لِمَن أطاعك، ومُنذِرًا بالشَّرِّ والعَذابِ لِمَن خالَفَك [131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/249، 250)، ((تفسير القرطبي)) (16/266)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 792). .
كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] .
وقال سُبحانَه: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ [النحل: 89] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم: 97] .
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَر الله تعالى حالَ الرِّسالةِ؛ ذكَر عِلَّتَها [132] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/292). ، وبيَّنَ فائدةَ الإرسالِ على الوجهِ الَّذي ذكَره [133] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/72). .
وأيضًا فإنَّ مِن تمامِ البِشارةِ والنِّذارةِ: بيانَ الأعمالِ والأخلاقِ الَّتي يُبَشِّرُ بها ويُنْذِرُ؛ فهو المبَيِّنُ للخَيرِ والشَّرِّ، والسَّعادةِ والشَّقاوةِ، والحقِّ مِنَ الباطلِ؛ ولهذا رتَّبَ على ذلك قَولَه [134] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 792). :
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أي: أرسَلْنا مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذيرًا؛ لِتُؤمِنوا -أنتم أيُّها النَّاسُ- باللهِ ورَسولِه، وتَقومُوا بما يَستَلزِمُ ذلك مِن طاعتِهما في جميعِ الأُمورِ [135] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/250)، ((تفسير السمرقندي)) (3/313)، ((تفسير السمعاني)) (5/193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 792). قال الزَّجَّاج: (الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وخِطابٌ للنَّاسِ ولأُمَّتِه... وجائِزٌ أن يكونَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ خِطابًا للمُومِنينَ وللنَّبيِّ جميعًا؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد آمَنَ باللهِ وبآياتِه وكُتُبِه ورُسُلِه). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/21). وقيل: قَولُه تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُتعَلِّقٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: قُلْ. أي: قُلْ لهم: إنَّا أرسَلْناك لِتُؤمِنوا باللهِ ورَسولِه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحديُّ، وابنُ عطية. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/289)، ((تفسير ابن عطية)) (5/129). .
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ.
أي: ولِتُؤَيِّدوه وتَنصُروه، وتُعَظِّموه وتُجِلُّوه [136] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/250-252)، ((تفسير القرطبي)) (16/266، 267)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 292)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 792). قال ابن تيميَّة: (التَّعزيرُ: اسمٌ جامِعٌ لِنَصرِه وتأييدِه، ومَنْعِه مِن كُلِّ ما يُؤذيه. والتَّوقيرُ: اسمٌ جامِعٌ لكُلِّ ما فيه سَكينةٌ وطُمَأنينةٌ مِن الإجلالِ والإكرامِ، وأن يُعامَلَ مِنَ التَّشريفِ والتَّكريمِ والتَّعظيمِ بما يَصونُه عن كُلِّ ما يُخرِجُه عن حَدِّ الوَقارِ). ((الصارم المسلول)) (ص: 422). ويُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (2/78)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/156). وقال الماوَرْدي: (مِنهم مَن قال: إنَّ المرادَ بقَولِه: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ أي: تُعَزِّروا اللهَ وتُوَقِّروه؛ لأنَّ قَولَه: وَتُسَبِّحُوهُ راجِعٌ إلى اللهِ، وكذلك ما تَقدَّمَه؛ فعلى هذا يكونُ تأويلُ قَولِه: وَتُوَقِّرُوهُ أي: تُثبِتوا له صِحَّةَ الرُّبوبيَّةِ، وتَنفُوا عنه أن يكونَ له وَلدٌ أو شَريكٌ. ومنهم مَن قال: المرادُ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أن يُعَزِّروه ويُوَقِّروه؛ لأنَّه قد تقَدَّمَ ذِكرُه، فجاز أنْ يكونَ بَعضُ الكلامِ راجِعًا إلى اللهِ، وبَعضُه راجِعًا إلى رَسولِه. قاله الضَّحَّاكُ). ((تفسير الماوردي)) (5/313). وقال ابن عطيَّة: (قال بعضُ المتأوِّلينَ: الضَّمائرُ في قولِه: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ هي كلُّها لله تعالى. وقال الجمهور: «تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ» هما للنَّبيِّ عليه السَّلامُ، وَتُسَبِّحُوهُ هي لله). ((تفسير ابن عطية)) (5/129). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ؛ أنَّ الضَّمائرَ الثَّلاثةَ ترجِعُ إلى الله عزَّ وجلَّ: الزمخشريُّ، والرازي، والنسفي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/335)، ((تفسير الرازي)) (28/73)، ((تفسير النسفي)) (3/335)، ((تفسير القاسمي)) (8/486). قال النسفي: (وَتُعَزِّرُوهُ وتُقَوُّوه بالنَّصر... والمرادُ بتعزيرِ الله: تعزيرُ دينِه ورسولِه). ((تفسير النسفي)) (3/335). وممَّن اختار أنَّ الضَّميرَينِ الأوَّلَينِ يَرجِعانِ إلى الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، والثَّالثَ يَرجِعُ إلى اللهِ تعالى: القُشَيْريُّ، والكرماني، والبغوي، والقرطبي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/421)، ((تفسير الكرماني)) (2/1112)، ((تفسير البغوي)) (4/224)، ((تفسير القرطبي)) (16/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 792). .
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
أي: ولِتُسَبِّحوا اللهَ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه [137] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/253)، ((تفسير القرطبي)) (16/267)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/369)، ((تفسير الخازن)) (4/155)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 792)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/156). قال السَّمعاني: (قَولُه: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا تَنصَرِفُ إلى اللهِ قَولًا واحِدًا). ((تفسير السمعاني)) (5/194). قال القرطبي: (وفي «تُسَبِّحُوهُ» وجْهانِ؛ أحدُهما: تسبيحُه بالتَّنزيهِ له سُبحانَه مِن كُلِّ قبيحٍ. والثَّاني: هو فِعلُ الصَّلاةِ الَّتي فيها التَّسبيحُ). ((تفسير القرطبي)) (16/267). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: وَتُسَبِّحُوهُ أي: تُنَزِّهوه عن السُّوءِ والنَّقائصِ: القُشَيريُّ، والجاوي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/421)، ((مراح لبيد)) للجاوي (2/425)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/156). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: وَتُسَبِّحُوهُ أي: تُصَلُّوا له -أي: لله-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحدي، والبغوي، وابن الجوزي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/70)، ((تفسير ابن جرير)) (21/253)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/22)، ((الوسيط)) للواحدي (4/136)، ((تفسير البغوي)) (4/224)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/129)، ((تفسير العليمي)) (6/337). قال السَّمعاني: (والتَّسبيحُ بالبُكرةِ وهو صلاةُ الصُّبحِ، وبالأَصيلِ صلاةُ الظُّهرِ والعصرِ). ((تفسير السمعاني)) (5/194). وقال النَّسَفي: (بُكْرَةً صلاةَ الفَجرِ وَأَصِيلًا الصَّلَواتِ الأربَعَ). ((تفسير النسفي)) (3/335). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ: التَّنزيهِ والصَّلاةِ: الثعلبيُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/ 44)، ((تفسير السعدي)) (ص: 792). قال السعدي عن التَّسبيحِ وهو الحقُّ المختصُّ بالله في هذه الآيةِ: (هو التَّسبيحُ له والتَّقديسُ بصَلاةٍ أو غيرِها). ((تفسير السعدي)) (ص: 792). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 41، 42].
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّنَ أنَّه مُرسَلٌ؛ ذَكَر أنَّ مَن بايَعَه فقد بايَعَ اللهَ تعالى [138] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/73). .
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ.
أي: إنَّ أصحابَك -يا مُحمَّدُ- الَّذين يُبايِعونَك بالحُدَيبيَةِ على ألَّا يَفِرُّوا عندَ لِقاءِ الكُفَّارِ: إنَّما يُبايِعونَ اللهَ في حقيقةِ الأمرِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/254)، ((تفسير القرطبي)) (16/267)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329، 330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 792). قال الواحدي: (قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ قال المفسِّرونَ: يعني بَيعةَ الرِّضوانِ، وكانت بالحُدَيبيَةِ تحتَ الشَّجَرةِ، وكان المسلِمونَ يَومَئذٍ ألْفًا وأربَعَمئةِ رجُلٍ، بايَعوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم على أن يُقاتِلوا ولا يَفِرُّوا). ((البسيط)) (20/290). وقال ابنُ الجوزي: (وعلى ماذا بايَعوه؟ فيه قَولانِ: أحدُهما: أنَّهم بايَعوه على الموتِ، قاله عُبادةُ بنُ الصَّامِتِ. والثَّاني: على ألَّا يَفِرُّوا، قاله جابرُ بنُ عبدِ الله. ومعناهما مُتقارِبٌ؛ لأنَّه أراد: على ألَّا تَفِرُّوا ولو مُتُّمْ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/129). وقال ابنُ تيميَّةَ: (قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ لم يُرِدْ به: إنَّك أنت اللهُ! وإنَّما أراد: إنَّك أنت رسولُ الله، ومُبَلِّغُ أمْرِه ونَهيِه، فمَنْ بايَعَك فقد بايَعَ اللهَ، كما أنَّ مَن أطاعك فقد أطاع اللهَ، ولم يُرِدْ بذلك أنَّ الرَّسولَ هو اللهُ، ولكنَّ الرَّسولَ أمَر بما أمَر اللهُ به، فمَنْ أطاعه فقد أطاع اللهَ). ((مجموع الفتاوى)) (2/333). وقال ابنُ عثيمين: (إنَّما جَعَل اللهُ تعالى مُبايَعةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُبايعةً له؛ لأنَّه رَسولُه، وقد بايَعَ الصَّحابةُ على الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ تعالى، ومُبايَعةُ الرَّسولِ على الجِهادِ في سَبيلِ مَن أرسَلَه مُبايَعةٌ لِمَن أرسَلَه؛ لأنَّه رَسولُه المبلِّغُ عنه، كما أنَّ طاعةَ الرَّسولِ طاعةٌ لِمَن أرسَلَه؛ لِقَولِه تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80]. وفي إضافةِ مُبايَعتِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اللهِ تعالى مِن تَشريفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتأييدِه، وتوكيدِ هذه المُبايَعةِ وعِظَمِها، ورَفْعِ شَأنِ المُبايِعينَ: ما هو ظاهِرٌ لا يَخفى على أحَدٍ). ((القواعد المثلى)) (ص: 74). .
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((قال لنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ الحُدَيبيَةِ: أنتم خَيرُ أهلِ الأرضِ. وكُنَّا ألْفًا وأرْبَعَمِ ئَةٍ)) [140] رواه البخاريُّ (4154) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1856). .
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ.
أي: يدُ اللهِ فَوقَ أيدي أولئك المُبايِعينَ مِن أصحابِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَقتَ بَيعتِه [141] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/254)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/334)، ((تفسير ابن كثير)) (7/329)، ((تفسير القاسمي)) (8/487)، ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 74، 75). قال ابن القيِّم: (لَمَّا كانوا يُبايِعونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأيديهم، ويَضرِبُ بيَدِه على أيديهم، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو السَّفيرَ بيْنَه وبَيْنَهم؛ كانت مُبايَعتُهم له مُبايَعةً لله تعالى، ولَمَّا كان سُبحانَه فَوقَ سَمَواتِه وعلى عَرشِه فَوقَ الخلائِقِ كُلِّهم، كانت يَدُه فَوقَ أيديهم، كما أنَّه سُبحانَه فَوقَهم). ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم)) للمَوْصِلي (ص: 406). وقال ابنُ عثيمين: (يَدُ اللهِ تعالى فوقَ أيدي المُبايِعينَ؛ لأنَّ يَدَه مِن صِفاتِه، وهو سُبحانَه فَوقَهم على عَرشِه، فكانت يَدُه فَوقَ أيديهم، وهذا ظاهِرُ اللَّفظِ وحَقيقتُه، وهو لتوكيدِ كَونِ مُبايَعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُبايَعةً لله عزَّ وجَلَّ، ولا يَلزَمُ منها أن تكونَ يدُ اللهِ جلَّ وعلا مُباشِرةً لأيديهم، ألَا تَرى أنَّه يُقالُ: السَّماءُ فَوقَنا، مع أنَّها مُبايِنةٌ لنا، بعيدةٌ عنا؟! فيَدُ اللهِ عزَّ وجَلَّ فوقَ أيدي المبايِعينَ لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع مُبايَنتِه تعالى لِخَلْقِه، وعُلُوِّه عليهم. ولا يمكِنُ لأحدٍ أن يَفهَمَ أنَّ المرادَ بقَولِه: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يدُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ولا أن يَدَّعيَ أنَّ ذلك ظاهِرُ اللَّفظِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أضاف اليَدَ إلى نَفْسِه، ووَصَفَها بأنَّها فوقَ أيديهم، ويَدُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندَ مُبايَعةِ الصَّحابةِ لم تكُنْ فوقَ أيديهم، بل كان يَبسُطُها إليهم، فيُمسِكُ بأيديهم كالمُصافِحِ لهم؛ فيَدُه مع أيديهم، لا فَوقَ أيديهم). ((القواعد المثلى)) (ص: 74، 75). ويُنظر: ((الإبانة عن أصول الديانة)) للأشعري (ص: 125-128)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/264)، ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) لعَلَوي السَّقَّاف (ص: 376-378). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111] .
فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ.
أي: فمَن نَقَض بَيعَتَه فإنَّما يَضُرُّ نَفْسَه بذلك؛ لاستِحقاقِه العِقابَ، وحِرمانِ نَفْسِه مِن الثَّوابِ [142] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/255)، ((تفسير القرطبي)) (16/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 792). .
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أتَمَّ التَّرهيبَ؛ لأنَّه مَقامُه للحَثِّ على الوَفاءِ الَّذي به قيامُ الدِّينِ، على أبلَغِ وَجهٍ- أتْبَعَه التَّرغيبَ؛ إتمامًا للحَثِّ، فقال تعالى [143] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/297). :
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
أي: ومَن أَوفَى بما عاهَدَ اللهَ عليه في البَيعةِ؛ مِن الصَّبرِ عندَ قِتالِ الكُفَّارِ، ونُصرةِ الرَّسولِ: فسيُؤتيه اللهُ ثَوابًا جَزيلًا على وَفائِه، بوَعدٍ لا خُلْفَ فيه [144] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/255)، ((تفسير القرطبي)) (16/268)، ((تفسير ابن كثير)) (7/330)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/78)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/297، 298). قال ابن عاشور: (الظَّاهِرُ عندي: أنَّ سَبَبَ المُبايَعةِ قد انعدَمَ بالصُّلحِ الواقِعِ بيْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبيْنَ أهلِ مكَّةَ، وأنَّ هذه الآيةَ نَزَلت فيما بيْنَ ساعةِ البَيعةِ وبيْنَ انعِقادِ الهُدْنةِ، وحَصَل أجرُ الإيفاءِ بالنِّيَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/160). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ذَكَر اللهُ في هذه الآيةِ الحَقَّ المُشتَرَكَ بيْنَ اللهِ وبيْنَ رَسولِه، وهو: الإيمانُ بهما، والمُختَصَّ بالرَّسولِ، وهو: التَّعزيرُ والتَّوقيرُ، والمُختَصَّ باللهِ، وهو: التَّسبيحُ له والتَّقديسُ بصَلاةٍ أو غَيرِها [145] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 792). . على قولٍ في التَّفسيرِ.
2- في قَولِه تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ أنَّ حَقَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو أوجَبُ الحُقوقِ البَشَريَّةِ، وحَقُّه التَّعظيمُ والإجلالُ والتَّوقيرُ، حتَّى إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ جَعَلَ مِن أسبابِ الرِّسالةِ ومِن حِكمةِ الرِّسالةِ أنْ نُؤمِنَ باللهِ ورَسولِه، ونُعَزِّرَه ونُوَقِّرَه؛ فهذا رُكنٌ وأساسٌ وحِكمةٌ مِن حِكَمِ إرسالِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [146] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (14/423). . وذلك بناء على قولٍ في التَّفسيرِ.

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ سُمِّيَت مُبايَعةً؛ لأنَّهم باعوا أنفُسَهم فيها مِنَ اللهِ بالجنَّةِ [147] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/295)، ((تفسير الشربيني)) (4/42). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هذا الكلامُ استِئنافٌ ابتدائيٌّ، وتأْكيدُه بحرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ. ولَمَّا أُرِيدَ الانتِقالُ مِن الوعْدِ بالفتْحِ والنَّصرِ وما اقتَضاهُ ذلك ممَّا اتَّصلَ به ذِكْرُه، إلى تَبْيينِ ما جَرَى في حادِثةِ الحُديبيَةِ، وإبلاغِ كلِّ ذي حظٍّ مِن تلك القَضيَّةِ نَصيبَه المُستحَقَّ ثَناءً أو غَيرَه؛ صُدِّرَ ذلك بذِكْرِ مُرادِ اللهِ مِن إرسالِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِيَكونَ ذلك كالمُقدِّمةِ للقِصَّةِ، وذُكِر مِن حِكمةِ اللهِ تعالَى في إرسالِه ما له مَزيدُ اختِصاصٍ بالواقعةِ المُتحدَّثِ عنها، فذُكِرَتْ أوصافٌ ثلاثةٌ؛ هي: شاهِدٌ، ومُبشِّرٌ، ونَذيرٌ. وقُدِّم منها وَصفُ الشَّاهدِ؛ لأنَّه يَتفرَّعُ عنه الوَصفانِ بعْدَه [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/155). .
- قَولُه: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا يَجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ في لِتُؤْمِنُوا لامَ (كي) مُفيدةً للتَّعليلِ، ومُتعلِّقةً بفِعلِ أَرْسَلْنَاكَ. والخِطابُ يَجوزَ أنْ يكونَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع أُمَّةِ الدَّعوةِ، أي: لتُؤمِنَ أنتَ والَّذين أُرسِلْتَ إليهم شاهِدًا ومُبشِّرًا ونَذيرًا، والمقصودُ الإيمانُ باللهِ، وأُقحِمَ وَرَسُولِهِ؛ لأنَّ الخِطابَ شاملٌ للأُمَّةِ، وهم مَأْمورون بالإيمانِ برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مأْمورٌ بأنْ يُؤمِنَ بأنَّه رسولُ اللهِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ الخِطابُ للنَّاسِ خاصَّةً، ولا إشكالَ في عطْفِ وَرَسُولِهِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ الكلامُ قد انْتَهى عندَ قَولِه: وَنَذِيرًا [الفتح: 8] ، وتكونَ جُملةُ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ... إلخ جُملةً مُعترِضةً، ويكونَ اللَّامُ في قَولِه: لِتُؤْمِنُوا لامَ الأمْرِ، وتكونَ الجُملةُ استِئنافًا للأمْرِ [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/155، 156). .
- وضَمائرُ الغَيبةِ المنْصوبةِ الثَّلاثةُ عائِدةٌ إلى اسمِ الجَلالةِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ لأنَّ إفرادَ الضَّمائرِ مع كَونِ المذكورِ قبْلَها اسمَينِ، دَليلٌ على أنَّ المُرادَ أحَدُهما، والقرينةُ على تَعيينِ المرادِ ذِكْرُ وَتُسَبِّحُوهُ، ولأنَّ عطْفَ وَرَسُولِهِ على لَفظِ الجَلالةِ اعتدادٌ بأنَّ الإيمانَ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيمانٌ باللهِ؛ فالمَقصودُ هو الإيمانُ باللهِ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/156). .
- قَولُه: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا البُكرةُ: أوَّلُ النَّهارِ. والأصيلُ: آخِرُه، وهما كِنايةٌ عن استِيعابِ الأوقاتِ بالتَّسبيحِ والإكثارِ منه، كما يُقال: شرْقًا وغرْبًا؛ لاستِيعابِ الجِهاتِ وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ. وقيل: التَّسبيحُ هنا: كِنايةٌ عن الصَّلَواتِ الواجبةِ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/156). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ وقَعَ في سُورةِ (الأحزابِ) نَظيرُ هذه الآيةِ، وهو قولُه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45، 46]؛ فزِيدَ في صِفاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هنالك وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، ولم يُذكَرْ مِثلُه في الآيةِ هذه الَّتي في سُورةِ (الفتْحِ)؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ هذه الآيةَ الَّتي في سُورةِ (الفتْحِ) وَرَدتْ في سِياقِ إبطالِ شَكِّ الَّذين شَكُّوا في أمْرِ الصُّلحِ، والَّذين كذَّبوا بوعْدِ الفتْحِ والنَّصرِ، والثَّناءِ على الَّذين اطْمَأنُّوا لذلك؛ فاقتُصِرَ مِن أوصافِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الوَصْفِ الأصليِّ؛ وهو أنَّه شاهِدٌ على الفريقَينِ، وكَونُه مُبشِّرًا لأحَدِ الفريقَينِ، ونَذيرًا للآخَرِ، بخِلافِ آيةِ (الأحزابِ)؛ فإنَّها ورَدَتْ في سِياقِ تَنزيهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن مَطاعنِ المُنافِقين والكافرينَ في تَزوُّجِه زينبَ بنتَ جَحشٍ بعْدَ أنْ طلَّقَها زَيدُ بنُ حارثةَ بزَعْمِهم أنَّها زَوجةُ ابنِه؛ فناسَبَ أنْ يُزادَ في صِفاتِه ما فيه إشارةٌ إلى التَّمحيصِ بيْنَ ما هو مِن صِفاتِ الكَمالِ، وما هو مِن الأوهامِ النَّاشئةِ عن مَزاعمَ كاذبةٍ، مِثلُ التَّبنِّي؛ فزِيدَ كَونُه داعيًا إلى اللهِ بإذْنِه، أي: لا يتَّبِعُ مَزاعِمَ النَّاسِ ورَغَباتِهم، وأنَّه سِراجٌ مُنيرٌ يَهتدي به مَن هِمَّتُه في الاهتداءِ دونَ التَّقعيرِ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/156، 157). .
2- قَولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا
- قَولُه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ شُروعٌ في الغرَضِ الأصليِّ مِن هذه السُّورةِ، وهو كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ أنَّ مَن بايَعَ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صُورةً فقد بايَعَ اللهَ حقيقةً [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/157)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/236). .
- وأُكِّدتِ الجُملةُ بحرْفِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/157). .
- وصِيغةُ المُضارِعِ في قَولِه: يُبَايِعُونَكَ لاستِحضارِ حالةِ المُبايَعةِ الجليلةِ؛ لِتَكونَ كأنَّها حاصِلةٌ في زمَنِ نُزولِ هذه الآيةِ مع أنَّها قد انقَضَت؛ لأنَّها جَديرةٌ بالتَّجْسيدِ؛ لتَكونَ عِبرةَ الأجدادِ للأحفادِ [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/157)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/245). .
- والحصْرُ المُفادُ مِن (إنَّما) حصْرُ الفِعلِ في مَفعولِه، أي: لا يُبايِعون إلَّا اللهَ، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [156] الحَصرُ أو القَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أنْ يَختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِع، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإِلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصْرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتَنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ(إنَّما)، والقصرُ بتَقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/7- 17)، ((الإتقان)) للسيوطي (2/134- 135)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 87 - 95)، ((البلاغة العربية)) للميداني (1/523). ؛ بادِّعاءِ أنَّ غايةَ البَيعةِ وغرَضَها هو النَّصْرُ لدِينِ اللهِ ورَسولِه، فنُزِّلَ الغرَضُ مَنزِلةَ الوَسيلةِ، فادُّعِيَ أنَّهم بايَعوا اللهَ لا الرَّسولَ [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/157). .
- جُملةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مُقرِّرةٌ لِمَضمونِ جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ المُفيدةِ أنَّ بَيعتَهم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الظَّاهِرِ، هي بَيعةٌ منهم للهِ في الواقعِ، فقرَّرَتْه جُملةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وأكَّدَتْه؛ ولذلك جُرِّدَت عن حرْفِ العطْفِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/158). .
- وفُرِّعَ قولُه: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ على جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ؛ فإنَّه لَمَّا كشَفَ كُنْهَ هذه البَيعةِ بأنَّها مُبايَعةٌ للهِ ضَرورةَ أنَّها مُبايَعةٌ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باعتِبارِ رِسالتِه عن اللهِ؛ صارَ أمْرُ هذه البَيعةِ عظيمًا خَطيرًا في الوفاءِ بما وقَعَ عليه التَّبايُعُ وفي نَكْثِ ذلك، والكلامُ تَحذيرٌ مِن نَكْثِ هذه البَيعةِ، وتَفظيعٌ له؛ لأنَّ الشَّرطَ يَتعلَّقُ بالمُستقبَلِ [159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/159، 160). .
- و(إنَّما) للقصْرِ، وهو لِقصْرِ النَّكثِ على مَدلولِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِيُرادَ: لا يضُرُّ بنَكْثِه إلَّا نفْسَه، ولا يضُرُّ اللهَ شيئًا؛ فإنَّ نَكْثَ العهدِ لا يَخْلو مِن قصْدِ إضرارٍ بالمَنكوثِ؛ فجِيءَ بقصْرِ القَلْبِ لِقلْبِ قصْدِ النَّاكثِ على نفْسِه دونَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/160). .
- وعَبَّر بالمُضارِعِ في يَنْكُثُ؛ إشارةً إلى أنَّ مَن فَعَل النَّكْثَ فهو في كُلِّ لَحظةٍ ناكِثٌ نَكْثًا جَديدًا [161] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/297). .
- قُرِئَ فَسَنُؤْتِيهِ بنُونِ العَظَمةِ على الالْتِفاتِ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ، وقُرِئَ بياءِ الغَيبةِ فَسَيُؤْتِيهِ عائدًا ضَميرُه على اسمِ الجَلالةِ [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/160). قال ابن الجزري: (واختلَفوا في: فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا؛ فقرأ أبو عَمرٍو، والكوفيُّون ورُوَيْسٌ بالياءِ. وانفرد بذلك ابنُ مِهْرانَ عن رَوحٍ أيضًا. وقرأ الباقونَ بالنُّونِ). ((النشر في القراءات العشر)) (2/375). .
- والآيةُ مِنَ الاحتِباكِ [163] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذكَرَ أوَّلًا أنَّ النَّكْثَ عليه، دليلًا على أنَّ الوفاءَ له ثانيًا، وإيتاءَ الأجرِ ثانيًا، دليلًا على إحلالِ العِقابِ أوَّلًا. وسِرُّه أنَّه بيَّنَ أنَّ ما يُريدُه النَّاكِثُ مِنَ الأذى لغَيرِه إنَّما هو واقِعٌ به؛ لأنَّ ذلك أعظَمُ في التَّرهيبِ عن النَّكْثِ؛ لِمَا جُبِل الإنسانُ عليه مِنَ النَّفرةِ عن ضرِّ نفْسِه، وبُعدِه عنه. وذكَرَ الأجرَ للمُوفِي؛ لأنَّه أعظَمُ في التَّرغيبِ [164] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/298). .