موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (38-40)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

انْفِرُوا: أي: اخرُجُوا مِن مَنازِلِكم إلى مَغْزاكم، والنَّفْرُ: مُفارقةُ مكانٍ إلى مكانٍ لأمْرٍ هاجَه على ذلك، وأَصلُ (نفر): يدلُّ على تجافٍ وتباعُدٍ [644] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/458)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/459)، ((الكليات)) للكفوي (1/202). .
اثَّاقَلْتُمْ: أي: تَثاقَلْتُم، وتَباطَأتُم وتَكاسَلْتُم، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ [645] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 186)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 105)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/382)، ((المفردات)) للراغب (ص: 173)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 224)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 41). .
مَتَاعُ: أي: مُتْعة، وانْتِفاع، وأصلُ (متَع): المنفعةُ، وامتدادُ مدَّةٍ في خيرٍ [646] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 46)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 409)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/293)، ((المفردات)) للراغب (ص: 757)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 69). .
الْغَارِ: نَقْبٌ في الجَبَلِ، وأصلُ (غور): يدلُّ على خُفوضٍ في الشَّيءِ، وانحطاطٍ وتَطامُنٍ [647] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 186)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/401)، ((المفردات)) للراغب (ص: 618)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 224)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 674). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: يا أيُّها الذين آمَنوا، ما بالُكم إذا دُعِيتُم إلى الجِهادِ في سبيلِ الله تكاسَلْتُم، ومِلْتُم لِلُزومِ مَساكِنِكم؟! أَرِضًا منكم بنَعيمِ الدُّنيا بَدَلًا من نعيمِ الجنَّةِ في الآخرةِ؟! فما متاعُ الحياةِ الدُّنيا مُقارنةً بِنَعيمِ الآخرةِ إلَّا قَليلٌ، إن لم تُبادِرُوا للجِهادِ الذي دُعِيتُم إليه، يُعَذِّبْكم اللهُ عذابًا مُوجِعًا، ويستبدِلْ بكم قومًا آخَرينَ، إذا دُعُوا للجِهادِ أجابُوا، ولا تضُرُّوا اللهَ شَيئًا بعَدمِ تَلبِيَتِكم داعِيَ الجِهادِ، واللهُ على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ.
وإنْ لم تنصُروا مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَينصُرُه اللهُ تعالى، كما نَصَرَه مِن قَبلُ حين اضطُرَّ إلى الخروجِ مِن مكَّة، والحالُ أنَّه أحدُ اثنَينِ فحَسْبُ، ليس معه إلَّا أبو بكرٍ رَضِيَ الله عنه، حين كانا في غارٍ في جبَلِ ثَورٍ للاختباءِ من كفَّارِ قُريشٍ، إذ يقولُ لأبي بكرٍ: لا تَحزَنْ؛ إنَّ اللهَ معنا، فأنزَلَ اللهُ سَكينَتَه على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَوَّاه بجُنودٍ مِن الملائكةِ لم تَرَوْها أنتم، وجَعَلَ اللهُ كَلِمةَ الكُفَّارِ هي السُّفلى، وكِلمةُ الله هي العليا، واللهُ عزيزٌ حَكيمٌ.

مشكل الإعراب:

1- قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ
 ثَانِيَ: حالٌ مِن الهاءِ في أَخْرَجَهُ، أي: أحَدَ اثنَينِ. اثْنَيْنِ مُضافٌ إليه مَجرورٌ، وعلامةُ جرِّه الياءُ؛ لأنَّه مُلحَقٌ بالمُثنَّى [648] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/328)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/644)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/51)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (10/341)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخراط (2/395). .
2- قوله تعالى:وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هيَ الْعُلْيَا
وَكَلِمَةُ اللَّهِ هيَ الْعُلْيَا (الواو) استئنافيَّة. كَلِمةُ مبتدأٌ مَرفوعٌ. هيَ الْعُلْيَا جُملةٌ اسميَّةٌ في محلِّ رَفعٍ خَبَرٌ لـ (كَلِمَةُ اللَّه)، ويجوزُ أن تكونَ هيَ ضميرَ فَصلٍ، والْعُلْيَا هي الخَبَرُ. والجملةُ كُلُّها استئنافيَّةٌ، لا محَلَّ لها من الإعرابِ [649] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/329)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/645)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/52-53). .

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا شرَحَ معايِبَ هؤلاءِ الكُفَّارِ وفَضائِحَهم، عاد إلى التَّرغيبِ في مُقاتَلَتِهم [650] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/47). .
وأيضًا لَمَّا أوعَزَ اللهُ تعالى في أمرِ الجِهادِ، وأزاح جميعَ عِلَلِهم، وبيَّنَ أنَّ حُسْنَه لا يختَصُّ به شَهرٌ دونَ شَهرٍ، وأنَّ بَعضَهم كان يُحِلُّ لهم ويُحَرِّمُ، فيتَّبِعونَه بما يؤدِّي إلى تحريمِ الشَّهرِ الحلالِ، وتحليلِ الشَّهرِ الحرامِ بالقتال فيه- عاتَبَهم اللهُ سبحانه على تخلُّفِهم عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الآمِرِ لهم بالنَّفْرِ في غزوةِ تَبُوكَ عن أمْرِه سبحانَه، فقال تعالى [651] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/468). :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ.
أي: ما الذي يَدعُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- إذا أُمِرْتُم بجهادِ الكُفَّارِ لإعلاءِ كَلِمةِ الله، إلى أن تَتَثاقلوا وتتَباطَؤوا وتتقاعَسُوا، وتَميلوا إلى لُزومِ أرضِكم ومَساكِنِكم [652] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/458)، ((البسيط)) للواحدي (10/431، 432)، ((تفسير ابن عطية)) (3/34)، ((تفسير الرازي)) (16/47)، ((تفسير القرطبي)) (8/140)، ((تفسير ابن كثير)) (4/153)، ((تفسير الألوسي)) (5/286)، ((تفسير السعدي)) (ص: 337)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/196)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/500، 501). قال الواحدي: (أجمع المُفَسِّرونَ على أنَّ هذه الآيةَ حَثٌّ لِمَن تثاقَلَ عن غزوةِ تَبُوك، وذلك كان في زَمانِ عُسرةٍ مِن الناس، وجدْبٍ من البلادِ، وشدَّةٍ من الحَرِّ، حين أخرَفَت النَّخلُ، وطابَت الثِّمارُ، فعظُم ذلك على النَّاسِ، وشَقَّ عليهم الخروجُ إلى القتالِ، فأنزل اللهُ هذه الآيةَ). ((البسيط)) (10/430). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (2/447)، ((تفسير ابن عطية)) (3/34)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/499). وقال الرازي: (إنَّما استثقَلَ النَّاسُ ذلك لوجوهٍ: أحدها: شِدَّةُ الزَّمانِ في الصَّيفِ والقَحْطِ. وثانيها: بُعدُ المسافةِ، والحاجةُ إلى الاستعدادِ الكَثيرِ الزَّائدِ على ما جرَتْ به العادةُ في سائر الغَزَوات. وثالثها: إدراكُ الثِّمارِ بالمدينةِ في ذلك الوقتِ. ورابعها: شِدَّةُ الحَرِّ في ذلك الوقت. وخامسها: مهابةُ عَسكَرِ الرُّومِ. فهذه الجِهاتُ الكثيرةُ اجتمَعَت فاقتَضَت تثاقُلَ النَّاسِ عن ذلك الغَزوِ. والله أعلم). ((تفسير الرازي)) (16/47). وقال ابن عطية: (العِتابُ في هذه الآية هو للقَبائِلِ وللمؤمنينَ الذين كانوا بالمدينةِ، وخَصَّ الثلاثةَ: كعبَ بنَ مالكٍ، ومُرارةَ بن الرَّبيعِ، وهلالَ بنَ أُميَّةَ، بذلك التَّذنيبِ الشَّديدِ بحَسَب مكانِهم من الصُّحبةِ؛ إذ هم من أهلِ بَدرٍ، وممَّن يُقتَدى بهم، وكان تخلُّفُهم لِغَيرِ عِلَّةٍ). ((تفسير ابن عطية)) (3/34). ؟!
أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ.
أي: ما لَكُم فَعَلْتُم ذلك- أيُّها المُؤمِنونَ- أَرِضًا منكم بنَعيمِ الحياةِ الدُّنيا وراحَتِها، بدَلًا مِن نعيمِ الجنَّةِ في الآخرةِ [653] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/459)، ((البسيط)) للواحدي (10/432)، ((تفسير ابن عطية)) (3/34)، ((تفسير ابن كثير)) (4/153)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/198). ؟!
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ.
أي: فما الذي يتمَتَّعُ به المتمَتِّعونَ في الحياةِ الدُّنيا- التي مالتْ بكم- مُقارنةً بما سيتمَتَّعُ به المُؤمِنونَ في الجنَّةِ؛ إلَّا يسيرٌ مَحدودٌ، ووقتُه قصيرٌ معدودٌ، فكيف تُقَدِّمونَ القَليلَ الزَّائِلَ على الكثيرِ الباقي؟! فاطلُبوا- أيُّها المؤمنونَ- نعيمَ الآخرةِ بطاعةِ رَبِّكم، والمُسارَعةِ إلى إجابةِ أمْرِه في النَّفيرِ؛ لِجِهادِ عَدُوِّه وعَدُوِّكم [654] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/460)، ((البسيط)) للواحدي (10/433)، ((تفسير ابن عطية)) (3/34)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/507). قال الرازي: (الدليلُ على أنَّ مَتاعَ الدُّنيا في الآخرةِ قَليلٌ: أنَّ لَذَّاتِ الدُّنيا خسيسةٌ في أنفُسِها، ومَشُوبةٌ بالآفاتِ والبليَّاتِ، ومُنقطعةٌ عن قريبٍ لا محالةَ، ومنافِعُ الآخرةِ شَريفةٌ عاليةٌ، خالصةٌ عن كلِّ الآفات، ودائمةٌ أبَديَّةٌ سرمديَّةٌ؛ وذلك يوجِبُ القَطعَ بأنَّ متاعَ الدُّنيا قليلٌ حَقيرٌ خَسيسٌ). ((تفسير الرازي)) (16/47). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 337). .
عن المُستَورِدِ بنِ شدَّادٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((سَمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: واللَّه ما الدُّنيا في الآخرةِ إلَّا مِثلُ ما يجعَلُ أحدُكم إصْبَعَه هذه في اليَمِّ، فلْينظُرْ بمَ تَرجِعُ؟ )) [655] رواه مسلم (2858). .
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا رغَّبَهم في الآيةِ الأُولى في الجِهادِ بناءً على التَّرغيبِ في ثوابِ الآخرةِ؛ رغَّبَهم في هذه الآيةِ في الجهادِ بناءً على أنواعٍ أُخَرَ مِن الأمورِ المُقَوِّيةِ للدَّواعي، وهي ثلاثةُ أنواعٍ: قولُه تعالى: يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. الثاني: قولُه: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ. الثالث: قَولُه: وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا [656] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/48). .
وأيضًا فهذا وعيدٌ وتَهديدٌ عَقَّبَ به المَلامَ السَّابِقَ؛ لأنَّ اللَّومَ وقَعَ على تثاقُلٍ حصَلَ، ولَمَّا كان التَّثاقُلُ مُفْضِيًا إلى التخَلُّفِ عن القتالِ، صَرَّح بالوعيدِ والتَّهديدِ إن يعودُوا لمِثلِ ذلك التَّثاقُلِ [657] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/199). ، فقال:
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
أي: إنْ لم تُبادِروا- أيُّها المُؤمِنونَ- بالخُروجِ إلى الجهادِ بعد أن دُعِيتُم إليه، يُعَذِّبْكم اللهُ عَذابًا مُوجِعًا في الدُّنيا والآخرةِ [658] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/460، 461)، ((البسيط)) للواحدي (10/433)، ((تفسير ابن عطية)) (3/34)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/508، 509). قال ابنُ تيمية: (قد يكون العذابُ مِن عِندِه، وقد يكونُ بأيدي العِبادِ، فإذا ترك النَّاسُ الجِهادَ في سبيل الله، فقد يَبتَلِيهم بأن يُوقِعَ بينهم العداوةَ، حتى تقَعَ بينهم الفِتنةُ كما هو الواقِعُ؛ فإنَّ النَّاسَ إذا اشتَغَلوا بالجهادِ في سبيلِ الله، جمَعَ اللهُ قُلوبَهم وألَّف بينهم، وجعَلَ بأْسَهم على عَدُوِّ الله وعَدُوِّهم). ((مجموع الفتاوى)) (15/44). وقال السعدي: (عدمُ النَّفيرِ في حالِ الاستنفارِ، مِن كبائِرِ الذُّنوبِ المُوجِبةِ لأشَدِّ العقاب؛ لِمَا فيها من المضارِّ الشَّديدة، فإنَّ المُتخَلِّفَ قد عصى اللهَ تعالى، وارتكَبَ نَهْيَه، ولم يساعِدْ على نصرِ دِينِ الله، ولا ذَبَّ عن كتابِ الله وشَرْعِه، ولا أعان إخوانَه المُسلمينَ على عَدُوِّهم الذي يريدُ أن يستأصِلَهم، ويمحَقَ دينَهم، وربما اقتدى به غيرُه مِن ضُعَفاءِ الإيمانِ، بل ربما فَتَّ في أعضادِ مَنْ قاموا بجهادِ أعداءِ الله؛ فحقيقٌ بمَن هذا حالُه أن يتوعَّدَه اللهُ بالوعيدِ الشَّديدِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 337). .
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: إذا تبايَعْتُم بالعِينةِ، وأخَذْتُم أذنابَ البَقَرِ، ورَضِيتُم بالزَّرعِ، وتَرَكتُم الجهادَ- سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزِعُه، حتى تَرجِعوا إلى دينِكم )) [659] أخرجه أبو داود (3462) واللفظ له، وأحمد (5007)​، والطبراني في ((المعجم الكبير​)) ​(12/432) (13583). قال ابنُ القطانِ في ((الوهم والإيهام)) (5/771): له طريقٌ صحيحٌ​، و​صحَّح إسنادَه ابنُ تيمية في ((بيان الدليل)) (109​)، وقال ابنُ عبد الهادي في ((المحرر)) (315)​: رجالُ إسنادِه رجالُ الصحيحِ​، وصحَّحه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (11) بمجموعِ طرقِه. .
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ.
أي: ويَستَبدِلِ اللهُ سبحانه بكم قومًا آخَرينَ، أطوَعَ لله منكم، إذا استُنْفِروا إلى الجِهادِ أجابُوا، ونَصَروا دينَ الله عزَّ وجلَّ [660] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/461)، ((تفسير ابن عطية)) (3/34)، ((تفسير ابن كثير)) (4/154)، ((تفسير الخازن)) (2/360). قال الرازي: (المرادُ تَنبيهُهم على أنَّه تعالى متكفِّلٌ بنصرِه على أعدائِه، فإنْ سارَعوا معه إلى الخُروجِ حَصَلت النُّصرةُ بهم، وإن تخَلَّفوا وقعَتِ النُّصرةُ بغَيرِهم، وحصل العُتبى لهم؛ لئلَّا يتوهَّموا أنَّ غَلَبةَ أعداءِ الدينِ، وعِزَّ الإسلامِ، لا يحصُلُ إلَّا بهم... قال المحقِّقون: إنَّ هذه الآيةَ خِطابٌ لِمَن استنفَرَهم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يَنفِروا). ((تفسير الرازي)) (16/48). ويُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/368). .
كما قال سبحانه: إِنْ يَشَأْ يُذْهبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا [النساء: 133] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] .
وقال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا.
أي: ولا تَضُرُّوا اللهَ سُبحانَه شَيئًا؛ فهو غَنيٌّ عنكم، وناصِرٌ دينَه، وإنَّما تَضرُّونَ أنفُسَكم، بتَرْكِكم الجهادَ في سَبيلِه عزَّ وجلَّ [661] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/461)، ((تفسير ابن عطية)) (3/34)، ((تفسير ابن كثير)) (4/154)، ((تفسير الخازن)) (2/360)، ((تفسير السعدي)) (ص: 337)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/512). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 144] .
وقال سبحانه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: 7] .
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ قادِرٌ على فِعلِ كلِّ شيءٍ، لا يُعجِزُه شَيءٌ أراده سبحانَه، ومِن ذلك قُدرتُه على استبدال قومٍ آخرينَ بكم، وعلى نصرِ دينِه مِن دُونِكم [662] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/461)، ((تفسير الرازي)) (16/49)، ((تفسير ابن كثير)) (4/154). .
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا ذِكرُ طَريقٍ آخَرَ في ترغيبِهم في الجهادِ؛ وذلك لأنَّه تعالى ذكَرَ في الآيةِ الأولى أنَّهم إن لم يَنفِروا باستنفارِه، ولم يشتَغِلوا بنُصرَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّ اللهَ ينصُرُه بدليلِ أنَّ اللهَ نَصَره وقَوَّاه حالَ ما لم يكُنْ معه إلَّا رَجُلٌ واحِدٌ، فهاهنا أَوْلى [663] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/49). .
وأيضًا لَمَّا وصَفَ اللهُ تعالى نَفسَه الأقدَسَ بما هو له أهلٌ مِن شُمولِ القُدرةِ، وعَظيمِ البأسِ والقُوَّةِ؛ أتبع ذلك بدَليلٍ يتضَمَّنُ أنَّ المُستَنفِرَ لهم- وهو نبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- غيرُ مُحتاجٍ إليهم، ولا مُتَوقِّفٍ نَصرُه عليهم، كما لم يَحتَجْ إليهم- بحِياطةِ القادِرِ له- فيما مضى من الهجرةِ التي ذَكَرَها، وأنَّ نَفْعَ ذلك إنما هو لهم، باستجلابِ ما وُعِدُوه، واستِدْفاعِ ما أُوعِدُوه في الدَّارَينِ، قال تعالى [664] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/472). :
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ.
أي: إن تَترُكوا- أيُّها المُؤمِنونَ- نُصرةَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [665] ذكرَ الألوسيُّ أنَّ الضَّميرَ في قَولِه تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ يَرجِعُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اتِّفاقًا. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (5/287). على الكُفَّارِ، فسَينصُرُه اللهُ تعالى كما نَصَرَه مِن قَبلُ، حين اضطَرَّه كفَّارُ قُريشٍ إلى الخُروجِ مِن مكَّةَ [666] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/463)، ((البسيط)) للواحدي (10/435)، ((تفسير ابن عطية)) (3/35)، ((تفسير الرازي)) (16/49)، ((تفسير أبي حيان)) (5/420)، ((تفسير ابن كثير)) (4/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 337)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/513، 514). قال القرطبي: (هو خرَجَ بنَفْسِه فارًّا، لكِنْ بإلجائِهم إلى ذلك حتى فعَلَه، فنسَبَ الفِعلَ إليهم، ورتَّبَ الحُكمَ فيه عليهم؛ فلهذا يُقتَلُ الـمُكرِه على القَتلِ، ويَضمَنُ المالَ الـمُتْـلَـفَ بالإكراه؛ لإلجائِه القاتِلَ والـمُتْـلِـفَ إلى القَتلِ والإتلافِ). ((تفسير القرطبي)) (8/143). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/35)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/514). .
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ.
أي: نصَرَ اللهُ رسولَه محمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حين اضطُرَّ للخُروجِ مِن مكَّةَ، والحالُ أنَّه أحدُ اثنَينِ فحَسْبُ، ليس معه إلَّا أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه [667] قال ابنُ عاشور: (الاثنانِ هما النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ، بتواتُرِ الخَبَر، وإجماعِ المُسلِمينَ كُلِّهم؛ ولِكَونِ الثَّاني معلومًا للسَّامعين كُلِّهم، لم يُحتَجْ إلى ذِكْرِه، وأيضًا لأنَّ المقصودَ تَعظيمُ هذا النَّصرِ مع قِلَّةِ العَدَدِ). ((تفسير ابن عاشور)) (10/202). حين كانا مُختَفِيَينِ من كفَّارِ قُريشٍ في غارٍ في جبَلِ ثَورٍ [668] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/463، 464)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (2/119)، ((البسيط)) للواحدي (10/436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 337)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/530). قال ابن تيمية: (لا خلافَ بين أهلِ العِلمِ أنَّ الغارَ المذكورَ في القرآنِ، إنَّما هو غارٌ بجَبَل ثَورٍ، قريبٌ من مكَّةَ، معروفٌ عند أهلِ مَكَّةَ إلى اليومِ). ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/164). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (10/437). .
عن عائشةَ رَضِيَ الله عنها، قالت: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُسلِمينَ: ((إنِّي أُريتُ دارَ هجْرَتِكم، ذاتَ نَخلٍ بين لابَتَينِ- وهما الحَرَّتانِ- فهاجر مَن هاجَرَ قِبَل المدينةِ، ورجَعَ عامَّةُ مَن كان هاجَرَ بأرضِ الحَبَشةِ إلى المدينةِ، وتجهَّزَ أبو بكرٍ قِبَل المدينةِ، فقال له رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: على رِسْلِك [669] على رِسْلِك: أي: على مَهلِكَ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (6/217). فإنِّي أرجو أن يُؤذَنَ لي، فقال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنتَ؟ قال: نعم، فحَبَس أبو بكرٍ نَفسَه على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيصحَبَه، وعَلَف راحِلَتينِ- كانَتا عِندَه- وَرَقَ السَّمُرِ- وهو الخَبَطُ- أربعةَ أشهُرٍ. قالت عائشةُ: فبينما نحن يومًا جُلوسٌ في بيتِ أبي بكرٍ في نحرِ الظَّهيرةِ [670] نحرُ الظَّهيرةِ: وقتُ القائلةِ وشِدَّةِ الحَرِّ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/105). ، قال قائِلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتقنِّعًا، في ساعةٍ لم يكُن يأتينا فيها. فقال أبو بكرٍ: فِداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه السَّاعةِ إلَّا أمرٌ! قالت: فجاء رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاستأذَنَ، فأَذِنَ له فدخَلَ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكرٍ: أَخرِجْ مَنْ عِندك. فقال أبو بكرٍ: إنَّما هم أهلُك، بأبي أنت يا رسولَ الله! قال: فإنِّي قد أُذِنَ لي في الخُروجِ. فقال أبو بكرٍ: الصَّحابةَ [671] الصَّحابةَ: أي: أريدُ المُصاحَبةَ وأطلُبُها. يُنظر: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (15/117). بأبي أنت يا رسولَ الله. قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعم. قال أبو بكرٍ: فخُذ- بأبي أنت يا رسولَ الله- إحدى راحِلَتيَّ هاتينِ، قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بالثَّمَنِ. قالت عائشةُ: فجَهَّزْناهما أحَثَّ الجَهازِ [672] أحَثَّ الجَهازِ: أي: أسرَعَه وأعجَلَه. يُنظر: ((طرح التثريب في شرح التقريب)) للعراقي (7/275). ، وصَنَعْنا لهما سُفرةً في جِرابٍ [673] سُفرةً في جِرابٍ: أي: زادًا في جِرابٍ؛ لأنَّ أصلَ السُّفرةِ في اللُّغةِ الزَّادُ الذي يُصنَعُ للمُسافِرِ، ثمَّ استُعمِلَ في وعاءِ الزَّادِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/132). ، فقطَعَت أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ قِطعةً مِن نِطاقِها [674] النِّطاقُ: ما يُشَدُّ به الوسَطُ. يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (6/11). ، فربَطَت به على فَمِ الجِرابِ؛ فبذلك سُمِّيَت ذاتَ النِّطاقَينِ، قالت: ثم لَحِقَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ بغارٍ في جبَلِ ثَورٍ، فَكَمِنا [675] فكَمِنا: أي: اختَفَيا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/237). فيه ثلاثَ ليالٍ، يَبيتُ عندهما عبدُ الله بنُ أبي بكرٍ، وهو غلامٌ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ [676] ثَقِفٌ لَقِنٌ: الحاذِقُ السَّريعُ الفَهمِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/237). فيُدلِجُ [677] يُدْلِجُ: أي يَخرُجُ بسَحَرٍ إلى مكَّة. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/237). مِن عِندِهما بسَحَرٍ، فيُصبِحُ مع قريشٍ بمكَّةَ كبائِتٍ، فلا يسمَعُ أمرًا يُكتادانِ به إلَّا وَعاه، حتى يأتِيَهما بخبرِ ذلك حينَ يَختلِطُ الظَّلامُ، ويرعى عليهما عامِرُ بن فُهَيرةَ- مولى أبي بكرٍ- مِنْحةً مِن غَنَمٍ [678] مِنْحة مِن غَنَم: شاةٌ يُعطيها الرَّجُلُ غَيرَه؛ ليحلِبَها ثمَّ يَرُدَّها إليه. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (8/430). ، فيُريحُها [679] فيُريحُها: أَي: فيَرُدُّها إلى المَراحِ، وهو مأواها في الليلِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (21/310)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 267). عليهما حين تذهَبُ ساعةٌ مِن العِشاءِ، فيَبيتانِ في رِسْلٍ- وهو لبَنُ مِنحَتِهما ورَضِيفِهما- حتى ينعِقَ بها [680] ينعق بها: أي: يصيح بغنمه. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7 /237). عامرُ بن فُهَيرةَ بِغَلَسٍ [681] الغَلَسُ: هو ظَلامُ آخِرِ اللَّيلِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (6/218). يفعَلُ ذلك في كلِّ ليلةٍ مِن تلك الليالي الثَّلاثِ، واستأجَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ رَجُلًا من بني الدِّيلِ هاديًا خِرِّيتًا- والخِرِّيتُ الماهرُ بالهدايةِ- وهو على دينِ كُفَّارِ قُريشٍ، فأَمِناه فدَفَعا إليه راحِلَتَيهما، وواعَداه غارَ ثَورٍ بعد ثلاثِ لَيالٍ، براحِلَتَيهما صُبحَ ثلاثٍ، وانطلَقَ معهما عامِرُ بنُ فُهَيرةَ، والدَّليلُ، فأخَذَ بهم طريقَ السَّواحِلِ )) [682] رواه البخاري (3905). .
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ.
أي: إذ يقولُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِصاحِبِه أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: لا تحزَنْ- يا أبا بكرٍ- لأنَّ اللهَ مَعَنا بنَصْرِه وحِفْظِه، ولن يَصِلَ المشركونَ إلينا [683] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/464)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (2/119)، ((تفسير الرازي)) (16/51)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/381)، ((تفسير السعدي)) (ص: 337)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/530). قال السمعاني: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه أي: لأبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، باتِّفاقِ أهلِ العِلمِ). ((تفسير السمعاني)) (2/311). وقال السعدي: (أجمع المُسلِمونَ على أنَّه هو المرادُ بهذه الآيةِ الكريمة؛ ولهذا عَدُّوا مَن أنكَرَ صُحبةَ أبي بكرٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كافِرًا؛ لأنَّه مُنكِرٌ للقُرآنِ الذي صَرَّحَ بها). ((تفسير السعدي)) (ص: 338). ويُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/530). .
عن أنسِ بنِ مالكٍ، أنَّ أبا بكرٍ الصِّديقَ رَضِيَ الله عنه حَدَّثَه، قال: ((نظَرْتُ إلى أقدامِ المُشرِكينَ على رُؤوسِنا ونحن في الغارِ، فقلتُ: يا رسولَ الله، لو أنَّ أحَدَهم نظَرَ إلى قَدَمَيه أبصَرَنا تحت قَدَمَيه! فقال: يا أبا بكرٍ، ما ظَنُّك باثنينِ اللهُ ثالِثُهما؟)) [684] رواه البخاري (4663)، ومسلم (2381) واللفظ له. .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو كُنتُ مُتَّخِذًا مِن أمَّتي خليلًا، لاتَّخَذتُ أبا بكرٍ، ولكِنْ أخي وصاحِبي)) [685] رواه البخاري (3656) واللفظ له، ومسلم (2383). .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عليَّ في مالِه وصُحبَتِه أبو بكرٍ، ولو كنتُ مُتَّخذًا خَليلًا، لاتَّخَذتُ أبا بكرٍ خَليلًا، ولكِنْ أخُوَّةُ الإسلامِ، لا تَبقَينَّ في المسجِدِ خَوْخَةٌ [686] الخَوخَةُ: البابُ الصَّغيرُ بين البَيتَينِ أو الدَّارينِ ونحوه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (15/151). إلَّا خَوخةُ أبي بكرٍ )) [687] رواه البخاري (3904)، ومسلم (2382) واللفظ له. .
فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ.
أي: فأنزَلَ اللهُ الطُّمأنينةَ والثَّباتَ على رسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [688] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/171)، ((تفسير ابن جرير)) (11/467)، ((تفسير ابن عطية)) (3/36)، ((تفسير ابن جزي)) (1/338)، ((تفسير ابن كثير)) (4/155)، ((تفسير القاسمي)) (5/419)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/203)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/531). والقولُ بأنَّ الضَّميرَ في عَلَيْه عائدٌ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو اختيارُ مقاتلِ بن سليمان، وابنِ جريرٍ، وابنِ عطيةَ، وابنِ جُزيٍّ، وابنِ كثيرٍ، والقاسميِّ، والسعدي، وابنِ عاشورٍ، والشنقيطي. وعزاه ابنُ عطيةَ إلى الجمهورِ. يُنظر: المصادر السابقة، و((تفسير ابن الجوزي)) (2/261). وقيل: فأنزل اللهُ طُمأنينَتَه على أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عنه. واختاره النحَّاس، والواحدي، وابن العربي، والرازي، والبيضاوي. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 186)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1801)، ((معاني القرآن)) للنحاس (3/210)، ((البسيط)) للواحدي (10/442)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/513)، ((تفسير الرازي)) (16/52)، ((تفسير البيضاوي)) (3/81). وممَّن قال مِن السلفِ أنَّ الضَّميرَ في عليه عائدٌ على أبي بكرٍ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عباسٍ، وحبيبُ بنُ أبي ثابتٍ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1801)، ((تفسير ابن كثير)) (4/155)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/261). وقيل: فأنزل الله طُمأنِينَتَه على النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وعلى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ. وهو قولُ المُبَرِّد، واختاره ابنُ الأنباري. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (10/441)، ((تفسير أبي حيان)) (5/422). .
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا.
أي: وقَوَّى اللهُ رسولَه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأعانَه بجُنودٍ مِن الملائكةِ، لم تَرَوْها أنتم [689] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/467)، ((تفسير ابن كثير)) (4/155)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/532). قال ابنُ الجوزي: (قوله تعالى: وَأَيَّدَهُ أي: قوَّاه، يعني النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بلا خلافٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/261). وقال الواحدي: (قوله تعالى: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا، قال ابن عباس: يريد: وقَوَّاه بجنودٍ لم تَرَوْها، يريد: الملائكةَ، يَدعونَ اللهَ له، وقال الزجَّاج: أيَّدَه بملائكةٍ يَصرِفونَ وجوهَ الكُفَّارِ وأبصارَهم عن أن يَرَوه، وقال غيرُه: يعني ما كان من تقويةِ الملائكةِ لِقَلبِه بالبِشارةِ بالنَّصرِ مِن رَبِّه، ومن إلقاءِ اليأسِ في قُلوبِ المُشرِكينَ حتى انصَرَفوا خائِبينَ، وهذه الأقوالُ على أنَّ هذا التأييدَ بالملائكةِ كان في الغارِ). ((البسيط)) (10/442). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/52)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/204، 205)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/532). .
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى.
أي: وجعَلَ اللهُ كَلِمةَ الكُفَّارِ- وهي الشِّركُ والكُفرُ- حقيرةً مَقهورةً، منحَطَّةً وساقطةً، فأذَلَّ اللهُ الشِّركَ وأهْلَه، وخَذَلهم ودَحَرَهم [690] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/467)، ((البسيط)) للواحدي (10/443)، ((تفسير النسفي)) (1/681)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/205)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/532). .
وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا.
أي: وكَلِمةُ الله- وهي كَلِمةُ التَّوحيدِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ودينُه الذي شَرَعه لعبادِه- هي الغالِبةُ المنصورةُ على الشِّركِ وأهْلِه [691] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/467)، ((تفسير ابن عطية)) (3/36)، ((تفسير النسفي)) (1/681)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/533). وقال السعدي: (قوله وَكَلِمَةُ اللَّه هيَ الْعُلْيَا أي: كَلِماتُه القَدَريَّةُ وكَلِماتُه الدِّينيةُ؛ هي العاليةُ على كَلِمةِ غَيرِه، التي من جُملَتِها قَولُه تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] ، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 173] ، فدِينُ الله هو الظَّاهرُ العالي على سائِرِ الأديانِ، بالحُجَجِ الواضحةِ، والآياتِ الباهرةِ، والسُّلطانِ النَّاصِرِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 338). .
عن أبي موسى الأشعريِّ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سُئِلَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرَّجُلِ يُقاتِلَ شَجاعةً، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقاتِلُ رِياءً، أيُّ ذلك في سبيلِ الله؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن قاتَلَ لِتَكونَ كَلِمةُ الله هي العُليا، فهو في سبيلِ الله )) [692] رواه البخاري (2810)، ومسلم (1904) واللفظ له. .
وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
واللهُ عَزيزٌ في انتقامِه وانتصارِه مِن الكُفَّارِ، لا يقهَرُه، ولا يَغلِبُه شَيءٌ، ولا يفوتُه أحَدٌ، قاهرٌ غالِبٌ، مَنيعُ الجَنابِ، لا يُضامُ مَن لاذ ببابِه، حكيمٌ في أقوالِه وأفعالِه، وفي تدبيرِه خَلْقَه، يضَعُ سُبحانَه الأشياءَ موَاضِعَها اللَّائِقةَ بها، وقد يؤخِّرُ نَصرَ حِزبِه إلى وقتٍ آخَرَ [693] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/467)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/262)، ((تفسير الرازي)) (16/55)، ((تفسير ابن كثير)) (4/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/533). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ على قَدْرِ رَغبةِ العَبدِ في الدُّنيا ورِضاه بها، يكونُ تَثاقُلُه عن طاعةِ الله، وطَلَبِ الآخرةِ [695] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 96). .
2- قال الله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ متاعُ الدُّنيا في جَنْبِ متاعِ الآخرةِ، قليلٌ حَقيرٌ، وسعادةُ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلى سعادةِ الآخرةِ، كالقَطرةِ في البَحرِ، وتَرْكُ الخيرِ الكَثيرِ لأجلِ الشَّرِّ القليلِ، شَرٌّ عَظيمٌ، وهو جَهلٌ وسَفَهٌ [696] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/47)، ((تفسير ابن عادل)) (10/93)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/470). .
3- قال اللهُ تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذه الآيةُ فيها سِرٌّ عَظيمٌ يعلَمُ به الإنسانُ أنَّ كُلَّ ما يفعَلُه إنَّما أثَرُه راجِعٌ إلى نَفسِه، فإن كان شَرًّا فهو يجني شَرًّا على نَفسِه، وإن كان خَيرًا فهو يجلِبُ الخيرَ لِنَفسِه إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [697] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/508). .
4- مَن كان اللهُ تعالى معه بعِزَّتِه التي لا تُغلَب، وقُدرَتِه التي لا تُقهَر، ورَحمَتِه التي قام ويقومُ بها كلُّ شَيءٍ- فهو حقيقٌ بألَّا يستسلِمَ لِحُزنٍ ولا خوفٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [698] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/369). .
5- قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا اللهُ جلَّ وعلا يَشرَعُ بأفعالِ رُسُلِه وأقوالِهم لِخَلقِه؛ فاللهُ جلَّ وعلا مع عظَمَتِه وجَلالِه وتَصريحِ النَّبيِّ بأنَّه معه، وأنَّ اللهَ أيَّدَه بجُنودِ الملائكةِ، مع هذا يدخُلُ في غارٍ في ظلمةِ اللَّيلِ، والغارُ فيه الحيَّاتُ وخَشاشُ الأرضِ؛ لِيَسُنَّ للنَّاسِ ويَشرَعَ لهم حَملَ أعباءِ تَبليغِ الرِّسالةِ والدَّعوة، وأن يتحَمَّلوا في شأنِ الدَّعوةِ إلى الله كُلَّ البَلايا والمشاقِّ، ويَستَهينوا فيها بكلِّ عَظيمٍ، هذا هو السِّرُّ في ذلك [699] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/532). .
6- في قولِ الله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ أنَّ الحُزنَ قد يَعرِضُ لخَواصِّ عِبادِ الله الصِّدِّيقِينَ، ولا ينقصُهم إضافةُ الحزنِ إليهم، مع أنَّ الأَوْلى إذا نزَلَ بالعبدِ أن يَسعى في ذَهابِه عنه؛ فإنَّه مُضعِفٌ للقَلبِ، مُوهنٌ للعَزيمةِ، ولم يكنْ حُزنُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عنه لشَكٍّ وحَيرةٍ، وإنَّما كان خوفًا على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَصِلَ إليه ضَرَرٌ [700] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:337). . وقيل: ليس في نهيِ أبي بكرٍ عن الحُزنِ ما يدُلُّ على وجودِه، بل قد يُنهى عنه؛ لئلَّا يُوجَدَ إذا وُجِدَ مُقتَضيه، فالنَّهيُ عن الشَّيءِ لا يدُلُّ على وقوعِه، بل يدُلُّ على أنَّه ممنوعٌ منه؛ لئلَّا يقَعَ فيما بعدُ، كقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1] ، فهذا لا يدُلُّ على أنَّه كان يُطيعُهم. فقَولُه لَا تَحْزَنْ لا يدُلُّ على أنَّ الصِّدِّيقَ كان قد حَزِنَ، لكنْ مِن المُمكِنِ في العَقلِ أنَّه يحزَنُ، فقد يُنهى عن ذلك؛ لئلَّا يفعَلَه [701] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/457، 464). .
7- قَولُه تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا في الآيةِ فَضيلةُ السَّكينةِ، وأنَّها مِن تمامِ نِعمةِ الله على العَبدِ في أوقاتِ الشَّدائدِ والمخاوفِ التي تَطيشُ بها الأفئدةُ، وهي تكونُ على حسَبِ مَعرفةِ العَبدِ برَبِّه، وثِقَتِه بِوَعدِه الصَّادِقِ، وبحَسَبِ إيمانِه وشَجاعَتِه [702] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:337). .
8- كلُّ مَن وافَقَ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أمرٍ خالفَ فيه غَيرَه؛ فهو من الذينَ اتَّبَعوه في ذلك؛ وله نصيبٌ مِن قَولِه تعالى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا؛ فإنَّ المعيَّةَ الإلهيَّةَ المتضَمِّنةَ للنَّصرِ هي لِما جاء به إلى يومِ القِيامةِ [703] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/37). .
9- قولُه تعالى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فيه أنَّه لا حُزنَ مع الله، وأنَّ مَن كان اللهُ معه، فما له وللحُزنِ؟ وإنَّما الحُزنُ كلُّ الحُزنِ لِمَن فاته اللهُ، فمن حصَلَ اللهُ له، فعلى أيِّ شَيءٍ يَحزَنُ؟ ومن فاته اللهُ فبأيِّ شَيءٍ يَفرَحُ [704] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 280). ؟
10- والمعيَّةُ في قَولِه تعالى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا معيَّةٌ خاصَّةٌ، غيرُ قَولِه تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة: 7] فالمعيَّةُ الخاصَّةُ تقتضي حُسنَ الظَّنِّ بإجابَتِه سُبحانَه، ورِضاه وحِفْظَه وصِيَانَتَه، وأمَّا المعيَّةُ العامَّةُ فتَقتَضي التَّحذيرَ مِن عِلمِه، واطِّلاعِه وقُدرَتِه، وبَطْشِه وانتِقامِه [705] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (2/333). .
11- قال الله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هذانِ الاسمانِ مِن أسماءِ الله: (العَزيزُ الحكيمُ) المتضَمِّنانِ هاتَينِ الصِّفَتينِ مِن صِفاتِ الله، وهي عِزُّه وحِكمَتُه وحُكْمُه- هما أبلَغُ شَيءٍ في امتثالِ أمْرِه وطاعَتِه جَلَّ وعلا؛ لأنَّ عِزَّتَه- أي: غَلَبَتَه وقُوَّتَه وقَهْرَه وسُلطانَه- يجعَلُك أيُّها المِسكينُ، تخافُه وتخضَعُ لأمْرِه ونَهْيِه، وكونُه جلَّ وعلا حكيمًا لا يأمُرُك إلَّا بما فيه لك الخَيرُ، ولا ينهاك إلَّا عمَّا فيه لك الشَّرُّ؛ ذلك يقتضِي أيضًا أن تُطيعَه وتخضعَ لأمْرِه ونَهيِه [706] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/533). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ بُنِي (قيل) للمَفعولِ، والقائِلُ هو الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يُذكَرْ؛ إغلاظًا ومُخاشنةً لهم، وصَونًا لِذِكرِه؛ إذ أخلَدَ إلى الهُوَينا والدَّعةِ مَن أخلَدَ، وخالَفَ أمْرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [707] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/419). .
2- قَولُه تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ خِطابٌ لكلِّ قرْنٍ، وقد أَخبَرَ فيه أنَّه مَن نَكَل عن الجهادِ المأمورِ به، نَزَعَ الأمرَ منه، وعذَّبَه، واستبدَلَ به مَن يقومُ بالجهادِ- وهذا هو الواقِعُ- وإنَّ هذا الدِّينَ لِمَن ذَبَّ عنه [708] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/301)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (5/300). .
3- قولُ الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا دلَّ على فضيلةِ أبي بكرٍ رَضِيَ الله عنه من وجوهٍ؛ منها: الأول: أنَّ الهجرةَ كانت بإذنِ الله تعالى، وكان في خِدمةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جماعةٌ مِن المُخلِصينَ، وكانوا في النَّسَبِ إلى شجرةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقرَبَ من أبي بكرٍ؛ فتخصيصُ الله إيَّاه بهذا التَّشريفِ دلَّ على منصبٍ عالٍ له في الدِّينِ. الثاني: أنَّه تعالى سَمَّاه ثَانِيَ اثْنَيْنِ فجُعِل ثانيَ مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حالَ كَونِهما في الغارِ، والعلماءُ أثبتوا أنَّه رَضِيَ الله عنه كان ثانيَ محمَّدٍ في أكثَرِ المناصِبِ الدينيَّةِ. الثالث: أنَّه تعالى وصَفَ أبا بكرٍ بِكَونِه صاحِبًا للرَّسولِ، وذلك يدلُّ على كمالِ الفَضلِ. الرابع: قَولُه: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ولا شَكَّ أنَّ المرادَ مِن هذه المعيَّةِ: المعيَّةُ بالحِفظِ والنُّصرةِ، والحِراسةِ والمَعونةِ، وبالجملةِ فالرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسُّلام شَرَكَ بين نفسِه وبين أبي بكرٍ في هذه المعيَّةِ، وذلك منصِبٌ في غايةِ الشَّرفِ [709] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/50-52). .
4- قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ... في هذه الآيةِ دَليلٌ على جوازِ الفِرارِ مِن خَوفِ العَدُوِّ، والاستخفاءِ في الغِيرانِ وغيرِها، وعدمِ الاستسلامِ المؤَدِّي إلى الآلامِ والهُمومِ، وألَّا يُلقِيَ بيَدِه إلى العدُوِّ؛ توكُّلًا على الله، واستسلامًا له، ولو شاء ربُّكم لعَصَمه مع كَونِه معهم، ولكِنَّها سُنَّةُ الأنبياءِ، وسِيرةُ الأمَمِ، حَكَمَ اللهُ بها لتكونَ قُدوةً للخَلقِ، وأنمُوذجًا في الرِّفقِ، وعمَلًا بالأسبابِ، وهذا أدَلُّ دليلٍ على فسادِ مَن منعَ ذلك، وقال: من خافَ مع الله سِواه كان ذلك نقصًا في توكُّلِه، ولم يؤمِنْ بالقَدَرِ. وهذا كلُّه في معنى الآية، ولله الحَمدُ والهداية [710] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/514)، ((تفسير القرطبي)) (8/145). .
5- في قَولِه تعالى: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ إلى قَولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بيانُ أنَّ نَصْرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَرْضٌ علينا؛ لأنَّه مِن التَّعزيرِ المَفروضِ؛ ولأنَّه مِن أعظَمِ الجِهادِ في سبيلِ الله؛ ولذلك قال سُبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّه كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه [711] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 209). [الصف: 14] .
6- قال الله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لَا تَحْزَنْ .. جعَلَ أبا بكرٍ في مقابلةِ الصَّحابةِ أجمَعَ، فقال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحبه في الغار، بتأنيسِه له، وحَمْلِه على عُنُقِه، ووفائِه له بوقايتِه له بنفسِه، وبمواساتِه بمالِه، وبهذه الفضائِلِ استحَقَّ أن يقالَ فيه: ((لو كنتُ مُتَّخِذًا خَليلًا لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خَليلًا)) [712] أخرجه البخاري (3904)، ومسلم (2382) واللفظ له من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وسبقت له بذلك كُلِّه الفضيلةُ على النَّاسِ [713] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/513، 514). . قال سفيانُ بنُ عُيَينةَ: خرج أبو بكرٍ بهذه الآيةِ مِن المعاتَبةِ التي في قَولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ [714] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/36). . وقال الشَّعبي: عاتبَ اللهُ عزَّ وجَلَّ أهلَ الأرضِ جميعًا في هذه الآيةِ غيرَ أبي بكرٍ الصِّديقِ رَضِيَ اللهُ عنه [715] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/349). .
7- قال اللهُ تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ أبو بكرٍ الصِّديقُ رَضِيَ الله عنه هو الثَّاني في الإسلامِ، وفي بذْلِ النَّفسِ، وفي الزُّهدِ، وفي الصُّحبةِ، وفي الخِلافةِ، وفي العُمُرِ، وفي سبَبِ الموتِ؛ لأنَّ الرَّسولَ مات عن أثَرِ السُّمِّ، وأبو بكرٍ سُمَّ فمات [716] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 72). .
8- قال بعضُ العُلَماءِ: في قَولِه تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ما يدلُّ على أنَّ الخليفةَ بعد النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عنه؛ لأنَّ الخليفةَ لا يكونُ أبدًا إلَّا ثانًيا [717] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/147، 148). .
9- قولُه تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه لا يختَصُّ بمُصاحَبتِه في الغارِ، بل هو صاحِبُه المُطلَقُ الذي كَمُلَ في الصُّحبةِ كَمالًا لم يَشْرَكْه فيه غَيرُه، فصار مُختَصًّا بالأكمَليَّةِ مِن الصُّحبةِ [718] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/416). .
10- وُحِّدَ الضميرُ في عَلَيْهِ مِن قَولِه تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا؛ لأنَّ نزولَ السَّكينةِ على أحَدِهما يستلزِمُ مُشاركةَ الآخَرِ له؛ إذ مُحَالٌ أن يَنزِلَ ذلك على الصَّاحِبَ دونَ المصحوبِ، أو على المصحوبِ دونَ الصَّاحِبِ المُلازِمِ، فلمَّا كان لا يحصُلُ ذلك إلَّا مع الآخَرِ وَحَّد الضميرَ، وأعاده إلى الرَّسولِ؛ فإنَّه هو المقصودُ، والصَّاحبُ تابِعٌ له، ولو قيل: (فأنزل السَّكينةَ عليهما وأيَّدَهما)؛ لأوهَمَ أنَّ أبا بكرٍ شريكٌ في النبوَّةِ! كهارونَ مع موسى؛ حيث قال تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا [719] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (8/491). [القصص: 35] .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ
- قولُه: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ اسْتِفهامٌ مَعْناهُ الإنكارُ والتَّقريعُ؛ فإنَّه وإنْ كان في الظَّاهرِ اسْتِفهامًا، إلَّا أنَّ المُرادَ منه المُبالغةُ في الإنكارِ [720] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/47)، ((تفسير أبي حيان)) (5/419)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/197). .
- وقولُه: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ... فيه تَمْثيلٌ لحالِ الكارِهينَ للغَزْوِ، المُتطلِّبينَ للعُذْرِ عَنِ الجِهادِ كسلًا وجُبْنًا، بحالِ مَنْ يُطْلَبُ منه النُّهوضُ والخُروجُ، فيُقابِلُ ذلك الطَّلَبَ بالالْتِصاقِ بالأرضِ، والتَّمكُّنِ مِنَ القُعودِ، فيَأبى النُّهوضَ فضلًا عن السَّيرِ [721] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/197-198). ، وعُدِّي التَّثاقُل بـ(إلى)؛ لأنَّه ضُمِّنَ معنى الميلِ والإخلادِ، كأنَّه تَثاقُلٌ يَطلُب فاعلُه الوصولَ إلى الأرضِ؛ للقُعودِ والسُّكونِ بها [722] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/992)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/197). .
- وفيه تعريضٌ بأنَّ بُطْأَهم ليس عن عَجزٍ، ولكنَّه عن تَعلُّقٍ بالإقامةِ في بلادِهم وأموالِهم [723] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/197). .
- قولُه: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ هذا الاسْتِفهامُ فيه نوعٌ مِنَ الإنكارِ والتَّعجُّبِ؛ فهو اسْتِفهامٌ إنكاريٌّ تَعجُّبيٌّ [724] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/419)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/198). .
- واخْتيرَ فِعْلُ الرِّضا في قولِهِ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا دونَ نَحو: (آثرتُمْ) أو (فضَّلتُمْ)؛ مُبالغةً في الإنكارِ؛ لأنَّ فِعْلَ (رَضِي بكذا) يَدُلُّ على انْشِراحِ النَّفْسِ [725] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/419)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/198). .
- قولُه: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ترشيحُ الحياةِ الدُّنيا بما يؤذِنُ بنَفاستِها، ويَسْتدعي الرَّغبةَ فيها، وتَجْريدُ الآخِرةِ عَنْ مِثلِ ذلك، وتَخصيصُها بالذِّكرِ هنا- مبالغةٌ في بَيانِ حَقارةِ الدُّنيا ودَناءتِها، وعِظَمِ شأنِ الآخِرةِ وعُلوِّها [726] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/65). .
- وفيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيثُ قال: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ولَمْ يَقُلْ: فما مَتاعُها-؛ لزِيادةِ التَّقريرِ [727] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/65). .
2- قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- قولُه: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ فيه وَصْفُهم بالمُغايرةِ لهم؛ لتَّأكيدِ الوعيدِ، والتَّشديدِ في التَّهديدِ بالدَّلالةِ على المُغايرةِ الوَصْفيَّةِ [728] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/65). .
- قولُه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييلٌ للكلامِ؛ لأنَّهُ يُحقِّقُ مَضمونَ لَحاقِ الضُّرِّ بِهِم؛ لأنَّهُ قَديرٌ عليهم في جُمْلةِ كُلِّ شَيءٍ، وعدَمُ لَحاقِ الضُّرِّ بِهِ؛ لأنَّهُ قَديرٌ على كُلِّ شيءٍ؛ فدَخَلتِ الأشياءُ التي مِنْ شأنِها الضُّرُّ [729] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/200). ؛ ففي خِتامِ الآيةِ بقولِهِ: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ فإنَّه سُبْحانَه لَمَّا رَتَّبَ على انْتِفاءِ نَفْرِهِم التَّعذيبَ والاسْتِبدالَ وانْتِفاءَ الضَّررِ، أَخْبَر تعالى أنَّه على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ؛ مِنَ التَّعذيبِ والتغييرِ وغيرِ ذلك [730] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/420). .
3- قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
- قولُه تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ استئنافٌ بَيانيٌّ لقولِه: وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لأنَّ نَفْيَ أنْ يكونَ قُعودُهُم عَنِ النَّفيرِ مُضِرًّا باللهِ ورسولِهِ، يُثيرُ في نَفْسِ السَّامِعِ سؤالًا عن حُصولِ النَّصْرِ بدونِ نَصيرٍ؛ فبيَّنَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُه، كما نَصَرَه حَينَ كان ثانيَ اثْنينِ لا جَيشَ مَعَه؛ فالذي نَصَرَه حين كان ثانيَ اثْنينِ قديرٌ على نَصْرِهِ وهو في جيشٍ عظيمٍ، فتبيَّنَ أنَّ تَقديرَ قُعودِهِمْ عن النَّفيرِ لا يَضُرُّ اللهَ شيئًا [731] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/200-201). .
- وفي قولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ حُذِفَ الجزاءُ، وأقيمُ سببُه مَقامَه، والتَّقديرُ: إنْ لم تَنْصروه فسَيْنصرَهُ اللهُ الذي قد نَصَرَه في وقتِ ضرورةٍ أَشدَّ مِنْ هذه المرَّةِ، أو: إنْ لَمْ تَنْصروهُ فَقَدْ أوْجَب له النُّصْرةَ حتَّى نَصَرَه في مِثْلِ ذلك الوَقْتِ، فلَنْ يَخذلَه في غيرِه [732] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/66). .
- وجُمْلةُ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مُستأنَفةٌ بمنزلةِ التَّذييلِ للكلامِ؛ لأنَّه لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ كلمةِ الذين كَفَروا بأنَّها صارتْ سُفْلى، أفادَ أنَّ العَلاءَ انَحْصرَ في دِينِ اللهِ وشأنِه؛ فضَميرُ الفَصْلِ هِيَ مُفيدٌ للقَصْرِ؛ ولذلك لَمْ تُعْطَفْ وَكَلِمَةُ اللَّهِ على كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ إذْ ليس المُقصودُ إفادةَ جعْلِ كَلِمةِ اللهِ عُلْيا؛ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ الجَعْلُ مِنْ إحداثِ الحالةِ، بِل المَقصودُ إفادةُ أنَّ العلاءَ ثابتٌ لها، ومَقْصورٌ عليها، وأنَّها في نَفْسِها كذلك لا يَتبدَّلُ شأنُها، ولا يَتغيَّرُ حالُها دونَ غَيرِها مِنَ الكَلِمِ؛ ولذلك وُسِّطَ ضميرُ الفصلِ؛ فكانتِ الجُملةُ كالتَّذييلِ لَجَعْلِ كلمةِ الذين كَفَروا سُفْلى [733] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/67)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/205). وهذا الوجهُ لا يَتأتَّى في قِراءة (وكَلِمَةَ اللهِ هِي العُلْيَا) بالنَّصب عطفًا على كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا. .
- وقولُه: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تذييلٌ لمضمونِ الجُمْلتينِ: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ لأنَّ العزيزَ لا يَغْلِبُه شيءٌ، والحكيمُ لا يَفوتُه مَقْصِدٌ؛ فلا جَرَمَ أنْ تَكونَ كلمتُه العُليا، وكَلِمةُ ضدِّهِ السُّفْلى [734] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/206). ، وناسَبَ هنا الوصْفُ بالعِزَّةِ الدَّالَّةِ على القَهْرِ والغَلَبَةِ، والحِكْمةِ الدَّالَّةِ على ما يَصْنَعُ مع أنبيائهِ وأوليائهِ، ومَنْ عاداهُم مِنْ إعزازِ دِينِه، وإخمادِ الكُفْرِ [735] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/422). .