موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (54 - 56)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ

غريب الكلمات :

يَرْتَدَّ: أي: يَرجِعْ مِن الإسلامِ إلى الكُفر، مِن الرِّدَّة والارتدادِ، والرِّدَّةُ تختصُّ بالكُفر، والارتداد يُستعمَلُ فيه وفي غَيرِه [1060]  يُنظر: ((المفردات)) للراغب (1/349). .
أَذِلَّةٍ: أي: لَيِّنِين لهم، مِن قولهم: دابَّةٌ ذَلولٌ، أي: مُنقادةٌ ليِّنةٌ سهلةٌ، وأصلُ الذُّلِّ: الخُضوعُ والاستكانةُ واللِّين، وهو ضِدُّ العِز [1061] يُنظَر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/314)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/345)، ((المفردات)) للراغب (1/330)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 78- 152). .
أَعِزَّةٍ: يُغالِبونَ الكفَّارَ ويمانعونهم، يُقال: عزَّه يعُزُّه عزًّا إذا غَلَبه؛ من العَزازِ: وهي الأرض الصُّلبة، وأصل العِزَّة: الشِّدَّة والقوَّة وأمثالهما مِن الغَلبة والقَهر [1062] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/38)، ((المفردات)) للراغب (ص: 563). .
فَضْلُ اللهِ: عطاؤُه، وأصلُ الفضل الزِّيادة؛ وكلُّ عطيةٍ لا تَلزمُ مَن يُعطِي، يُقال لها: فضلٌ، والإفضالُ: الإحسانُ [1063] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 19)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/508)، ((المفردات)) للراغب (ص: 639)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 72). .
حِزْبَ اللهِ: أي: أنصارَ اللهِ، أو جُنْدَه وجموعَه، والحزبُ: جماعةٌ فيها غِلَظ، وقيل: الحزب: الوليُّ، واشتقاقُه من قولهم: تحزَّب القومُ، أي: اجتَمَعوا، وأَصْلُ (حزب): يدلُّ على تجمُّعِ شيءٍ [1064]  يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/55)، ((المفردات)) للراغب (ص: 231)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 152). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّن اللهُ سُبحانَه للمُؤمنين أنَّ مَن يَرجِعْ منهم عن دِينِه الحقِّ إلى الكُفر، فسوف يأتي اللهُ- عِوَضًا عمَّنِ ارتدَّ- بقومٍ خيرٍ منهم، مِن صفاتهم أنَّهم يحبُّهم اللهُ سبحانه وتعالى ويُحبُّونه، وأنهم رحماءُ بإخوانهم المؤمنين، مُتواضِعون لهم، أشدَّاءُ على الكافِرين، يُقاتلونَ في سبيلِ اللهِ ولإعلاء كلمته، وإعزازِ دينه، وأنَّهم في حِرصِهم على ما يُرضي اللهَ سبحانه لا يَخافون لومًا من أيِّ لائمٍ، ثم بيَّن تعالى أنَّ ما هم فيه مِن الصِّفاتِ الحميدة، والمناقِب الجَليلةِ المذكورةِ هي مِن فضْلِه جلَّ وعلا، وفضلُ اللهِ يُؤتيه مَن يشاء، وهو سبحانه واسعٌ عليمٌ.
ثم بَيَّن سبحانَه مَن تجِبُ موالاتُهم، بعدَ النَّهى عن تولِّى مَن تجبُ معاداتُهم، فقال: إنَّما وليُّكم الله- فلا ناصرَ لكم إلَّا هو سبحانه وتعالى، فهو المرجوُّ وحدَه في الشَّدائدِ- ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- الذي أخرجكم الله به مِن الكفرِ إلى الإيمانِ- والمؤمنونَ الذين يُقيمونَ الصَّلاةَ على وجهِها، ويُعطون الزكاةَ لمستحقِّيها، وهم خاضعونَ ذليلون للهِ، ثم بيَّن سبحانه حُسنَ عاقبةِ الذين يوالون اللهَ ورسولَه والمؤمنين بأنَّ مَن يتَّخذِ اللهَ ورسولَه والمؤمنينَ أولياءَ فإنَّه من أنصارِ الله، وأنصارُه عزَّ وجلَّ هم الغالِبون.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا نهَى تعالى عن موالاةِ اليهودِ والنَّصارى، وبيَّن أنَّ موالاتَهم مستدعيةٌ للارتدادِ عن الدِّين بقولِه: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وقوله: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ - شرَع في بيانِ حالِ المرتدِّين على الإطلاقِ [1065] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (4/168). .
وأيضًا لـمَّا نهَى اللهُ تعالَى عن مُوالاةِ اليهودِ والنَّصارى، وأخبَر أنَّ فاعلَها منهم- عقَّب ذلك بالإشارةِ إلى أنَّ اتخاذَ اليهودِ والنَّصارى أولياءَ ذريعةٌ للارتدادِ، وأنبأَ المتردِّدين ضعفاءَ الإيمانِ بأنَّ الإسلامَ غنيٌّ عنهم، إن عزموا على الارتدادِ إلى الكُفْر [1066] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/234). ، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، مَن يرجِعْ منكم عن دِينِ الحقِّ إلى الباطلِ، فيُبدلْه بدخولِه في الكفرِ كأنْ يتهوَّدَ أو يتنصَّر [1067] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/517)، ((تفسير ابن كثير)) (3/135)، ((تفسير السعدي)) (ص: 235). .
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.
أي: فلن يَضرَّ اللهَ شيئًا، وإنَّما يضرُّ نفْسَه؛ فإنَّ الله تعالى سيأتي بدلًا من الَّذين ارتدُّوا بقومٍ خيرٍ منهم، أكملَ منهم أوصافًا، وأحسنَ أخلاقًا، وأقوى نفوسًا؛ أجلُّ صِفاتهم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّهم، وأنَّهم يُحبُّونَه سبحانه وتعالى [1068] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/517- 518)، ((تفسير السعدي)) (ص: 235)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/30- 31). ، (كأبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، وأصحابِه الذين قاتلوا المرتدِّين) [1069] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (1/232). .
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
أي: ومِن صِفاتِهم أنَّهم رُحَماءُ بإخوانِهم المؤمنين، ذَوُو رأفةٍ ورفقٍ بهم، وشفقةٍ وحُنوٍّ عليهم، وتواضعٍ لهم [1070] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/527)، ((تفسير ابن كثير)) (3/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 236)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/415)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/31). .
كما قال سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] .
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا أنَّهم أشدَّاءُ على الكافرينَ، ذَوُو قَسوةٍ وغِلظةٍ عليهم، يُظْهِرون للكفَّارِ القُوَّةَ والعِزَّةَ بما هم عليه من الدِّين [1071] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/527)، ((تفسير ابن كثير)) (3/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 236)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/415)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/31). قال السعديُّ: (ولا تَمنَعُ الغلظةُ عليهم والشِّدةُ دعوتَهم إلى الدِّينِ الإسلاميِّ بالتي هي أحسنُ، فتَجتمِعُ الغلظةُ عليهم واللِّينُ في دعوتهم، وكِلا الأمرين مِن مصلحتِهم، ونفْعُه عائدٌ إليهم) ((تفسير السعدي)) (ص: 236). .
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا أنَّهم يُقاتلونَ أعداءَ اللهِ تعالى بأموالِهم وأنفسِهم وأقوالِهم وأفعالِهم؛ لتكونَ كلمتُه سبحانه هي العُليا، لا يردُّهم عن هذا المقصدِ رادٌّ، ولا يَصدُّهم عن هذا المطلبِ صادٌّ، بل يُقدِّمون رِضا ربِّهم، والخوفَ مِن لومِه على لومِ المخلوقين [1072] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/528)، ((تفسير ابن كثير)) (3/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 236)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/31- 32). .
عن عُبادةَ بنِ الصَّامت رَضِيَ الله عنه، قال: (بايَعْنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على السَّمْعِ والطاعةِ في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، وأن نقومَ- أو نقولَ- بالحقِّ حيثُما كُنَّا، لا نَخافُ في اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ [1073] قال ابنُ القيِّم: (ونحن نَشهَدُ [بالله] أنَّهم وَفَّوْا بهذه البيعة، وقالوا بالحقِّ، وصدَعوا به، ولم تأخُذْهم في الله لومةُ لائم، ولم يَكتُموا شيئًا منه مخافةَ سوطٍ ولا عصًا، ولا أميرٍ ولا والٍ، كما هو معلومٌ لِمَن تأمَّله من هَدْيِهم وسِيرَتِهم؛ فقد أنكر أبو سعيدٍ على مَرْوانَ، وهو أميرٌ على المدينة، وأنكر عُبادةُ بن الصامت على معاويةَ، وهو خليفةٌ، وأنكر ابنُ عمر على الحَجَّاجِ مع سطوتِه وبأسِه، وأنكر على عمرِو بن سعيد، وهو أميرٌ على المدينة، وهذا كثيرٌ جدًّا من إنكارِهم على الأُمَراء والولاة إذا خرَجوا عن العَدْلِ؛ لم يخافوا سوطَهم ولا عُقوبتَهم) ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) (4/110). [1074] رواه البخاري (7199)، ومسلم (1840). .
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا مدَحَهم اللهُ تعالى بما مَنَّ به عليهم مِنَ الصِّفاتِ الجليلةِ، والمناقِبِ العالِيَة، المستلزِمة لِمَا لم يُذكَرْ مِن أفعالِ الخيرِ- أخبرَ أنَّ هذا مِن فضلِه عليهم وإحسانِه؛ لئلَّا يُعجَبوا بأنفسِهم، ولِيَشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك؛ ليزيدَهم من فضلِه، وليعلمَ غيرُهم أنَّ فضلَ الله تعالى ليس عليه حجابٌ [1075] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 236). ، فقال تعالى:
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
أي: هذه الصِّفاتُ التي نَعتَهم بها اللهُ تبارك وتعالى؛ فضلٌ منه وإحسانٌ تَفضَّلَ به عليهم، وتوفيقٌ منه لهم، واللهُ يُؤتي فضلَه مَن يشاءُ مِن خلقِه، بما تَقتضيه حِكمتُه سبحانه [1076] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/528)، ((تفسير ابن كثير)) (3/137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 236)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/32). .
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ تعالى واسعٌ في جميعِ صِفاتِه، ومِن ذلك سَعةُ عَطائِه وفَضلِه وإحسانِه، عليمٌ بمَن يستحقُّ ذلك فيُعطِيه [1077] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/528-529)، ((تفسير ابن كثير)) (3/137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 236)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/33). .
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن ولايةِ الكفَّارِ من اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم، وذكَر مآلَ تولِّيهم أنَّه الخسرانُ المُبين- أخبر تعالى بمَن يجبُ ويتعيَّن تولِّيه، وذَكَر فائدةَ ذلك ومصلحَتَه [1078] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 236). ، فقال:
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
أي: ليس لكم- أيُّها المؤمنون- ناصرٌ إلَّا اللهُ تعالى ورسولُه عليه الصَّلاة والسَّلام والمؤمنون، فأمَّا اليهودُ والنَّصارى، فليسوا لكم بأولياءَ ولا نُصَراءَ [1079] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/529)، ((تفسير ابن كثير)) (3/137)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/51). قال ابنُ عثيمينَ: (فإنْ قال قائلٌ: ولايةُ الله عزَّ وجلَّ صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، لكن كيفَ ولايةُ الرَّسول؟ الجواب: أمَّا ما كان في حياتِه؛ فالولايةُ واضحةٌ ظاهرةٌ، وأمَّا بعدَ وفاتِه فإنَّ تمسُّكَنا بسنَّته مِن تولِّيه لنا؛ لأنَّنا نُنْصَر بها، ونُعان بها، فكأنَّه عليه الصلاةُ والسَّلام معنا يناصرُنا ويُعينُنا) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/52). .
كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11]. وقال سبحانه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71] .
ثمَّ ذكَر اللهُ تعالى صِفاتِ المؤمنينَ الذين تَنبغي ولايتُهم، فقال عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.
أي: وهم الذين اتَّصفوا- بالإضافةِ إلى إيمانِهم- بأداءِ الصَّلاةِ بشُروطِها وواجباتِها وأركانِها ومستحبَّاتها، وببَذْلِ الزكاةِ من أموالِهم، لأهلِها المستحقِّين لها [1080] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/138)، ((تفسير السعدي)) (ص: 236)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/51). .
وَهُمْ رَاكِعُونَ.
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا: أنَّهم للهِ تعالى خاضِعون ذَليلون، وله مُنقادُون [1081] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/138)، ((تفسير السعدي)) (ص: 236)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/51- 52). .
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56).
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
أي: أيُّ امرئٍ يتَّخذِ اللهَ تعالى ورسولَه وعِبادَه المؤمنينَ أولياءَ له [1082] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/532)، ((تفسير ابن كثير)) (3/139)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/56). قال ابنُ عثيمين: (فإنْ قال قائل: قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ؛ هل اللهُ في حاجة لأنْ يتولَّاه أحد؟ الجواب: الله عزَّ وجلَّ ليس بحاجة لأنْ يتولَّاه أحد، لكنَّ الدِّين بحاجة إلى أن يتولَّاه أهلُه، ومَن تولى دِينَ الله فقد تولَّى اللهَ كما قال الله عزَّ وجلَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد: 7] ، ومن المعلوم أنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يحتاجُ إلى نصرٍ، لكن إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ، أي: تنصروا دِينَه يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7] . وقوله: وَرَسُولَهُ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يحتاج إلى مَن يتولَّاه في حياته، ويتولَّى = = سُنَّته ويدافع عنها بعد وفاتِه، فيكون تولِّي الرسولِ بمعنى تولِّي سُنَّته ونَصْرها، كما قلنا: إنَّ تولِّي الله يعني تولِّي دِينه، ونُصرةَ دِينه. وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا تولِّي المؤمنين إلى يوم القيامة؛ لأنَّه لا تزال طائفةٌ من هذه الأُمَّة على الحقِّ حتى تقومَ الساعةُ، وحتى يُقبضوا قبلَ قيام الساعة؛ لأنَّ الساعة لا تقومُ إلَّا على شِرار الخَلْق) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/57). .
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ.
أي: فإنَّه مِن أنصارِ اللهِ تعالى، وأنصارُه هم المُفْلِحون المنصورون، الذين لهم العاقبةُ في الدُّنيا والآخِرة [1083] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/532)، ((تفسير ابن كثير)) (3/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 236)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/57). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171- 173] .

الفوائد التربوية:

1- في قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ الثَّناءُ على مَن كان ذليلًا على المؤمنين، وهو الذي يَخفِضُ جناحَه لهم ويتطامَن ويتواضَع؛ فإنَّ هذه من الصفاتِ التي يحبُّها الله عزَّ وجلَّ، أما ترفُّعُ الإنسانِ على إخوانِه المسلمينَ فليس محمودًا عندَ اللهِ، بل ولا عندَ الخَلْق؛ وكلَّما ازدادَ الإيمان ازدادَ التواضع، وكلَّما ازدادَ العِلمُ ازدادَ التواضعُ [1084] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/43). .
2- قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ... يُفهم من هذه الآياتِ أنَّ المؤمنَ يجبُ عليه ألَّا يَلينَ إلَّا في الوقتِ المناسِب للِّين، وألَّا يشتدَّ إلَّا في الوقتِ المناسب للشدَّة؛ لأنَّ اللِّينَ في مَحلِّ الشدَّةِ ضَعْفٌ وخَوَرٌ، والشدَّةَ في محلِّ اللِّين حُمقٌ وخَرَق، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
إذا قِيلَ حِلْمٌ قُلْ فلِلْحِلْمِ مَوضِعُ [ وحِلْمُ الفَتَى في غَيرِ مَوْضِعِه جَهْلُ [1085] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/416). ]
وفيها إيماءٌ إلى أنَّ صِفاتِهم تُسيِّرُها آراؤُهم الحصيفةُ؛ فلَيْسُوا مُندفِعين إلى فِعلٍ ما إلَّا عن بصيرةٍ، ولَيْسُوا ممَّن تنبعِثُ أخلاقُه عن سَجيَّةٍ واحدةٍ بأنْ يكون ليِّنًا في كلِّ حالٍ، وهذا هو معنى الخُلُق الأقوم، وهو الذي يكونُ في كلِّ حالٍ بما يُلائِم ذلك الحالَ [1086] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/238) .
3- قَوْلُه: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ فيه الثناءُ على عِزَّة النَّفسِ وقوَّة الشخصيةِ أمامَ الكفَّار، وأنْ نكونَ أعِزَّةً عليهم، نرى في أنفسنا العلوَّ عليهم، والظهورَ عليهم لا بذَواتِنا، ولكن بما معنا من الدِّين [1087] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/43). .
4- الإشارةُ إلى الإخلاصِ؛ لقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ لأنَّ الجهاد- وهو القِتالُ- يحملُ عليه عِدَّةُ أسباب، والجهادُ المحمودُ هو الجهادُ في سبيلِ اللهِ [1088] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/45). .
5- أفاد قوله تعالى: وَهُمْ راكِعُونَ بعد قوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أنَّه لا بدَّ أنْ يقترنَ بهذه الأعمالِ الصالحةِ الذلُّ والخضوعُ للهِ عزَّ وجلَّ، بحيث يَشعرُ الإنسانُ أنَّه مُتعبِّدٌ للهِ خاضعٌ له، وهذا يَفوتُ كثيرًا من النَّاسِ؛ فيؤدِّي الواحدُ منهم العبادةَ على أنَّها مفروضةٌ عليه فقط، ولا يَشعُرُ بأنَّه متعبِّدٌ لله بذلك [1089] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/399)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/54). .
6- قوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ، لم يقُلْ عزَّ وجلَّ: (ومَن يتولَّ اللهَ ورسولَه والذِين آمنوا فإنَّه الغالب)، بل قال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ؛ ليكون دالًّا على شَيئين: الشيء الأوَّل: أنَّ مَن تولَّى اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فهو مِن حزبِ اللهِ. الشيء الثاني: إرادةُ العمومِ أنَّ حزبَ اللهِ لا بدَّ أن يكون غالبًا؛ لأنَّ دِينَ الله لا بدَّ أن يكون غالبًا، فالمتمسِّك بدِين الله؛ هو مِن حِزبِ الله، وهو غالبٌ ولا بدَّ، لكنَّ الغَلَبَة قد تكونُ في حالِ الحياةِ، وقدْ تكون بعدَ الموتِ؛ ولهذا نجِدُ الأئمَّةَ الذين لم يُقدَّرْ لهم أن يَظهروا ظهورًا كاملًا في حياتِهم؛ ظَهَروا ظهورًا كاملًا بعدَ وفاتِهم؛ كالإمام أحمد، وابن تيميَّة، وغيرِهما من العلماءِ والأئمَّة، الذين لَحِقَهم من الإهانةِ مِن وُلاةِ السُّوءِ ما لَحِقَهم، وكانتِ الغَلَبَةُ لهم؛ إمَّا في الحياةِ، وإمَّا بعدَ الممات [1090] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/57). .
7- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ أنَّ للهِ تعالى حِزبًا، وحزبُه الذي يُقابِلُ حَربَه؛ لأنَّ اللهَ له حِزبٌ وله حَرْبٌ، فمَن أقام على شريعتِه فهو حِزبُه، ومَن خالَفَ شريعتَه فهو حَربُه، فإعلانُ المخالفةِ حربٌ لله، لا سيَّما فيما نصَّ على أنه حربٌ لله عزَّ وجلَّ، كالرِّبا وقَطْع الطريقِ، وما أشبهها [1091] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/58). .
8- في قوله تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ بشارةٌ عظيمة لِمَن قام بأمْرِ الله وصارَ مِن حِزبِه وجُندِه، أنَّ له الغَلَبةَ، وإنْ أُديلَ عليه في بعض الأحيان لحِكمةٍ يُريدها الله تعالى، فآخِرُ أمرِه الغَلَبةُ والانتصارُ، ومَن أصدقُ من الله قيلًا [1092] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 236). ؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

1- التَّحذيرُ مِن الرِّدَّة؛ لقوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ... [1093] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/33). .
2- يُستفادُ من قولِه: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أنَّ الله غنيٌّ عن العِباد؛ فلو ارتدَّ قومٌ جاء الله بقومٍ آخرينَ؛ كما قال الله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [1094] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/34). [محمد: 38] .
3- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ... مِن أدلِّ الدَّلائلِ على فسادِ مذهبِ الإماميَّة مِن الرَّوافضِ؛ فمذهبُهم أنَّ الذين أقرُّوا بخِلافة أبي بكرٍ وإمامَتِه كلهم كَفَروا وصاروا مرتدِّينَ، فنقول: لو كان كذلك لجاءَ اللهُ تعالى بقومٍ يُحارِبونهم ويَقهرونهم ويردُّونهم إلى الدِّين الحقِّ؛ بدليل قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ... إلى آخِر الآية، وكلمةُ (مَن) في معرضِ الشَّرْط للعمومِ، فلو كان الذين نَصَّبوا أبا بكر للخلافةِ قد ارتدُّوا لوجَبَ بحُكم الآيةِ أنْ يأتيَ اللهُ بقومٍ يقهرونهم، ويُبطِلون مَذهبَهم، ولَمَّا لم يكُنِ الأمرُ كذلك، بل الأمرُ بالضدِّ؛ فإنَّ الروافضَ هم المقهورونَ المَمْنوعونَ عن إظهارِ مَقالاتِهم الباطلةِ أبدًا منذ كانوا- عَلِمْنا فسادَ مَقالتِهم ومذهبِهم، وهذا كلامٌ ظاهرٌ لِمَن أَنصَفَ [1095] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/378). .
4- أنَّ المرتدِّين مَبغوضونَ عندَ اللهِ؛ لقوله: فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [1096] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/34). .
5- قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ... مِن الكائناتِ التي أخْبَر عنها في القرآنِ قبلَ كونِها، وقد وقَع المخبَرُ به على وَفْقِها، فيكون معجزًا [1097] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (4/168). .
6- إثباتُ أفعالِ اللهِ الاختياريَّة، يعني: التي يَفعلُها سُبحانَه باختياره؛ لقوله: فَسَوْفَ يَأتِي وسوف: للمُستقبَل [1098] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/41). .
7- إثباتُ المحبَّةِ مِن اللهِ وللهِ؛ مِن اللهِ في قوله: يُحِبُّهُمْ، وللهِ في قوله: وَيُحِبُّونَهُ، وهذه الآية جمَعتْ بين محبَّة اللهِ لعبادِه الصالحين، ومحبَّةِ العبادِ الصالحين للهِ [1099] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/42). .
8- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أنَّه يَنبغي للإنسانِ ألَّا تأخذَه في اللهِ لومةُ لائمٍ؛ فما دام على حقٍّ، فلا يُهمَّنَّه أحدٌ؛ لأنَّه لا بدَّ لكلِّ عابدٍ من عدوٍّ، لكن ذلك مع وجوبِ الحِكمة؛ لأنَّ التهوُّرَ يَحصُل منه انعكاسُ المقصودِ [1100] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/47). .
9- قولُه: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيه أنَّ خوفَ الملامةِ ليس عذرًا في تركِ أمرٍ شرعيٍّ [1101] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 113). .
10- يُستفادُ من قولِه: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أنَّ الوصفَ بالمحبَّة، والذلَّة، والعِزَّة، والمجاهَدة، وانتفاءِ خوفِ اللائمة- حصَل بفضلِ الله تعالى، وهذا يدلُّ على أنَّ طاعاتِ العبادِ مخلوقةٌ للهِ تعالى [1102] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/395). .
11- قال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ، ولم يقُل: (أولياؤكم) للتنبيهِ على أنَّ الولايةَ للهِ على الأصالةِ، ولرسولِه وللمؤمنينَ على التَّبَع؛ إذ التقديرُ: إنَّما وليُّكم اللهُ وكذا رسولُه والمؤمنونَ، ولو قيل: (إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا) لم يكُن في الكلامِ أصلٌ وتبَعٌ [1103] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/382). .
12- يُستفادُ من قولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ فضيلةُ الصَّلاةِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ دائمًا في المقدِّمة، فهي أفضلُ العبادات بعدَ التوحيدِ، والشهادةِ بالرِّسالة [1104] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/52). .
13- يُستفادُ من قولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أنَّ مرتبةَ الزكاةِ في دِينِ الإسلامِ بعدَ مرتبةِ الصَّلاةِ، وهكذا في الآياتِ الكريمةِ وفي الأحاديثِ النبويَّة؛ تأتي الزكاةُ بعد الصَّلاةِ [1105] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/53). .
14- لَمَّا كان لقَبُ الَّذِينَ آمَنُوا يشملُ كلَّ مَن أسلمَ في الظاهرِ، وصَفَ هؤلاء الأولياءَ بقولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، أي: دون المنافقين الذين قالوا آمنَّا بأفواهِهم، ولم تُؤمنْ قلوبُهم، والذين يأتون بصورةِ الصَّلاةِ دون رُوحِها ومعناها، فإذا قاموا إليها قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [1106] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/396)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/193)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا ((6/365 ). [النساء: 142] .
15- الثَّناءُ التامُّ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى المؤمنين، وأنَّ تولِّيَهم من أسبابِ الغَلَبَة، أمَّا تولي اللهِ فهو شأنٌ فوقَ ذلك؛ لقوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [1107] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/58). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ جملةٌ معترِضة بين ما قَبلَها وبين قوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ دعَت لاعتراضِها مناسبةُ الإنذارِ في قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [1108] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/234). .
2- قوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ
- فيه مناسَباتٌ حَسنةٌ لطيفةٌ في التَّقديمِ والتَّأخيرِ؛ حيث قَدَّمَ مَحبَّةَ اللهِ تعالى لهم يُحِبُّهُمْ على مَحبَّتهم له وَيُحِبُّونَهُ؛ لشَرفِ مَحبَّةِ الله لهم، وسَبْقِها على مَحبَّتهم إيَّاه. وقدَّمَ الوَصْفَ بالمحبَّةِ مِنهم ولهم على وَصْفِهم بأذلَّةٍ على المؤمِنِين، وأَعِزَّة على الكافِرين؛ لأنَّهما ناشِئتانِ عن المحَبَّتَينِ. ولَمَّا كان الوصفُ الذي بَينَ المؤمِن وربِّه أشرفَ مِن الوصفِ الذي بَينَ المؤمِن والمؤمِن؛ لِذَا قدَّم قولَه: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ على قولِه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وقدَّمَ وَصْفَهم المتعلِّقَ بالمؤمِنينَ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ على وصْفِهم المتعلِّقِ بالكافرينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ؛ لأنَّ المتعلِّقَ بالمؤمِنينَ آكَدُ وألزَمُ من المتعلِّقِ بالكافِرين، ولشَرفِ المؤمنِ أيضًا [1109] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/297، 299)، ((الدر المصون)) للحلبي (4/310)، ((تفسير ابن عادل)) (7/388). .
- ووقَعَ الوَصفُ في جانبِ المحبَّةِ بالجُملةِ الفِعليَّة يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ؛ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، وهو مُناسبٌ؛ فإنَّ محبَّتهم للهِ تعالى تُجَدِّدُ طاعاتِه وعبادتَه كلَّ وقتٍ، ومَحبَّةُ اللهِ إيَّاهم تُجَدِّدُ ثوابَه وإنعامَه عليهم كلَّ وقتٍ، بَيْنمَا وقَع الوَصفُ في جانبِ التواضُعِ للمُؤمنين والغِلظة على الكافِرينَ بالاسمِ الدالِّ على المبالَغةِ؛ دَلالَةً على ثُبوتِ ذلك واستقرارِه، وأنَّه عزيزٌ فيهم؛ فالاسمُ يدلُّ على الثُّبوتِ والاستقرارِ [1110] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/299)، ((الدر المصون)) للحلبي (4/310). .
- ولَمَّا كان ذلُّهم هذا إنَّما هو الرِّفقُ ولِينُ الجانبِ لا الهوانُ، كان في الحقيقةِ عِزًّا، فأشارَ إليه بحَرْفِ الاستعلاءِ (على)، في قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ ففيه مناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث جاء التعبير بـعَلَى وليس باللام، فلم يقل: (أذلَّة للمؤمنين)؛ لأنَّه قد ضُمِّن الذُّلُّ معنى الشَّفقة والحُنوِّ والعطَف، مُبيِّنًا أنَّ تواضُعَهم عن علوِّ منصبٍ وشرفٍ، كأنَّه قيل: عاطِفين عليهم على وجْه التَّذلُّلِ والتواضُع، أو: أنَّهم مع شَرفِهم وعلوِّ طبقتِهم وفضلِهم علَى المؤمنينَ خافِضونَ لهم أجنِحَتَهم [1111] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/647)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/191)، ((تفسير الشربيني)) (1/382). .
3- وقوله: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فيه: تعريضٌ بالمنافقين؛ فإنَّهم كانوا إذا خرَجوا في جيشِ المسلمين خافوا أولياءَهم اليهودَ، فلا يكادون يَعمَلون شيئًا يَلحَقُهم فيه لَوْمٌ من جِهَتِهم [1112] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/52). .
- وفي تنكيرِ لَوْمَةَ لَائِمٍ مبالغةٌ، كأنَّه قيل: لا يَخافون شيئًا قطُّ مِن لومٍ أحدٍ من اللُّوَّام [1113] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/52)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/238). ، ولَوْمَة للمرَّة الواحدةِ من اللَّومِ، وهي نَكِرةٌ في سياقِ النفي؛ فَتَعُمُّ؛ فهم لا يَخافون جميعَ أنواعِ اللَّومِ مِن جميعِ اللَّائِمين [1114] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/300)، ((تفسير أبي السعود)) (3/52)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/238). .
4- قوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ تذييلٌ، وفيه إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من الأوصافِ الجليلةِ، والتعبيرُ باسم الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذانِ ببُعد منزلتِها في الفَضلِ [1115] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/192)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/239). .
5- قوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّر لِمَا قبله، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ اللهُ في موضِع الإضمار؛ للإشعارِ بالعِلَّة، وتأكيدِ استقلالِ الجُملةِ الاعتراضيَّة [1116] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/52). .
- وقوله: وَاسِعٌ عَلِيمٌ الواسِع فيه إشارةٌ إلى كَمالِ القُدرة، والعليمُ فيه إشارةٌ إلى كمالِ العِلمِ، وجاء على صِيغة (فعيل)؛ للمبالغة في وصْفه بالعِلم بجميعِ الأشياء التي مِن جُملتِها مَن هو أهلٌ للفضل والتوفيق؛ فلمَّا أخبر الله تعالى أنَّه سيجيء بأقوامٍ هذا شأنُهم وصِفتُهم، أكَّد ذلك بأنَّه كاملُ القُدرةِ؛ فلا يَعجِزُ عن هذا الموعودِ، كاملُ العلم؛ فيمتنع دخولُ الخُلفِ في أخبارِه ومواعيدِه [1117] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/382)، ((تفسير أبي السعود)) (3/52). .
6- قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ فيه: وضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمَر- حيث لم يقُل: (فإنَّهم هم الغالبون)- وفائدة وضْع الظاهرِ موضعَ المضمَرِ هنا الإضافةُ إلى اللهِ تعالى، فيُشرَّفون بذلك، ويَصيرون بذلِك أعلامًا، وفيه تنبيهٌ على البُرهان عليه، فكأنَّه قيل: ومَن يتولَّ هؤلاءِ فهم حزبُ اللهِ، وحزبُ اللهِ هم الغالبون؛ ففيه تنويهٌ بذِكرهم، وتَعظيمٌ لشأنِهم، وترغيبٌ في ولايتِهم، وتعريضٌ لِمَن يُوالي غيرَ هؤلاء بأنَّه حزبُ الشَّيطانِ [1118] ينظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/131)، ((تفسير أبي حيان)) (4/301) ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/194). وهذا الوجه بناءً على القول بأنَّ جوابَ مَنْ هو قوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ...، وأمَّا على القَولِ بأنَّ جوابَ مَنْ محذوفٌ؛ لدلالةِ ما بَعدَه عليه، أي: يكُن مِن حزبِ اللهِ ويَغْلِب؛ فليس فيه هذا الوجهُ. .