موسوعة التفسير

سُورةُ الصَّفِّ
الآية (14)

ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ

غريب الكلمات:

لِلْحَوَارِيِّينَ: همْ أصفياءُ عِيسى عليه السَّلامُ وشِيعتُه وناصِرُوه، وخُلاصةُ أصحابِه، وقيل: الحواريُّونَ: صَفوةُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، الَّذين خلَصوا وأخلَصوا في التَّصديقِ بهم ونُصرتِهم، قيل: سُمِّيَ أصحابُ عيسى بذلك؛ لأنَّهم كانوا يُحوِّرونَ الثِّيابَ، أي: يُبيِّضونَها، مِن: حُرْتُ الثَّوبَ، أي: أخْلَصْتُ بَياضَه بالغَسْلِ، والحَوَرُ: شِدَّةُ البَياضِ [235] ولذلك سُمِّيَ «الحُوَّارَى» مِن الطَّعامِ بذلك؛ لشدَّةِ بَياضِه. ، ثُمَّ قيل لخاصَّةِ الرَّجُلِ مِن أصحابِه وأنصارِه: حَوارِيٌّ. وقيل: هم الَّذين أُخلِصُوا ونُقُّوا مِن كلِّ عَيبٍ [236] وسُمِّيَ الدَّقيقُ الحُوَّارَى بذلك لأنَّه يُنَقَّى مِن لُبابِ البُرِّ وخالِصِه. ، وقيل: اشتِقاقُ الحَواريِّ مِن حارَ يَحورُ إذا رجَع، فكأنَّهم الرَّاجِعونَ إلى الله، أو الحَواريُّ مِن النَّاسِ هو الَّذي إذا رُجِعَ في اختيارِه مرَّةً بعدَ مرَّةٍ وُجِدَ نقيًّا مِنَ العُيُوب. وأصلُ (حور) هنا: لَونٌ، والأصلُ الثَّاني: الرُّجوعُ [237] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 464)، ((تفسير ابن جرير)) (5/443)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/165)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 185)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/115، 116)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 45)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/265)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/209)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 124). .
فَأَيَّدْنَا: أي: قَوَّيْنا وأعَنَّا، وأصلُ (أيد): يدُلُّ على القُوَّةِ والحِفظِ [238] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 148)، ((تفسير ابن جرير)) (22/623)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/163)، ((المفردات)) للراغب (ص: 97)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 225). .
ظَاهِرِينَ: أي: غالِبينَ عالِينَ عليهم، مِن قَولِك: ظَهرْتُ على فُلانٍ: إذا عَلَوتَه، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [239] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 464)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 541)، ((تفسير القرطبي)) (18/90). .

المعنى الإجمالي:

يَدعو الله تعالى المؤمنينَ إلى التَّشبُّهِ بمَنْ قَبْلَهم مِن الصَّالِحينَ الصَّادقينَ، والاقتِداءِ بهم، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا كونوا أنصارَ اللهِ تعالى، كما قال عيسى ابنُ مَريمَ لِخُلَّصِ أصحابِه وخاصَّتِهم: مَن يُعِينُني في الدَّعوةِ إلى اللهِ، وإقامةِ دِينِه ونُصرتِه؟ قال الحَوارِيُّونَ له: نحنُ أعوانُك على إقامةِ ما أرسَلَك اللهُ به؛ فآمنَت جماعةٌ مِن بني إسرائيلَ بنُبُوَّةِ عيسى، وكفَرَت به طائِفةٌ أُخرى، فقَوَّيْنا المؤمِنينَ مِن بني إسرائيلَ على عَدُوِّهم مِن الكافِرينَ، فأصبَحوا عالِينَ غالِبينَ.

تفسير الآية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا هزَّ الله سُبحانَه إلى الجهادِ، وشوَّق إليه بأنَّه متجرٌ رابحٌ، ولَوَّح إلى النِّذارةِ بالتَّنشيطِ بالبِشارةِ، فتهيَّأت النُّفوسُ إلى الإقبالِ عليه، وانبعثَتْ أيَّ انبعاثٍ؛ حضَّ عليه بالإيجابِ المقتضي للثَّوابِ أو العِقابِ [240] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/40). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا كونوا أنصارَ الله، بالأقوالِ والأفعالِ، ونصرِ دينِه والاستجابةِ لله ورسولِه [241] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/89)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 113)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/40، 41)، ((تفسير السعدي)) (ص: 861)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/198، 199). قال ابنُ عاشور: (النَّصرُ المأمورُ به هنا نَصرُ دينِ اللهِ الَّذي آمَنوا به بأن يَبُثُّوه ويَثبُتوا على الأخذِ به دونَ اكتراثٍ بما يلاقونَه مِن أذًى مِن المشرِكينَ وأهلِ الكِتابِ... وهذا هو الَّذي شُبِّه بنَصرِ الحواريِّينَ دينَ اللهِ الَّذي جاء به عيسى عليه السَّلامُ؛ فإنَّ عيسى لم يجاهِدْ مَن عانَدوه، ولا كان الحواريُّونَ مِمَّن جاهَدوا، ولكِنَّه صَبَر وصَبَروا حتَّى أظهَرَ اللهُ دينَ النَّصرانيَّةِ، وانتَشَر في الأرضِ، ثمَّ دبَّ إليه التَّغييرُ، حتَّى جاء الإسلامُ فنسَخَه مِن أصْلِه). ((تفسير ابن عاشور)) (28/198، 199). وقال السعدي: (قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ، أي: بالأقوالِ والأفعالِ، وذلك بالقيامِ بدِينِ اللهِ، والحِرصِ على إقامتِه على الغَيرِ، وجِهادِ مَن عانَدَه ونابَذَه؛ بالأبدانِ والأموالِ، ومَن نَصَر الباطِلَ بما يَزعُمُه مِن العِلمِ، ورَدَّ الحَقَّ، بدَحضِ حُجَّتهِ، وإقامةِ الحُجَّةِ عليه، والتَّحذيرِ منه. ومِن نَصْرِ دينِ اللهِ: تَعَلُّمُ كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه، والحَثُّ على ذلك، والأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المُنكَرِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 860). .
كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ.
أي: كما قال عيسى ابنُ مَريمَ لخُلَّصِ أصحابِه المؤمِنينَ به، وخاصَّتِهم: مَن يُعِينُني في الدَّعوةِ إلى اللهِ، وإقامةِ دِينِه ونُصرتِه [242] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/620)، ((تفسير ابن كثير)) (8/113)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/41)، ((تفسير السعدي)) (ص: 861). ؟
كما قال الله تبارك وتعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52] [243] يُنظر ما يأتي في البلاغة (ص: 215). .
وقال سُبحانَه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة: 111] .
وعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن يأتيني بخبَرِ القَومِ، يومَ الأحزابِ؟ قال الزُّبَيرُ: أنا. ثمَّ قال: مَن يأتيني بخبَرِ القَومِ؟ قال الزُّبَيرُ: أنا. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ لكُلِّ نَبيٍّ حَوَاريًّا [244] الحَوارِيُّ: ناصِرُ الأنبياءِ وصَفوةُ أَتْباعِهم. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (11/103). ، وحَوارِيَّ الزُّبَيرُ)) [245] رواه البخاري (2846) واللَّفظُ له، ومسلم (2415). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن نَبيٍّ بعَثَه اللهُ في أُمَّةٍ قَبْلي إلَّا كان له مِن أُمَّتِه حَواريُّونَ وأصحابٌ، يأخُذونَ بسُنَّتِه، ويَقتَدونَ بأمْرِه، ثمَّ إنَّها تَخلُفُ مِن بَعْدِهم خُلوفٌ [246] الخُلُوفُ: الخالِفونَ بعدَ السَّالِفينَ. يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (1/320). قال النوويُّ: (أمَّا الخُلوفُ فبضَمِّ الخاءِ، وهو جمعُ «خلْف» بإسكانِ اللَّامِ، وهو الخالفُ بشَرٍّ، وأمَّا بفتحِ اللَّامِ فهو الخالفُ بخَيرٍ، هذا هو الأشهرُ). ((شرح النووي على مسلم)) (2/28). يَقولونَ ما لا يَفعَلونَ، ويَفعَلونَ ما لا يُؤمَرونَ، فمَن جاهَدَهم بيَدِه فهو مُؤمِنٌ، ومَن جاهَدَهم بلِسانِه فهو مُؤمِنٌ، ومَن جاهَدَهم بقَلْبِه فهو مُؤمِنٌ، وليس وراءَ ذلك من الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ [247] الخَردَلُ: نباتٌ يُضرَبُ المثَلُ بحُبوبِه في الشَّيءِ القليلِ البَليغِ في القِلَّةِ والصِّغَرِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (1/170)، ((الكوثر الجاري)) للكوراني (1/75). ) [248] رواه مسلم (50). .
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ.
أي: قال حَوارِيُّو عيسى له: نحنُ أعوانُك على إقامةِ ونَصرِ ما أرسَلَك اللهُ به مِنَ الحَقِّ [249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/622)، ((تفسير السمرقندي)) (3/445)، ((تفسير ابن كثير)) (8/113). قال ابنُ كثيرٍ: (لهذا بعَثَهم دُعاةً إلى النَّاسِ في بلادِ الشَّامِ في الإسرائيليِّينَ واليُونانيِّينَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/113). .
فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ.
أي: فآمنَت جماعةٌ مِن بني إسرائيلَ بنُبُوَّةِ عيسى وما جاءَهم به مِنَ الحَقِّ، وكفَرَت به طائِفةٌ أُخرى فافتَرَوا عليه كَذِبًا [250] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/622)، ((تفسير السمرقندي)) (3/445)، ((تفسير ابن كثير)) (8/113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 861). قال ابنُ كثير: (قوله: فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ، أي: لَمَّا بلَّغَ عيسى ابنُ مَريمَ عليه السَّلامُ رِسالةَ رَبِّه إلى قَومِه، ووازَره مَن وازَرَه مِن الحَواريِّينَ، اهتَدَت طائفةٌ مِن بني إسرائيلَ بما جاءَهم به، وضَلَّت طائفةٌ فخرَجَت عمَّا جاءهم به، وجَحَدوا نبُوَّتَه، ورَمَوه وأمَّه بالعظائِمِ، وهم اليهودُ -عليهم لعائِنُ اللهِ المُتتابِعةُ إلى يومِ القيامةِ- وغَلَت فيه طائِفةٌ مِمَّن اتَّبَعه، حتَّى رَفَعوه فوقَ ما أعطاه اللهُ مِن النُّبُوَّةِ، وافتَرَقوا فِرَقًا وشِيَعًا؛ فمِن قائِلٍ منهم: إنَّه ابنُ اللهِ، وقائِلٍ: إنَّه ثالِثُ ثلاثةٍ: الأبُ، والابنُ، ورُوحُ القُدُسِ، ومِن قائلٍ: إنَّه اللهُ!). ((تفسير ابن كثير)) (8/113). .
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ.
أي: فقَوَّيْنا المؤمِنينَ مِن بني إسرائيلَ على عَدُوِّهم مِن الكافِرينَ، فأصبَحوا عالِينَ غالِبينَ [251] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/623)، ((تفسير القرطبي)) (18/90)، ((تفسير البيضاوي)) (5/210)، ((تفسير ابن كثير)) (8/113)، ((تفسير الشوكاني)) (5/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 861). قال ابنُ عطية: (قولُه تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ قيل: ذلك قبْلَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبعدَ فَترةٍ مِن رَفعِ عيسى عليه السَّلامُ، رَدَّ اللهُ تعالى الكَرَّةَ لِمَن آمَنَ به، فغَلَبوا الكافرينَ الَّذين قَتَلوا صاحِبَه الَّذي أُلقِيَ عليه الشَّبَهُ. وقيل: ذلك بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أصبح المؤمِنُ بعيسى ظاهِرًا لإيمانِه بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ وذلك أنَّه لا يُؤمِنُ أحدٌ حَقَّ الإيمانِ بعيسى إلَّا وفي ضِمنِ ذلك الإيمانُ بمحمَّدٍ؛ لأنَّه بَشَّرَ به، وحَرَّض عليه. وقيل: كان المؤمِنونَ به قديمًا ظاهِرِينَ بالحُجَّةِ، وإن كانوا مُفَرَّقينَ في البلادِ، مغلوبينَ في ظاهرِ الحياةِ الدُّنيا). ((تفسير ابن عطية)) (5/305). وممَّن ذهب في الجُملةِ إلى أنَّ المرادَ: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا بعيسى عَلَى عَدُوِّهِمْ وهم مُخالِفُو عيسى: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والبِقاعي، وابنُ عاشور. ونسَبَه ابنُ الجوزي إلى الجُمهورِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/528)، ((تفسير البيضاوي)) (5/210)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/42)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/203)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/279). قال الماتُريدي: (هذا يحتملُ أن يكونَ في حياةِ عيسى عليه السَّلامُ حينَ اتَّبَعه الحَواريُّونَ، ثمَّ دعا بعدَ ذلك قومَه إلى دينِه، فآمنتْ طائفةٌ، وكفرتْ طائفةٌ، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ بالبَراهينِ والحُجَجِ على الطَّائفةِ الَّذين كفروا؛ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ على أعدائِهم بالحُجَجِ والبَراهينِ. ويجوزُ أن يكونَ بعدَ وفاةِ عيسى عليه السَّلامُ حينَ اختلَفوا في ماهيَّتِه: فمِنهم مَن قال: هو الله، ومنهم مَن قال: هو ابنُ الله؛ فكفرتْ به هذه الطَّائفةُ، وآمنتْ به طائفةٌ أخرى، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ حينَ وقَع لهم قِتالٌ؛ فنُصِروا عليهم وظَفِروا، واللهُ أعلَمُ). ((تفسير الماتريدي)) (9/637). وقال ابن عرفة: (لعلَّ المرادَ الحَواريُّونَ بالنَّوعِ لا بالشَّخصِ، بأولادِهم أو مَن ينتمي لهم، نُصِروا فانتصَروا). ((تفسير ابن عرفة)) (4/228). وقال البِقاعي: (الظَّاهرُ كما هو ظاهرُ قولِه تعالى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 55] وغيرِها أنَّ تأييدَ المؤمنينَ به كان بَعْدَ رفْعِه بيَسيرٍ حينَ ظهَر الحَواريُّونَ وانبثُّوا في البلادِ يَدْعون إلى اللهِ بما آتاهم مِن الآياتِ، فاتَّبَعهم النَّاسُ). ((نظم الدرر)) (20/42، 43). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: قوَّيْنا الَّذين آمَنوا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على عَدُوِّهم فأصبَحوا ظاهِرينَ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أهلِ الأديانِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/318). وقيل: المعنى: لَمَّا بَعَث اللهُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونَزَل تصديقُ مَن آمَنَ بعيسى؛ أصبَحَت حُجَّةُ مَن آمَنَ به ظاهِرةً بتَصديقِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ عيسى كَلِمةُ اللهِ ورُوحُه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجُملةِ: ابنُ جرير، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/623-624)، ((تفسير العليمي)) (7/47). وقال ابن كثير: (قوله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ أي: نصَرْناهم على مَن عاداهم مِن فِرَقِ النَّصارى، فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ أي: عليهم، وذلك ببَعثةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن كثير)) (8/113). وقال الألوسي: (قيل: اقتتَل المؤمنونَ والكفَرةُ بعدَ رفْعِه عليه السَّلامُ، فظهَرَ المؤمنونَ على الكفَرةِ بالسَّيفِ، والمشهورُ أنَّ القتالَ ليس مِن شريعتِه عليه السَّلامُ. وقيل: المرادُ: فآمنتْ طائفةٌ مِن بني إسرائيلَ بمحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكفرتْ أخرى به صلَّى الله تعالى عليه وسلَّمَ، فأيَّدْنا المؤمنينَ على الكفَرةِ، فصاروا غالِبينَ. وهو خِلافُ الظَّاهرِ). ((تفسير الألوسي)) (14/286). .
كما قال تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 55] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ أنَّ النَّصرَ والتَّأييدَ الكامِلَ إنَّما هو لأهلِ الإيمانِ الكامِلِ، وكما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] ، فمَن نَقَصَ إيمانُه نَقَصَ نصيبُه مِن النَّصرِ والتَّأييدِ؛ ولهذا إذا أُصِيبَ العَبدُ بمُصيبةٍ في نفْسِه أو مالِه، أو بإدالةِ عَدُوِّه عليه، فإنَّما هي بذُنوبِه؛ إمَّا بتَركِ واجبٍ، أو فِعْلِ مُحرَّمٍ، وهو مِن نَقْصِ إيمانِه، وبهذا يزولُ الإشكالُ الَّذي يُورِدُه كثيرٌ مِن النَّاسِ على قَولِه تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: 141] ، ويُجيبُ عنه كثيرٌ منهم بأنَّه لن يَجعَلَ لهم عليهم سَبيلًا في الآخرةِ، ويُجيبُ آخَرونَ بأنَّه لن يَجعَلَ لهم عليهم سَبيلًا في الحُجَّةِ. والتَّحقيقُ: أنَّها مِثلُ هذه الآياتِ، وأنَّ انتفاءَ السَّبيلِ هو عن أهلِ الإيمانِ الكامِلِ، فإذا ضَعُفَ الإيمانُ صار لِعَدُوِّهم عليهم مِن السَّبيلِ بحَسَبِ ما نَقَص مِن إيمانِهم، فهم جَعَلوا لهم عليهمُ السَّبيلَ بما تَرَكوا مِن طاعةِ اللهِ تعالى؛ فالمؤمِنُ عزيزٌ غالِبٌ، مُؤَيَّدٌ مَنصورٌ، مُكْفًى مدفوعٌ عنه بالذَّاتِ أين كان، ولو اجتمعَ عليه مَن بأقطارِها، إذا قام بحقيقةِ الإيمانِ وواجباتِه ظاهِرًا وباطِنًا [252] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/182). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ حُجَّةٌ واضِحةٌ في وُجوبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ؛ إذْ لا يَشُكُّ أحَدٌ أنَّ نَصْرَ اللهِ إنَّما هو نَصْرُ دِينِه، ولا يكونُ نَصْرُه إلَّا بالمعونةِ على إقامةِ أمْرِه ونَهْيِه وعُلُوِّهما، والأخذِ على يَدَيْ مَن يريدُ ذُلَّه وإهانتَه، ولا يكونُ ذُلُّه وإهانتُه إلَّا في تَضييعِ أمْرِه ونَهْيِه اللَّذَينِ قِوامُ الدِّينِ بهما [253] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/294). .
2- قَولُه تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ فيه بِشارةٌ للمُؤمِنينَ بالتَّأييدِ الرَّبَّانيِّ لهم ما داموا مُتناصِرينَ على الحَقِّ، مجتَمِعينَ عليه، غيرَ مُتفَرِّقينَ عنه، ولا مُتخاذِلينَ، كما وقَعَ لسَلَفِهم؛ اتَّفَقوا فمَلَكوا، وإلَّا فإذا تفَرَّقوا هَلَكوا [254] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/225). .

بلاغة الآية:

- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ... خِطابٌ آخَرُ للمؤمنينَ تَكملةً لِما تَضمَّنَه الخِطابُ بقولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ إلى قولِه: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف: 10، 11] الآيةَ، الَّذي هو المقصودُ مِن ذلك الخِطابِ، فجاء هذا الخِطابُ الثَّاني تَذكيرًا بأُسوةٍ عَظيمةٍ مِن أحوالِ المُخلِصينَ مِن المؤمنينَ السَّابقينَ -وهم أصحابُ عِيسى عليه السَّلامُ- مع قِلَّةِ عَدَدِهم وضَعْفِهم [255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/198). .
- والتَّشبيهُ بدَعوةِ عيسى ابنِ مَريمَ للحواريِّينَ وجَوابِ الحواريِّينَ تَشبيهُ تَمثيلٍ [256] التَّشبيهُ: هو إلحاقُ شَيءٍ بذِي وصْفٍ في وَصْفِه. وقيل: إثباتُ حُكمٍ للمُشَبَّهِ مِن أحكامِ المُشبَّهِ به. وقد اتَّفق الأدباءُ على شَرفِه في أنواعِ البلاغةِ، وأنَّه إذا جاء في أعقابِ المعاني أفادَها كمالًا، وكساها حُلَّةً وجَمالًا، وهو جارٍ في كلامِ العربِ، بل هو أكثرُ كلامِهم. ويَنقسِمُ التَّشبيهُ عِدَّةَ تقسيماتٍ باعتباراتٍ عِدَّةٍ؛ فمنه: التَّشبيهُ المُفرَدُ. ومنه: التَّشبيهُ المركَّبُ: وهو الَّذي يكونُ وجْهُ الشَّبَهِ فيه مُنتزَعًا مِن متعدِّدٍ، أو مِن أمورٍ مجموعٍ بعضُها إلى بعضٍ، كقولِه تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5]؛ فالتَّشبيهُ مُركَّبٌ مِن أحوالِ الحِمارِ. وخصَّ البَيانيُّونَ لفظَ «التَّمثيلِ» بالتَّشبيهِ المركَّبِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 332 وما بعدها)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي، (3/414، 422)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 244)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/66)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/161). ، أي: كُونوا عندَما يَدْعوكم محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى نصْرِ اللهِ كحالةِ قَولِ عيسى ابنِ مَريمَ للحواريِّينَ واستِجابتِهم له. والتَّشبيهُ لقصْدِ التَّنظيرِ والتَّأسِّي؛ فقدْ صَدَقَ الحواريُّون وَعْدَهم وثَبَتوا على الدِّينِ، ولم تُزَعْزِعْهمُ الفِتَنُ والتَّعذيبُ [257] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 563)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/199، 200). .
- و(ما) في قولِه: كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ مَصدريَّةٌ، أي: كَقولِ عيسى وقولِ الحواريِّين. وفيه حذْفُ مُضافٍ تَقديرُه: لكَونِ قولِ عيسى وقولِ الحواريِّينَ؛ فالتَّشبيهُ بمَجموعِ الأمْرَينِ: قولِ عيسى وجوابِ الحواريِّينَ؛ لأنَّ جَوابَ الحواريِّينَ بمَنزلةِ الكلامِ المُفرَّعِ على دَعوةِ عيسى، وإنَّما تُحذَفُ الفاءُ في مِثلِه مِن المُقاوَلاتِ والمُحاوَراتِ للاختصارِ [258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/200). .
- وقولُ عيسى عليه السَّلامُ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ استِفهامٌ؛ لاختبارِ انتِدابِهم إلى نصْرِ دِينِ اللهِ معه [259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/200). . وإضافةُ (أنصار) إلى ياءِ المُتكلِّمِ -وهو عيسى- مِن إضافةِ أحدِ المُتشاركَينِ إلى الآخَرِ؛ لِما بيْنَهما مِن الاختصاصِ، أي: باعتبارِهم أنصارَ دَعوتِه [260] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/528)، ((تفسير البيضاوي)) (5/210)، ((تفسير أبي السعود)) (8/246)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/200). .
- وإضافةُ أَنْصَارِي خِلافُ إضافةِ أَنْصَارُ اللَّهِ؛ فالإضافةُ الأُولى مَحْضةٌ، والثَّانيةُ غيْرُ مَحْضةٍ، وفائدةُ هذا الاختلافِ: الإيذانُ بأنَّ الَّذي يُطلَبُ منهمْ هو النُّصرةُ المُعتبَرةُ، وهو اختصاصُهم به وما أخْبَروا به عن أنفُسِهم ليس إنشاءً للنُّصرةِ، بل ادِّعاءً منهم أنَّهم الَّذين يَنصُرون اللهَ، ولذلك عُقِّبَ بقولِه: فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ [261] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/528)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/397). .
- ووُصِلَ وصْفُ أَنْصَارِي بـ (إلى)؛ إمَّا على تَضمينِ صِفةِ (أنْصار) مَعنى الضَّمِّ، أي: مَن ضامُّون نصْرَهم إيَّايَ إلى نصْرِ اللهِ إيَّايَ الَّذي وَعَدني به؛ إذْ لا بُدَّ لحُصولِ النَّصرِ مِن تَحصيلِ سَببِه، كما هي سُنَّةُ اللهِ؛ قال تعالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد: 7] ، على نحْوِ قولِه تعالَى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء: 2] ، أي: ضامِّينَها، فهو ظَرْفُ لَغوٍ، فالمَعنى: مَن أنْصاري مع اللهِ، و(إلى) إنَّما قارَبَت مَعنى (مع)؛ لأنَّها إذا عُبِّرَ عنها بها أفادَت مَعناها، لا أنَّ (إلى) بمَعنى (مع)؛ لأنَّ (إلى) لانتهاءِ الغايةِ، و(مع) لضَمِّ الشَّيءِ إلى الشَّيءِ، فالمعنى: مَن يُضِيفُ نُصْرتَه إيَّايَ إلى نُصرَتِه تعالى، ولِما أنَّ الحُروفَ قدْ تَتقارَبُ في الفائدةِ رُبَّما يُظَنُّ أنَّ مَعناها واحدٌ.
وإمَّا على جَعلِه حالًا مِن ياءِ المتكلِّمِ، والمعنى: في حالِ ذَهابي إلى اللهِ، أي: إلى تَبليغِ شَريعتِه، فيكونُ المجرورُ ظَرْفًا مُستقَرًّا [262] الظَّرْفُ المُستقَرُّ -بفتحِ القافِ-: سُمِّيَ بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذَينِ الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وُجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّي ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). . وعلى كِلا الوجْهينِ فالكونُ الَّذي اقتَضاهُ المجرورُ هو كَونٌ مِن أحوالِ عيسى عليه السَّلامُ، ولذلك لم يَأْتِ الحواريُّونَ بمِثلِه في قولِهم: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ.
أو يَتعلَّقُ بمَحذوفٍ حالًا مِن الياءِ، أي: مَن أنْصاري ذاهبًا إلى اللهِ مُلتجِئًا إليه، ومعنى مَنْ أَنْصَارِي: مَن الأنصارُ الَّذين يَختصُّون بي، ويكونونَ معي في نُصرةِ اللهِ [263] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (1/218)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/416)، ((تفسير الزمخشري)) (1/365) و(4/528)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (4/117)، ((إعراب القرآن)) لمحيي الدين درويش (10/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/255). ؟ وقيل: (إِلَى) هاهنا بمَعنى (في) أو اللَّامِ [264] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/19). .
- قيل: شُبِّهَ دُعاؤهم إلى الدِّينِ وتَعليمُهم النَّاسَ ما يَرْضاهُ اللهُ لهم؛ بسَعيِ ساعِينَ إلى اللهِ ليَنصُروه، كما يَسْعى المُستنْجَدُ بهمْ إلى مَكانِ مُستنْجِدِهم لِيَنصُروه على مَن غَلَبَه؛ ولذلك كان الجوابُ المحْكيُّ عن الحواريِّينَ مُطابِقًا للاستفهامِ؛ إذ قالوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ، أي: نحْنُ نَنصُرُ اللهَ على مَن حادَّه وشاقَّه، أي: نَنصُرُ دِينَه [265] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/210)، ((تفسير أبي السعود)) (8/246)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/200). .
- ومَقالةُ عيسى عليه السَّلامُ المَحكيَّةُ في هذه الآيةِ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ غيرُ مَقالتِه المَحكيَّةِ في آيةِ (آلِ عِمرانَ): فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52] ؛ فإنَّ تلك مُوجَّهةٌ إلى جَماعةِ بَني إسرائيلَ الَّذين أحَسَّ منهم الكفْرَ لَمَّا دَعاهم إلى الإيمانِ به. أمَّا مَقالتُه المَحكيَّةُ هنا فهي مُوجَّهةٌ للَّذين آمَنوا به طالبًا منهم نُصرَتَه؛ لقولِه تعالَى: كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ الآيةَ؛ فلذلك تَعيَّنَ اختلافُ مُقْتضى الكلامَينِ المُتماثلَينِ. وعلى حسَبِ اختِلافِ المَقامَينِ يَجْري اختِلافُ اعتِبارِ الخُصوصيَّاتِ في الكلامينِ وإنْ كانَا مُتشابهَينِ؛ فإضافةُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران: 52] هناك إضافةٌ لَفظيَّةٌ، وبذلك لم يكُنْ قولُهم: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران: 52] مُفيدًا للقَصْرِ؛ لانعدامِ تَعريفِ المُسنَدِ، فأمَّا هنا فالأظهَرُ أنَّ كلمةَ أَنْصَارُ اللَّهِ اعتُبِرَت لَقبًا للحواريِّينَ، عرَّفوا أنفُسَهم به، وخَلَعوه على أنفُسِهم؛ فلذلك أرادوا الاستِدلالَ به على أنَّهم أحقُّ النَّاسِ بتَحقيقِ مَعْناه؛ ولذلك تكونُ إضافةُ (أنصار) إلى اسمِ الجلالةِ هنا إضافةً مَعنويَّةً مُفيدةً تَعريفًا، فصارت جُملةُ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ هنا مُشتملةً على صِيغةِ قصْرٍ، على خِلافِ نَظيرتِها التي في سُورةِ (آلِ عمرانِ)، ففي حِكايةِ جَوابِ الحواريِّينَ هنا خُصوصيَّةُ صِيغةِ القصْرِ بتَعريفِ المُسنَدِ إليه والمُسنَدِ، وخُصوصيَّةُ التَّعريفِ بالإضافةِ، فكان إيجازًا في حِكايةِ جَوابِهم بأنَّهم أجابوا بالانتدابِ إلى نصْرِ الرَّسولِ، وبجَعْلِ أنفُسِهم مَحقوقينَ بهذا النَّصرِ؛ لأنَّهم مَحَّضوا أنفُسَهم لنصْرِ الدِّينِ، وعُرِفوا بذلك، وبحصْرِ نَصْرِ الدِّينِ فيهم حصْرًا يُفيدُ المُبالَغةَ في تَمحُّضِهم له، حتَّى كأنَّه لا ناصَرَ للدِّينِ غيرُهم مع قِلَّتِهم، وإفادته التَّعريضَ بكُفْرِ بَقيَّةِ قَومِهم مِن بني إسرائيلَ [266] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/202). .
- وفُرِّعَ قولُه: فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ على قولِ الحواريِّينَ: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ بأنَّ بني إسرائيلَ افتَرَقوا طائفتَينِ: طائفةٌ آمَنَتْ بعيسى وما جاء به، وطائفةٌ كَفَرَتْ بذلك، وهذا التَّفريعُ يَقْتضي كلامًا مُقدَّرًا، وهو: فَنَصَروا اللهَ بالدَّعوةِ والمُصابَرةِ عليها، فاستجابَ بعضُ بني إسرائيلَ وكفَرَ بعْضٌ، والمَقصودُ مِن قولِه: فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ التَّوطئةُ لقولِه: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/202، 203). .
- وإنَّما قال: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا ولم يَقُلْ: (فأيَّدْناهم)؛ لأنَّ التَّأييدَ كان لمَجموعِ المؤمنينَ بعيسى، لا لكلِّ فرْدٍ منهم؛ إذ قد قُتِلَ مِن أتْباعِه خلْقٌ كثيرٌ، ومُثِّلَ بهم [268] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/203). .
- والمَقصودُ مِن هذا الخبرِ: وَعْدُ المسلِمينَ الَّذين أُمِروا أنْ يَكونوا أنصارًا للهِ بأنَّ اللهَ مُؤيِّدُهم على عَدُوِّهم [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/203). .