موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (113-116)

ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ

غريب الكلمات:

لَأَوَّاهٌ: أي: كثيرُ التَّوجُّعِ شَفَقًا وفَرَقًا، كثيرُ التضرُّعِ والدُّعاءِ لله، وكلُّ كلامٍ يدُلُّ على حُزنٍ يُقالُ له: التَّأَوُّه [1936] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/34)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 62)، ((المفردات)) للراغب (ص: 101). .
حَلِيمٌ: أي: بَطيءُ الغَضَبِ، يَصبِرُ على الأذى. والحِلمُ: الأناةُ والسُّكونُ مع القُدرةِ والقُوَّةِ، وأصلُ (حلم): يدلُّ على تَرْكِ العَجَلةِ [1937] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 18)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/93)، ((المفردات)) للراغب (ص: 253)، ((تفسير القرطبي)) (8/276)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 404). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: ما كان ينبغي للنَّبيِّ والمؤمنينَ أن يستغفِروا للمُشرِكينَ، ولو كانوا مِن أقاربِهم، مِن بعدِ ما تبيَّنَ لهم أنَّهم أهلُ النَّارِ المُخَلَّدونَ فيها، إن ماتوا على كُفْرِهم.
وبيَّنَ تعالى أنَّ استِغفارَ إبراهيمَ لأبيه إنَّما كان بسبَبِ وَعْدِه له بذلك، فلمَّا اتَّضَح لإبراهيمَ أنَّ أباه عدُوٌّ لله، تبَرَّأَ منه، وترَكَ الاستغفارَ له؛ إنَّ إبراهيمَ لكثيرُ التضرُّعِ والدُّعاءِ لله؛ خوفًا وحَزنًا، ذو رحمةٍ بهم، وصفحٍ عما يصدرُ منهم إليه.
ثم أخبَرَ تعالى أنَّه ما كان لِيُضِلَّ قَومًا بعد هدايتِه لهم إلى الإيمانِ، حتى يُبيِّنَ لهم ما يجِبُ عليهم تَركُه؛ إنَّه بكلِّ شَيءٍ عَليمٌ.
ويُخبِرُ تعالى أنَّ له وَحْدَه مُلكَ السَّمواتِ والأرضِ، يُحيى ويُميتُ، وأنه ليس للنَّاسِ مِن أحدٍ ينفَعُهم غيرُه سبحانَه، ولا أحَد ينصُرُهم سواه.

تفسير الآيات:

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى مِن أوَّلِ هذه السُّورةِ إلى هذا المَوضِع وُجوبَ إظهارِ البَراءةِ عن الكُفَّار والمُنافِقينَ مِن جَميعِ الوُجوهِ؛ بَيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّه تجِبُ البراءةُ عن أمواتِهم، وإن كانوا في غايةِ القُربِ مِن الإنسانِ كالأبِ والأمِّ، كما أوجبَت البراءةَ عن أحيائِهم، والمقصودُ منه بيانُ وجوبِ مُقاطَعتِهم على أقصى الغاياتِ، والمنع مِن مُواصَلتِهم بسببٍ مِن الأسبابِ [1938] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/157). .
وأيضًا لَمَّا كَثُرَت في هذه السُّورةِ الأوامِرُ بالبراءةِ مِن أحياءِ المُشرِكينَ، وجاء الأمرُ أيضًا بالبراءةِ من أمواتِ المُنافِقينَ بالنَّهيِ عن الدُّعاءِ لهم؛ جاءت هذه الآيةُ مُشيرةً إلى البراءةِ مِن كُلِّ مُشرِكٍ، فوقَعَ التَّصريحُ بعدها بما أشارَت إليه [1939] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/29). .
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ
عن سعيدِ بنِ المُسيِّبِ، عن أبيه، قال: ((لَمَّا حَضَرت أبا طالبٍ الوفاةُ جاءه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أميَّةَ بن المُغيرةِ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا عَمِّ، قلْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، كَلِمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ، فقال أبو جهلٍ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي أميَّةَ: يا أبا طالبٍ، أترغَبُ عن ملَّةِ عبد المطَّلِب؟! فلم يزَلْ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعرِضُها عليه، ويُعيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمَهم: هو على مِلَّةِ عبد المطَّلِب، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَا واللهِ لأستَغفِرَنَّ لك ما لم أُنهَ عنك، فأنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وأنزل اللهُ تعالى في أبي طالبٍ، فقال لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) [1940] رواه البخاري (3884)، ومسلم (24) واللفظ له. قال الواحدي: (قال عامَّةُ المفَسِّرين: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عرَضَ على عمِّه أبي طالبٍ الإسلامَ عند وفاتِه، وذكَرَ له وجوبَ حَقِّه عليه، وقال: ((أعنِّي على نفسِك بكلمةٍ أشفَعُ لك بها عندَ الله يومَ القيامة))، فأبى أبو طالبٍ، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم: ((لأستغفِرَنَّ لك حتى أُنهى عن ذلك)) فاستغفَرَ له بعدما مات، فاستغفَرَ المُسلِمونَ لآبائهم وذوي قَراباتِهم، فنزلت هذه الآيةُ... واستبعَدَه الحسين بن الفضل؛ لأنَّ هذه السورةَ مِن آخِرِ القُرآنِ نُزولًا، ووفاةُ أبي طالبٍ كانت بمكَّةَ في عنفوانِ الإسلامِ، والله أعلم). ((البسيط)) (11/73). وقال الرازي: (هذا الاستبعادُ عندي مُستبعَدٌ، فأيُّ بأسٍ أن يقالَ: إنَّ النبيَّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ بَقِيَ يستغفِرُ لأبي طالبٍ من ذلك الوقتِ إلى وقتِ نُزولِ هذه الآية؟! فإنَّ التَّشديدَ مع الكفَّارِ إنَّما ظهر في هذه السُّورة، فلعلَّ المؤمنينَ كان يجوزُ لهم أن يستغفِروا لأبوَيهم مِن الكافرينَ، وكان النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أيضًا يفعَلُ ذلك، ثمَّ عند نزولِ هذه السُّورةِ مَنَعَهم اللهُ منه، فهذا غيرُ مُستبعَدٍ في الجملة). ((تفسير الرازي)) (16/157). وقال ابنُ حجر: (قولُه: فنزلَت: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، ونزلت: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، أمَّا نزولُ هذه الآيةِ الثَّانية فواضِحٌ في قصة أبي طالبٍ، وأمَّا نزولُ التي قبلها ففيه نظرٌ، ويظهَرُ أنَّ المرادَ أنَّ الآيةَ المتعلِّقةَ بالاستغفارِ نزلت بعد أبي طالبٍ بمدَّةٍ، وهي عامَّةٌ في حقِّه وفي حقِّ غَيرِه، ويوضِّحُ ذلك ما سيأتي في التَّفسيرِ بلفظِ: فأنزل اللهُ بعد ذلك: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، وأنزل في أبي طالبٍ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، ولأحمد من طريقِ أبي حازم عن أبي هريرةَ في قصَّة أبي طالبٍ قال: فأنزل الله إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ). ((فتح الباري)) (7/195). وقال القاسمي: (ساق المفسِّرون هاهنا رواياتٍ عديدةً في نزولِ الآيةِ، ولَمَّا رآها بعضُهم مُتنافيةً حاول الجمعَ بينها بتعدُّدِ النُّزول، ولا تنافيَ؛ لِمَا قدَّمناه من أنَّ قولَهم: نزلت في كذا. قد يرادُ به: أنَّ حكمَ الآيةِ يشمَلُ ما وقَعَ مِن كذا، بمعنى: أنَّ نزولَها يتناولُه. وقد يرادُ به: أنَّ كذا كان سببًا لنزولِها، وما هنا من الأوَّلِ، ونظائرُه كثيرةٌ في التنزيلِ). ((تفسير القاسمي)) (5/515). [القصص: 56] .
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ.
أي: ما ينبغي للنبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُؤمِنينَ أن يسألوا اللهَ المَغفِرةَ للَّذينَ يَعبُدونَ معه غيرَه [1941] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/19، 28)، ((تفسير الرازي)) (16/158)، ((تفسير القرطبي)) (8/274)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/46)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى.
أي: ولو كانوا مِن أقاربِهم [1942] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/19)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/46)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/45). .
كما قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22] .
وعَن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قَالَ: ((زارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قبرَ أُمِّه، فبَكَى وأبكَى مَن حولَه، فقالَ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أنْ أستغْفِرَ لها فلم يُؤْذَنْ لي، واستأذنْتُه في أنْ أزورَ قبرَها فأُذِنَ لي، فَزُوروا القبورَ فإنَّها تُذَكِّرُ الموتَ) ) [1943] أخرجه مسلم (976). .
مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.
أي: مِن بعدِ ما تبيَّن لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وللمُؤمنينَ أنَّ المُشرِكينَ هم أهلُ النَّارِ الخالِدونَ فيها؛ بمَوتِهم على الكُفرِ [1944] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/19، 26، 28)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/473)، ((تفسير ابن عطية)) (3/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). .
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ المقصودَ ألَّا يتوهَّمَ إنسانٌ أنَّه تعالى منَعَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بَعضِ ما أذِنَ لإبراهيمَ فيه [1945] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/158). ؛ فقد بيَّنَ تعالى أنَّ هذا الحُكمَ- وهو إيجابِ الانقطاعِ عن الكُفَّارِ أحيائِهم وأمواتِهم- غَيرُ مُختَصٍّ بدِينِ مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بل المبالغةُ في تقريرِ وُجوبِ الانقطاعِ كانت مشروعةً أيضًا في دِينِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فتكونُ المبالغةُ في تقريرِ وُجوبِ المُقاطعةِ والمُباينةِ مِن الكفَّارِ أقوى [1946] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/158). .
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ.
أي: وما وقعَ استغفارُ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيه، إلَّا بِسبَبِ وَعدِه له بأنَّه سيستغفِرُ له [1947] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/19، 26)، ((تفسير ابن عطية)) (3/91)، ((تفسير الرازي)) (16/159)، ((تفسير الشوكاني)) (2/467)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/48)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/428). قال ابن عطية: (المعنى: لا حُجَّةَ- أيُّها المؤمنونَ- في استغفارِ إبراهيمَ الخليلِ لأبيه؛ فإنَّ ذلك لم يكُنْ إلَّا عن مَوعدةٍ). ((تفسير ابن عطية)) (3/91). .
كما قال تعالى حاكيًا عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قَولَه: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 41] .
وقال سُبحانه عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 46-47] .
وقال عزَّ وجَلَّ حاكيًا عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قَولَه: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86] .
وقال تبارك وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: 4] .
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.
أي: فلمَّا عَلِمَ إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ أباه عدوٌّ لله، تبرَّأَ منه، وترَكَ الاستغفارَ له [1948] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/19، 33)، ((تفسير الألوسي)) (6/34)، ((تفسير القاسمي)) (5/515)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353). قال الرازي: (اختلفوا في السَّبَب الذي به تبيَّنَ لإبراهيمَ أنَّ أباه عدوٌّ لله. فقال بعضُهم: بالإصرارِ والموتِ. وقال بعضُهم: بالإصرارِ وحده. وقال آخرون: لا يَبعُد أنَّ الله تعالى عرَّفَه ذلك بالوحي، وعند ذلك تبَرَّأ منه. فكأنَّه تعالى يقول: لَمَّا تبيَّنَ لإبراهيمَ أنَّ أباه عدوٌّ لله تبَرَّأ منه، فكونوا كذلك؛ لأنِّي أمرْتُكم بمتابعةِ إبراهيمَ في قولِه: وَاتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النساء: 125] ). ((تفسير الرازي)) (16/159)، ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/46). .
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ.
أي: إنَّ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لكثيرُ التضرُّعِ والدُّعاءِ لله؛ خوفًا وحَزنًا، صابرٌ على أذى النَّاسِ له، ذو رحمةٍ بهم، وصفحٍ عما يصدرُ منهم إليه [1949] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/44، 46)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/473، 474)، ((تفسير ابن عطية)) (3/92)، ((تفسير الرازي)) (16/158)، ((تفسير القرطبي)) (8/276)، ((تفسير السعدي)) (ص: 353)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/46). .
كما قال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود: 74 - 76] .
وقال سبحانه: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 46 - 48] .
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا منَعَ اللهُ تعالى المُؤمِنينَ من أن يستَغفِروا للمُشرِكينَ، والمُسلِمونَ كانوا قد استغفَروا للمُشرِكينَ قبلَ نُزولِ هذه الآيةِ، فإنَّهم قبلَ نُزولِ هذه الآيةِ كانوا يستغفِرونَ لآبائِهم وأُمَّهاتِهم وسائرِ أقرِبائِهم ممَّن مات على الكُفرِ، فلمَّا نزَلَت هذه الآيةُ خافوا بسبَبِ ما صدَرَ عنهم قبل ذلك من الاستغفارِ للمُشرِكينَ.
وأيضًا فإنَّ أقوامًا مِن المُسلِمينَ الذين استغفَروا للمُشرِكينَ، كانوا قد ماتوا قبلَ نُزولِ هذه الآيةِ، فوقعَ الخوفُ عليهم في قلوبِ المُسلِمينَ أنَّه كيف يكونُ حالُهم، فأزال اللهُ تعالى ذلك الخَوفَ عنهم بهذه الآيةِ، وبيَّنَ أنَّه تعالى لا يؤاخِذُهم بعمَلٍ إلَّا بعد أن يُبيِّنَ لهم أنَّه يجِبُ عليهم أن يتَّقوه ويَحتَرِزوا عنه [1950] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/160). .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ الله تعالى أنَّه لا يُستغفَرُ لِلمشركينَ ولو كانوا أُولي قربَى، فمُنِعَ رسولُ اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الاستغفارِ لعَمِّه أبي طالِبٍ، ومُنِعَ إبراهيمُ مِنَ الاستغفارِ لأبيه، وكذلك مُنِعَ المسلمونَ مِنَ الاستغفارِ للمشركينَ أقرباءَ وغيرَ أقْرِباءَ، فكأنَّه قِيل: لا تَعْجَبْ لتبايُنِ هؤلاءِ، فإضلالُ هؤلاءِ لم يكُنْ إِلَّا بعدَ أنْ أرشدَهم اللَّهُ إلى طريقِ الحقِّ بما ركَز فيهم مِن حُجَجِ العقولِ الَّتي أغْفَلوها، وتبيينِ ما يتَّقُونَ بطريقِ الوحيِ، فتظافَرتْ عليهم الحُجَجُ العقليَّةُ والسمعيَّةُ، ومعَ ذلك لم يُؤْمِنوا ولم يَتَّبِعوا ما جاءتِ الرُّسلُ به عن اللَّه تعالَى، ولذلك خَتَمها بقولِه: أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فيُضلُّ مَن يشاءُ، ويختصُّ بالهدايةِ مَن يشاءُ [1951] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/515-516). .
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ.
أي: وليس مِن سُنَّةِ اللهِ في خَلْقِه، ولا مِن حِكمَتِه وعَدْلِه أن يُضِلَّ قَومًا بعد هِدايَتِه لهم إلى الإيمانِ، حتى يبيِّنَ لهم ما يجِبُ عليهم تَركُه، فإذا بيَّنَ لهم ولم يتَّقوا استحَقُّوا إضلالَه لهم، وعقابَه عليهم [1952] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/46)، ((تفسير ابن عطية)) (3/92)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/306)، ((تفسير القرطبي)) (8/277)، ((تفسير ابن كثير)) (4/227)، ((تفسير الشوكاني)) (2/469)، ((تفسير القاسمي)) (5/517)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/47). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] .
وقال سُبحانه: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [فصلت: 17-18] .
إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله عليمٌ بجميعِ الأشياءِ، لا يخفى عليه شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ [1953] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (2/413)، ((تفسير الشوكاني)) (2/469)، ((تفسير الألوسي)) (6/52)، ((تفسير القاسمي)) (5/517). قال القاسمي: (قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعليلٌ لِما سبَقَ، أي: إنَّه تعالى عليمٌ بجميعِ الأشياءِ التي من جُملَتِها حاجَتُهم إلى بيانِ قُبحِ ما لا يستقِلُّ العَقلُ بمَعرفتِه، فبيَّنَ لهم ذلك، كما فعلَ هنا). ((تفسير القاسمي)) (5/517). .
إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (116).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالبَراءةِ مِن الكفَّارِ؛ بيَّنَ أنَّه له مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ، فإذا كان هو ناصِرًا لكم، فهم لا يَقدِرونَ على إضرارِكم [1954] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/161). .
وأيضًا فإنَّه حينَ أمرَهم بالبراءةِ مِن المشركينَ، فإنَّه لا يمكنُهم الاختلاطُ بآبائِهم وأولادِهم وإخوانِهم؛ لأنَّه ربَّما كان الكثيرُ منهم كافرينَ، فقد يتطرقُ إلى نفوسِهم ما يصيرونَ إليه مِن نقصٍ وحاجةٍ إلى المعينِ والناصرِ، والمرادُ أنَّكم إن صِرْتُم مَحرومينَ عن مُعاوَنتِهم ومُناصَرتِهم، فالإلهُ الذي هو المالِكُ للسَّمَواتِ والأرضِ، والمُحْيي والمُميتُ؛ ناصِرُكم، فلا يضُرُّكم أن يَنقَطِعوا عنكم [1955] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/161). .
وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا أمَرَ بهذه التَّكاليفِ الشَّاقَّةِ، كأنَّه قال: وجَبَ عليكم أن تَنقادوا لحُكمي وتَكليفي؛ لِكَوني إلهَكم، ولِكَونِكم عبيدًا لي [1956] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/161). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى عِلْمَه بكُلِّ شَيءٍ، فهو يعلَمُ ما يَصلُحُ لكُلِّ أحَدٍ، وما هُيِّئَ له في سابِقِ الأزَلِ؛ ذكَرَ ما دَلَّ على القُدرةِ الباهرةِ مِن أنَّه له ملكُ السَّمَواتِ والأرضِ، فيتصَرَّفُ في عبادِه بما شاء، ثمَّ ذكَرَ مِن أعظَمِ تَصَرُّفاتِه الإحياءَ والإماتةَ، أي: الإيجادَ والإعدامَ [1957] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/516). .
إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.
أي: إنَّ اللهَ وَحْدَه له سُلطانُ السَّمواتِ والأرضِ، لا شَريكَ له في خَلْقِه ولا تَدبِيرِه ولا تشريعِه [1958] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/48)، ((تفسير الشوكاني)) (2/469، 470)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 354)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/48). .
يُحْيِـي وَيُمِيتُ.
أي: اللهُ وَحْدَه يُحيي مَن يشاءُ، ويُميتُ مَن يَشاءُ [1959] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/48)، ((تفسير السعدي)) (ص: 354)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/48). .
كما قال سبُحانَه: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحديد: 2] .
وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ.
أي: وما لكم- أيُّها النَّاسُ- من أحدٍ غيرِ اللهِ ينفَعُكم، وما لكم من أحدٍ سواه ينصُرُكم، ويدفَعُ عنكم ما يضُرُّكم [1960] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/49)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 354). .

الفوائد التربوية:

قولُ الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ فيه مدحُ الحِلمِ والتَّأويه [1962] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:145). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى فيه تحريمُ الدُّعاءِ للكُفَّارِ بالمغفرةِ أحياءً وأمواتًا [1964] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 145). ، وكذلك وصفُهم بذلك، كقَولِهم: المغفورُ له، المرحومُ فلانٌ [1965] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/46، 47). .
2- قَولُ الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى هذه الآيةُ تضمَّنَت قَطعَ مُوالاةِ الكُفَّارِ حَيِّهم ومَيِّتِهم؛ فإنَّ الله لم يجعَلْ للمُؤمِنينَ أن يستَغفِروا للمُشرِكينَ، فطَلَبُ الغُفرانِ للمُشرِك ممَّا لا يجوزُ [1966] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/273). .
3- دلَّ قولُه تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ على أنَّ استغفارَ الإنسانِ لِغَيرِه، لا ينفَعُه إلَّا مع الإيمانِ [1967] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/277). .
4- قَولُ الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ هذا التعبيرُ نفيٌ بمعنى النَّهيِ، ويُسمَّى نفيَ الشَّأنِ، وهو أبلَغُ في نفي الشَّيءِ نَفسِه؛ لأنَّه نَفيٌ مُعَلَّلٌ بالسَّبَب المُقتَضي له [1968] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/46). .
5- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ قولُه تَبَرَّأَ صيغةُ (تفعَّلَ) تفيدُ أنَّه أكرَهَ نَفسَه عليه السَّلامُ على البراءةِ، ثمَّ علَّلَ تعالى ما أفهَمَتْه صيغةُ التفعُّل من المعالجةِ بِقَولِه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي: شديدُ الرِّقَّةِ الموجِبةِ للتأوُّه من خوفِ اللهِ، ومِن الشَّفَقةِ على العِبادِ [1969] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/31). .
6- قَولُ الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ إنَّما وصَفَه تعالى بهَذَينِ الوَصفَينِ في هذا المقامِ؛ لأنَّه مَن كان كذلك، فإنَّه تَعظُمُ رِقَّتُه على أبيه وأولادِه؛ فبَيَّنَ تعالى أنَّه مع هذه العادةِ تبَرَّأَ من أبيه، وغلُظَ قلبُه عليه، لَمَّا ظَهرَ له إصرارُه على الكُفرِ، فأنتم بهذا المعنى أَولى، كذلك وصفُه أيضًا بأنَّه حليمٌ؛ لأنَّ أحدَ أسبابِ الحِلمِ رِقَّةُ القلبِ، وشِدَّةُ العَطفِ، لأنَّ المرءَ إذا كان حالُه هكذا اشتَدَّ حِلمُه عند الغضَبِ [1970] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/160). .
7- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يدلُّ على بُطلانِ قَولِ بَعضِ المُبتَدعةِ بالمؤاخَذةِ على ما يجِبُ بحُكمِ العَقلِ، كالصِّدقِ والأمانةِ. نعَمْ، إنَّ حُسنَه يُعلَمُ بالعَقلِ، ولكِنَّ التَّكليفَ الذي يُبنى عليه جزاءُ الآخرةِ لا يصِحُّ إلَّا بالشَّرعِ، كما تدلُّ عليه الآيةُ [1972] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/51). .
8- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ يُؤخَذُ منه أنَّ أحكامَ الإسلامِ العامَّةَ التي عليها مدارُ الجزاءِ في الآخرةِ، ويكَلَّفُ العَملَ بها كُلُّ مَن بلَغَتْه- إن كانت من الأحكامِ الشَّخصيَّةِ التي خوطِبَ بها أفرادُ الأمَّة كُلُّهم، ويُنَفِّذُها أئمَّتُها وأمراؤُها فيها- هي ما كانت قطعيَّةَ الدَّلالةِ بِبَيانٍ مِن اللهِ تعالى ورَسولِه، لا حُجَّةَ معه لأحدٍ في تَرْكِه، وأنَّ ما عداها مَنوطٌ بالاجتهادِ، فمن ظهَرَ له مِن نَصٍّ ظنِّيِّ الدَّلالةِ حُكمٌ، واعتقَدَ أنَّه مُرادُ اللهِ مِن الآيةِ، وجَبَ عليه اتِّباعُه، ومَن لا فَلا [1973] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/50). .
9- قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ في هذا أدَلُّ دليلٍ على أنَّ المعاصيَ إذا ارتُكِبَت وانتُهِكَ حِجابُها، كانت سببًا إلى الضَّلالةِ والرَّدى، وسُلَّمًا إلى تَرْكِ الرَّشادِ والهُدى [1974] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/277). .
10- قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ يعني أنَّ الله تعالى إذا مَنَّ على قومٍ بالهدايةِ، وأمَرَهم بسُلوكِ الصِّراطِ المُستَقيمِ؛ فإنَّه تعالى يتَمِّمُ عليهم إحسانَه، ويبَيِّنُ لهم جميعَ ما يحتاجونَ إليه، وتدعو إليه ضَرورتُهم، فلا يترُكُهم ضالِّينَ، جاهلينَ بأمورِ دِينِهم، ففي هذا دليلٌ على كمالِ رَحمتِه، وأنَّ شَريعتَه وافيةٌ بجَميعِ ما يحتاجُه العِبادُ، في أصولِ الدِّينِ وفُروعِه [1975] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 354). .
11- في قولِه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ حجةٌ على المعتزلةِ واضحةٌ؛ إذ قد جَمَعَ سبحانه بينَ الإضلالِ والهدَى منه؛ ولزومِ الحُجَّةِ للمُضَلِّينَ أو المهدِيِّينَ في آيةٍ واحدةٍ متصلةِ المعاني بعضِها ببعضٍ [1976] يُنظر: ((النُّكت الدالة على البيان)) للقصَّاب (1/578). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
قولُه: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى جاءَت صيغةُ النَّهيِ عنِ الاستغفارِ للمُشرِكين بطريقِ نفيِ الكونِ؛ مُبالَغةً في التَّنزُّهِ عن هذا الاستغفارِ، وزيادةُ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى؛ للمُبالَغةِ أيضًا في استِقْصاءِ أقرَبِ الأحوالِ إلى المعذرةِ [1977] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/43). ، فدلَّتِ الآيةُ على المبالَغةِ في إظهارِ البَراءَةِ عَن المشرِكينَ والمنافِقين، والمنعِ مِن مُواصَلتِهم ولو كانوا في غايةِ القُربِ [1978] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/512، 513). .
2- قولُه تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
قولُه: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ جملةٌ مستأنَفةٌ مَسوقَةٌ لِتَقريرِ ما سبَق، ودَفْعِ ما يتَراءى بِحسَبِ الظَّاهِرِ مِن المُخالَفةِ [1979] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/107). .
قولُه: تَبَرَّأَ مِنْهُ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ فإنَّه لَمَّا كان استِغْفارُ إبراهيمَ لأبيهِ بصَددِ أن يُقتدَى به، بيَّن العِلَّةَ في استِغْفارِ إبراهيمَ لأبيه، وذكَر أنَّه حينَ اتَّضحَت له عَداوتُه للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [1980] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/513). .
قولُه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ الجملةُ استِئنافٌ لبيانِ ما كان يَدعُو إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ إلى ما صدَر عنه مِن الاستغفارِ، وما حمَله على الاستِغْفارِ لأبيه معَ شَكاسَتِه عليه [1981] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/100)، ((تفسير أبي السعود)) (4/108). .
وأيضًا في قولِه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ تأكيدٌ لوُجوبِ الاجتِنابِ عنه بعدَ التَّبيُّنِ بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تبَرَّأ مِن أبيه بعدَ التَّبيُّنِ وهو في كَمالِ رقَّةِ القلبِ والحِلْمِ، فلا بُدَّ أن يَكونَ غيرُه أكثرَ مِنه اجتِنابًا وتبَرُّؤًا، والأوَّاهُ: كثيرُ التَّأوُّهِ، وهو كِنايةٌ عن كَمالِ الرَّأفةِ، ورقَّةِ القلبِ [1982] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/108). .
3- قولُه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
قولُه: إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييلٌ مناسِبٌ للجُملةِ السَّابقةِ، ووُقوعُ إِنَّ في أوَّلِها يُفيدُ مَعْنى التَّفريعِ والتَّعليلِ لِمَضمونِ الجُملةِ السَّابقةِ، وهو أنَّ اللهَ لا يُضِلُّ قومًا بعدَ أن هَداهم حتَّى يُبيِّنَ لهم الحَقَّ [1983] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/48). .
4- قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ تذييلٌ ثانٍ في قوَّةِ التَّأكيدِ لِقَولِه: إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ، ولذلك فُصِلَ بدون عَطفٍ؛ لأنَّ ثُبوتَ مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ للهِ تعالى يَقْتضي أن يَكونَ عَليمًا بكلِّ شيءٍ؛ لأنَّ تَخلُّفَ العِلمِ عن التَّعلُّقِ ببَعضِ المتَمَلَّكاتِ يُفْضي إلى إضاعةِ شُؤونها؛ فافتِتاحُ الجُملةِ بـ(إِنَّ) معَ عدَمِ الشَّكِّ في مَضمونِ الخبَرِ يُعَيِّنُ أنَّ (إنَّ) لِمُجرَّدِ الاهتِمامِ، فتَكونُ مُفيدةً مَعْنى التَّفريعِ بالفاءِ والتَّعليلِ [1984] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/48). .
قولُه: يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ فيه زيادةُ جُملَتَي: يُحْيِي وَيُمِيتُ؛ لِتَصويرِ مَعْنى المُلْكِ في أتَمِّ مَظاهِرِه المَحسوسةِ للنَّاسِ، المُسَلَّمِ بينَهم أنَّ ذلك مِن تصرُّفِ اللهِ تَعالى لا يَستطيع أحَدٌ دَفْعَ ذلك ولا تأخيرَه، وعَطْفُ جملةِ: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ لتأييدِ المسلِمين بأنَّهم مَنصورونَ في سائرِ الأحوالِ؛ لأنَّ اللهَ وَليُّهم فهو نَصيرٌ لهم، ولإعلامِهم بأنَّهم لا يَخشَوْن الكفَّارَ؛ لأنَّ الكافِرين لا مَولَى لهم؛ لأنَّ اللهَ غاضِبٌ عليهِم، فهو لا يَنصُرُهم، وذلك مُناسِبٌ لغرَضِ الكَلامِ المتعلِّقِ باستِغْفارِهم للمُشرِكين بأنَّه لا يُفيدُهم [1985] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/48). .