موسوعة التفسير

سورةُ المُجادلةِ
الآيات (20-22)

ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْأَذَلِّينَ: أي: الأذِلَّاءِ الصَّاغِرينَ، وأصلُ (ذلل): يدُلُّ على الخُضوعِ والاستِكانةِ [422] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/492)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/345)، ((تفسير القرطبي)) (17/306)، ((تفسير ابن كثير)) (8/53). .
كَتَبَ اللَّهُ: أي: قضَى اللهُ وخَطَّ في أمِّ الكِتابِ، وأصل (كتب): يدُلُّ على جمْعِ شَيءٍ إلى شيءٍ [423] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 458)، ((تفسير ابن جرير)) (22/493)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/158)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7373)، ((البسيط)) للواحدي (21/357). .
عَشِيرَتَهُمْ: العَشِيرةُ: أهلُ الرَّجُلِ الَّذين يَتكَثَّرُ بهم، وأصلُ (عشر): يدُلُّ على مُدَاخَلةٍ ومُخالَطةٍ [424] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/324)، ((المفردات)) للراغب (ص: 567). .
حِزْبَ اللَّه: أي: أنصارُ اللهِ وجُندُه، وأصلُ (حزب): يدُلُّ على تجَمُّعِ شَيءٍ [425] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/532)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/55)، ((المفردات)) للراغب (ص: 231)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 185). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبينًا سُنَّةً مِن سُنَنِه في خَلقِه: إنَّ الَّذين يُعادونَ ويُشاقُّونَ اللهَ ورَسولَه أولئك مِن جملةِ أهلِ الذِّلَّةِ، قضى اللهُ بأنَّ له ولرُسُلِه النَّصرَ والغَلَبةَ في الدُّنيا والآخِرةِ، إنَّ اللهَ قَوِيٌّ عزيزٌ.
ثمَّ يخبِرُ تعالى عن صفةِ المؤمنينَ الصَّادقينَ مبيِّنًا حُسنَ عاقبتِهم: لا تَجِدُ -يا محمَّدُ- قَومًا يُؤمِنونَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ يُحِبُّونَ ويُوالُونَ مَن خالَفَ حُدودَ اللهِ ورَسولِه، ولو كان هؤلاء المحادُّون آباءَ أولئك المؤمِنينَ، أو أبناءَهم، أو إخوانَهم، أو أقارِبَهم وجماعتَهم، أولئك أثبَتَ اللهُ في قُلوبِهم الإيمانَ، وقوَّاهم بوَحْيِه، ومَعونتِه، ونصرِه، ومَددِه، وإحسانِه، ويُدخِلُهم اللهُ في الآخِرةِ جنَّاتٍ تَجري مِن تحتِها الأنهارُ ماكِثينَ فيها أبدًا، رَضِيَ اللهُ عنهم، ورَضُوا عنه، أولئك أولياءُ اللهِ وأنصارُه، ألَا إنَّ أولياءَ اللهِ وأنصارَه هم الفائِزونَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20).
أي: إنَّ الَّذين يُخالِفونَ ويُعادونَ اللهَ ورَسولَه أولئك مِن جملةِ أهلِ الذِّلَّةِ الشَّديدةِ [426] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/492)، ((تفسير القرطبي)) (17/306)، ((تفسير ابن كثير)) (8/53)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 848)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/56)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/554). .
كما قال الله تبارك وتعالى عن اليَهودِ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران: 112] .
وقال سُبحانَه: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران: 192] .
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21).
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي.
أي: قضى اللهُ وقدَّر تقديرًا ثابتًا لا يتخَلَّفُ ولا يتبدَّلُ بأنَّ له ولرُسُلِه النَّصرَ والغَلَبةَ في الدُّنيا والآخِرةِ على مَن خالَفَ الحَقَّ [427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/493)، ((تفسير القرطبي)) (17/306)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 848). قال ابن تيميَّة: (الغَلَبةُ للرُّسُلِ بالحُجَّةِ والقَهرِ، فمَن أُمِرَ منهم بالحَربِ نُصِرَ على عدُوِّه، ومَن لم يُؤمَرْ بالحربِ أُهلِكَ عَدُوُّه. وهذا أحسَنُ مِن قَولِ مَن قال: إنَّ الغَلَبةَ للمحارِبِ بالنَّصرِ، ولغيرِ المحارِبِ بالحُجَّةِ، فعُلِمَ أنَّ هؤلاء المحادِّينَ مُحارَبونَ مغلوبونَ). ((الصارم المسلول)) (ص: 23). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/141)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/555). وقال ابن كثير: (أي: قد حَكَم وكَتَب في كتابِه الأوَّلِ وقدَرِه الَّذي لا يُخالَفُ، ولا يُمانَعُ، ولا يُبدَّلُ: بأنَّ النُّصرةَ له ولكتابِه ورُسُلِه، وعبادِه المؤمنينَ؛ في الدُّنيا والآخرةِ، وأنَّ العاقِبةَ للمُتَّقينَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/53). ويُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/176-193). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171 - 173] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
أي: إنَّ اللهَ قَوِيٌّ فلا يُعجِزُه الانتِصارُ مِمَّن حادَّه ورُسُلَه، عزيزٌ لا يمتَنِعُ عليه شَيءٌ؛ فهو الغالِبُ الَّذي لا يُغلَبُ [428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/493)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/141)، ((تفسير ابن كثير)) (8/54)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/395، 396)، ((تفسير الشوكاني)) (5/230). .
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22).
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: لا يُمكِنُ أن تَجِدَ -يا محمَّدُ- قَومًا يُؤمِنونَ باللهِ، ويُؤمِنونَ باليَومِ الآخِرِ، ومع ذلك يُحِبُّونَ ويُوالُونَ مَن خالَفَ وعادَى اللهَ ورَسولَه [429] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/493)، ((تفسير القرطبي)) (17/307، 308)، ((تفسير النسفي)) (3/453)، ((تفسير ابن كثير)) (8/53)، ((تفسير الألوسي)) (14/228، 229)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/556). ذكر ابن عاشور أنَّ هذه الآيةَ رُويَ فيها أقوالٌ في سببِ نُزولِها، ثمَّ قال: (وليس يَلزَمُ أن يكونَ للآيةِ سببُ نُزولٍ؛ فإنَّ ظاهرَها أنَّها مُتَّصِلةُ المعنى بما قبْلَها وما بَعْدَها مِن ذمِّ المنافِقِينَ وموالاتِهم اليهودَ، فما ذُكِر فيها مِن قصصٍ لسببِ نُزولِها فإنَّما هو أمثلةٌ لِمُقتضى حكمِها). ((تفسير ابن عاشور)) (28/57، 58). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/500)، ((تفسير القرطبي)) (17/307). .
كما قال تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 28] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 51 - 54] .
وقال عزَّ وجلَّ: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 80، 81].
وقال جلَّ شأنُه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة: 1] .
وقال تبارك وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4] .
وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.
أي: لا يَجتَمِعُ الإيمانُ باللهِ وباليَومِ الآخِرِ مع موادَّةِ مَن حادَّ اللهَ ورَسولَه، ولو كان هؤلاء المحادُّون آباءَ أولئك المؤمِنينَ أو أبناءَهم أو إخوانَهم، أو أقارِبَهم وجماعتَهم [430] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/493)، ((الوسيط)) للواحدي (4/268)، ((تفسير الإيجي)) (4/282)، ((تفسير الجاوي)) (2/505)، ((تفسير السعدي)) (ص: 848). قال الرازي: (المرادُ أنَّ المَيلَ إلى هؤلاء أعظَمُ أنواعِ الميلِ، ومع هذا فيَجِبُ أن يكونَ هذا الميلُ مَغلوبًا مطروحًا بسَبَبِ الدِّينِ). ((تفسير الرازي)) (29/499). وقال البِقاعي: (مدارُ ذلك على أنَّ الإنسانَ يَقطَعُ رَجاءَه مِن غيرِ اللهِ، وإنْ لم يكُنْ كذلك لم يكُنْ مُخلِصًا في إيمانِه). ((نظم الدرر)) (19/398). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24] .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكم حتَّى أكونَ أحَبَّ إليه مِن والِدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أجمَعينَ )) [431] رواه البخاريُّ (15) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (44). .
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ.
أي: أولئك قرَّر وأثبَتَ اللهُ في قُلوبِهم الإيمانَ، فلا يَشُكُّونَ ولا يَرتَدُّونَ [432] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/494)، ((تفسير القرطبي)) (17/308)، ((تفسير ابن كثير)) (8/54)، ((تفسير السعدي)) (ص: 848)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/557). قال ابن عاشور: (كتابةُ الإيمانِ في القلوبِ نَظيرُ قَولِه تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] . وهي التَّقديرُ الثَّابتُ الَّذي لا تتخَلَّفُ آثارُه، أي: هم المؤمنونَ حَقًّا، الَّذين زَيَّن اللهُ الإيمانَ في قُلوبِهم، فاتَّبَعوا كمالَه، وسَلَكوا شُعَبَه). ((تفسير ابن عاشور)) (28/61). .
كما قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات: 7، 8].
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وَجَد بهِنَّ حلاوةَ الإيمانِ: مَن كان اللهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلَّا للهِ، وأن يَكرَهَ أن يعودَ في الكُفرِ بعدَ أن أنقَذَه اللهُ منه، كما يَكرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ )) [433] رواه البخاريُّ (16) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (43). .
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.
أي: وقَوَّاهم اللهُ بوَحْيِه، ومَعونتِه، ونصرِه، ومَددِه، وإحسانِه سُبحانَه [434] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 266)، ((تفسير ابن جرير)) (22/494)، ((تفسير القرطبي)) (17/308، 309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 848)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/61). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: بِرُوحٍ مِنْهُ: برحمةٍ منه. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ ابنُ سُلَيمانَ، وابنُ قُتَيْبةَ، وقال: (كذلك قال المفسِّرونَ). يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/266)، ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 266). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ في روايةٍ عنه، ومقاتلُ بنُ حَيَّانَ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (21/359). وقيل: المرادُ: بنُورِ الإيمانِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/142)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1078). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/ 265)، ((تفسير البغوي)) (5/50). وقيل: معناه: بهُدًى ولُطفٍ ونورٍ وتوفيقٍ إلهيٍّ ينقَدِحُ من القُرآنِ. ومِمَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، ومكِّي، وابن عطية، وابن جُزَي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/494)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7375)، ((تفسير ابن عطية)) (5/282)، ((تفسير ابن جزي)) (2/356). قال البقاعي: (وَأَيَّدَهُمْ أي: قَوَّاهم وشَدَّدَهم، وأعانهم وشَجَّعهم، وعَظَّمَهم وشَرَّفَهم بِرُوحٍ أي: نُورٍ شَريفٍ جِدًّا يَفهَمونَ به ما أُودِعَ في كتابِه وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن كُنوزِ العِلمِ والعَمَلِ، فهو لقُلوبِهم كالرُّوحِ للأبدانِ، فلا يَفعَلونَ شَيئًا مِن أحوالِ أهلِ الجاهليَّةِ). ((نظم الدرر)) (19/399). وقيل: أيَّدَهم بنَصرٍ منه. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: السَّمْعانيُّ، والبغوي، والخازن، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/394)، ((تفسير البغوي)) (5/50)، ((تفسير الخازن)) (4/265)، ((تفسير الشوكاني)) (5/231)، ((تفسير القاسمي)) (6/509). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/265)، ((البسيط)) للواحدي (21/359)، ((تفسير البغوي)) (5/50). وذكَرَ ابنُ القيِّم أنَّ الرُّوحَ هنا هي القُوَّةُ والثَّباتُ والنُّصرةُ الَّتي يُؤَيِّدُ بها مَن شاءَ مِن عبادِه المُؤمنينَ. يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 153). وقال السعدي: (قوَّاهم اللهُ برُوحٍ منه، أي: بوَحْيِه، ومَعونتِه، ومَدَدِه الإلهيِّ، وإحسانِه الرَّبَّانيِّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 848). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/496). وقيل: المرادُ بالرُّوحِ هنا: بكتابٍ أنزَله فيه حياةٌ لهم. وممَّن اختاره: النَّسَفيُّ. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/453). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّه القرآنُ وحُجَجُه: الربيعُ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/265)، ((تفسير البغوي)) (5/50). وقيل: المعنى: أيَّدَهم بجِبريلَ عليه السَّلامُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/308، 309). .
كما قال تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف: 14].
وعن أبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ: ((أنَّه سَمِعَ حَسَّانَ بنَ ثابتٍ الأنصاريَّ يَستَشهِدُ أبا هُرَيرةَ: أَنشُدُكَ اللهَ [435] أَنشُدُكَ اللهَ أي: أسألُك باللهِ، وأُقسِمُ عليك به. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/53). ، هل سَمِعتَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: يا حسَّانُ، أَجِبْ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، اللَّهُمَّ أيِّدْه برُوحِ القُدُسِ [436] برُوحِ القُدُسِ: أي: بجِبْريلَ، سُمِّيَ به؛ لأنَّه كان يأتي الأنبياءَ بما فيه حياةُ القُلوبِ، فهو كالمبدأِ لحياةِ القَلْبِ، كما أنَّ الرُّوحَ مَبدَأٌ لحياةِ الجَسدِ، والقُدُس: صِفةٌ للرُّوحِ، وإنَّما أُضيفَ إليه؛ لأنَّه مجبولٌ على الطَّهارةِ والنَّزاهةِ عن العيوبِ. وقيل: القُدُسُ بمعنى: المقَدَّسِ، وهو اللهُ، وإضافةُ الرُّوحُ إليه للتَّشريفِ. ثمَّ تأييدُه: إمدادُه له بالجواب، وإلهامُه لِما هو الحَقُّ والصَّوابُ. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/3015). ؟ قال أبو هُريرةَ: نَعَمْ)) [437] رواه البخاري (6152)، ومسلم (2485). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اهجُوا [438] اهجُوا أي: اشتِمْهم، يقال: هَجاهُ هِجاءً: إذا شتَمَه بالشِّعْرِ، وعَدَّدَ فيه مَعايِبَه. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (40/279). قُرَيشًا؛ فإنَّه أشَدُّ عليها مِن رَشْقٍ بالنَّبْلِ. قالت عائِشةُ: فسَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لحسَّانٍ: إنَّ رُوحَ القُدُسِ لا يَزالُ يؤيِّدُك ما نافَحْتَ [439] نَافَحْتَ: أي: دافَعْتَ، يُريدُ بِمُنافَحتِه هِجاءَ المشْرِكين، ومُجاوَبَتَهم على أشْعارِهم. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/89). عن اللهِ ورَسولِه)) [440] رواه مسلم (2490). .
وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: ويُدخِلُهم اللهُ في الآخِرةِ جنَّاتٍ تَجري مِن تحتِها الأنهارُ، وهم ماكِثونَ في تلك الجنَّاتِ أبدًا [441] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/494)، ((تفسير الشربيني)) (4/236)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/61). .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.
أي: رَضِيَ اللهُ عنهم فلا يَسخَطُ عليهم أبَدًا، ورَضُوا هم عن اللهِ بما أعطاهم مِن الكراماتِ، وإجزالِ المثوباتِ، وإدخالِ الجنَّاتِ [442] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/494)، ((تفسير السعدي)) (ص: 848)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/61). .
أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ.
أي: أولئك أولياءُ اللهِ وأنصارُه، وجُندُه وطائِفتُه [443] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/494)، ((تفسير البيضاوي)) (5/197)، ((تفسير ابن كثير)) (8/55). .
أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
أي: ألَا [444] قال الزجاج: (أَلَا كَلِمةُ تنبيهٍ وتوكيدٍ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/142). إنَّ أولياءَ اللهِ وأنصارَه وجُندَه وطائفتَه: هم وَحْدَهم دونَ غَيرِهم الفائِزونَ الظَّافِرونَ، وهم في النَّعيمِ باقُونَ ماكِثونَ [445] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/494)، ((تفسير النسفي)) (3/453)، ((تفسير ابن كثير)) (8/55)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/400، 401). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- قَولُه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ زَجْرٌ عن التَّوَدُّدِ إلى مَن كان على غيرِ دِينِ الإسلامِ، والتَّحَبُّبِ إليه، والموالاةِ له؛ إذْ في ذلك ذَهابُ العَداوةِ، وانغِراسُ المحبَّةِ لِمَن يُعادي اللهَ جلَّ جلالُه، أَلَا ترى أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه سمَّاهم أعداءَه؟! حيثُ يقولُ: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت: 19] ، وكقولِه: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] إلى آخرِ الآيةِ [446] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/255). .
2- قولُ الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيه أنَّه لا يكونُ العَبدُ مُؤمِنًا باللهِ واليومِ الآخِرِ حَقيقةً إلَّا كان عامِلًا على مُقتَضى الإيمانِ ولَوازِمِه؛ مِن محبَّةِ مَن قام بالإيمانِ ومُوالاتِه، وبُغْضِ مَن لم يَقُمْ به ومُعاداتِه، ولو كان أقرَبَ النَّاسِ إليه، وأمَّا مَن يَزعُمُ أنَّه يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، وهو مع ذلك مُوادٌّ لأعداءِ الله، مُحِبٌّ لِمَن ترَكَ الإيمانَ وراءَ ظَهرِه؛ فإنَّ هذا إيمانٌ زَعْميٌّ لا حقيقةَ له، فإنَّ كُلَّ أمرٍ لا بدَّ له مِن بُرهانٍ يُصَدِّقُه، فمُجَرَّدُ الدَّعوى لا تُفيدُ شَيئًا، ولا يُصَدَّقُ صاحِبُها [447] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 848). .
3- قَولُ الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه أخَذَ العُلَماءُ منه أنَّ أهلَ الإيمانِ الكامِلِ لا يُوادُّونَ مَن فيه معنًى مِن محادَّةِ اللهِ ورَسولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بخَرقِ سِياجِ شَريعتِه عَمدًا، والاستِخفافِ بحُرُماتِ الإسلامِ، وهؤلاء مِثلُ أهلِ الظُّلمِ والعُدوانِ في الأعمالِ مِن كُلِّ ما يُؤذِنُ بقِلَّةِ اكتِراثِ مُرتَكِبِه بالدِّينِ، ويُنبِئُ عن ضَعفِ احترامِه للدِّينِ، مِثلُ المتجاهِرينَ بالكبائِرِ والفواحِشِ، السَّاخِرينَ مِن الزَّواجِرِ والمواعِظِ، ومِثلُ أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ في الاعتقادِ، ممَّن يُؤذِنُ حالُهم بالإعراضِ عن أدِلَّةِ الاعتِقادِ الحَقِّ، وإيثارِ الهوى النَّفسيِّ والعَصَبيَّةِ على أدِلَّةِ الاعتقادِ الإسلاميِّ الحَقِّ [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/59، 60). والعبدُ يجتمعُ فيه سببُ الولايةِ وسَبَبُ العداوةِ، والحبُّ والبغضُ؛ فيكونُ مَحْبوبًا مِن وجهٍ مَبْغوضًا مِن وجهٍ، فالحبُّ والبغضُ بحَسَبِ ما فيه مِن خِصالِ الخَيرِ والشَّرِّ؛ فمَن كان مؤمنًا وجبَتْ مُوالاتُه مِن أيِّ صنفٍ كان، ومَن كان كافرًا وجبتْ مُعاداتُه مِن أيِّ صنفٍ كان، ومَن كان فيه إيمانٌ وفيه فُجورٌ أُعطيَ مِن الموالاةِ بحسَبِ إيمانِه، ومِن البُغضِ بحسَبِ فُجورِه. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (28/228)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/547). .
4- قال اللهُ تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه عن سَهلِ بنِ عبدِ الله التُّسْتَري أنَّه قال: (مَن صَحَّح إيمانَه وأخلَصَ توحيدَه، فإنَّه لا يأنَسُ إلى مُبتَدِعٍ ولا يُجالِسُه، ولا يُؤاكِلُه ولا يُشارِبُه، ولا يُصاحِبُه، ويُظهِرُ له مِن نَفْسِه العداوةَ والبَغضاءَ، ومَن داهَنَ مُبتَدِعًا سَلبَه اللهُ تعالى حلاوةَ السُّنَنِ، ومَن تحَبَّب إلى مُبتَدِعٍ يَطلُبُ عِزَّ الدُّنيا أو عَرَضًا منها، أذَلَّه اللهُ تعالى بذلك العِزِّ، وأفقَرَه بذلك الغِنى، ومَن ضَحِكَ إلى مُبتَدِعٍ نَزَع اللهُ تعالى نورَ الإيمانِ مِن قَلْبِه، ومَن لم يُصَدِّقْ فلْيُجَرِّبْ). انتهى [449] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/229). ويُشرعُ الهَجرُ وفي دائرةِ ضوابِطِه الشَّرعيَّةِ المَبنيَّةِ على رعايةِ المصالحِ ودَرْءِ المَفاسِدِ، وهذا ممَّا يَختلِفُ باختلافِ البِدعةِ نفْسِها، واختلافِ مُبتَدِعِها، واختلافِ أحوالِ الهاجِرينَ، واختلافِ المكانِ والقوَّةِ والضَّعفِ، والقِلَّةِ والكَثرةِ إلى غيرِ ذلك مِن وُجوهِ الاختلافِ والاعتبارِ الَّتي يَرعاها الشَّرعُ، وميزانُها للمُسلِمِ الَّذي به تَنضبِطُ المَشروعيَّةُ هو: مدى تحقُّقِ المَقاصِدِ الشَّرعيَّةِ مِن الهَجرِ: مِن الزَّجْرِ، والتَّأديبِ، ورجوعِ العامَّةِ، وتحجيمِ المُبتدِعِ وبدعتِه. يُنظر: ((هجر المبتدع)) لبكر أبو زيد (ص: 41). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ هذا وعدٌ ووَعيدٌ؛ وعيدٌ لِمَن حادَّ اللهَ ورَسولَه بالكُفرِ والمعاصي، أنَّه مَخذولٌ مذلولٌ، لا عاقِبةَ له حميدةٌ، ولا رايةَ له منصورةٌ. ووَعدٌ لِمَن آمَنَ به، وبرُسُلِه، واتَّبَع ما جاء به المُرسَلونَ، فصار مِن حِزبِ اللهِ المُفلِحينَ، أنَّ لهم الفَتحَ والنَّصرَ والغَلَبةَ في الدُّنيا والآخِرةِ، وهذا وَعدٌ لا يُخلَفُ ولا يُغَيَّرُ؛ فإنَّه مِن الصَّادِقِ القويِّ العزيزِ الَّذي لا يُعجِزُه شَيءٌ يُريدُه [450] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 848). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أنَّه ما مِن إنسانٍ يُحَادُّ اللهَ ورسولَه إلَّا أَذَلَّه اللهُ عزَّ وجلَّ، ويكونُ إذلالُه بقَدْرِ ما حَصَلَ منه مِن المُحَادَّةِ؛ جزاءً وِفاقًا [451] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 232). قال ابن عاشور: (الَّذي يحادُّ الله ورسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إن كان مُتجاهِرًا بذلك مُعلِنًا به، أو متجاهرًا بسوءِ معاملةِ المسلمينَ لأجْلِ إسلامِهم، لا لِمُوجبِ عداوةٍ دنيويَّةٍ؛ فالواجبُ على المسلمينَ إظهارُ عداوتِه، قال تعالى: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 9] ، ولم يُرَخَّصْ في معاملتِهم بالحسنى إلَّا لاتِّقاءِ شرِّهم إن كان لهم بأسٌ، قال تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 28] ، وأمَّا مَن عدا هذا الصنفَ فهو الكافرُ الممسكُ شرَّه عن المسلمينَ، قال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] ، ومِن هذا الصنفِ أهلُ الذِّمَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/59). .
3- قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ الأذَلُّ أبلغُ مِن الذَّليلِ، ولا يكونُ أذلَّ حتَّى يخافَ على نفْسِه ومالِه إن أظهَر المحادَّةَ؛ لأنَّه إن كان دمُه ومالُه معصومًا لا يُستباحُ، فليس بأذَلَّ، وقد جعَل المحادِّينَ في الأذَلِّينَ، فلا يكونُ لهم عهدٌ؛ إذ العهدُ يُنافي الذِّلَّةَ، والأذلُّ هو الَّذي ليس له قوَّةٌ يمتنعُ بها ممَّن أراده بسوءٍ، فإذا كان له مِن المسلمينَ عهدٌ يجبُ عليهم به نصرُه ومنعُه فليس بأذلَّ؛ فثبَت أنَّ المحادَّ لله ولرسولِه لا يكونُ له عهدٌ يعصِمُه، والمؤذِي للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحادٌّ، فالمؤذِي للنَّبيِّ ليس له عهدٌ يعصمُ دمَه [452] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 22). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أنَّ المؤذيَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كافرٌ حلالُ الدَّمِ، ولو كان مُؤمنًا معصومًا لَمْ يكن أَذَلَّ! لقَولِه تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ، وقَولِه: كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: 5] ، والمؤمنُ لا يُكْبَتُ كما كُبِتَ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ قَطُّ، ولأنَّه قد قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] الآيةَ، فإذا كان مَن يُوَادُّ المُحَادَّ ليس بمؤمِنٍ، فكيف بالمُحَادِّ نَفْسِه [453] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 27). ؟!
5- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أنَّ كلَّ حزبٍ يُحاربُ اللهَ، فاللهُ سُبحانَه وتعالى يَهْزِمُه [454] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (3/402). .
6- قول الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ دلَّت هذه الآيةُ الكريمةُ، وأمثالُها مِن الآيِ، كقَولِه تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171 - 173] ؛ أنَّه لن يُقتَلَ نَبيٌّ في جِهادٍ قَطُّ؛ لأنَّ المقتولَ ليس بغالِبٍ؛ لأنَّ القَتلَ قِسمٌ مُقابِلٌ للغَلَبةِ، كما بَيَّنَه تعالى في قَولِه: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [النساء: 74] ، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [غافر: 51] ، وقد نفَى عن المنصورِ كَونَه مَغلوبًا نَفيًا باتًّا في قَولِه تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران: 160] ، فالرُّسُلُ الَّذينَ جاء في القُرآنِ أنَّهم قُتِلوا، كقَولِه تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة: 87] ، وقَولِه تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [آل عمران: 183] ، ليسوا مقتولينَ في جِهادٍ.
فالرُّسلُ قِسْمانِ: قِسمٌ أُمِروا بالقتالِ في سبيلِ الله، وقِسمٌ أُمِروا بالصَّبرِ والكفِّ عن النَّاسِ، فالَّذين أُمِروا بالقتالِ وعَدَهم اللهُ بالنَّصرِ والغَلَبةِ في الآياتِ المذكورةِ، والَّذين أُمِروا بالكفِّ والصَّبرِ هم الَّذين قُتِلوا لِيَزيدَ اللهُ رفْعَ دَرَجاتِهم العَلِيَّةِ بقَتْلِهم مَظلومينَ، وهذا الجمعُ مفهومٌ مِن الآياتِ؛ لأنَّ النَّصرَ والغَلَبةَ فيه الدَّلالةُ بالالتِزامِ على جِهادٍ ومُقاتَلةٍ.
ولا يَرِدُ على هذا الجمعِ قولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ [آل عمران: 146] ؛ أمَّا على قِراءةِ قَاتَلَ بصيغةِ الماضي مِن (فاعَلَ) فالأمرُ واضحٌ، وأمَّا على قِراءةِ قُتِلَ بالبناءِ للمَفعولِ [455] قرأ بها نافعٌ وابنُ كثيرٍ والبصريَّانِ، وقرأ الباقونَ: قَاتَلَ. يُنظر: ((الكشف)) لمكي (1/359)، ((النشر)) لابن الجزري (ص: 194). فنائبُ الفاعلِ قولُه: رِبِّيُّونَ، لا ضميرُ نَبِيٍّ، وتَطَرُّقُ الاحتِمالِ يَرُدُّ الاستِدلالَ، وأمَّا على القولِ بأنَّ غَلَبةَ الرُّسلِ ونُصرتَهم بالحُجَّةِ والبُرهانِ، فلا إشكالَ في الآيةِ [456] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/555، 556)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 20). .
7- إنَّ لَفْظَ «الكتابةِ» يدُلُّ على اللُّزومِ والثُّبوتِ؛ إمَّا شَرْعًا، كقَولِه تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183] ، أو قَدَرًا، كقَولِه تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [457] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/399). .
8- الكتابةُ قِسمانِ: كتابةٌ شرعيَّةٌ، وهذه لا يَلْزَمُ منها وُقوعُ المكتوبِ -أي حصولُه في الواقعِ مِن كلِّ أحدٍ- مِثلُ قولِه تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103] ، وقَولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183] ، والكتابةُ الثَّانيةُ: كتابةٌ كَونيَّةٌ، وهذه يَلزَمُ منها وُقوعُ المكتوبِ، كما في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ، وقَولِه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [458] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/384). ، فالكتابةُ الكونيَّةُ كتابةٌ بمعنى القدرِ، والكتابةُ الشَّرعيَّةُ كتابةٌ بمعنى الأمرِ [459] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 281). .
9- في قَولِه تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ في الكتابِ السَّابقِ الَّذي لا يُؤمِنونَ به أصلًا، ولا يُقِرُّون به بَتَّةً [460] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/255). !
10- في قَولِه تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي عَقِبَ قولِه: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ دليلٌ على أنَّ المُحَادَّةَ مغالَبةٌ ومعاداةٌ حتَّى يكونَ أحدُ المُتَحادَّينِ غالبًا والآخرُ مَغلوبًا، وهذا إنَّما يكونُ بيْن أهلِ الحربِ لا أهلِ السِّلْمِ؛ فعُلِمَ أنَّ المُحَادَّ ليس بمُسالمٍ، والغلبةَ للرُّسُلِ بالحُجَّةِ والقَهْرِ؛ فمَن أُمِرَ منهم بالحَربِ نُصِرَ على عَدُوِّهِ، ومَن لَمْ يُؤْمَرْ بالحربِ أُهْلِكَ عَدُوُّه [461] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 23). .
11- في قَولِه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أنَّه لا يوجِدُ مؤمِنٌ يُوَادُّ كافِرًا؛ فمَن وَادَّ الكفَّارَ فليس بمؤمِنٍ، والمشابهةُ الظَّاهِرةُ مَظِنَّةُ المُوادَّةِ، فتكونُ مُحَرَّمةً [462] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/551). .
12- في قَولِه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أنَّ مُوادَّةَ عَدُوِّ اللهِ تُنافي محبَّةَ الله، فأَخْبَرَ سُبحانَه أنَّ المؤمنَ الَّذي لا بُدَّ أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أَحَبَّ إليه ممَّا سِواهما -كما في الحَديثِ المتَّفَقِ عليه: ((لا يؤمِنُ أحدُكم حتَّى أكونَ أَحَبَّ إليه مِن وَلَدِه ووالدِه والنَّاسِ أجمَعينَ )) [463] أخرجه البخاريُّ (15)، ومسلمٌ (44) واللَّفظُ له مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه. - لا تَجِدُه مُوادًّا لِمَن حادَّ اللهَ ورَسولَه؛ فإنَّ هذا جَمْعٌ بيْن ضِدَّيْنِ لا يجتَمِعانِ، ومحبوبُ اللهِ ومحبوبُ مُعادِيه لا يجتَمِعانِ [464] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/275). .
13- في قَولِه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أنَّه إذا كان بمُوادَّةِ المُحَادِّ لا يكونُ المرءُ مُؤمِنًا، فأَلَّا يكونَ مؤمنًا إذا حادَّ بطريقِ الأَولى والأَحرى [465] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/208). .
14- في قَولِه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أنَّ ما يقومُ بالقَلبِ مِن تصديقٍ، وحُبٍّ للهِ ولرَسولِه، وتعظيمٍ: لا بُدَّ أنْ يَظْهَرَ على الجوارحِ، وكذلك بالعَكسِ؛ ولهذا يُستَدَلُّ بانتفاءِ اللَّازمِ الظَّاهرِ على انتفاءِ الملزومِ الباطنِ، كما في الحديثِ الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّه، ألَا وهي القلبُ )) [466] أخرجه البخاريُّ (52)، ومسلمٌ (1599) مطوَّلًا مِن حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رضيَ الله عنهما. ، وكما قال مَن قال مِن السَّلفِ لِمَن رآه يَعبَثُ في الصَّلاةِ [467] وهو مرويٌّ عن حُذَيْفةَ وابنِ المُسيِّبِ، ورُويَ مرسَلًا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (4/337). وأثرُ (حذيفة) أخرجه المروزيُّ في ((تعظيم قدر الصلاة)) (150). وأثرُ (ابن المسَيِّبِ) أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) (1188)، وعبدُ الرَّزَّاقِ (3301)، وابنُ أبي شَيْبةَ (6854). : «لو خَشَعَ قَلْبُ هذا لَخَشَعَتْ جوارحُه» [468] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/487). .
15- في قَولِه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أنَّ الرَّجُلَ إذا كان يُوالي أعداءَ اللهِ بقَلبِه، كان ذلك دليلًا على أنَّ قلْبَه ليس فيه الإيمانُ الواجبُ [469] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/17). .
16- في قَولِه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أنَّ شُعَبَ الإيمانِ قد تتلازَمُ عندَ القوَّةِ ولا تتلازمُ عندَ الضَّعفِ، فإذا قَوِيَ ما في القَلبِ مِن التَّصديقِ والمعرفةِ والمحَبَّةِ للهِ ورَسولِه، أوْجَبَ بُغْضَ أعداءِ اللهِ، كما قال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 81] ، وقد تحصُلُ للرَّجُلِ مُوادَّتُهم لِرَحِمٍ أو حاجةٍ، فتكونُ ذنْبًا يَنقُصُ به إيمانُه ولا يكونُ به كافرًا، كما حَصَلَ مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ لَمَّا كاتَبَ المشركينَ ببَعضِ أخبارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنْزَلَ اللهُ تعالى فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [470] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/522). [الممتحنة: 1] .
17- في قَولِه تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أنَّ المحبَّةَ الدِّينيَّةَ لا تجوزُ بيْن المؤمنِ والكافرِ [471] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 278). .
18- قول الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استدَلَّ مالِكٌ -رَحِمَه اللهُ- مِن هذه الآيةِ على مُعاداةِ القَدَريَّةِ وتَرْكِ مُجالَستِهم، وفي معنى أهلِ القَدَرِ جَميعُ أهلِ الظُّلمِ والعُدوانِ [472] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/308). .
19- قول الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استدَلَّ به مَن مَنَع تعزيةَ الكافِرِ [473] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 257). .
20- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أنَّ مَن عَمِلَ بما عَلِمَ، أورَثَه اللهُ عِلْمَ ما لم يَعْلَمْ [474] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/339). ، وأنَّ ما يَحصُلُ في القُلوبِ مِن الهُدى والنُّورِ والإيمانِ، هو مِن اللهِ تعالى بفَضْلِه ورَحمتِه [475] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/459). .
21- إنَّ إضافةَ الرُّوحِ إلى اللهِ تعالى لا تدُلُّ على أنَّها صِفتُه، فَضلًا أنْ يكونَ هو اللهَ. وجبريلُ يُسمَّى رُوحَ اللهِ، والمسيحُ اسمُه رُوحُ اللهِ، والمضافُ إلى اللهِ إذا كان ذاتًا قائِمةً بنَفْسِها فهو إضافةُ مملوكٍ إلى مالكٍ؛ كبَيْتِ اللهِ، وناقةِ اللهِ، ورُوحِ اللهِ، ليس المرادُ به بيتًا يَسكُنُه، ولا ناقةً يَركَبُها، ولا رُوحًا قائِمةً به، وقد قال تعالى: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52] [476] يُنظر: ((هداية الحيارى)) لابن القيم (2/515). ، فما يُنزِلُه اللهُ في قُلوبِ أنبيائه ممَّا تحيا به قلوبُهم مِن الإيمانِ الخالصِ يُسَمِّيه رُوحًا، وهو ما يُؤيِّدُ اللهُ به المؤمِنينَ مِن عبادِه [477] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/284). .
22- الرِّضا باللهِ هو أصلُ الرِّضا عنه، والرِّضا عنه هي ثمرةُ الرِّضا به، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، والسِّرُّ في ذلك أنَّ الرِّضا به مُتعَلِّقٌ بأسمائِه وصفاتِه، وأمَّا الرِّضا عنه فهو متعلِّقٌ بثَوابِه وجزائِه، فهو رضا العبدِ بما يَفعَلُه به ويُعطيه إيَّاه؛ ولهذا لم يَجِئْ إلَّا في الثَّوابِ والجزاءِ [478] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/181). .
23- في قَولِه: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ سِرٌّ بديعٌ، وهو أنَّه لَمَّا سَخِطوا على القرائِبِ والعَشائِرِ في اللهِ، عَوَّضَهم اللهُ بالرِّضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم مِنَ النَّعيمِ المقيمِ، والفَوزِ العظيمِ، والفَضلِ العَميمِ [479] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/55). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ استِئنافٌ مَسوقٌ لتَعليلِ ما قبْلَه مِن خُسرانِ حزْبِ الشَّيطانِ [480] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/223). .
- ومَوقعُ هذه الآيةِ بعْدَ ما ذُكِرَ مِن أحوالِ المنافِقين يُشبِهُ مَوقعَ آيةِ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة: 5] ؛ فالَّذين يُحادُّون اللهَ ورسولَه المُتقدِّمُ ذِكرُهم هم المشرِكون المُعلِنون بالمُحادَّةِ، وأمَّا المُحادُّون المذكورونَ في هذه الآيةِ فهمُ المُسِرُّون للمُحادَّةِ المُتظاهِرون بالمُوالاةِ، وهم المنافِقون؛ فالجُملةُ استِئنافٌ بَيانيٌّ بيَّنَتْ شَيئًا مِن الخُسرانِ الَّذي قُضِيَ به على حزْبِ الشَّيطانِ الَّذي همْ في مُقدِّمتِه، وبهذا تَكتسِبُ هذه الجُملةُ معْنَى بدَلِ البعضِ مِن مَضمونِ جُملةِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة: 19] ؛ لأنَّ الخُسرانَ يكونُ في الدُّنيا والآخرةِ، وخُسرانُ الدُّنيا أنواعٌ، أشَدُّها على النَّاسِ المَذَلَّةُ والهزيمةُ، والمعْنى: أنَّ حِزبَ الشَّيطانِ في الأذَلِّينَ والمَغلوبين [481] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/56). .
- واستِحضارُ المنافِقين بصِلةِ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، فمُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقال: إنَّهم -أي: حِزبَ الشَّيطانِ- في الأذَلِّينَ؛ فأُخرِجَ الكلامُ على خِلافِ مُقتضى الظَّاهرِ إلى المَوصوليَّةِ؛ لإفادةِ مَدلولِ الصِّلةِ أنَّهم أعداءٌ للهِ تعالى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإفادةِ المَوصولِ تَعليلَ الحكْمِ الواردِ بعْدَه، وهو كَونُهم أذَلِّينَ؛ لأنَّهم أعداءُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهمْ أعداءُ اللهِ القادرِ على كلِّ شَيءٍ، فعَدُوُّه لا يكونُ عزيزًا [482] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/56). .
- قولُه: أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ في التَّعبيرِ باسمِ الإشارةِ (أُولَئِكَ): تَنبيهٌ على أنَّ المُشارَ إليهم جَديرونَ بما بعْدَ اسمِ الإشارةِ مِن الحكْمِ؛ بسَببِ الوَصْفِ الَّذي قبْلَ اسمِ الإشارةِ [483] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/56). .
- ومُفادُ حرْفِ الظَّرفيَّةِ (في): أنَّهم كائِنون في زُمرةِ القومِ الموصوفينَ بأنَّهم أذَلُّونَ، أي: شَديدو المَذلَّةِ؛ ليَتصوَّرَهم السَّامعُ في كلِّ جَماعةٍ يَرى أنَّهم أذَلُّون، فيَكونُ هذا النَّظمُ أبلَغَ مِن أنْ يُقالَ: أولئك همُ الأذَلُّون [484] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/56). .
2- قولُه تعالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ استِئنافٌ واردٌ لتَعليلِ كونِهمْ في الأذلِّينَ، أي: لأنَّ اللهَ أراد أنْ يكونَ رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غالبًا لأعدائِه، وذلك مِن آثارِ قُدرةِ الله الَّتي لا يَغلِبُها شَيءٌ، وقد كتَبَ لجَميعِ رُسلِه الغَلَبةَ على أعدائِهم، فغلَبَتُهم مِن غَلَبةِ اللهِ؛ إذ قُدرةُ اللهِ تَتعلَّقُ بالأشياءِ على وَفْقِ إرادتِه، وإرادةُ اللهِ لا يُغيِّرُها شَيءٌ [485] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/56، 57). .
- والكلامُ مَسوقٌ مَساقَ التَّهديدِ، فالمُرادُ: الغَلَبةُ بالقوَّةِ، وأمَّا الغَلَبةُ بالحُجَّةِ فأمْرٌ مَعلومٌ [486] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/57). .
- وجُملةُ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ مُدْليةٌ بنَوعٍ مِن التَّوكيدِ، وبضَرْبٍ مِن التَّقريرِ؛ فهي مُؤكَّدةٌ بلامِ القسَمِ والنُّونِ وبالضَّميرِ [487] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/298). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعليلٌ لجُملةِ لَأَغْلِبَنَّ؛ لأنَّ الَّذي يُغالِبُ الغالِبَ مَغلوبٌ [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/57). .
3- قولُه تعالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- افتِتاحُ الكلامِ بقولِه: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُثيرُ تَشويقًا إلى مَعرفةِ حالِ هؤلاء القومِ وما سيُساقُ في شأْنِهم مِن حُكْمٍ، والخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمقصودُ منه أمْرُه بإبلاغِ المسلمينَ أنَّ مُوادَّةَ مَن يُعلَمُ أنَّه مُحادُّ اللهِ ورسولِه، هي ممَّا يُنافي الإيمانَ؛ ليَكُفَّ عنها مَن عَسى أنْ يكونَ مُتلبِّسًا بها، فالكلامُ مِن قِبَلِ الكِنايةِ عن السَّعيِ في نفْيِ وِجدانِ قومٍ هذه صِفتُهم، مِن قَبيلِ قولِهم: لا أرَيَنَّك هاهنا، أي: لا تَحضُرْ هنا [489] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/297)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/58). .
وقيل: إنَّ هذا مِن بابِ تَنزيلِ الموجودِ الكائنِ مَنزِلةَ المَعدومِ الَّذي لا يُمكِنُ تَصوُّرُه إلَّا في خِزانةِ الخَيَالِ؛ فقد خُيِّلَ أنَّ مِن المُمتنِعِ المُحالِ أنْ تَجِدَ قَومًا مؤمنينَ يُوادُّون المشركين، والغرَضُ منه أنَّه لا يَنْبغي أنْ يكونَ ذلك، وحقُّه أنْ يَمتنِعَ، ولا يُوجَدَ بحالٍ؛ مُبالَغةً في النَّهيِ عنه، والزَّجرِ عن مُلابَستِه، والتَّصلُّبِ في مُجانَبةِ أعداءِ اللهِ. وزاد ذلك تأكيدًا بقولِه: وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ، وبقولِه: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وبمُقابَلةِ قولِه: أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ بقولِه: أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، فلا تجِدُ شيئًا أدخَلَ في الإخلاصِ مِن مُوالاةِ أولياءِ اللهِ ومُعاداةِ أعدائِه، بلْ هو الإخلاصُ بعَينِه [490] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/497)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/296، 297)، ((تفسير أبي حيان)) (10/131)، ((تفسير أبي السعود)) (8/223، 224)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/30). .
- والمُوادَّةُ أصْلُها: حُصولُ المَوَدَّةِ في جانبَينِ، والنَّهيُ هنا إنَّما هو عن مَودَّةِ المؤمنِ الكافرينَ، لا عن مُقابَلةِ الكافرِ المؤمنينَ بالمَودَّةِ، وإنَّما جِيءَ بصِيغةِ المُفاعَلةِ هنا اعتبارًا بأنَّ شأْنَ الوُدِّ أنْ يَجلِبَ وُدًّا مِن المَودودِ للوادِّ، وإمَّا أنْ تكونَ المُفاعَلةُ كِنايةً عن كَونِ الوُدِّ صادقًا؛ لأنَّ الوادَّ الصَّادقَ يُقابِلُه المَودودُ بمِثلِه، ويُعرَفُ ذلك بشَواهدِ المُعامَلةِ، وقَرينةُ الكِنايةِ تَوجيهُ نفْيِ وِجدانِ الموصوفِ بذلك إلى القَومِ الَّذين يُؤمِنون باللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولذلك لم يَقُلِ اللهُ هنا: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 28] ؛ لأنَّ الموَدَّةَ مِن أحوالِ القلْبِ، فلا تُتصوَّرُ معها التَّقيَّةُ، بخِلافِ قولِه: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إلى قولِه: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [491] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/58). [آل عمران: 28] .
- قولُه: وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ رُوعِيَ فيه تَرتيبٌ عَجيبٌ؛ فقد بدَأَ أوَّلًا بالآباءِ؛ لأنَّهم أدْعى إلى الاهتمامِ بهم؛ لوُجوبِ إخلاصِ الطَّاعةِ لهم، ومع ذلك نَهاهم عن مُوادَّتِهم؛ قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] ، وثنَّى بالأبناءِ؛ لأنَّهم أعلَقُ بحَبَّاتِ القلوبِ، ثمَّ ثلَّثَ بالإخوانِ؛ لأنَّهم هم المَثابةُ عندَ الحاجةِ، والنَّاصرُ عندَ نُشوبِ الأزماتِ، ثمَّ ربَّعَ بالعشيرةِ؛ لأنَّها المُستغاثُ في الشَّدائدِ، وهي المَوئلُ والمَفزَعُ في النَّوائبِ، وهم المُسرِعون إلى النَّجدةِ [492] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/59)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/31). .
- وأيضًا قولُه: وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ مُبالَغةٌ في نِهايةِ الأحوالِ الَّتي قد يُقدِمُ فيها المرْءُ على التَّرخُّصِ فيما نُهِيَ عنه بعِلَّةِ قُربِ القرابةِ [493] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/59). .
- وجُملةُ: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ الأوصافَ السَّابقةَ ووُقوعَها عقِبَ ما وُصِفَ به المنافِقون مِن مُحادَّةِ اللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سابقًا وآنِفًا، وما تَوعَّدَهم اللهُ به أنَّه أعَدَّ لهم عَذابًا شديدًا ولهم عَذابٌ مُهينٌ، وأنَّهم حِزبُ الشَّيطانِ، وأنَّهم الخاسِرون؛ ممَّا يَستشرِفُ بعْدَه السَّامعُ إلى ما سيُخبَرُ به عن المتَّصِفينَ بضِدِّ ذلك، وهم المؤمِنونَ الَّذين لا يُوادُّون مَن حادَّ اللهَ ورسولَه [494] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/60، 61). .
- قولُه: أُولَئِكَ إشارةٌ إلى الَّذينَ لا يُوادُّونهم وإنْ كانوا أقرَبَ النَّاسِ إليهم وأمَسَّ رُحمًا، وما فيه مِن معْنى البُعدِ؛ لرِفعةِ دَرَجتِهم في الفضلِ [495] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/224). .
- وجُملةُ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مُدْليةٌ بنَوعٍ مِن التَّوكيدِ، وبضرْبٍ مِن التَّقريرِ؛ وذلك بِذكْرِ القُلوبِ وإثباتِ الإيمانِ فيها، ثمَّ التَّوفيقِ بتأْييدِهم برُوحٍ مِن اللهِ، وإدخالِهم دارَ النَّعيمِ والخُلدِ المُقيمِ، ثم حُلولِ الرِّضوانِ، ورِضوانٌ مِن اللهِ أكبَرُ، وتَسميتِهم بحِزبِ اللهِ، ووَسْمِهم بسِمَةِ حَقيقةِ الفلاحِ والفوزِ بالمَباغي [496] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/299). .
- قولُه: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ التأْييدُ: التَّقويةُ والنَّصرُ، أي: إنَّ تأْييدَ اللهِ إيَّاهم قد حصَلَ وتقرَّرَ بالإتيانِ بفِعلِ المُضيِّ؛ للدَّلالةِ على الحصولِ وعلى التَّحقُّقِ والدَّوامِ، فهو مُستعمَلٌ في مَعنيَيْه [497] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/61). .
- قولُه: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ استِئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ [498] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/224). .
- وقولُه: وَرَضُوا عَنْهُ بَيانٌ لابتِهاجِهم بما أُوتُوه عاجلًا وآجلًا [499] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/224). .
- ورِضا اللهِ عنهم حاصلٌ مِن الماضي ومُحقَّقُ الدَّوامِ؛ فهو مِثلُ الماضي في قولِه: وَأَيَّدَهُمْ، ورِضاهم عن ربِّهم كذلك حاصِلٌ في الدُّنيا بثَباتِهم على الدِّينِ ومُعاداةِ أعدائِه، وحاصلٌ في المُستقبَلِ بنَوالِ رِضا اللهِ عنهم ونَوالِ نَعيمِ الخُلودِ [500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/61). .
- وتَحوَّلَ التَّعبيرُ مِن الماضي في قولِه: كَتَبَ وَأَيَّدَهُمْ إلى المضارِعِ في قولِه: وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ؛ لأنَّه الأصلُ في الاستِقبالِ. وقد استُغنِيَ عن إفادةِ التَّحقيقِ بما تَقدَّمَه مِن قولِه تعالى: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [501] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/61). .
- قولُه: أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ تَشريفٌ لهُمْ ببَيانِ اختِصاصِهم بهِ عزَّ وجلَّ [502] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/224). .
- قولُه: أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بَيانٌ لاختِصاصِهم بالفوزِ بسَعادةِ الدَّارَينِ، والفوزِ بسَعادةِ النَّشأتَينِ. وحرْفُ التَّنبيهِ يَحصُلُ منه تَنبيهُ المسلمينَ إلى فضْلِهم، وتَنبيهُ مَن يَسمَعُ ذلك مِن المنافِقِين إلى ما حَبَا اللهُ به المسلمينَ مِن خَيرِ الدُّنيا والآخرةِ؛ لعلَّ المنافقين يَغبِطونهم فيُخلِصونَ الإسلامَ [503] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/224)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/61). .