موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (181-184)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ

غريب الكلمات:

بِقُرْبَانٍ: القُربان: ما يُتقرَّبُ به إلى الله عزَّ وجلَّ مِن ذبْح أو غيرِه، وأصل القُرب: خلافُ البعد [5592] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/80)، ((المفردات)) للراغب (ص: 664)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 133). .
وَالزُّبُرِ: الكتُب، جمْع زَبور، وهو: كلُّ كتابٍ ذي حِكمةٍ، مأخوذٌ من الزَّبْر وهو الكتابةُ والقِراءة، وقيل: مِن زبَرَه، إذا دفَعه [5593] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 243)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/495)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 56)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 133). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبر تعالى أنَّه قد سمِع قولَ اليهودِ الذين تجرَّؤوا على اللهِ وقالوا: إنَّه فقيرٌ- تعالى اللهُ عن ذلك- وهم أغنياءُ، ثُمَّ أخبرَ سبحانَه أنَّه سيَكتُب ما قالوا، وسيَكتُب أيضًا رِضاهم واستحلالَهم لِمَا قام به أسلافُهم من قتْلِ الأنبياء بدون أيِّ عُذْرٍ يُبيح لهم ذلك، وأخبر أنَّه سيقولُ لهم تعالى: ذُوقوا العذابَ المحرِقَ الذي استحقَقتُموه بما اقترَفتم، واللهُ تعالى لا يَظلمُ أحدًا من العبادِ شيئًا.
هؤلاءِ اليهود الَّذين ادَّعوْا كَذِبًا: أنَّ اللهَ تعالى أوْصَى إليهم بوصيةٍ، وهي ألَّا يُؤمنوا لأيِّ رسولٍ حتَّى يأتيَهم بشَيءٍ يتقرَّب به إلى الله، ولا بُدَّ أنْ تأكلَه النار، فأمَرَ اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يردَّ على زَعْمهم هذا: بأنَّه قد جاءَ أسلافَهم من اليهودِ المتقدِّمين رُسُلٌ مِن الله، معهم الكثيرُ من المعجِزاتِ وبالذي طَلَبوه من القُربانِ الذي تأكلُه النَّار، فلِمَ قاموا بقتْلهم إنْ كانوا صادِقين في أنَّ اللهَ عهِدَ إليهم بالإيمانِ بِمَن جاءَ بذلك؟!
ثمَّ سلَّى الله نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بألَّا يتأثَّر حُزْنًا ووهنًا إنْ كذَّبَه هؤلاء اليهودُ؛ فإنَّه قد كُذِّب رسُلٌ جاؤوا مِن قبلِه عليهم السَّلام جميعًا، أتَوا معهم بالمعجزات الباهِرة، وبالكتُب المنزَّلة من الله عزَّ وجلَّ .

تفسير الآيات:

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر اللهُ تعالى المكلَّفين في الآياتِ السَّابقة ببْذلِ النفْسِ وبذْلِ المالِ في سبيلِ الله، شرَعَ بعدَ ذلك في حِكايةِ شُبُهاتِ القومِ في الطَّعْن في نُبُوَّة النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومنها: أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَر بإنفاق الأموالِ في سبيلِه قالوا: إنَّه لو طُلب الإنفاقُ في تحصيلِ مَطلوبِه لكان فقيرًا عاجِزًا يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/446). ، فردَّ اللهُ تعالى عليهم في هذِه الآيةِ.
سببُ النُّزول:
عن ابن عبَّاس رضِي اللهُ عنهما قال: ((قال أبو بكرٍ رضِي اللهُ عنه لفِنْحَاص- وكان مِن علماءِ اليهودِ وأحبارِهم-: اتقِّ اللهَ وأسْلِم, فواللهِ إنَّك لَتعلمُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن عندِ الله, جاءَكم بالحقِّ من عندِه, تَجدونَه مكتوبًا عندَكم في التوراة والإنجيل, فقال فِنْحَاصُ: يا أبا بكر, واللهِ ما بنا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِن فَقْرٍ, وإنَّه إلينا لَيفتَقِر, وما نتضرَّع إليه كما يَتضرَّع إلينا, وإنَّا عنه لَأغنياءُ, ولو كان عنَّا غنيًّا لَمَا استقرَضَنا أموالَنا كما يزعُم صاحِبُكم؛ يَنهاكم عن الرِّبا ويُعطِيناه, ولو كان عنَّا غنيًّا ما أعطانا الرِّبا, فغضِب أبو بكْرٍ فضَربَ وجهَ فِنحَاص, فأخبر فِنْحاصُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبي بكْر: ما حملَك على ما صنعتَ؟ فأخبرَه, فجَحَد ذلك فِنْحَاص، وقال: ما قلتُ ذلك, فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181] الآية)) أخرجه الطبرِيُّ في ((تفسيره)) (7/441)، والطحاوِيُّ في ((شرح مُشكِل الآثار)) (1830)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (4589). حسَّن إسنادَه ابن حجَرٍ في ((فتح الباري)) (8/79)، وقال أحمدُ شاكر في ((عمْدة التفسير)) (1/444): إسناده جيِّد أو صحيح. .
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ
أَيْ: قد سمِع اللهُ جلَّ جلالُه قولَ اليهودِ الذين قالوا في الله عزَّ وجلَّ مقالةً شنيعةً؛ بإضافةِ النقْصِ إليه سبحانَه فقالوا: إنَّ الله فقيرٌ إلينا؛ لأنَّه طلَب منَّا أنْ نُقرِضَه مِن أموالِنا! ثُمَّ جعَلوا أنفسَهم أكملَ مِن الله تعالى؛ فقالوا: ونحن أغنياءُ عنه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/281-283)، ((تفسير السعدي)) (ص: 159)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/488-491). !
سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
أَيْ: سيَكتُب الله عزَّ وجلَّ ما قالوه في شأنه مِن الإفْك والفِريَة عليه ورِضاهم واستحلالهِم لِمَا قام به أسلافُهم مِن أفعالٍ فظيعةٍ بقتْلهم أنبياءَه سُبحانَه دون حُجَّةٍ أو عُذْرٍ يُسوِّغ لهم فِعْلَ ذلك؛ فسيكتُب اللهُ تعالى ذلك ويَحفظُه عليهم؛ ليُجازيَهم به يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/281-283)، ((تفسير ابن كثير)) (2/176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 159)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/491-493). .
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
أَيْ: يقولُ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ إهانةً وإذلالًا لأصحابِ تِلك المقالةِ الشَّنيعةِ في حقِّه سبحانَه: ذوقوا عذابَ النَّار المحرِقة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/283)، ((تفسير ابن كثير)) (2/176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 159)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/493). .
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
أَيْ: يُقال لهم: إنَّما استحقَقْتُم هذا العذابَ المخزِي؛ بسببِ ما اكتسبتموه في حياتِكم من آثامٍ؛ ولأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حكَمٌ عدْلٌ مع كلِّ أحَدٍ، لا يُجازي كلَّ نفسٍ إلَّا بما كسَبتْ، دون أن يَنقُصَ من حسناتها شيئًا أو يَزيد على سيِّئاتها شيئًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/283-284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 159)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/497-498). .
فما قدَّمتْ أيديهم أوجَبَ لهم حُصولَ العذاب، وعدْلُ اللهِ أوجَبَ كوْنَ هذا العذابِ في مِقدارِه المشاهَد من الشِّدَّة؛ حتَّى لا يظنُّوا أنَّ في شدَّته إفراطًا عليهم في التَّعذيب يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/185). .
ثمَّ ذكر شُبْهةً أخرى لهم، فقال:
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ
أَيْ: هؤلاءِ اليهود الَّذين ادَّعَوْا كَذِبًا وافتراءً على اللهِ تعالى بأنَّه أَوْصاهم بوصيَّةٍ مُؤكَّدَةٍ في كُتُبهم وعلى ألْسِنة رُسُله تَقضي بألَّا يَنقادوا مؤمِنينَ ومُذعنين لكلِّ مَن يقولُ: إنَّه مُرسَلٌ مِن عند الله تعالى حتَّى يُثبِتَ صِدْقَ رِسالتِه بأمرٍ واحدٍ، وهو: أنْ يَجيءَ بشيءٍ ممَّا يُتقرَّب به إلى اللهِ تعالى من الصَّدقات، فإنْ أكلَتْه النارُ كان ذلك دَلالةً على قَبولِ اللهِ تعالى منه ذلك وصِحَّة رسالتِه من ربِّه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 159)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/185). .
فجَمعوا بين الكذبِ على اللهِ بنِسبةِ الوصيَّة إليه، وحَصْرِ آيةِ صِدْق الرُّسُل بما قالوه، مع أنَّها مُعجِزةٌ لا تَطَّرِد لسائرِ الأنبياءِ كما زَعَمَه اليهودُ؛ فإنَّ مُعجِزاتِ الرُّسل عليهم السَّلام إنَّما تجيءُ على ما يُناسِب تصديقَ الأمَّة يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 159)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/185). .
قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ
أَيْ: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاء اليهود؛ ردًّا على ما زَعموه مِن افتراءٍ: قد أتَى أسلافَكم- يا مَعشَرَ اليهود- رُسُلٌ مِن اللهِ تعالى مِن قَبْل بَعْثتِي، كانوا مُزوَّدين بالحُجَج، ومُدَعَّمين بالمعجِزات التي تُثبِت صِدْقَ رسالتِهم، وأتَوهم أيضًا بالذي ادَّعيتم من تقديمِهم قرابينَ تَأكُلُها النار، فوقعَتْ على أيديهم هذه المعجِزةُ التي تمسَّكتم بها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/285)، ((تفسير ابن كثير)) (2/177)، ((تفسير السعدي)) (ص: 159) .
فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
أَيْ: ما دام أنَّه سبَق وأنْ جاءَتكم الرُّسُلُ بالذي زَعَمتُم أنَّه حُجَّةٌ لتصديقِهم، فلِمَ قام آباؤكم إذنْ بقتْلِهم إنْ كنتُم مُحقِّين في دَعْواكم الإيمانَ برسولٍ يأتي بقُربان تأكلُه النار؟! فتبيَّن بهذا كَذِبُهم، وعِنادُهم وتناقضُهم، وظهَر أنَّه ليس امتناعُهم مِن اتِّباع مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لعدمِ ظُهورِ هذه المعجِزة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/285-286)، ((تفسير ابن كثير)) (2/177)، ((تفسير السعدي)) (ص: 159)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/186). .
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ المنِيرِ (184)
أَيْ: إنْ كَذَّبَك- يا مُحمَّدُ- هؤلاء اليهودُ، فلا يُوهِنك ولا يَحزُنك ذلك، ولك أُسْوَة بمَن قبلَك؛ فأنتَ لستَ بأوَّلِ مَن يُكذَّب، بل كُذِّب عددٌ من الرُّسُل عليهم السَّلام مع أنَّهم أتَوا أقوامَهم بالحُجَج القاطِعة والمعجِزات الباهِرة السَّاطعة، وبالكُتُب المنزَّلة مِن الله تعالى، المشتمِلةِ على المَواعِظ والزَواجِر، المضيئةِ لطريق الحقِّ بذكْرِ الأحكامِ العادِلة والأخبارِ الصَّادِقة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/286-287)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/529)، ((تفسير ابن كثير)) (2/177)، ((تفسير السعدي)) (ص: 159)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/186)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/507-509). .

الفوائد التربوية:

1- تَذكُّر أنَّ الله تعالى يَكتُب على العبادِ أعمالَهم على وجهٍ لا يَزولُ ولا يُنسى ولا يتغيَّر؛ ليَقرؤوا ذلك في صحائفِ أعمالِهم يومَ القيامة ولِيُجازوا عليه، كما في قوله تعالى: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/447)، ((تفسير الشربيني)) (1/270). .
2- الرِّضا بعِصيان العاصِين وتصويبُ أعمالِهم يُعدُّ مُشاركةً لهم في ذلك، قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وإنَّما قتَلَهم أسلافُهم، والمتأخِّرون راضون بأفعالِ أولئك المتقدِّمين ومُصوِّبون لهم في كلِّ ما فَعلُوه يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/450)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/143). .
3- الحذرُ من المعاصي؛ لقوله تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ فذلك العقابُ حاصِلٌ بسببِ المعاصي، مِن الافتراءِ وقَتْل الأنبياء، وغير ذلك يُنظر: ((تفسير أبي حيَّان)) (3/456)، ((تفسير الشربيني)) (1/270). .
4- في قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسليةُ الرسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام، ويتفرَّع عليها أنْ يَتسلَّى الإنسان في كلِّ ما أصاب غيرَه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/509). ؛ فالرُّسُل أُوذوا بالتكذيب، والإنسانُ يَكادُ يتَقطَّع إذا أَخبرَ بشيءٍ صِدْقٍ ثمَّ قيل له: كذَبتَ، فكيف وهُم مِن عند الله عزَّ وجلَّ مُؤيَّدون بآياتِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/510). ؟!

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قول الله سبحانه: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا: إثباتُ صِفةِ الكتابةِ للهِ عزَّ وجلَّ، كما يليقُ بعظيمِ شأنِه يُنظر: ((صفات الله عزَّ وجلَّ)) للسقاف (ص: 318-320). .
2- قوله: وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ: بِغَيْرِ حَقٍّ هذا قيْدٌ كاشِفٌ وليس احترازِيًّا؛ فقتْلهم للأنبياءِ لا يمكن أنْ يكونَ بحقٍّ أبدًا، وإنَّما جِيءَ به مبالَغةً في التشنيعِ عليهم؛ فإنَّهم يَقتُلونهم بغيرِ سببٍ حقٍّ يَدْعو لذلك يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/493). .
3- في قول الله تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ عبَّرَ عَن مُباشَرة العذاب بـذُوقُوا؛ لأنَّ الذَّوْقَ مِن أبْلغِ أنواع المباشَرة، وحاسَّتُها مُتميِّزة جدًّا يُنظر: ((تفسير أبي حيَّان)) (3/456). .
4- في قوله: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ أنَّ هؤلاء سوف يَذوقون العذابَ بالألم البدَنِيِّ والألم النفْسِيِّ؛ ففي الحَرِيقِ: ألَمٌ بَدنِيٌّ، وفي قوله: ذُوقُوا: ألَمٌ نفسِيٌّ؛ لأنَّ هذا توبيخٌ وإهانة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/496). .
5- أنَّه يَنبغي عند المُخاصمةِ إفحامُ الخَصْم بما يدَّعيه؛ ليكونَ ذلك أبلغَ في دحْضِ حُجَّته، وهذا يُؤخذُ من قوله سبحانه: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ؛ لأنَّه إذا خُوصِم بما يقوله لم يبْقَ له حُجَّة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/505). .
6- في قول الله تعالى: فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ أنَّ تسلِيَةَ الإنسانِ بمَن قارَبه في الزمانِ أشدُّ تسليةً وأقوى تثبيتًا يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/144). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ: جاءَ التعبير أوَّلًا بقوله: لَقَدْ سَمِعَ بصيغة الماضي، ثمَّ قال: سَنَكْتُبُ، ولَمْ يَقُل: (كُتب أو كَتَبْنا)؛ لأنَّ السَّماعَ أوَّلًا مُؤكَّد بالقَسَم، ثمَّ قال: سَنَكْتُبُ على جِهة الوعيد، والسِّين فيه للتأكيد، بمعنى: لَن يفوتَنا أبدًا إثباتُه وتدوينه، كما لنْ يَفوتَنا قتْلُهم الأنبياء؛ لِكونِه في غايةِ العِظَم والهوْل، وجَعَل قتْلهم الأنبياءِ قرينةً له؛ إيذانًا بأنَّهما في العِظَم أَخوانِ، وبأنَّ هذا ليس بأوَّل ما ركِبوه من العظائمِ، وأنَّهم أُصَلاءُ في الكُفْر ولهم فيه سوابقُ، وأنَّ مَن قتَل الأنبياءَ لَمْ يُستَبعدْ منه الاجتراءُ على مِثلِ هذا القول [5618] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/446-447)، ((تفسير أبي السعود)) (2/121). .
2- قوله: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ الأمْرُ هنا للتوبيخِ والإهانةِ والإذلال، وإلَّا فإنَّهم سيَذوقون عذابَ الحريقِ، قيل لهم ذلك أم لمْ يُقل؛ فهو حقٌّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/493، 496). .
3- قوله: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم فيه إشارةٌ للعذاب المشاهَد يومئذٍ، وفيه تهويلٌ للعذاب، والباء للسببيَّة؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا العذابَ لعِظَم هوله ممَّا يُتساءَل عن سببِه [5620] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/185). .
- وفيه نِسبةُ ما قدَّموه مِن المعاصي القوليَّة والفعليَّة والاعتقاديَّة إلى الأيدي على سبيلِ التغليب؛ لأنَّ الأيدي تُزاوِل أكثرَ الأعمال؛ فكأنَّ كلَّ عمل واقعٌ بها يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/448)، ((تفسير أبي حيَّان)) (3/456). ، ولِيفيد أنَّ ما عُذِّبوا عليه هو مِن عَملِهم حقيقةً لا مجازًا؛ فإنَّ نسبةَ الفِعلِ إلى يدِ الفاعلِ تُفيدُ مِن إلصاقِه به ما لا تُفيده نِسبتُه إلى ضميرِه يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/218). .
- وفيه جوازُ إطلاقِ البَعضِ على الكلِّ إذا وُجدت قرينةٌ تدلُّ عليه؛ لِقوله: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ؛ فاليدُّ بعضٌ من الإنسان، لكن (القرينة) تدلُّ على أنَّ المرادَ الكلُّ، يعني: (بِمَا قدَّمتُم) يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/500). .
4- قوله: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الجملةُ اعتراضٌ تذييلِيٌّ، مُقرِّر لمضمونِ ما قَبْلَها، والتعبيرُ عن ذلك بنَفْي الظُّلم؛ لِبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالى عَن ذلك بتصويرِه بصورةِ ما يَستحيلُ صُدورُه عنه سبحانه من الظُّلْم، كما يُعِّبر عن ترْك الإثابةِ على الأعمالِ بإضاعتِها [5624] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/121). ، وحتَّى يَطمئنَّ الإنسانُ أنَّه لنْ يُجازَى إلَّا بعملِه: إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/500) .
- والتعبيرُ بصيغةِ المبالَغة ظَلَّام؛ لِتأكيدِ هذا المعنى بإبرازِ ما ذُكِر من التعذيب بغيرِ ذنبٍ في صُورة المبالَغةِ في الظُّلم. وقيلَ: هي لرِعايةِ جَمعيَّةِ العبيدِ من قولِهم: فلانٌ ظالمٌ لعبدهِ وظلَّام لعبيدِه على أنَّها للمبالغة كمًّا لا كَيفًا؛ فجاء لفْظ (ظلَّام) بصيغةِ المبالَغةِ المقتضِيةِ للتكثير؛ لأنَّه لَمَّا قُوبِل بالعبيد- وهم كثيرون- ناسَبَ أنْ يُقابِل الكثيرَ بالكثير؛ ولأنَّه إذا نُفِي الظُّلْمُ الكثيرُ يُنفَى القليل؛ لأنَّ الذي يَظلمُ إنَّما يَظْلمُ لانتفاعِه بالظُّلم، فإذا ترَك كثيرَه مع زيادةِ نفْعِه فيمَن يجوزُ عليه النفْعُ والضرُّ-كان لقليلِه مع قلَّةِ نفْعِه أَتْرَكَ يُنظر: ((تفسير أبي حيَّان)) (3/456-457)، ((تفسير أبي السعود)) (2/122)، ((تفسير الشربيني)) (1/270). .
 5- قوله: فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تعليلٌ لجواب الشرط، أَيْ: فتَسلَّ؛ فقد كُذِّب رسلٌ من قبلك [5627] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/122). .
- وتنكير رُسُل؛ لكثرتِهم وشَياعِهم يُنظر: ((تفسير أبي حيَّان)) (3/459). .