موسوعة التفسير

سورةُ المُمْتَحَنةِ
الآيات (7-9)

ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ

غريب الكلمات:

تَبَرُّوهُمْ: أي: تُحْسِنوا إليهم، والبرُّ: التوسُّعُ في فعلِ الخيرِ، والبَرُّ خلافُ البحرِ، وتُصوِّرَ منه التَّوسُّعُ فاشتُقَّ منه البِِرُّ [161] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/177)، ((المفردات)) للراغب (ص: 114)، ((تفسير ابن كثير)) (8/90). .
وَتُقْسِطُوا: أي: تَعْدِلوا، وأصلُ (قسط): يدُلُّ على العَدْلِ [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/571)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/85)، ((تفسير ابن كثير)) (8/90). .
وَظَاهَرُوا: أي: عاوَنوا، والظَّهيرُ: العَونُ، وأصلُ التَّظاهُرِ مِنَ الظَّهرِ، فكأنَّ التَّظاهُرَ: أن يَجعَلَ كُلُّ واحدٍ مِن الرَّجُلَينِ أو مِن القَومِ الآخَرَ له ظَهرًا يتقَوَّى به، ويَستَنِدُ إليه، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [163] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 182)، ((تفسير ابن جرير)) (22/574)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 540)، ((تفسير القرطبي)) (18/60). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبشِّرًا بأنَّه يَهدي إلى الإسلامِ قومًا مِن الأعداءِ الَّذين تربطُهم بالمؤمنينَ رابطةُ الدَّمِ والقرابةِ: عسى اللهُ أن يَجعَلَ بيْنَكم -أيُّها المؤمِنونَ- وبيْنَ الَّذين عادَيْتُم مِن المُشرِكينَ موَدَّةً بعدَ العداوةِ والبَغضاءِ الَّتي انعقَدَت بيْنَكم، واللهُ ذو قُدرةٍ تامَّةٍ على كُلِّ شَيءٍ، واللهُ غفورٌ لذُنوبِ عِبادِه، رحَيمٌ بهم.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه للمؤمنينَ القاعدةَ الَّتي يَسيرونَ عليها في موَدَّتِهم وعداوتِهم، وصِلَتِهم ومقاطعتِهم، فيقولُ: لا يَنهاكم اللهُ -أيُّها المؤمِنونَ- عن الكافِرينَ الَّذين لم يُقاتِلوكم مِن أجْلِ دينِكم، ولم يُخرِجوكم مِن بلادِكم؛ أن تُحسِنوا إليهم وتُكرِموهم، وتَعدِلوا في تعامُلِكم معهم؛ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُنصِفينَ، إنَّما يَنهاكم اللهُ عن مُوالاةِ الكافِرينَ المحارِبينَ الَّذين قاتَلوكم بسبَبِ إيمانِكم، وأخرَجوكم مِن بلادِكم، وعاوَنوا غَيرَهم على إخراجِكم، ومَن يتَّخِذِ الكافِرينَ أولياءَ يُحِبُّهم ويُناصِرُهم فأولئك هم الظَّالِمونَ.

تفسير الآيات:

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَر الله المؤمنينَ بعداوةِ الكفَّارِ، عادى المؤمنونَ أقرباءَهم المشركين، وأظهَروا لهم العَداوةَ والبَراءةَ، وعَلِمَ اللهُ شدَّةَ ذلك على المؤمنينَ؛ فوعَدَ سُبحانَه المسلمينَ بإسلامِ أقارِبِهم الكفَّارِ [164] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (4/281)، ((حاشية الجمل)) (4/341). .
وأيضًا لَمَّا أتَمَّ اللهُ تعالى وَعْظَهم بما هو الأنفَعُ والأقرَبُ إلى صَلاحِهم، ففَعَلوا، وكان ذلك شاقًّا؛ لِمَا جُبِلَ عليه البَشَرُ مِن حُبِّ ذَوِي الأرحامِ والعَطْفِ عليهم، فتشَوَّفَت النُّفوسُ إلى تخفيفٍ بنَوعٍ مِنَ الأنواعِ- أتْبَعَه التَّرجِيةَ فيما قَصَدَه حاطِبٌ -رَضِيَ اللهُ عنه- بغيرِ الطَّريقِ الَّذي يُتوصَّلُ به، فقال على عادةِ الملوكِ في الرَّمزِ إلى ما يُريدونَه، فيَقنَعُ الموعودُ به، بل يكونُ ذلك الرَّمزُ عندَه أعظَمَ مِنَ البَتِّ مِن غَيرِهم [165] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/505، 506). :
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً.
أي: عسى اللهُ أن يَجعَلَ بيْنَكم -أيُّها المؤمِنونَ- وبيْنَ الَّذين عاديتُم مِن المُشرِكينَ مودَّةً بعدَ النفرةِ والعداوةِ والبَغضاءِ الَّتي انعقَدَت بيْنَكم، وذلك بأن يَنتَقِلوا للإيمانِ؛ فلا تيأسُوا مِن إيمانِهم [166] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/570)، ((تفسير ابن كثير)) (8/89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). قال ابنُ جرير: (ففَعَل اللهُ ذلك بهم، بأنْ أسلَمَ كثيرٌ منهم، فصاروا لهم أولياءَ وأضْرابًا). ((تفسير ابن جرير)) (22/570). وقال الزَّجَّاج: («عسى» واجِبةٌ مِن الله. جاء في التَّفسيرِ أنَّه يعني بهذا أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تزوَّجَ أمَّ حَبيبةَ بنتَ أبي سُفيانَ، فهذه هي الموَدَّةُ. وقيل: إنَّه يعني به مَن أسلَمَ منهم، فيكونُ بيْنَكم وبيْنَهم موَدَّةٌ). ((معاني القرآن)) (5/157). وقال ابن تيميَّةَ: (نزلت في المُشرِكينَ الَّذين عادَوُا اللهَ ورَسولَه، مِثلُ أهلِ الأحزابِ، كأبي سُفيانَ ابنِ حَربٍ، وأبي سُفيانَ بنِ الحارِثِ، والحارِثِ بنِ هِشامٍ، وسُهَيلِ بنِ عَمرٍو، وعِكْرِمةَ بنِ أبي جَهلٍ، وصَفوانَ بنِ أُمَيَّةَ، وغَيرِهم؛ فإنَّهم بعدَ مُعاداتِهم لله ورَسولِه جَعَل اللهُ بيْنَهم وبيْنَ الرَّسولِ والمؤمِنينَ موَدَّةً). ((مجموع الفتاوى)) (10/305، 306). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/150). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((جاءت هندُ بنتُ عُتبةَ، قالت: يا رَسولَ اللهِ، ما كان على ظَهرِ الأرضِ مِن أهلِ خِباءٍ [167] الخِباءُ: خَيمةٌ مِن وَبَرٍ أو صُوفٍ، ثمَّ أُطلِقَت على البَيِت كيف كان. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (6/171). أحَبَّ إلَيَّ أن يَذِلُّوا مِن أهلِ خِبائِك، ثمَّ ما أصبَحَ اليَومَ على ظَهرِ الأرضِ أهلُ خِباءٍ أحَبَّ إلَيَّ أن يَعِزُّوا مِن أهلِ خِبائِك، قال: وأيضًا والَّذي نَفْسي بيَدِه [168] أي: ستَزيدين مِن ذلك، ويَتمَكَّنُ الإيمانُ مِن قَلبِكِ، ويَزيدُ حُبُّكِ لله ولرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، ويَقوى رُجوعُك عن بُغضِه. وأصلُ لفظةِ أيضًا: آضَ يَئيضُ أيضًا، إذا رجَع. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/9). ) [169] رواه البخاريُّ (3825) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1714). .
وعن ابنِ شِهابٍ، قال: ((أعطى رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ حُنَينٍ صَفوانَ ابنَ أُمَيَّةَ مِئةً مِنَ النَّعَمِ، ثمَّ مِئةً، ثمَّ مِئةً، قال ابنُ شِهابٍ: حَدَّثني سعيدُ بنُ المسَيِّبِ أنَّ صَفوانَ قال: واللهِ لقد أعطاني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أعطاني، وإنَّه لَأبغَضُ النَّاسِ إلَيَّ، فما بَرِحَ يُعطيني حتَّى إنَّه لَأحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ)) [170] رواه مسلم (2313). .
وَاللَّهُ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ ذو قُدرةٍ تامَّةٍ بالغةٍ على كُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك قُدرتُه على جَعْلِ العَداوةِ الَّتي بَيْنَكم وبيْنَ المُشرِكينَ مَودَّةً، فيَهديهم للإيمانِ، ويُؤَلِّفُ بيْنَ قُلوبِكم [171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/571)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/430)، ((تفسير ابن كثير)) (8/89)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/506)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/151). .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: واللهُ غفورٌ لذُنوبِ عِبادِه؛ فيَستُرُها ويَمحوها ويَقِي شَرَّها، رحيمٌ بهم؛ فيَغفِرُ للكافِرينَ كُفْرَهم إذا تابُوا، ويَرحَمُهم [172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/571)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/430)، ((تفسير ابن كثير)) (8/89)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/506، 507). .
كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] .
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى بَعْدَ ما ذَكَر مِن تَرْكِ انقِطاعِ المؤمِنينَ بالكُلِّيَّةِ عن الكُفَّارِ؛ رخَّصَ في صِلةِ الَّذين لم يُقاتِلوهم مِنَ الكُفَّارِ [173] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/520). .
وأيضًا لَمَّا نَزَلت هذه الآياتُ الكريماتُ المُهَيِّجةُ على عداوةِ الكافِرينَ، وقَعَتْ مِن المؤمِنينَ كُلَّ مَوقِعٍ، وقاموا بها أتمَّ القيامِ، وتأَثَّموا مِن صِلةِ بَعضِ أقاربِهم المُشرِكينَ، وظَنُّوا أنَّ ذلك داخِلٌ فيما نهَى اللهُ عنه [174] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 856). ؛ فقال الله تعالى:
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ.
أي: لا يَنهاكم اللهُ -أيُّها المؤمِنونَ- عن الكافِرينَ الَّذين لم يُقاتِلوكم مِن أجْلِ دينِكم؛ مِن أقارِبِكم وغَيرِهم مِن الكُفَّارِ، ولم يُخرِجوكم مِن بلادِكم كما أخرَجَكم كُفَّارُ مَكَّةَ؛ أن تُحسِنوا إليهم وتُكرِموهم، وتَعدِلوا في تعامُلِكم معهم عدلًا تامًّا [175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/571، 574)، ((تفسير ابن كثير)) (8/90)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/508)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/153). قال الشوكاني: (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ يُقالُ: أقسَطْتُ إلى الرَّجُلِ، إذا عامَلْتَه بالعدلِ. قال الزَّجَّاجُ: المعنى: وتَعدِلوا فيما بيْنَكم وبيْنَهم مِن الوفاءِ بالعهدِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/254). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/158). وقيل: معنى قَولِه تعالى: وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ: تُعطوهم قِسطًا مِن أموالِكم على وَجهِ الصِّلةِ، وليس المرادُ به العَدْلَ؛ فإنَّ العَدلَ واجِبٌ فيمَن قاتَلَ وفيمَن لم يُقاتِلْ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ العربي. يُنظر: ((أحكام القرآن)) (4/228). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (18/59). .
كما قال تعالى في الوالِدَينِ الكافرَينِ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان غُلامٌ يَهوديٌّ يَخدُمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَرِضَ، فأتاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُه، فقَعَد عندَ رأسِه، فقال له: أسْلِمْ، فنظَرَ إلى أبيه وهو عندَه، فقال له: أطِعْ أبا القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسْلَمَ، فخرجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقولُ: الحَمدُ للهِ الذي أنقَذَه مِنَ النَّارِ)) [176] رواه البخاري (1356). .
وعن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: ((قدِمَتْ علَيَّ أمِّي وهي مُشرِكةٌ، في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاستَفتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: وهي راغِبةٌ [177] أي: راغِبةٌ في شيءٍ تأخُذُه، أو عن ديني، أو في القُربِ منِّي ومُجاوَرَتي والتَّودُّدِ إلَيَّ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (4/363). ، أفأصِلُ أُمِّي؟ قال: نعمْ، صِلِي أُمَّكِ)) [178] رواه البخاري (2620) واللفظُ له، ومسلم (1003). .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((رأى عُمَرُ حُلَّةً [179] الحُلَّةُ: إزارٌ ورِداءٌ، ولا تُسَمَّى حُلَّةً حتَّى تكونَ ثَوبَينِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لأبي عُبَيدٍ القاسم ابن سلَّام (1/285). على رجُلٍ تُباعُ، فقال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ابتَعْ هذه الحُلَّةَ تَلبَسْها يومَ الجُمُعةِ، وإذا جاءك الوَفدُ. فقال: إنَّما يَلبَسُ هذا مَن لا خَلاقَ [180] لا خَلاقَ: أي: لا حَظَّ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (4/362). له في الآخِرةِ، فأُتِيَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منها بحُلَلٍ، فأرسَلَ إلى عُمَرَ منها بحُلَّةٍ، فقال عُمَرُ: كيف ألبَسُها وقد قُلتَ فيها ما قُلتَ؟! قال: إنِّي لم أَكْسُكَها لِتَلبَسَها، تبيعُها أو تَكسوها. فأرسَلَ بها عُمَرُ إلى أخٍ له مِن أهلِ مكَّةَ قبْلَ أن يُسْلِمَ)) [181] رواه البخاري (2619) واللفظُ له، ومسلم (2068). .
وعن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قِصَّةِ المرأةِ المُشرِكةِ صاحِبةِ المَزادتَينِ [182] المزادةُ: وِعاءٌ يُحمَلُ فيه الماءُ، أكبَرُ مِن القِرْبةِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (5/190). مِن الماءِ، الَّتي لَقُوها في سفَرٍ، وفي الحديثِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((هاتُوا ما كان عِندَكم، قال عِمرانُ: فجمَعْنا لها مِن كِسَرٍ وتَمرٍ، وصَرَّ لها صُرَّةً [183] وصَرَّ لها صُرَّةً: أي: شدَّ وربَط، والصُّرَّةُ: الربطةُ. يُنظر: ((شرح مسند الشافعي)) لأبي القاسم القزويني (3/197)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/293). ، فقال لها: اذهَبي فأطعِمي هذا عِيالَكِ، واعلَمِي أنَّا لم نرْزَأْ [184] نرْزَأْ أي: نَنْقُصْ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (5/192). مِن مائِكِ)) [185] رواه البخاريُّ (344)، ومسلمٌ (682) واللَّفظُ له. .
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
أي: إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُنصِفينَ الَّذين يُنصِفونَ النَّاسَ، ويُعطونَهم الحقَّ، ويَحكُمونَ بَيْنَهم بالعَدلِ التَّامِّ [186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/574)، ((تفسير البيضاوي)) (5/206)، ((تفسير ابن عجيبة)) (7/25)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/153). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء: 135] .
وقال سُبحانَه: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ المُقْسِطينَ عندَ اللهِ على مَنابِرَ مِن نُورٍ عن يمينِ الرَّحمنِ عزَّ وجَلَّ، وكِلْتا يَدَيه يَمينٌ؛ الَّذين يَعدِلونَ في حُكمِهم وأهلِيهم وما وَلُوا)) [187] رواه مسلم (1827). .
وعن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((ما منَعَني أن أشهَدَ بَدرًا إلَّا أنِّي خرَجْتُ أنا وأبي حُسَيلٌ، قال: فأخَذَنا كُفَّارُ قُرَيشٍ، قالوا: إنَّكم تُريدونَ مُحمَّدًا! فقُلْنا: ما نُريدُه، ما نُريدُ إلَّا المدينةَ، فأخَذوا مِنَّا عَهدَ اللهِ ومِيثاقَه لَنَنصَرِفَنَّ إلى المدينةِ، ولا نُقاتِلُ معه، فأتَيْنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرْناه الخبَرَ، فقال: انصَرِفا، نَفِي لهم بعَهْدِهم، ونَستعينُ اللهَ عليهم!)) [188] رواه مسلم (1787). .
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9).
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ.
أي: إنَّما يَنهاكم اللهُ -أيُّها المؤمِنونَ- عن الكافِرينَ المحارِبينَ الَّذين ناصَبوكم العَداوةَ، فقاتَلوكم بسبَبِ إيمانِكم برَبِّكم [189] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/574)، ((تفسير السمرقندي)) (3/438)، ((تفسير ابن كثير)) (8/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857). قال السمرقندي: (هم أهلُ مكَّةَ ومَن كان في مِثلِ حالِهم مِن أهلِ الحَربِ). ((تفسير السمرقندي)) (3/438). .
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ.
أي: وأخرَجوكم مِن بلادِكم، وعاوَنوا غَيرَهم على إخراجِكم [190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/574)، ((تفسير البغوي)) (5/72)، ((تفسير ابن كثير)) (8/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857). .
أَنْ تَوَلَّوْهُمْ.
أي: أن تتوَلَّوهم، فتَكونوا لهم محِبِّينَ مُناصِرينَ [191] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/574)، ((تفسير السمعاني)) (5/417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857). .
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: ومَن يتَّخِذِ الكافِرينَ أولياءَ يُحِبُّهم ويُناصِرُهم، فأولئك هم الظَّالِمونَ الَّذين وَضَعوا المُوالاةَ في غيرِ مَوضِعِها، وعرَّضوا أنفُسَهم لعذابِ اللهِ تعالى [192] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/574)، ((تفسير القرطبي)) (18/60)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/509)، ((تفسير أبي السعود)) (8/239)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/ 202). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه إشارةٌ إلى الاقتِصادِ في العَداوةِ والوَلايةِ [193] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/264). .
2- في قَولِه تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أنَّ الشَّخصَ قد يكونُ عدوًّا للهِ، ثُمَّ يصيرُ وليًّا للهِ، مُواليًا للهِ ورَسولِه والمؤمِنينَ؛ فهو سُبحانَه يَتوبُ على مَن تاب، ومَن لم يَتُبْ فإلى اللهِ إيابُه، وعليه حِسابُه. وعلى المؤمِنينَ أنْ يَفعَلوا معه ومع غيرِه ما أمَرَ اللهُ به ورَسولُه؛ مِن قَصْدِ نصيحتِهم، وإخراجِهم مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وأمْرِهم بالمعروفِ، ونَهْيِهم عن المُنكَرِ، كما أمَرَ اللهُ ورَسولُه، لا اتِّباعًا للظَّنِّ وما تَهوى الأنفُسُ، حتَّى يكونَ مِن خيرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ، يأمُرونَ بالمعروفِ، ويَنْهَونَ عنِ المُنكَرِ، ويُؤمِنونَ باللهِ، وهؤلاء يَعلَمونَ الحقَّ ويَقصِدونَه، ويَرحَمونَ الخَلْقَ، وهم أهلُ صِدْقٍ وعَدْلٍ، أعمالُهم خالِصةٌ للهِ، صوابٌ موافِقةٌ لأَمْرِ اللهِ، كما قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ، قال الفُضَيلُ بنُ عياضٍ وغيرُه: «أخلَصُه وأصْوَبُه؛ والخالصُ أنْ يكونَ للهِ، والصَّوابُ أنْ يكونَ على السُّنَّةِ» [194] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (1/415). ويُنظر أيضًا: ((الإخلاص والنية)) لابن أبي الدنيا (22)، ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) لأبي نعيم الأصبهاني (8/95). .
3- متى عَلِمْتَ أنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ فإنَّه لن يَمنَعَك مانعٌ مِن أنْ تَلتجِئَ إليه سُبحانَه وتعالى بسُؤالِ ما تريدُ؛ ولهذا قال اللهُ تعالى مُنَبِّهًا على هذا الأمرِ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، ومَعلومٌ أنَّ العَداوةَ بيْنَ المؤمِنينَ والكافِرينَ أمرٌ ثابتٌ، وأنَّ الإنسانَ قد يَستبعِدُ أنْ يَجعَلَ اللهُ في قلْبِه مودَّةً لهذا الكافرِ، فقال اللهُ تعالى: وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قَدِيرٌ: بالنِّسبةِ لتقليبِ القُلوبِ، غَفُورٌ: بأنْ يُيَسِّرَ هؤلاء الكفَّارَ إلى الإسلامِ، فيَغفِرَ لهم [195] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/181). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ حَثٌّ على العَدلِ في كلِّ شيءٍ [196] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/415). . وناهيكَ بتَوصيةِ اللهِ المؤمنينَ أنْ يَستعمِلوا القِسطَ مع المشرِكين به، ويَتحامَوا ظُلْمَهم، مُترجِمةً عن حالِ مُسلمٍ يَجترِئُ على ظُلمِ أخيهِ المسلمِ [197] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/516). ! فإذا نهَى عن الظُّلمِ في حقِّ المشركِ، فكيف في حقِّ المسلمِ [198] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/469). ؟! فحَسْبُك وكافيك تنبيهًا على قُبحِ صنيعِ مَن يَجترئُ على ظُلمِ أخيه المُسلِمِ [199] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/365). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه إشارةٌ وبِشارةٌ إلى إسلامِ بَعضِ المُشرِكينَ الَّذين كانوا إذ ذاك أعداءً للمؤمِنينَ، وقد وقَع ذلك [200] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 856). ، فقد أسلَمَ عامَ الفَتحِ وقبْلَ عامِ الفَتحِ أُمَّةٌ مِن الكفَّارِ، وصارتِ العَداوةُ في قلوبِ المؤمِنينَ لهم موَدَّةً [201] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/181). .
2- قال الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ التَّذييلُ بأنَّ اللهَ قَديرٌ يُشعِرُ بأنَّ تأليفَ القُلوبِ ومَودَّتَها إنَّما هو مِن قُدرةِ اللهِ تعالى وَحْدَه، كما بَيَّنَه قَولُه تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [202] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/90). [الأنفال: 63] .
3- قال الله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ أخرَج ذلك القِتالَ بسَبَبِ حَقٍّ دُنيويٍّ لا تعَلُّقَ له بالدِّينِ، وأخرجَ مَن لم يقاتِلْ أصلًا، كخُزاعةَ والنِّساءِ، ومِن ذلك أهلُ الذِّمَّةِ، بل الإحسانُ إليهم مِن محاسِنِ الأخلاقِ، ومعالي الشِّيَمِ؛ لأنَّهم جِيرانٌ [203] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/508). .
4- قَولُ الله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ رُخصةٌ مِن اللهِ تعالى في صِلةِ الَّذين لم يُعادُوا المؤمِنينَ ولم يُقاتِلوهم [204] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/264). ، يدُلُّ على جوازِ البِرِّ بيْنَ المُشرِكينَ والمُسلِمينَ، وإن كانت المُوالاةُ مُنقَطِعةً [205] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/521). .
5- قَولُ الله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فيه دليلٌ على جوازِ التَّصدُّقِ على أهلِ الذِّمَّةِ، دونَ أهلِ الحربِ، ووُجوبِ النَّفقةِ للأبِ الكافرِ الذِّمِّيِّ [206] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/409). ويُنظر أيضًا: ((أحكام القرآن)) للجَصَّاص (3/583). .
6- في قَولِه تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ إلى قَولِه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أنَّ اللهَ سُبحانَه لَمَّا نهَى في أوَّلِ السُّورةِ عنِ اتِّخاذِ المُسلِمينَ الكُفَّارَ أولياءَ، وقَطَعَ الموَدَّةَ بَيْنَهم وبيْنَهم، تَوَهَّمَ بعضُهم أنَّ بِرَّهُم والإحسانَ إليهم مِن الموالاةِ والمودَّةِ؛ فبَيَّنَ اللهُ سُبحانَه أنَّ ذلك ليس مِن الموالاةِ المنهيِّ عنها، وأنَّه لم يَنْهَ عن ذلك، بل هو مِن الإحسانِ الَّذي يُحِبُّه ويَرضاه، وكتَبَه على كُلِّ شَيءٍ، وإنَّما المنهيُّ عنه تولِّي الكُفَّارِ، والإلقاءُ إليهم بالمودَّةِ [207] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/602). . والكافِرُ الَّذي لم يُنْهَ عن برِّه والإقساطِ إليه مَشروطٌ فيه عدَمُ القِتالِ في الدِّينِ، وعدمُ إخراجِ المؤمِنينَ مِن ديارِهم، والكافِرُ المَنهيُّ عن ذلك فيه هو المقاتِلُ في الدِّينِ، المُخرِجُ للمؤمِنينَ مِن ديارِهم، المُظاهِرُ للعَدُوِّ على إخراجِهم [208] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 236). .
7- في قَولِه تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ بعدَ قولِه في أوَّلِ السُّورةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] أنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ لا تُعَدُّ مُوالاةً، بلِ الموالاةُ شَيءٌ والصِّلَةُ شيءٌ آخَرُ؛ ولهذا جَمَع اللهُ تعالى بيْنَ الصِّلَةِ وبيْنَ النَّهيِ عن اتِّخاذِ الوَلايةِ في سُورةٍ واحدةٍ؛ فصِلَةُ الرَّحِمِ أمرٌ مُنفَصِلٌ عن الوَلايةِ، فعلى هذا يجبُ على الإنسانِ أنْ يَصِلَ رَحِمَه ولو كانوا كفَّارًا، لكنْ بدونِ مُوالاةٍ ومُناصَرةٍ ومُعاضَدةٍ على ما هم عليه مِن الكُفرِ، وكذلك يجوزُ أنْ يَدْعُوَهم إلى بَيتِه مثلًا، ولكنْ مع ذلك يَنبغي أن يَحرِصَ على عَرْضِ الإسلامِ عليهم ونُصْحِهم وإرشادِهم؛ لعلَّ اللهَ أنْ يَهديَهم بسَبَبِه [209] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/645). ، وأيضًا فليس مِن موالاتِهم أنْ نُضِيفَهم إذا استضافُونا، يعني: لو نَزَلَ بك كافرٌ وأكرَمْتَه إكرامَ ضَيفٍ لا يكونُ هذا مِن مُوالاتِهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ، وهذا إحسانٌ، وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ هذا عَدْلٌ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [210] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/17). ، وكذلك فإنَّ الصُّلحَ والمُهادَنةَ لا يَلزَمُ منها محَبَّةٌ، ولا موالاةٌ، ولا موَدَّةٌ لأعداءِ الله [211] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (18/448). .
8- قال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ لا يُمكِنُ لأمَّةٍ اليومَ أن تَعيشَ مُنعَزِلةً عن غيرِها مِن الدُّولِ؛ لِتَداخُلِ المصالحِ وتَشابُكِها، ولا سِيَّما في المجالِ الاقتصاديِّ عَصَبِ الحياةِ اليومَ؛ مِن إنتاجٍ، أو تصنيعٍ، أو تسويقٍ؛ فعلى هذا تكونُ الآيةُ مُساعِدةً على جوازِ التَّعامُلِ مع أولئك المسالِمينَ ومُبادَلتِهم مصلحةً بمَصلحةٍ، بشَرطِ عَدَمِ المَيلِ بالقَلْبِ، ولو قيل بشَرطٍ آخَرَ، وهو: مع عَدَمِ وُجودِ تلك المصلحةِ عندَ المسلِمينَ أنفُسِهم، أي: إنَّ العالَمَ الإسلاميَّ يَتعاوَنُ أوَّلًا مع بَعْضِه، فإذا أعوَزَه أو بَعضَ دُوَلِه حاجةٌ عندَ غيرِ المسلمينَ مِمَّن لم يقاتِلوهم ولم يُظاهِروا عَدُوًّا على قِتالِهم؛ فلا مانِعَ مِن التَّعاوُنِ مع تلك الدَّولةِ في ذلك، وممَّا يؤَيِّدُ كُلَّ ما تقَدَّمَ عمَلِيًّا مُعامَلةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لليَهودِ [212] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/95). .
9- في قَولِه تعالى: وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنَّ الحَربيَّ لو أسْلَمَ وبيَدِه مالُ مُسلمٍ قد أَخَذَه مِن المسلِمينَ بطَريقِ الاغتِنامِ ونحوِه ممَّا لا يَملِكُ به مُسلمٌ مِن مُسلمٍ؛ لكَونِه مُحَرَّمًا في دِيْنِ الإسلامِ- كان له مِلْكًا، ولم يَرُدَّه إلى المُسلمِ الَّذي كان يَملِكُه. ووجْهُ الدَّلالةِ: أنَّه سُبحانَه بيَّنَ أنَّ المسلِمينَ أُخرِجوا مِن ديارِهم وأموالِهم بغيرِ حَقٍّ حتَّى صاروا فُقَراءَ بعدَ أنْ كانوا أغنياءَ، ثمَّ إنَّ المُشرِكينَ استَولَوا على تلك الدِّيارِ والأموالِ، وكانت باقيةً إلى حينِ الفَتحِ، وقد أسلَمَ مَنِ استولى عليها في الجاهليَّةِ، ثمَّ لم يَرُدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أحدٍ منهم أُخرِجَ مِن دارِه بعدَ الفَتحِ والإسلامِ دارًا ولا مالًا، بل قيل للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ الفَتحِ: أين تَنزِلُ غدًا؟ فقال: ((وهل تَرَكَ لنا عَقِيلٌ مِن مَنزِلٍ؟!)) [213] أخرجه البخاريُّ (4282)، ومسلمٌ (1351) مِن حديثِ أسامةَ بنِ زَيدٍ رضيَ الله عنهما. ، وسأله المهاجِرونَ أنْ يَرُدَّ عليهم أموالَهم الَّتي استولى عليها أهلُ مكَّةَ، فأبَى ذلك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأقَرَّها بيَدِ مَنِ استَولى عليها بعدَ إسلامِه [214] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 154). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ اعتِراضٌ، وهو استِئنافٌ مُتَّصِلٌ بما قبْلَه مِن أوَّلِ السُّورةِ، خُوطِبَ به المؤمنونَ تَسليةً لهم على ما نُهُوا عنه مِن مُوالاةِ أقْربائِهم؛ بأنْ يَرْجُوا مِن اللهِ أنْ يَجعَلَ عداوتَهم آيِلةً إلى موَدَّةٍ بأنْ يُسْلِمَ المشرِكونَ مِن قَرابةِ المؤمنينَ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/150). .
- قولُه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وعْدٌ مِن اللهِ على عاداتِ الملوكِ، حيث يَقولونَ في بَعضِ الحوائجِ: عَسى أو لعلَّ، فلا تَبْقَى شُبهةٌ للمُحتاجِ في تَمامِ ذلك، أو قَصَد به إطماعَ المؤمنينَ [216] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/515)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/151). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ قَدِيرٌ تَذييلٌ [217] التَّذييل: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعْدَ تمامِ معناهُ بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وذلك على ضربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويحقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرجَ المثلِ السَّائرِ؛ ليشتهرَ المعنى؛ لكثرةِ دوَرانِه على الألسِنةِ. يُنظر: ((البديع)) لأسامة بن منقذ (ص: 125)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 387)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/86 - 88). ، أي: مُبالغٌ في القُدرةِ، فَيقدِرُ على تَقليبِ القُلوبِ، وتَغييرِ الأحوالِ، وتَسهيلِ أسبابِ المودَّةِ [218] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/515)، ((تفسير أبي السعود)) (8/238)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/151). .
- وعُطِفَ على التَّذييلِ جُملةُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أي: يَغفِرُ لِمَن أنابوا إليه ويَرحَمُهم؛ فلا عَجَبَ أنْ يَصيروا أوِدَّاءَ لكم كما تَصِيرون أوِدَّاءَ لهم [219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/151). .
2- قولُه تعالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
- قولُه: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ استئنافٌ هو مَنطوقٌ لمَفهومِ الأوصافِ الَّتي وُصِفَ بها العدُوُّ في قولِه تَعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة: 1] ، وقولِه: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة: 2] ، المَسوقةِ مَساقَ التَّعليلِ للنَّهيِ عن اتِّخاذِ عدُوِّ اللهِ أولياءَ، اسْتَثْنى اللهُ أقوامًا مِن المشركين غيرَ مُضمِرينَ العداوةَ للمسلِمينَ، وكان دِينُهم شَديدَ المُنافَرةِ مع دِينِ الإسلامِ، وهذه الجُملةُ قد أَخرَجَتْ مِن حُكْمِ النَّهيِ القومَ الَّذين لم يُقاتِلوا في الدِّينِ ولم يُخرِجوا المسلِمينَ مِن دِيارِهم [220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/151، 152). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ تَذييلٌ، أي: يُحِبُّ كلَّ مُقسطٍ، فيَدخُلُ الَّذين يُقسِطون للَّذين حالَفُوهم في الدِّينِ إذ كانوا مع المُخالَفةِ مُحسِنينَ مُعاملتَهم [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/153). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فذْلَكةٌ [222] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و (الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلام، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِما تَقدَّمَ، وحصْرٌ لحُكْمِ الآيةِ المُتقدِّمةِ، وهي تُؤذِنُ بانتهاءِ الغرَضِ المسوقِ له الكلامُ مِن أوَّلِه [223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/153). .
- والقصْرُ المُستفادُ مِن جُملةِ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ ... إلى آخِرِها، قصْرُ قلْبٍ [224] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ لرَدِّ اعتقادِ مَن ظنَّ أو شكَّ في جَوازِ صِلةِ المشركين على الإطلاقِ [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/153). .
- والقصْرُ في قولِه: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قصْرٌ ادِّعائيٌّ [226] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، فظُلْمُهم وقَع بعْدَ النَّهيِ الشَّديدِ، والتَّنبيهِ على الأخطاءِ والعِصيانِ؛ وهو اعتداءٌ على حُقوقِ اللهِ، وحُقوقِ المسلمينَ، وعلى حقِّ الظالِمِ نفْسِه، فجُعِلوا كمَن انْحَصَر الظُّلْمُ فيهم [227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/16) و(28/154). .
- وأيضًا جِيءَ في جَوابِ الشَّرطِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ باسمِ الإشارةِ (أولئك)؛ لتَمييزِ المشارِ إليهم زِيادةً في إيضاحِ الحُكْمِ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/154). .