موسوعة التفسير

سورةُ التَّحريمِ
الآيات (6-9)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ

غريب الكلمات:

نَصُوحًا: أي صادِقةً بالِغةً في النُّصحِ، خالِصةً، عامَّةً مِن جميعِ الذُّنوبِ، يَنوي التَّائبُ فيها عَدَمَ مُعاوَدةِ المعصيةِ، وأصلُ (نصح): يدُلُّ على مُلاءَمةٍ بيْن شَيئَينِ وإصلاحٍ لهما [137] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/106)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 470)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/435)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 407)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/317)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 418). قال ابن القيم: (أصلُ مادَّةِ «ن ص ح» لِخَلاصِ الشَّيءِ مِن الغِشِّ والشَّوائبِ الغريبةِ، وهو مُلاقٍ في الاشتِقاقِ الأكبَرِ لِنَصَحَ إذا خلَصَ، فالنُّصحُ في التَّوبةِ والعبادةِ والمَشورةِ: تخليصُها مِن كلِّ غِشٍّ ونَقصٍ وفَسادٍ، وإيقاعُها على أكملِ الوُجوهِ، والنُّصحُ ضِدُّ الغِشِّ). ((مدارج السالكين)) (1/316). .

المعنى الإجمالي:

يُوجِّهُ اللهُ تعالى النِّداءَ للمؤمنينَ، آمِرًا لهم أن يُؤَدُّوا واجبَهم نحوَ أنفُسِهم ونحوَ أهليهم، حتَّى يَنجوا مِن عذابِ النَّارِ، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا قُوا أنفُسَكم -بالعِلمِ النَّافِعِ، والعَمَلِ الصَّالحِ-، وأهلِيكم -بتعليمِهم وتأديبِهم- نارًا حَطَبُها الَّذي تُوقَدُ به الكُفَّارُ والحِجارةُ، عليها مَلائِكةٌ وكَّلَهم اللهُ بها، غِلاظٌ شِدادٌ، لا يُخالِفونَ أمْرَ اللهِ، ويَفعَلونَ ما يُؤمَرونَ بفِعْلِه.
ثمَّ يَذكرُ الله تعالى ما يُقالُ للكافرينَ في الآخرةِ توبيخًا لهم، وبيانًا لسوءِ عاقبتِهم، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين كَفَروا لا تَعتَذِروا اليَومَ عن كُفرِكم؛ إنَّما تَنالونَ جَزاءَ ما كُنتُم تَعمَلونَ في الدُّنيا.
ثمَّ يُوجِّهُ النِّداءَ إلى المؤمنينَ آمِرًا لهم بالتَّوبةِ، ومبيِّنًا حُسنَ عاقبتِها، فيقولُ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا تُوبوا مِن ذُنوبِكم تَوبةً صادِقةً خالِصةً؛ عسى اللهُ أن يَمحوَ عنكم ذُنوبَكم، ويُدخِلَكم جنَّاتٍ تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ يومَ لا يُهينُ اللهُ النَّبيَّ والمُؤمِنينَ معه ولا يَفضَحُهم، نُورُهم يَمضي معهم يومَ القيامةِ؛ مِن أمامِهم وبأيْمانِهم، يقولونَ: ربَّنا زِدْ لنا نُورَنا وأتِمَّه، وامْحُ عنَّا ذُنوبَنا، وقِنا شرَّها؛ إنَّك على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ.
ثمَّ يوجِّهُ اللهُ سُبحانَه النِّداءَ إلى نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: يا أيُّها النَّبيُّ جاهِدِ الكُفَّارَ والمُنافِقينَ، واغلُظْ عليهم بالقَولِ والفِعلِ، ومَأْواهم في الآخِرةِ نارُ جَهنَّمَ، وبِئسَ المَرجِعُ هي!

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وعَظَ اللهُ عزَّ وجلَّ أزواجَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَوعظةً خاصَّةً، أتْبَعَ ذلكَ بمَوعظةٍ عامَّةٍ للمُؤمِنينَ وأهليهِم؛ إذْ كانَتْ موعظةُ نِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُناسِبةً لتَنبيهِ المُؤمِنينَ لعَدَمِ الغفلةِ عن مَوعظةِ أنفُسِهم، ومَوعظةِ أهليهِم، وألَّا يَصُدَّهم اسْتِبقاءُ الوُدِّ بيْنَهم عن إسداءِ النُّصحِ لهم، وإنْ كانَ في ذلك بَعضُ الأذى [138] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/212)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/365). .
وأيضًا لَمَّا أبلَغَ اللهُ سُبحانَه في عِتابِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَلِمَ اتِّصافَهنَّ بهذه الصِّفاتِ العظيمةِ على سَبيلِ الرُّسوخِ؛ مِن دَوامِ صُحبتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهنَّ، وكان اتِّصافُهنَّ بذلك الَّذي أدَّاهنَّ إلى السَّعادةِ العُظمى إنَّما هو بحُسْنِ تأديبِ أوليائِهنَّ لهُنَّ، وإكمالِ ذلك الأدَبِ بحُسنِ عِشرتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتأدُّبِهنَّ بكريمِ أخلاقِه- أثمَرَ ذلك أمْرَ الأُمَّةِ بالتَّأسِّي به في هذه الأخلاقِ الكامِلةِ، والتَّأسِّي بأوليائِهنَّ في ذلك؛ لِيَعرِفْنَ حَقَّ اللهِ وحَقَّ الأزواجِ، فيَحصُلَ بذلك صلاحُ ذاتِ البَينِ، المثْمِرُ للخَيرِ كُلِّه [139] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/196). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا اجعَلوا بيْن أنفُسِكم وأهليكم وبيْن النَّارِ حاجِزًا يَقيكم منها؛ بتَعليمِ أنفُسِكم العِلمَ النَّافِعَ، وقيامِكم بالعَمَلِ الصَّالحِ، وتعليمِ أهليكم وتأديبِهم، وأمْرِهم بالمعروفِ، ونَهْيِهم عن المُنكَرِ [140] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/103)، ((تفسير السمرقندي)) (3/469)، ((تفسير ابن عطية)) (5/333)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/300)، ((تفسير القرطبي)) (18/194، 195)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874). قال السعدي: (وقايةُ الأنفُسِ بإلزامِها أمْرَ الله، والقيامِ بأمْرِه امتثالًا، ونَهْيِه اجتنابًا، والتَّوبةِ عمَّا يُسخِطُ اللهَ ويوجِبُ العذابَ، ووقايةُ الأهلِ [والأولادِ] بتأديبِهم وتعليمِهم، وإجبارِهم على أمرِ الله، فلا يَسْلَمُ العبدُ إلَّا إذا قام بما أمَر اللهُ به في نفْسِه، وفيمَنْ يَدخُلُ تحتَ ولايتِه مِن الزَّوجاتِ والأولادِ وغيرِهم ممَّن هو تحتَ ولايتِه وتصَرُّفِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 874). قال الألوسي: (المرادُ بالأهلِ على ما قيل: ما يَشملُ الزَّوجةَ والولدَ، والعبدَ والأمَةَ). ((تفسير الألوسي)) (14/351). وقيل: أهلُ الرَّجُلِ في الأصلِ: مَن يَجمَعُه وإيَّاهم مسكنٌ واحدٌ، فأهلُ الرَّجُلِ امرأتُه وولدُه والَّذين في عيالِه ونفَقَتِه، وكذا كلُّ أَخٍ وأُختٍ أو عمٍّ أو ابنِ عمٍّ أو صبيٍّ أجنبيٍّ يَقوتُه في مَنزِلِه. يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 96)، ((المغرب في ترتيب المعرب)) للمُطَرِّزي (ص: 31). .
كما قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132].
وقال سُبحانَه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59] .
وعنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((ألَا كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مَسؤولٌ عن رعيَّتِه؛ فالأميرُ الَّذي على النَّاسِ راعٍ، وهو مَسؤولٌ عن رعيَّتِه، والرَّجُلُ راعٍ على أهلِ بَيتِه، وهو مَسؤولٌ عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بَيتِ بَعْلِها ووَلَدِه، وهي مَسؤولةٌ عنهم، والعَبدُ راعٍ على مالِ سَيِّدِه، وهو مَسؤولٌ عنه، ألَا فكُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مَسؤولٌ عن رَعيَّتِه )) [141] رواه البخاريُّ (7138)، ومسلمٌ (1829) واللَّفظُ له. .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((دخَلَ علَيَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفي البَيتِ قِرامٌ [142] قِرامٌ: أي: سِتْرٌ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (9/67). فيه صُوَرٌ، فتلَوَّنَ وَجْهُه، ثمَّ تناوَلَ السِّتْرَ فهتَكَه [143] فهَتَكه: أي: جَذَبه فقَطَعَه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (9/67). ! وقالت: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ مِن أشَدِّ النَّاسِ عذابًا يومَ القيامةِ الَّذين يُصوِّرونَ هذه الصُّوَرَ)) [144] رواه البخاريُّ (6109) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2107). .
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.
أي: حَطَبُ النَّارِ الَّذي يُلقَى فيها فتُوقَدُ به: هو الكُفَّارُ والحِجارةُ [145] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/105)، ((الوسيط)) للواحدي (1/103)، ((تفسير ابن كثير)) (8/167). قيل: المرادُ بقولِه: وَالْحِجَارَةُ: حِجارةُ الكِبْريتِ. وممَّن قال بهذا القَولِ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والخازنُ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/105)، ((تفسير السمرقندي)) (3/469)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7577)، ((تفسير الخازن)) (4/316)، ((تفسير العليمي)) (7/100). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ مسعودٍ، ومجاهِدٌ، وأبو جعفرٍ الباقِرُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/44)، ((تفسير ابن كثير)) (8/167). قال ابن رجب: (وأكثرُ المفسِّرينَ على أنَّ المرادَ بالحِجارةِ... حِجارةُ الكِبْريتِ توقدُ بها النَّارُ، ويقالُ: إنَّ فيها خمسةَ أنواعٍ مِن العذابِ ليس في غيرِها مِن الحِجارةِ: سرعةُ الإيقادِ، ونتنُ الرَّائحةِ، وكثرةُ الدُّخَانِ، وشدَّةُ الالتِصاقِ بالأبدانِ، وقوَّةُ حرِّهَا إذا أُحمِيَتْ). ((التخويف من النار)) (ص: 136). وقال الشربيني والقِنَّوْجي: وَالْحِجَارَةُ كأصنامِهم منها. يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/331)، ((تفسير القنوجي)) (14/216). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (6/44). قال ابن كثير: (قيل: المرادُ بها الأصنامُ الَّتي تُعبَدُ؛ لقولِه تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] ). ((تفسير ابن كثير)) (8/167). .
كما قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران: 10] .
وقال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 15] .
عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ.
أي: على النَّارِ مَلائِكةٌ وكَّلَهم اللهُ بالعَذابِ، غِلاظٌ لا يَرحَمونَ، شِدادٌ أقوِياءُ [146] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/105)، ((تفسير القرطبي)) (18/196)، ((تفسير ابن كثير)) (8/168)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/366). !
كما قال الله تبارك وتعالى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً [المدثر: 30، 31].
لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ.
أي: لا يُخالِفونَ أمْرَ اللهِ الَّذي يأمُرُهم به، ولا يَمتَنِعونَ عن طاعتِه [147] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/105)، ((تفسير القرطبي)) (18/196)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/61) و(7/174)، ((تفسير ابن كثير)) (8/168). .
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
أي: ويَفعَلونَ كُلَّ ما يُؤمَرونَ بفِعْلِه؛ فهم قادِرونَ على تَنفيذِه [148] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/105)، ((تفسير القرطبي)) (18/196)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/174) و(13/61)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/198)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
ذِكرُ هذه المقالةِ هنا استِطرادٌ يُفيدُ التَّنفيرَ مِن جَهنَّمَ بأنَّها دارُ أهلِ الكُفرِ، كما قال الله تبارك وتعالى: النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24] ، وإلَّا فإنَّ سِياقَ الآيةِ تَحذيرٌ للمُؤمِنينَ مِن المُوبِقاتِ في النَّارِ [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/366، 367). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.
أي: يُقالُ لأهلِ النَّارِ في الآخِرةِ [150] قال ابنُ جزي: (يحتمِلُ أن يكونَ هذا خِطابًا مِنَ اللهِ للكُفَّارِ، أو خِطابًا مِنَ الملائِكةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/392). : يا أيُّها الَّذين كَفَروا لا تَعتَذِروا في هذا اليَومِ -يومِ القيامةِ- عن كُفرِكم؛ فقد فات وقتُ قَبولِ الاعتِذارِ، وزالَ نَفعُه [151] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/197)، ((تفسير ابن كثير)) (8/168)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/199)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/366). قال البيضاوي: (النَّهيُ عن الاعتذارِ؛ لأنَّه لا عُذْرَ لهم، أو العُذرُ لا يَنفَعُهم). ((تفسير البيضاوي)) (5/225). !
قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم: 57] .
وقال سُبحانَه: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 52] .
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّما تَنالونَ اليَومَ جَزاءَ ما كُنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والمعاصي، وقد نُهيتُم عنها؛ فلا تَعتَذِروا عن أعمالِكم [152] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/105)، ((تفسير القرطبي)) (18/197)، ((تفسير الألوسي)) (14/352)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874). قال السعدي: (أي: يُوَبَّخُ أهلُ النَّارِ يومَ القيامةِ بهذا التَّوبيخِ، فيُقالُ لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أي: فإنَّه ذَهَب وقتُ الاعتذارِ، وزال نَفعُه، فلم يَبْقَ الآنَ إلَّا الجزاءُ على الأعمالِ، وأنتم لم تُقَدِّموا إلَّا الكُفرَ باللهِ، والتَّكذيبَ بآياتِه، ومحاربةَ رُسُلِه وأوليائِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 874). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى نبَّهَهم على دَفعِ العَذابِ يومَ القيامةِ بالتَّوبةِ في الدنيا؛ إذ في ذلك اليَومِ لا تُفيدُ [153] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/574). .
وأيضًا لَمَّا أفهَمَ الأمرُ بالوِقايةِ والمَدْحُ للمَلائكةِ أنَّ المأمورينَ بالوِقايةِ مُقَصِّرونَ، قال مُرشِدًا إلى دواءِ التَّقصيرِ [154] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/200). :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا تُوبوا مِن جميعِ ذُنوبِكم تَوبةً صادِقةً بنِيَّةٍ خالِصةٍ، مع إقلاعٍ عنها، ونَدَمٍ عليها، وعَزمٍ على عَدَمِ العَودةِ إليها [155] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/106)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/57)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/317)، ((تفسير ابن كثير)) (8/169)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/200)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874). قال ابنُ كثيرٍ: (قال العُلَماءُ: التَّوبةُ النَّصوحُ هو أن يُقلِعَ عن الذَّنْبِ في الحاضِرِ، ويَندَمَ على ما سَلَف منه في الماضي، ويَعزِمَ على ألَّا يَفعَلَ في المُستقبَلِ، ثمَّ إنْ كان الحَقُّ لآدَميٍّ رَدَّه إليه بطريقِه). ((تفسير ابن كثير)) (8/169). وقال ابن القيِّم: (نُصْحُ التَّوبةِ الصِّدقُ فيها، والإخلاصُ، وتعميمُ الذُّنوبِ بها). ((مدارج السالكين)) (1/317). وقال السعدي: (المرادُ بها: التَّوبةُ العامَّةُ الشَّاملةُ للذُّنوبِ كلِّها، الَّتي عقَدها العبدُ لله، لا يُريدُ بها إلَّا وجْهَه والقُربَ منه، ويَستمِرُّ عليها في جميعِ أحوالِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 874). .
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.
أي: عسى اللهُ إنْ تُبتُم توبةً نَصوحًا أن يَمحوَ عنكم ذُنوبَكم، ويَقيَكم سُوءَها [156] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/378)، ((تفسير ابن جرير)) (23/109)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/318)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/201). عن ابنِ عبَّاسٍ قال: (عسى مِن الله واجبٌ). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/651). قال الرازي: (اتَّفق المفسِّرونَ على أنَّ كلمةَ عَسَى مِن الله واجبٌ، قال أهلُ المعاني: لأنَّ لفظةَ «عسى» تُفيدُ الإطماعَ، ومَن أطمَع إنسانًا في شيءٍ ثمَّ حرَمه كان عارًا، والله تعالى أكرَمُ مِن أن يُطمعَ أحدًا في شيءٍ ثمَّ لا يُعطيه ذلك). ((تفسير الرازي)) (21/387). وقال الشنقيطي: (جماهيرُ العُلماءِ يقولون: «عسى» مِن اللهِ واجبةٌ؛ لأنَّ اللهَ كريمٌ، لا يُطمِعُ في شيءٍ إلَّا هو فاعِلُه؛ لشِدَّةِ كرَمِه جلَّ وعلا وفَضْلِه). ((العذب النمير)) (5/332). .
كما قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] .
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: ويُدخِلَكم اللهُ في الآخِرةِ جنَّاتٍ تَجري الأنهارُ مِن تَحتِ قُصورِها وأشجارِها [157] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/378)، ((تفسير ابن جرير)) (23/109)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 344). .
يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ.
أي: يومَ [158] قال ابن جُزَي: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ العامِلُ في يَوْمَ يَحتمِلُ أن يكونَ ما قَبْلَه، أو ما بَعْدَه، أو محذوفٌ تَقديرُه: اذكُرْ). ((تفسير ابن جزي)) (2/392). وممَّن قال بأنَّ العامِلَ هو قَولُه تعالى: (يُدْخِلَكم) أي: يُدخِلَكم جنَّاتٍ تَجري مِن تحتِها الأنهارُ في اليَومِ الَّذي لا يُخزي فيه اللهُ النَّبيَّ والَّذين آمَنوا معه: الزمخشريُّ، وابنُ عطيَّة، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/570)، ((تفسير ابن عطية)) (5/334)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/370). قال الزَّجَّاجُ: (يَوْمَ مَنصوبٌ بقَولِه: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ، أي: في هذا اليَومِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/195). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/201). وممَّن قال بأنَّ العامِلَ مَحذوفٌ تَقديرُه: اذكُرْ: ابنُ عرفة. يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (4/253). لا يُعَذِّبُ اللهُ مُحمَّدًا والمُؤمِنينَ معه، ولا يُهينُهم ولا يَفضَحُهم [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/109)، ((الوسيط)) للواحدي (4/322)، ((تفسير السمعاني)) (5/477)، ((تفسير القرطبي)) (18/200)، ((تفسير ابن كثير)) (8/170)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/370). قال ابنُ عطية: (قولُه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ يحتمِلُ أن يكونَ مَعطوفًا على النَّبِيَّ، فيَخرجُ المؤمنونَ مِن الخِزْيِ. ويحتمِلُ أن يكونَ ابتِداءً ونُورُهُمْ يَسْعَى جملةٌ هي خبرُه، ويَبقى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مخصوصًا مُفَضَّلًا بأنَّه لا يُخزَى). ((تفسير ابن عطية)) (5/334). وقال البِقاعي: (ولا يُخْزي الَّذين آَمَنُوا مَعَهُ وهم الصَّحابةُ رَضِيَ الله تعالى عنهم إن كان المرادُ المَعِيَّةَ في مُطلَقِ الزَّمانِ، وسابِقوهم إن كان المرادُ في الوصفِ أو زمانٍ مخصوصٍ كبَدْرٍ وبَيعةِ الرِّضوانِ... ونساؤُه رضيَ الله عنهُنَّ أحَقُّ بأن يَكُنَّ أوَّلَ راغبٍ في الكَونِ معه في الإيمانِ لِيبعدْنَ عن النِّيرانِ... ويجوزُ أن يكونَ «الَّذين» مُبتدَأً خبرُه نُورُهُمْ، أو يكونَ الخبرُ مَعَهُ إشارةً إلى أنَّ جميعَ الأنبياءِ وصالِحي أُمَمِهم مِن أمَّتِه، وتحتَ لِوائِه). ((نظم الدرر)) (20/202). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/370). .
قال تعالى حكايةً عن قَولِ المؤمِنينَ: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 192 - 194] .
وقال سُبحانَه وتعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء: 87] .
نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ.
أي: نُورُهم يَمضي معهم يومَ القيامةِ؛ مِن أمامِهم وبأيْمانِهم [160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/371). قيل: ذلك يكونُ على الصِّراطِ. وممَّن نصَّ على هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/378)، ((الوسيط)) للواحدي (4/248، 256، 322). قال الواحديُّ: (يعني: على الصِّراطِ يومَ القيامةِ، وهو دليلُهم إلى الجنَّةِ). ((الوسيط)) (4/248). وممَّن رُويَ عنه هذا القولُ مِن السَّلفِ: ابنُ مسعود، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/243)، ((تفسير ابن كثير)) (8/15). وقال ابن عاشور: (النُّورُ المذكورُ هنا نورٌ حقيقيٌّ، يَجعَلُه اللهُ للمؤمنينَ في مَسيرِهم مِن مكانِ الحَشرِ؛ إكرامًا لهم، وتنويهًا بهم في ذلك المَحشَرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/380) و(28/ 371). والمرادُ بقولِه تعالى: وَبِأَيْمَانِهِمْ قيل: أي: مِن الجِهةِ اليُمنى. وممَّن قال به: البِقاعي، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/272) و(20/203)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/380) و(28/371)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الحديد)) (ص: 386). وقيل: المرادُ: وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُ أعمالِهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/398، 399) و(23/109). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/109). ونسَبَ ابنُ عطيَّةَ إلى جمهورِ المفسِّرينَ أنَّ المرادَ: وبأيْمانِهم أصلُ النُّورِ، أي: يكونُ النُّورُ بأيْمانِهم، ومنه يَنبسِطُ نورٌ مِن أمامِهم. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/261، 334). ويُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ سورةِ الحديدِ، الآية (12). .
كما قال الله تبارك وتعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد: 12، 13].
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا.
أي: يقولونَ: ربَّنا زِدْ لنا نُورَنا حتَّى يكونَ في غايةِ التَّمامِ [161] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/26)، ((تفسير ابن كثير)) (8/170)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/204)، ((تفسير القاسمي)) (9/278)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/371). قال ابنُ تيميَّةَ: (قال المفسِّرون: إذا رأى المؤمِنونَ نورَ المنافِقينَ يُطفَأُ سألوا اللهَ أن يُتِمَّ لهم نُورَهم، ويُبَلِّغَهم به الجنَّةَ). ((مجموع الفتاوى)) (7/274). .
وَاغْفِرْ لَنَا.
أي: وامْحُ ذُنوبَنا، وقِنا شرَّها، وأزِلْ أثرَها [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/110)، ((تفسير السمرقندي)) (3/470)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/314)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/204). .
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: إنَّك وَحْدَك بالِغُ القُدرةِ على فِعْلِ كُلِّ شَيءٍ، فلا يُعجِزُك شَيءٌ [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/110)، ((تفسير السمرقندي)) (3/470)، ((البسيط)) للواحدي (22/27)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/205). .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى ما تقدَّمَ مِن لِينِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأضعَفِ النَّاسِ؛ النِّساءِ، وحُسْنِ أدَبِه وكَريمِ عِشْرتِه؛ لأنَّه مَجبولٌ على الشَّفَقةِ على عِبادِ اللهِ، والرَّحمةِ لهم، وخَتَم بما للمؤمِنينَ مِنَ الشَّرَفِ، ولله مِن تمامِ القُدرةِ؛ أنتَجَ ذلك القَطْعَ بإذلالِ أعدائِهم، وإخزائِهم [164] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/205). .
وأيضًا لَمَّا أبلَغَ الكفَّارَ ما سيَحُلُّ بهِم في الآخِرةِ تَصريحًا بقولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ [التحريم: 7]، وتَعريضًا بقولِه: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] ؛ أمَرَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَسْمَعٍ مِنْهم بأنْ يُجاهِدَهم، ويُجاهِدَ المُسْتَتِرينَ لكفرِهم بظاهرِ الإيمانِ نِفاقًا، حتَّى إذا لم تُؤثِّرْ فيهِمُ الموعظةُ بعِقابِ الآخِرةِ يَخْشَوْنَ أنْ يُسلِّطَ عليهِم عذابَ السَّيفِ في العاجِلةِ، فيُقلِعونَ عن الكُفرِ، فيُصلِحُ نُفوسَهم، وإنَّما أمَرَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلكَ؛ لأنَّ الكفَّارَ تألَّبُوا مع المُنافِقينَ بعْدَ هِجرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاتَّخَذوهُم عُيونًا لهُم وأيديَ يَدُسُّونَ بها الأذى للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمُؤمِنينَ، فهذا نِداءٌ ثانٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمُرُه بإقامةِ صلاحِ عُمومِ الأمَّةِ بتَطهيرِها مِنَ الخُبَثاءِ، بَعْدَ أنْ أمَره بإفاقةِ مَنْ عليهما الغفلةُ عن شَيءٍ مِن واجبِ حُسْنِ المُعاشَرةِ مع الزَّوجِ [165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/371، 372). .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.
أي: يا أيُّها النَّبيُّ جاهِدِ الكُفَّارَ المحارِبينَ بالسَّيفِ، وغيرَ المحارِبينَ منهم بالحُجَّةِ والمَوعِظةِ، وجاهِدِ المُنافِقينَ بالسَّيفِ إن أظهَروا كُفْرَهم، وبالحُجَّةِ لرَدِّ شُبُهاتِهم، أو بإقامةِ الحُدودِ على مَن يقَعُ فيها منهم، وكُنْ غليظًا على الكافِرينَ والمنافِقينَ بالقَولِ والفِعلِ [166] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/110، 111)، ((تفسير القرطبي)) (18/201)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 347، 348)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/5)، ((تفسير ابن كثير)) (8/170، 171)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/205، 206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/372). .
كما قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [الأنفال: 65] .
وقال الله عزَّ وجَلَّ: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52] .
وقال تبارك وتعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: 60، 61].
وقال جلَّ شأنُه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد: 4].
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن نَبيٍّ بعَثَه اللهُ في أُمَّةٍ قَبْلي إلَّا كان له مِن أمَّتِه حَواريُّونَ [167] الحواريُّونَ: الخواصُّ الأصفِياءُ. وقيل: هم النَّاصِرونَ. يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (1/320). وأصحابٌ، يأخُذونَ بسُنَّتِه، ويَقتَدونَ بأمْرِه، ثمَّ إنَّها تَخلُفُ مِن بَعْدِهم خُلوفٌ [168] الخُلُوفُ: الخالِفونَ بعدَ السَّالِفينَ. يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (1/320). قال النوويُّ: (أمَّا الخُلوفُ فبضَمِّ الخاءِ، وهو جمعُ «خَلْف» باسكانِ اللَّامِ، وهو الخالفُ بشَرٍّ، وأمَّا بفتحِ اللَّامِ فهو الخالفُ بخيرٍ، هذا هو الأشهرُ). ((شرح النووي على مسلم)) (2/28). ، يَقولونَ ما لا يَفعَلونَ، ويَفعَلونَ ما لا يُؤْمَرونَ؛ فمَنْ جاهَدَهم بيَدِه فهو مُؤمِنٌ، ومَن جاهَدَهم بلِسانِه فهو مُؤمِنٌ، ومَن جاهَدَهم بقَلْبِه فهو مُؤمِنٌ، وليس وراءَ ذلك مِن الإيمانِ حَبَّةُ خَردلٍ )) [169] رواه مسلم (50). .
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي: ومَساكِنُ الكُفَّارِ والمنافِقينَ في الآخِرةِ نارُ جَهنَّمَ، وهي مَثْواهم، وبِئسَ المرجِعُ الَّذي يَصيرونَ إليه جَهنَّمُ [170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/111)، ((تفسير القرطبي)) (18/201)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/207)، ((تفسير السعدي)) (ص: 874). !
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140] .
وقال سُبحانَه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة: 68] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ على الرَّجُلِ أن يُصلِحَ نَفْسَه بالطَّاعةِ، ويُصلِحَ أهْلَه إصلاحَ الرَّاعي للرَّعيَّةِ [171] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/195). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ فيه أنَّ الرَّجُلَ يَجِبُ عليه تَعلُّمُ ما يجِبُ عليه مِنَ الفرائضِ، وتعليمُه زَوجَه ووَلدَه، وعَبْدَه وأمَتَه [172] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 269). ، فالآيةُ دلَّت على أنَّ علينا تعليمَهم الدِّينَ والخَيرَ، وما لا يُستغنَى عنه مِنَ الأدَبِ [173] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/426). ؛ إذْ لا يَقْدِرُ أحدٌ يَقي غيرَه النَّارَ -وهو لا يَمْلِكُها- إلَّا بما يدُلُّه على ما يُباعِدُه منها مِن العَمَلِ الصَّالحِ، واجتِنابِ الطَّالحِ [174] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/370). .
3- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَجَّهَ اللهُ تعالى الخِطابَ إلى المؤمِنينَ باسمِ الإيمانِ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ مُقتَضى إيمانِهم أنْ يَقوموا بهذه المَسؤوليَّةِ العظيمةِ، وأنَّ عدَمَ قيامِهم بها نَقْصٌ في إيمانِهم؛ فتوجيهُ الخِطابِ بوَصفِ الإيمانِ يقتَضي مع ذلك الحَثَّ والإغراءَ على القيامِ بما وُجِّهَ إليه المرءُ [175] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (12/353). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ فيه أنَّه لا يَسْلَمُ العَبدُ إلَّا إذا قام بما أَمَر اللهُ به في نَفْسِه وفيما يَدخُلُ تحتَ وِلايتِه مِن الزَّوجاتِ والأولادِ، وغَيرِهم ممَّن هو تحت وِلايتِه وتصَرُّفِه [176] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 874). .
5- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا مَنْ أَهملَ تَعليمَ وَلَدِه ما يَنفَعُه وتَرَكَه سُدًى، فقد أساء إليه غايةَ الإساءةِ، وأكثَرُ الأولادِ إنَّما جاء فَسادُهم مِن قِبَلِ الآباءِ، وإهمالِهم لهم، وتَرْكِ تَعليمِهم فرائِضَ الدِّينِ وسُنَنَه؛ فأضاعوهم صِغارًا، فلم يَنتَفِعوا بأنفُسِهم، ولم يَنفَعوا آباءَهم كِبارًا [177] يُنظر: ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 229). .
6- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا دليلٌ على وُجوبِ التَّوبةِ [178] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (ص: 379). .
7- في قَولِه تعالى: تَوْبَةً نَصُوحًا النُّصحُ في التَّوبةِ يتضمَّنُ ثلاثةَ أشياءَ:
الأوَّلُ: تعميمُ جميعِ الذُّنوبِ واستِغراقُها بها، بحيثُ لا تَدَعُ ذَنْبًا إلَّا تناولَتْه.
والثَّاني: إجماعُ العَزمِ والصِّدقِ بكُلِّيَّتِه عليها، بحيثُ لا يَبقى عندَه ترَدُّدٌ ولا تَلَوُّمٌ ولا انتِظارٌ، بل يَجمَعُ عليها كُلَّ إرادتِه وعزيمتِه مُبادِرًا بها.
الثَّالثُ: تخليصُها مِن الشَّوائبِ والعِلَلِ القادِحةِ في إخلاصِها، ووُقوعُها لِمَحْضِ الخَوفِ مِن اللهِ وخَشيتِه والرَّغبةِ فيما لديه، والرَّهبةِ ممَّا عِندَه، لا كَمَن يَتوبُ لحِفْظِ جاهِهِ وحُرمَتِه، ومَنصِبِه ورياستِه، ولحِفْظِ حالِه، أو لحِفْظِ قوَّتِه ومالِه، أو لاستِدعاءِ حَمْدِ النَّاسِ، أو الهَربِ مِن ذَمِّهم، أو لِئَلَّا يَتسَلَّطَ عليه السُّفَهاءُ، أو لقَضاءِ نَهمتِه مِن الدُّنيا، أو لإفلاسِه وعَجْزِه، ونحوِ ذلك مِن العِلَلِ الَّتي تَقدَحُ في صحَّتِها وخُلوصِها للهِ عزَّ وجلَّ؛ فالأوَّلُ يَتعلَّقُ بما يَتوبُ منه، والثَّالثُ يَتعلَّقُ بمَن يتوبُ إليه، والأوسَطُ يَتعلَّقُ بذاتِ التَّائبِ ونَفْسِه. ولا رَيبَ أنَّ هذه التَّوبةَ تَستَلزِمُ الاستِغفارَ وتتضَمَّنُه، وتَمْحو جميعَ الذُّنوبِ، وهي أكمَلُ ما يكونُ مِن التَّوبةِ [179] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/317). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ الملائِكةَ مُكَلَّفونَ في الآخِرةِ بما أمَرَهم اللهُ تعالى به وبما يَنهاهم عنه، والعِصيانُ منهم مخالَفةٌ للأمرِ والنَّهيِ [180] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/572). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فيه مَدحٌ للمَلائِكةِ الكِرامِ، وانقيادِهم لأمرِ اللهِ، وطاعتِهم له في كُلِّ ما أمَرَهم به [181] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 874). .
3- قَولُه تعالى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ليس توكيدًا لقولِه: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وإنَّما فيه بيانُ أنَّهم قادِرونَ على فِعْلِ ما أُمِروا به، فهُم لا يَتركُونَه لا عَجزًا ولا مَعصيةً. والمأمورُ إنَّما يَترُكُ ما أُمِرَ به لأحدِ هذَينِ؛ إمَّا ألَّا يكونَ قادِرًا، وإمَّا أنْ يكونَ عاصيًا لا يريدُ الطَّاعةَ، فإذا كان مطيعًا يريدُ طاعةَ الآمِرِ -وهو قادِرٌ- وَجَبَ وُجودُ فِعْلِ ما أُمِرَ به؛ فكذلك الملائكةُ المذكورونَ لا يَعصُونَ اللهَ ما أَمَرَهم، ويَفعَلونَ ما يُؤْمَرونَ [182] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/61). . وقيل: معنى الأُولى: أنَّهم يَتقبَّلونَ أوامِرَه ويَلتَزِمونَها، ولا يأبَونَها، ولا يُنكِرونَها. ومعنى الثَّانيةِ: أنَّهم يُؤَدُّونَ ما يُؤمَرونَ به، لا يَتثاقَلونَ عنه، ولا يَتوانَونَ فيه [183] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/568، 569). . وقيل: يجوزُ جعْلُ مَرجِعِ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ أنَّهم لا يَعْصُونَ فيما يُكلَّفونَ به مِن أعمالِهمُ الخاصَّةِ بهِم، ومَرجِعِ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ إلى ما كُلِّفوا بعمَلِه في العُصاةِ في جَهَنَّمَ. وقيل: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ فيما مَضَى، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فيما يُستقبَلُ [184] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/568، 569)، ((تفسير البيضاوي)) (5/225)، ((تفسير أبي حيان)) (10/213)، ((تفسير أبي السعود)) (8/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/366). . وقيل: فائِدةُ ذِكْرِ قولِه: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بعْدَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ التَّأكيدُ؛ لاتِّحادِهما صِدْقًا [185] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 573، 574). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، لم يَقُلْ: (نَصُوحةً)؛ لأنَّ (فَعولًا) يَستوي فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ، كقَولِهم: (امرأةٌ صَبورٌ وشَكورٌ) [186] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 574). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ فيه سؤالٌ: اللهُ تعالى لا يُخزي النَّبيَّ في ذلك اليَومِ، ولا الَّذين آمَنوا، فما الحاجةُ إلى قَولِه: مَعَهُ؟
الجوابُ: هي إفادةُ الاجتِماعِ، يعني: لا يُخزي اللهُ المجموعَ الَّذي يَسعى نُورُهم، وهذه فائِدةٌ عظيمةٌ؛ إذ الاجتِماعُ بيْن الَّذين آمَنوا وبيْن نَبيِّهم تشريفٌ في حَقِّهم وتعظيمٌ [187] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/574). .
6- في قَولِه تعالى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ يَدخُلُ في ظاهِرِ الكلامِ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم، ويَستَوجِبونَ ما وَعَدَهم اللهُ جلَّ جلالُه في الآيةِ؛ فمَن تَنَقَّصَ واحِدًا منهم، أو أَخْرَجَه ممَّا وَعَدَه اللهُ، فقد رَدَّ على اللهِ! ويُرجَى أنْ يكونَ سائِرُ المؤمِنينَ داخِلينَ معهم في ذلك؛ لأنَّ مَنْ آمَنَ بعدَه فقد دَخَل في الاسمِ معه، وإنْ لم يكُنْ في الرُّؤيةِ والفَضيلةِ أُسوةَ الصَّحابةِ [188] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/372، 373). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ في هذه الآيةِ دليلٌ على المَغفِرةِ لجَميعِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/370). .
8- النُّورُ الَّذي يكونُ للمُؤمِنِ في الدُّنيا على حُسْنِ عَمَلِه واعتِقادِه يَظهَرُ في الآخِرةِ، كما قال تعالى: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ؛ فذَكَرَ سُبحانَه النُّورَ هنا عَقِيبَ أَمْرِه بالتَّوبةِ [190] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/285). .
9- في قَولِه تعالى: إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أنَّ تقييدَ القُدرةِ بالمَشيئةِ هو خِلافُ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأتْباعُه؛ فهُم لم يقولوا: «إنَّك على ما تَشاءُ قديرٌ». وخيرُ الطَّريقِ طريقُ الأنبياءِ وأتْباعِهم؛ فإنَّهم أهدى عِلْمًا، وأقوَمُ عَمَلًا. فالآيةُ عامَّةٌ؛ فهو قديرٌ على كلِّ شيءٍ، على ما شاءَه وما لم يَشَأْهُ. فتقييدُ بعضِ النَّاسِ القُدرةَ بالمشيئةِ خطأٌ؛ لأنَّ اللهَ قادرٌ على ما يَشاءُ وعلى ما لا يَشاءُ. وأمَّا قولُه تعالى: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى: 29] فالمشيئةُ هنا ليست عائدةً على القُدرةِ، ولكنَّها عائدةٌ على الجَمعِ؛ يعني: إذا أراد جَمْعَهم، وشاء جَمْعَهم، فهو قديرٌ عليه، لا يَعجِزُ عنه [191] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/82)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/159). .
10- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فخاطَبه هنا بوَصْفِه، وهو (النَّبيُّ)، كما في أوَّلِ السُّورةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التحريم: 1] ، لا باسْمِه، كقَولِه لآدَمَ: يَا آَدَمُ [البقرة: 33] ، ولِموسى: يَا مُوسَى [البقرة: 55] ، ولعيسى: يَا عِيسَى [آل عمران: 55] ؛ وذلك ليَدُلَّ على فَضْلِه عليهم [192] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/574). .
11- قَولُه تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ لا يُعارِضُ قولَه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ؛ لأنَّ النَّفيَ محمولٌ على طَبْعِه الَّذي جُبِلَ عليه، والأمرَ مَحمولٌ على المعالَجةِ، أو أنَّ النَّفيَ هو بالنِّسبةِ للمُؤمِنينَ، والأمرَ هو بالنِّسبةِ للكُفَّارِ والمنافِقينَ، كما هو مُصَرَّحٌ به في الآيِ نفْسِها [193] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/586). .
12- اللهُ سُبحانَه يُحِبُّ صِفاتِ الكَمالِ، مِثلُ: العِلمِ والقُدرةِ والرَّحمةِ، ونَحوِ ذلك؛ فعن أبي هُرَيرةَ رضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المؤمِنُ القَويُّ خَيرٌ وأحَبُّ إلى اللهِ مِن المؤمِنِ الضَّعيفِ، وفي كُلٍّ خَيرٌ )) [194] أخرجه مسلم (2664). ، وفي الصَّحيحِ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا يَرحَمُ اللهُ مَن لا يَرحَمُ النَّاسَ )) [195] أخرجه البخاريُّ (7376) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2319) مِن حديثِ جَريرِ بنِ عبدِ الله رضيَ الله عنه. ، وفي الصَّحيحِ أيضًا قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّما يَرحَمُ اللهُ مِن عِبادِه الرُّحَماءَ )) [196] أخرجه البخاريُّ (7448)، ومسلمٌ (923) مِن حديثِ أُسامةَ بنِ زَيدٍ رضيَ الله عنهما. ، وفي السُّنَنِ حَديثٌ ثابتٌ عنه: ((الرَّاحِمونَ يَرحَمُهم الرَّحمنُ، ارحَموا مَن في الأرضِ يَرحَمْكم مَن في السَّماءِ )) [197] أخرجه أبو داودَ (4941) واللَّفظُ له، والترمذيُّ (1924)، وأحمدُ (6494) مطوَّلًا مِن حديثِ عبدِ الله بنِ عَمرٍو رضيَ الله عنهما. قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه ابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (127)، والعراقيُّ في ((الأربعون العشارية)) (125)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4941)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((الإمتاع)) (1/62)، وقال السخاويُّ في ((البلدانيات)) (47): (حسَنٌ، بل صحَّحه غيرُ واحدٍ). ، ومع هذا فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وقال تعالى في حَدِّ الزَّاني والزَّانيةِ: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ [النور: 2] ، وهذا في الحَقيقةِ مِن رَحمةِ اللهِ بعِبادِه؛ فإنَّ اللهَ إنَّما أرسَلَ مُحمَّدًا رَحمةً للعالَمينَ، وهو سُبحانَه أرحَمُ بعِبادِه مِن الوالِدةِ بوَلَدِها، لكِنْ قد تكونُ الرَّحمةُ المطلوبةُ لا تَحصُلُ إلَّا بنَوعٍ مِن ألَمٍ وشِدَّةٍ تَلحَقُ بَعضَ النُّفوسِ [198] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/440). .
13- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فيه سُؤالٌ: فيه الأمرُ بقِتالِ الكُفَّارِ والمُنافِقينَ، والغِلظةِ عليهم، ومعلومٌ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاتَلَ الكُفَّارَ، ولم يُعلَمْ أنَّه قاتَلَ المُنافِقينَ قِتالَه للكُفَّارِ، فما نوعُ قِتالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُنافِقينَ؟
الجوابُ: قَولُه تعالى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52] ، أي: بالقُرآنِ؛ لِقَولِه تعالى قَبْلَه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 50 - 52] . ومعلومٌ أنَّ المنافِقينَ كافِرونَ، فكان جِهادُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للكُفَّارِ بالسَّيفِ، ومع المنافِقينَ بالقُرآنِ، كما جاء عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَدَمِ قَتْلِهم؛ لئلَّا يتحَدَّثَ النَّاسُ أنَّ مُحمَّدًا يَقتُلُ أصحابَه [199] الحديث أخرجه البخاريُّ (3518)، ومسلمٌ (2584) مِن حديثِ جابرِ بنِ عبدِ الله رضيَ الله عنهما. ، ولكِنْ كان جِهادُهم بالقُرآنِ لا يَقِلُّ شِدَّةً عليهم مِنَ السَّيفِ؛ لأنَّهم أصبَحوا في خَوفٍ وذُعرٍ، يَحسَبونَ كُلَّ صَيحةٍ عليهم، وأصبَحَت قلوبُهم خاويةً كأنَّهم خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ، وهذا أشَدُّ عليهم مِنَ المُلاقاةِ بالسَّيفِ [200] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/223، 224). .
وقيل: جِهادُ الكفَّارِ ظاهرٌ، وأمَّا عطفُ (المُنافِقينَ) على (الكُفَّارِ) المفعولِ لـ جَاهِدِ، فيَقْتضي أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مأْمورٌ بجهادِ المُنافِقينَ، وكان حالُ المُنافِقينَ مُلتبِسًا؛ إذْ لم يكُنْ أحَدٌ مِنَ المُنافِقينَ مُعلِنًا بالكفرِ، ولا شُهِدَ على أحَدٍ منهم بذلكَ، ولم يُعيِّنِ اللهُ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنافِقًا يُوقِنُ بنِفاقِه وكفْرِه، أو أطْلَعَه إطْلاعًا خاصًّا، ولم يَأمُرْه بإعلانِه بيْنَ المُسلِمينَ، كما يُؤخَذُ ذلكَ مِن أخبارٍ كثيرةٍ في الآثارِ، فتَعيَّنَ تأْويلُ عطفِ المُنافِقينَ على الكُفَّارِ إمَّا بأنْ يكونَ فِعلُ جَاهِدِ مُستعمَلًا في الجِهادِ بالسَّيفِ، والجِهادِ بإقامةِ الحُجَّةِ، والتَّعريضِ للمُنافِقِ بنِفاقِه. وقيل: الأقرَبُ في تأْويلِ هذا العَطفِ أنْ يكونَ المرادُ مِنه إلْقاءَ الرُّعبِ في قُلوبِ المُنافِقينَ؛ ليَشعُروا بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُؤمِنينَ بالمِرْصادِ بهم، فلوْ بَدَتْ مِن أحَدِهم بادِرةٌ يُعلَمُ منها نِفاقُه، عُومِلَ مُعامَلةَ الكافرِ في الجِهادِ بالقَتلِ والأسْرِ، فيَحْذَروا ويَكُفُّوا عن الكَيدِ للمُسلِمينَ؛ خشيةَ الافتِضاحِ، فتكُونُ هذِه الآيةُ مِن قَبيلِ قَولِه تبارك وتعالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/372). [الأحزاب: 60، 61].
14- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فيه سُؤالٌ: قَولُه: وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ يدُلُّ على أنَّ مَصيرَهم بِئسَ المصيرُ، فما فائِدةُ التَّصريحِ بذلك؟
الجوابُ: أنَّ مَصيرَهم بِئسَ المصيرُ مُطلَقًا، والمُطلَقُ يَدُلُّ على الدَّوامِ، وغَيرُ المُطلَقِ لا يدُلُّ على الدَّوامِ [202] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/574)، ((تفسير ابن عادل)) (19/214). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
- هذا نِداءٌ ثانٍ مُوجَّهٌ إلى المُؤمِنينَ بعْدَ اسْتِيفاءِ المقصودِ مِن النِّداءِ الأوَّلِ؛ نِداءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] ، ووُجِّهَ الخِطابُ إلى المُؤمِنينَ ليأتَسوا بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَوعظةِ أهليهم [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/365). .
- وعُبِّرَ عن الموعظةِ والتَّحذيرِ بالوِقايةِ مِنَ النارِ؛ لأنَّ الموعظةَ سببٌ في تَجنُّبِ ما يُفْضِي إلى عَذابِ النَّارِ، أو على تَشبيهِ المَوعظةِ بالوِقايةِ مِنَ النارِ على وجْهِ المُبالَغةِ في الموعظةِ [204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/365). .
- وعُطِفَ وَأَهْلِيكُمْ على أَنْفُسَكُمْ؛ لأنَّ رَبَّ المنزلِ راعٍ، وهو مَسؤولٌ عن أهلِه، ودخلَ الأولادُ في وَأَهْلِيكُمْ، وقيلَ: دخَلوا في أَنْفُسَكُمْ؛ لأنَّ الولَدَ بعضٌ مِن أبيهِ، فيُعلِّمُه الحَلالَ والحرامَ، ويُجنِّبُه المعاصي [205] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/212). .
- وتَنكيرُ نَارًا للتَّعظيمِ. وأُجْرِيَ عليها وصْفٌ بجُملةِ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ زِيادةً في التَّحذيرِ؛ لئلَّا يَكونوا مِن وَقودِ النَّارِ، وتَذكيرًا بحالِ المُشرِكينَ، وتَفظيعًا للنَّارِ؛ إذْ يكونُ الحجَرُ عِوَضًا لها عن الحطَبِ [206] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/365). .
- ومعنى عَلَيْهَا أنَّهم مُوَكَّلونَ بها؛ فالاستِعلاءُ المُفادُ مِن حرْفِ (على) مُعبَّرٌ به عن التَّمكُّنِ [207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/366). .
- قولُه: غِلَاظٌ صِفةٌ مُشبَّهةٌ مُعبَّرٌ بها عن قَساوةِ المُعامَلةِ [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/366). .
- وجُملةُ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ثَناءٌ عليهِم أُعْقِبَ به وصْفُهم بأنَّهم غِلَاظٌ شِدَادٌ؛ تَعديلًا لِمَا تَقتَضِيانِه مِن كَراهيةِ نُفوسِ النَّاسِ إيَّاهُم، وهذا مُؤْذِنٌ بأنَّهم مأْمورونَ بالغِلظةِ والشِّدَّةِ في تَعذيبِ أهلِ النَّارِ، هذا زِيادةٌ في تَهويلِ النَّارِ بأنَّ عليها ملائكةً غِلاظًا شِدادًا [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/366). .
- على القولِ بأنَّ فائِدةَ ذِكْرِ قولِه: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بَعْدَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ التَّأكيدُ [210] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 573، 574). ، فقولُه: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ تَصريحٌ بمَفهومِ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ دعا إليه مَقامُ الإطنابِ في الثَّناءِ عليهم، معَ ما في هذا التَّصريحِ مِن استحضارِ الصُّورةِ البديعةِ في امتثالِهم لِما يُؤمَرون به. وقد عُطِفَ هذا التَّأكيدُ عطفًا يَقْتضي المُغايَرةَ تَنويهًا بهذِه الفضيلةِ؛ لأنَّ فِعلَ المأمورِ أوضَحُ في الطَّاعةِ مِن عدَمِ العِصيانِ، واعتبارٌ لِمُغايَرةِ المعنيَيْنِ وإنْ كانَ قالَهُما واحدٌ [211] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/568، 569)، ((تفسير البيضاوي)) (5/225)، ((تفسير أبي حيان)) (10/213)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 573، 574)، ((تفسير أبي السعود)) (8/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/366). .
- وفي قولِه: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ما يُعرَفُ في البلاغةِ بالسَّلْبِ والإيجابِ، وهو فنٌّ عجيبٌ [212] السَّلْب والإيجاب: هو بِناءُ الكلام على نفْيِ الشَّيءِ مِن جِهةٍ، وإثباتِه مِن جِهةٍ أخرى، أو الأمْرِ به في جِهةٍ، والنَّهيِ عنه في جِهةٍ، وما يَجري مَجرَى ذلك، كأنْ يَقصِدَ المادِحُ أنْ يُفرِدَ ممدوحَه بصِفةِ مدحٍ لا يَشرَكُه فيها غيرُه، فيَنفيها في أوَّلِ كلامِه عن جميعِ النَّاسِ، ويُثبتُها لِمَمْدوحِه بعدَ ذلك، ومثالُ ذلك قولُه تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة: 2] ؛ فهو نفْيٌ لصيرورةِ المرأةِ أُمًّا بالظِّهارِ، وإثباتُ الأمومةِ للَّتي ولدَتِ الولدَ. يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) للعسكري (ص: 405)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 593)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/154)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 317)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/139). ، وهو في الآيةِ ظاهرٌ؛ فقَدْ سلَبَ عزَّ وجلَّ عن هؤلاءِ الموصوفينَ العِصيانَ، وأوجَبَ لهمُ الطَّاعةَ [213] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/139). .
2- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ مَقولٌ لقولٍ قد حُذِفَ؛ ثِقةً بدَلالةِ الحالِ عليه، أي: يُقالُ لهم ذلكَ عِندَ إدْخالِ الملائكةِ إيَّاهمُ النَّارَ حَسبَما أُمِروا به [214] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/268)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/138). .
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ الاعتِذارُ: افتِعالٌ مُشتَقٌّ مِنَ العُذْرِ، ومادَّةُ الافتِعالِ فيه دالَّةٌ على تَكلُّفِ الفِعلِ؛ مِثلَ الاكتِسابِ والاختِلاقِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/367). .
- وأفادَتْ (إِنَّما) في قولِه: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قصْرَ الجَزاءِ على مُماثَلةِ العملِ المُجْزَى عليه قصْرَ قلْبٍ [216] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ؛ لتَنزيلِهِم مَنزِلةَ مَنِ اعتَذَرَ وطلَبَ أنْ يكونَ جَزاؤُه أهْوَنَ ممَّا شاهَدَه [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/367). .
3- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أُعِيدَ خِطابُ المُؤمِنينَ، وأُعِيدَ نِداؤُهُم، وهو نِداءٌ ثالثٌ في هذِه السُّورةِ، والَّذي قَبْلَه نِداءٌ للواعِظينَ، وهذا نِداءٌ للمَوعوظينَ، أُمِرَ المُؤمِنونَ بالتَّوبةِ مِن الذُّنوبِ إذا تَلبَّسوا بها؛ لأنَّ ذلكَ مِن إصلاحِ أنفُسِهم، بعْدَ أنْ أُمِروا بأنْ يُجَنِّبوا أنفُسَهم وأهلِيهم ما يَزُجُّ بهم في عذابِ النَّارِ؛ لأنَّ اتِّقاءَ النَّارِ يَتحقَّقُ باجتِنابِ ما يَرْمي بهم فيها، وقدْ يَذْهَلُونَ عمَّا فَرَطَ مِن سيِّئاتِهم، فهُدُوا إلى سَبيلِ التَّوبةِ الَّتي يَمْحُونَ بها ما فَرَطَ مِن سيِّئاتِهم، وهذا ناظِرٌ إلى ما ذُكِرَ مِن مَوعظةِ امْرأتَيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقولِه عز وجل: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ [218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/367). [التحريم: 4] .
- قولُه: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ... وُرودُ صِيغةِ الإطماعِ عَسَى؛ للجَريِ على سَنَنِ الكِبرياءِ، والإشعارِ بأنَّه تَفضُّلٌ، والتَّوبةُ غيرُ مُوجِبةٍ له، وأنَّ العبْدَ يَنْبغي أنْ يكونَ بيْنَ خوفٍ ورجاءٍ، وإنْ بالَغَ في إقامةِ وظائفِ العِبادةِ؛ فالرَّجاءُ المُستفادُ مِن فِعلِ (عَسَى) مُستعمَلٌ في الوعدِ الصَّادرِ عن المُتفضِّلِ، وذلكَ التَّائبُ لا حقَّ له في أنْ يُعفَى عنه ما اقترفَه؛ لأنَّ العصيانَ قد حصَلَ، وإنَّما التَّوبةُ عزْمٌ على عدَمِ العَودةِ إلى الذَّنْبِ، ولكنْ ما لصاحبِها مِنَ النَّدمِ والخَوفِ الَّذي بعَثَ على العزْمِ دلَّ على زَكاءِ النَّفْسِ؛ فجعَلَ اللهُ جزاءَهُ أنْ يَمحوَ عنه ما سلَفَ مِنَ الذُّنوبِ تفضُّلًا مِنَ اللهِ، فذلكَ معنى الرَّجاءِ المُستفادِ مِن (عَسَى) [219] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/570)، ((تفسير البيضاوي)) (5/226)، ((تفسير أبي السعود)) (8/269)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/369). .
- قولُه: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ: يَوْمَ ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بقولِه: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ -على قولٍ-، وهو تَعليقُ تخلُّصٍ إلى الثَّناءِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُؤمِنينَ معه، وهو يومُ القِيامةِ، وهذا الثَّناءُ عليهِم بانتفاءِ خِزْيِ اللهِ عنهم تَعريضٌ بأنَّ الَّذينَ لم يُؤمِنوا معه يُخْزيهمُ اللهُ يومَ القِيامةِ. وفيه استحمادٌ إلى المُؤمِنينَ على أنَّه عصَمَهم مِن مِثلِ حالِهم، وذِكْرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع الَّذينَ آمَنوا لتَشريفِ المُؤمِنينَ، ولا عَلاقةَ له بالتَّعريضِ [220] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/570)، ((تفسير البيضاوي)) (5/226)، ((تفسير أبي حيان)) (10/214)، ((تفسير أبي السعود)) (8/269)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/370). .
- وفي صِلةِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ إيذانٌ بأنَّ سبَبَ انتفاءِ الخزيِ عنهم هو إيمانُهم [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/370). .
- و(مَعَ) في قولِه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ يَجوزُ تعلُّقُها بمَحذوفٍ حالٍ مِنَ (الَّذينَ آمَنوا)، أي: حالَ كَونِهم مع النَّبيِّ في انتفاءِ خزيِ اللهِ عنهم؛ فيَكونُ عُمومُ (الَّذينَ آمَنوا) مَخصوصًا بغيرِ الَّذينَ يَتحقَّقُ فيهم خزْيُ الكفرِ، وهمُ الَّذينَ ارتدُّوا وماتوا على الكفْرِ. ويَجوزُ تعلُّقُ (مَعَ) بفِعلِ (آمَنوا)، أي: الَّذينَ آمَنوا به وصَحِبوه؛ فيكونُ مُرادًا به أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذينَ آمَنوا به ولم يَرتَدُّوا بَعْدَه، فتكونُ الآيةُ مُؤْذِنةً بفضيلةٍ للصَّحابةِ [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/370). .
- قولُه: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ إضافةُ (نُور) إلى ضَميرِ (هم) مع أنَّه لم يَسبِقْ إخبارٌ عنهم بنُورٍ لهم ليسَتْ إضافةَ تَعريفٍ؛ إذْ ليس المقصودُ تعريفَ النُّورِ وتَعيينَه، ولكنَّ الإضافةَ مُستعمَلةٌ هنا في لازمِ مَعناها، وهو اختِصاصُ النُّورِ بهم في ذلكَ اليومِ؛ بحيثُ يُميِّزُه النَّاسُ مِن بيْنِ الأنوارِ يومَئِذٍ [223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/370، 371). .
- وقدَّمَ النُّورَ هنا في قولِه تعالَى: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ لأنَّ السِّياقَ لتَعظيمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بخِلافِ ما في سُورةِ (الحديدِ): يَسْعَى نُورُهُمْ [224] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/203). [الحديد: 12] . وقيل: أُخِّرَ الفعلُ في قولِه: نُورُهُمْ يَسْعَى، وقُدِّمَ في قوله: يَسْعَى نُورُهُمْ؛ لأنَّ قولَه في سُورةِ (التَّحريمِ): وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ يُفهِمُ -مِن حيث المعيَّةُ- قُرْبَ المَنزِلةِ، وعُلوَّ الحالِ، فتَقدَّمَ ثُبوتُه، فناسَبَ ذلك وُرودُ الجُملةِ الاسميَّةِ هنا؛ لِما تَقْتضيهِ مِن الثَّباتِ وتَقدُّمِه واستحكامِه، أمَّا قولُه في سُورةِ (الحديدِ): يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فبِشارةٌ للمؤمنينَ، ولم يأْتِ هنا كونُهم مع نَبيِّهم، فلمْ يَتحصَّلْ ما يُفهِمُ تَمكُّنَ المنزلةِ وثُبوتَها ما تَحصَّلَ في آيةِ (التَّحريمِ)، إنَّما هذه بِشارةٌ؛ فناسَبَها التَّجدُّدُ والحدوثُ، فناسَبَ ذلك الفعلُ بما يُعطِيه مِن المعْنى، فقيلَ: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ ليُفهَمَ التَّكرُّرُ وحُدوثُ الشَّيءِ بعْدَ الشَّيءِ، فوَرَدَ كلٌّ على ما ينُاسِبُ [225] يُنظر: ((ملاك التأويل) للغرناطي (2/468). .
- وسَعْيُ النُّورِ: امتِدادُه وانتِشارُه، شُبِّهَ ذلكَ باشتِدادِ مَشْيِ الماشي، وذلك أنَّه يَحُفُّ بهم حيثُما انتقَلوا؛ تَنويهًا بشَأنِهم، كما تُنشَرُ الأعلامُ بيْنَ يَدَيِ الأميرِ والقائدِ، وكما تُساقُ الجِيادُ بيْنَ يَدَيِ الخَليفةِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/371). .
- وإنَّما خُصَّ بالذِّكْرِ مِنَ الجِهاتِ: الأمامُ واليمينُ؛ لأنَّ النُّورَ إذا كان بيْنَ أيديهم تَمتَّعوا بمُشاهَدتِه، وشعَروا بأنَّه كَرامةٌ لهم، ولأنَّ الأيديَ هي الَّتي تُمسَكُ بها الأمورُ النَّفيسةُ، وبها بايَعوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الإيمانِ والنَّصرِ [227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/371). ، والتَّقييدُ بالأيْمانِ؛ لأنَّهم إمَّا مِنَ السَّابِقينَ، وإمَّا مِن أهلِ اليَمينِ؛ فهم يَمشُونَ في هاتَينِ الجِهتَينِ، ويُؤتَونَ صَحائِفَ أعمالِهم منهما [228] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/203)، ((تفسير الشربيني)) (4/333). .
- قولُه: يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إتمامُ النُّورِ إدامتُه أو الزِّيادةُ منه، وكذلك الدُّعاءُ بطلَبِ المغفرةِ لهُم هو لطلَبِ دَوامِ المغفرةِ، وذلك كلُّهُ أدبٌ مع اللهِ وتَواضُعٌ له، مِثلَ ما قيلَ في استِغفارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في اليومِ سَبعينَ مرَّةً [229] يُنظر ما أخرجه البخاري (6307) من حديثِ أبي هريرةَ رضِي الله عنه. ، ويَظهَرُ بذلكَ وجْهُ التَّذييلِ بقولِهم: إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ المُشعِرِ بتَعليلِ الدُّعاءِ كِنايةً عن رَجاءِ إجابتِه لهُم [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/371). .
4- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
- قولُه: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الغِلْظةُ: صَلابةُ الشَّيءِ، وهي مُعبَّرٌ بها هنا عن المُعامَلةِ بالشِّدَّةِ بدونِ عَفوٍ ولا تَسامُحٍ، أي: كُنْ غليظًا، أي: شَديدًا في إقامةِ ما أمَرَ اللهُ به معَ أمثالِهم [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/373). .