موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (29-35)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

غريب الكلمات:

بَثَّ: فرَّق ونشَرَ، وأصلُ (بثث): يدُلُّ على تَفريقِ الشَّيءِ وإظهارِه [575] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/12)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 117)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/172)، ((البسيط)) للواحدي (3/ 458)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .
الْجَوَارِ: جمعُ جاريةٍ، وهي السُّفُنُ الجارِيةُ في البَحرِ، وأصلُ (جري): يدُلُّ على انسياحِ شَيءٍ [576] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 393، 438)، ((تفسير ابن جرير)) (20/515)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/448)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 342)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 370). .
كَالْأَعْلَامِ: أي: كالجِبالِ، واحِدُها عَلَمٌ، وأصلُ (علم): يدُلُّ على أثَرٍ بالشَّيءِ يَتميَّزُ به عن غَيرِه [577] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 393، 438)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/ 109)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 342)، ((تفسير القرطبي)) (16/32)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 370). .
رَوَاكِدَ: أي: سَواكِنَ وثَوابِتَ، وأصلُ (ركد): يدُلُّ على سُكونٍ [578] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 393)، ((تفسير ابن جرير)) (20/517)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 241)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/433)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6599)، ((المفردات)) للراغب (ص: 364)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .
يُوبِقْهُنَّ: أي: يُهلِكْهنَّ ويُغرِقْهنَّ، وأصلُ (وبق) هنا: يدُلُّ على هَلاكٍ [579] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 393)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 537)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/82)، ((المفردات)) للراغب (ص: 852)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 342)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 371)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 988). .
مَحِيصٍ: أي: مَهرَبٍ، وأصلُ (حيص): يدُلُّ على المَيلِ في جَورٍ [580] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/627)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 468)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/300)، ((تفسير الثعلبي)) (8/299)، ((تفسير البغوي)) (4/150)، ((تفسير القرطبي)) (15/372)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 143)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877، 882). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ
- قَولُه تعالى: يُسْكِنِ جَوابُ الشَّرطِ مَجزومٌ، وفَيَظْلَلْنَ مَعطوفٌ على جَوابِ الشَّرطِ مَبنيُّ في مَحلِّ جَزمٍ لاتِّصالِه بنُونِ النِّسوةِ، وكذلك يُوبِقْهُنَّ وَيَعْفُ مَجزومانِ عَطفًا على جوابِ الشَّرطِ أيضًا. وجُملةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ مُعتَرِضةٌ بيْنَ المتعاطِفَينِ.
- وأمَّا قولُه: وَيَعْلَمَ -بالنَّصبِ- ففيه أوجُهٌ؛ الأوَّلُ: أنَّه مَنصوبٌ على إضمارِ (أنْ) بعْدَ (واوِ المَعيَّةِ)؛ لأنَّ قَبْلَه شَرطًا وجَزاءً، وكلُّ واحدٍ منهما غيرُ مُثبَتٍ؛ فصَحَّ النَّصبُ في جَوابِه؛ تقولُ: ما تَصنَعْ أصنَعْ مِثلَه وأُكْرِمَكَ. وهذه الواوُ عاطِفةٌ مَصدرًا مُقَدَّرًا على مَصدَرٍ مُتصَيَّدٍ مِنَ الكَلامِ السَّابِقِ. والثاني: أنَّ الفِعلَ مَنصوبٌ على الصَّرفِ [581] الصَّرْفُ هنا: هو الإتيانُ بالواوِ مَعطوفًا على كَلامٍ في أوَّلِه حادثةٌ لا تَستقيمُ إعادتُها على ما عُطِفَ عليها، ويُنصَبُ على الصَّرفِ عندَ الكوفيِّين في الأفعالِ حين يَفسُدُ معْنى العطْفِ. ويكونُ في الأسماءِ عندما تُعْطَفُ الأسماءُ الظَّاهرةُ على ضَميرِ رفْعٍ مُتَّصلٍ دونَ تَوكيدِه أو فصْلِه، كقولِهم: (لو تُرِكْتَ والأسدَ لَأكَلَك)؛ فمُقْتضى العطفِ أنْ يُرفَعَ (الأسد)، لكنِ انصَرَفَت العربُ عن الرَّفعِ إلى النَّصبِ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (1/33- 34)، و(1/115)، ((الأصول في النحو)) لابن السراج (2/189). ، والواوُ في وَيَعْلَمَ سَمَّاها الكوفيُّونَ (واوَ الصَّرفِ)، وهذه الواوُ ناصِبةٌ بنَفسِها عِندَهم، ومعناها: أنَّ الفِعلَ (يَعلَم) كان يَستَحِقُّ وَجهًا مِن الإعرابِ غيرَ النَّصبِ -وهو الجَزمُ عَطفًا على ما قَبْلَه- فصُرِفَ بدُخولِ هذه الواوِ عليه عن ذلك الإعرابِ إلى النَّصبِ. والثَّالِثُ: أنَّ الفعلَ (يَعلَمَ) منصوبٌ عَطفًا على تَعليلٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: لِينتقِمَ منهم ويَعلَمَ الذين.
وعلَى قِراءةِ وَيَعْلَمُ بالرَّفعِ على الاستِئنافِ [582] قرَأ ابنُ عامرٍ والمَدَنِيان -نافعٌ وأبو جعفرٍ- برفْعِ الميم، وقرَأ الباقون بنصْبِها. يُنظر: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/357)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/367). ، ولا يكونُ داخِلًا في جَوابِ الشَّرْطِ [583] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفرَّاء (3/24)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجَّاج (4/399)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/225)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (6/130)، ((تفسير أبي حيان)) (9/341)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/558)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/107)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخراط (3/1140). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا كَمالَ قُدرتِه وعظَمتِه: ومِن العَلاماتِ الدَّالَّةِ على عَظَمةِ اللهِ تعالَى وقُدرتِه: خَلقُ السَّمَواتِ والأرضِ، وما نَشَر اللهُ فيهما مِن مَخلوقاتٍ، واللهُ تعالَى قَديرٌ على جَمعِ مَخلوقاتِه إذا شاء أنْ يَجمَعَها.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالَى جانبًا مِن عدْلِه وفَضلِه، فيقولُ: وما أصابَكم -أيُّها النَّاسُ- مِن مُصيبةٍ فبِما عَمِلتُموه مِن سَيِّئاتٍ، ويَعفو اللهُ عن كَثيرٍ مِن ذُنوبِكم، فلا يُعاقِبُكم عليها.
ثمَّ يقولُ مُحذِّرًا مِن عُقوبتِه: وما أنتُم بمُعجِزينَ اللهَ في الأرضِ، وليْس لكم مِن دُونِه سُبحانَه وَليٌّ ولا نَصيرٌ.
ثمَّ يقولُ تعالى مُبيِّنًا جانبًا آخَرَ مِن قُدرتِه: ومِن العَلاماتِ الدَّالَّةِ على كَمالِ قُدرتِه سُبحانَه: السُّفُنُ الجاريةُ في البَحرِ كالجِبالِ، إنْ يَشَأِ اللهُ ألَّا تَجريَ تلك السُّفُنُ في البَحرِ يُسكِنِ الرِّيحَ التي تُسَيِّرُ تلك السُّفُنَ، فيَثبُتْنَ في مَواضِعِهنَّ على سَطحِ الماءِ -إنَّ في ذلك لعَلاماتٍ يَستَدِلُّ بها كُلُّ صَبَّارٍ شَكورٍ- أو يُغرِقِ اللهُ تلك السُّفُنَ بذُنوبِ أهلِها، ويَتجاوَزْ عن كَثيرٍ مِن الذُّنوبِ، فلا يُعاقِبْ عليها.
ثمَّ يقولُ سُبحانَه: ويَعلَمَ الذينَ يُجادِلونَ في آياتِ اللهِ تعالَى أنَّه لا مَهْرَبَ لهم مِن عِقابِ اللهِ.

تفسير الآيات:

وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان إنزالُ الغيثِ جامعًا بيْنَ كَونِه نِعمةً، وكونِه آيةً دالَّةً على بَديعِ صُنعِ اللهِ تعالَى، وعَظيمِ قُدرتِه المُقتضيةِ انفرادَه بالإلهيَّةِ؛ انتُقِلَ مِن ذِكرِه إلى ذِكرِ آياتٍ دالَّةٍ على انفِرادِ اللهِ تعالَى بالإلهيَّةِ، وهي آيةُ خلْقِ العوالِمِ العَظيمةِ، وما فيها ممَّا هو مُشاهَدٌ للنَّاسِ دونَ قصْدِ الامتنانِ [584] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/97). .
وأيضًا أنَّه لَمَّا كان ما مضَى مِن بَسطِ الرِّزقِ وقَبْضِه، وإنزالِ الغَيثِ وحَبْسِه: مِن الآياتِ العَظميةِ؛ عَمَّم بذِكرِ ما ذلك بَعضٌ منه، وهو دالٌّ على جَميعِ ما خُتِمَ به الآيةُ السَّالِفةُ مِن الحَمدِ الذي هو الاتِّصافُ بجَميعِ صِفاتِ الكَمالِ، فقال [585] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/312). :
وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ.
أي: ومِن العَلاماتِ الباهِرةِ الدَّالَّةِ على عَظَمةِ اللهِ تعالى، وعَظيمِ مُلكِه وقُدرتِه، وغيرِ ذلك مِن صِفاتِ كمالِه: أنَّه خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ، وفرَّقَ ونَشَرَ فيهما مَخلوقاتٍ مُتَنوِّعةً [586] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/512)، ((تفسير ابن كثير)) (7/207)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759). قال ابنُ كَثير: (هذا يَشمَلُ الملائِكةَ والجِنَّ والإنسَ وسائِرَ الحيواناتِ، على اختِلافِ أشكالِهم وألوانِهم ولُغاتِهم، وطِباعِهم وأجناسِهم، وأنواعِهم، وقد فَرَّقَهم في أرجاءِ أقطارِ الأرضِ والسَّمَواتِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/207). قال البِقاعيُّ: (لَمَّا كانت الأرضُ بِناءً، والسَّماءُ سقْفَه، فمَن كان في أحدِهما صحَّ نِسبتُه إلى أنَّه في كلٍّ منهما: الأسفل بالإقلالِ، والأعلى بالإظلالِ؛ قال تعالى: فِيهِمَا أي: السَّمَواتِ والأرضِ، ولا سيَّما وقد جعَل لكلٍّ منهما تَسبُّبًا في ذلك بما أودَعَهما مِن الجواهرِ، وأنشَأ عنهما مِن العناصرِ). ((نظم الدرر)) (17/312-313). وقال ابنُ عاشور: (قد يكونُ المرادُ مِن الظَّرفيَّةِ في قَولِه: فِيهِمَا ظَرفيَّةَ المَجموعِ لا الجَميعِ، أي: ما بَثَّ في مجموعِ الأرضِ والسَّماءِ مِن دابَّةٍ؛ فالدَّابَّةُ إنَّما هي على الأرضِ، ولَمَّا ذُكِرَت الأرضُ والسَّماءُ مُقترنِتَينِ، وجاء ذِكرُ الدَّوابِّ؛ جُعِلَت الدَّوابُّ مَظروفةً فيهما؛ لأنَّ الأرضَ مَحوطةٌ بالسَّمَواتِ ومُتَخَيَّلةٌ منها كالمظروفِ في ظَرفِه، والمظروفُ في ظَرفٍ مَظروفٌ في ظَرفِ مَظروفِه). ((تفسير ابن عاشور)) (25/97). وقال ابنُ عُثَيمين: (ظاهِرُ الآيةِ الكَريمةِ أنَّ السَّمَواتِ فيها دوابُّ كالأرضِ، وإذا سألَنَا السَّائِلُ: ما هذه الدوابُّ؟ قُلْنا: إمَّا الملائِكةُ أو غَيرُها. اللهُ أعلمُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 248). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/225)، ((تفسير القاسمي)) (8/369-370)، ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (7/327)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/97)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/260-261). .
وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ على جَمعِ مَخلوقاتِه التي بَثَّها في السَّمَواتِ والأرضِ -إذا شاء أن يَجمَعَها- ذو قُدرةٍ بالغةٍ عَظيمةٍ؛ فلا يُعجِزُه إحياؤُهم بعدَ مَوتِهم، وجَمعُهم يومَ القِيامةِ [587] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/512)، ((تفسير القرطبي)) (16/29)، ((تفسير ابن كثير)) (7/207)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/313-314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759). .
كما قال تعالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38] .
وقال سُبحانَه: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5] .
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَّرَهم سُبحانَه بنِعَمِه، وكان السِّياقُ لِتَعدادِ ما ناسَبَ مَقصودَ هذه السُّورةِ منها؛ كان الفِكرُ جَديرًا بأنْ يَخطُرَ له ما في الدُّنيا مِن الأمراضِ والأنكادِ، والهُمومِ والغُمومِ بالإشقاءِ فيها والإسعادِ؛ قال شافيًا لِعِيِّ [588] العِيُّ: الجَهْلُ، وخِلافُ البيانِ. والعيُّ بالأمْرِ: عدمُ الاهتداءِ لوجهِه. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2442)، ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (3/334). سُؤالِه عن ذلك، ببَيانِ ما فيه مِن نِعمتِه على وَجهٍ دالٍّ على تَمامِ قُدرتِه، عاطِفًا على ما هو مَضمونُ ما مضَى بما تَقديرُه: فهو الذي خلَقَكم ورَزَقكم، وهو المتصَرِّفُ فيكم بعْدَ بَثِّكم بالعافيةِ والبلاءِ تَمامَ التَّصَرُّفِ؛ فلا نِعمةَ عندَكم ولا نِقمةَ إلَّا منه، ولا يَقدِرُ أصحابُها على رَدِّها ولا رَدِّ شَيءٍ منها؛ فهو وَليُّكم وَحْدَه [589] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/314-315). .
وأيضًا لَمَّا تَضمَّنَتِ المِنَّةُ بإنزالِ الغَيثِ بعْدَ القُنوطِ أنَّ القومَ أصابَهم جَهدٌ مِن القَحطِ بلَغَ بهم مَبلَغَ القُنوطِ مِن الغَيثِ؛ أُعقِبَ ذلك بتَنبيهِهم إلى أنَّ ما أصابَهم مِن ذلك البُؤسِ هو جَزاءٌ على ما اقتَرَفوه مِن الشِّركِ؛ تَنبيهًا يَبعَثُهم ويَبعَثُ الأُمَّةَ على أنْ يُلاحِظوا أحوالَهم نحْوَ امتِثالِ رِضا خالِقِهم، ومُحاسَبةِ أنفُسِهم؛ حتَّى لا يَحسَبوا أنَّ الجزاءَ الذي أُوعِدوا به مَقصورٌ على الجزاءِ في الآخِرةِ، بلْ يَعلَموا أنَّه قدْ يُصيبُهم اللهُ بما هو جَزاءٌ لهم في الدُّنيا [590] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/98). .
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.
أي: وما أصابَكُم -أيُّها النَّاسُ- مِن مَصائِبَ ومِحَنٍ، فهو بسَبَبِ ما عَمِلتُموه مِن سَيِّئاتٍ [591] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/512)، ((تفسير ابن كثير)) (7/207)، ((تفسير الشوكاني)) (4/617)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 250-251). .
كما قال تعالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: 123] .
وقال سُبحانَه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ [المائدة: 49] .
وقال عزَّ وجلَّ: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر سُبحانَه عدْلَه؛ أتْبَعَه فضْلَه، فقال [592] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/316). :
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ.
أي: ويَعفو اللهُ عن كثيرٍ مِن ذُنوبِكم؛ فلا يُعاقِبُكم عليها بالمَصائِبِ والشَّدائِدِ في الدُّنيا [593] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/512)، ((تفسير ابن كثير)) (7/207)، ((تفسير الشوكاني)) (4/617)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/103). .
كما قال تعالَى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ، وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ما يُصيبُ المُسلِمَ مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ [594] النَّصَبُ: التَّعَب. والوَصَبُ: المرَضُ الدَّائِمُ المُلازِمُ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (8/340). ، ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتَّى الشَّوكةُ يُشاكُها؛ إلَّا كفَّرَ اللهُ بها مِن خَطاياه)) [595] رواه البخاري (5641) واللفظ له، ومسلم (2573). .
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31).
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.
أي: ولَستُم تُعجِزونَ اللهَ في الأرضِ؛ فلا يُمكِنُكم الفِرارُ فيها مِن المصائِبِ والعُقوباتِ إنْ أرادَ إنزالَها بكم [596] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/514)، ((تفسير الرازي)) (27/601)، ((تفسير القرطبي)) (16/32)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/103). قال ابنُ عاشور: (أي: يَعفو عن قُدرةٍ؛ فإنَّكم لا تُعجِزونَه ولا تَغلِبونَه، ولكِنْ يَعفو تفضُّلًا). ((تفسير ابن عاشور)) (25/103). .
وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أفادَ قولُه: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ نَفْيَ أنْ يكونَ لهم مَنجًى مِن سُلطةِ اللهِ؛ أُتْبِعَ بنَفْيِ أنْ يكونَ لهم مَلجأٌ يَلجَؤونَ إليه لِيَنصُرَهم ويَقِيَهم مِن عَذابِ اللهِ [597] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/104). .
وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.
أي: وليْس لكم مِمَّا سِوى اللهِ أيُّ وَليٍّ يَتولَّاكم، ولا أيُّ نَصيرٍ يَنصُرُكم مِن دُونِ اللهِ؛ فاتَّقُوا مَعصيتَه، واحذَروا عِقابَه [598] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/514)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/104)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 262). .
وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَر تعالَى مِن دَلائِلِ وَحدانيَّتِه أنواعًا، ذكَرَ بَعْدَها العالَمَ الأكبَرَ، وهو السَّمَواتُ والأرضُ، ثمَّ العالَمَ الأصغَرَ، وهو الحيوانُ، ثمَّ أتْبَعَه بذِكرِ المَعادِ؛ أتبَعَه بذِكرِ السُّفُنِ الجاريةِ في البَحرِ؛ لِما فيها مِن عَظيمِ دَلائِلِ القُدرةِ [599] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/339). .
وأيضًا لَمَّا دَلَّ سُبحانَه على تَمامِ قُدرتِه واختيارِه، وخَتَم بنَفيِ الشَّريكِ اللَّازِمِ للوَحدانيَّةِ التي اعتِقادُها أساسُ الأعمالِ الصَّالحةِ؛ دَلَّ عليها بأعظَمِ الآياتِ عِندَهم، وأوضَحِها في أنفُسِهم، وأقرَبِها إلى أفهامِهم؛ لِما لهم مِن الإخلاصِ عندَها، فقال تعالَى [600] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/317). :
وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ.
أي: ومِن العَلاماتِ الباهِرةِ الدَّالَّةِ على عَظيمِ سُلطانِ اللهِ ومُلكِه، وكَمالِ قُدرتِه وغَيرِ ذلك مِن صِفاتِ كَمالِه: السُّفُنُ الجاريةُ في البَحرِ، التي هي كالجِبالِ [601] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/515، 516)، ((تفسير ابن كثير)) (7/209)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/317-318)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/ 105)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/73). قال الرازي: (اتَّفقوا على أنَّ المرادَ بالأعلامِ الجِبالُ). ((تفسير الرازي)) (27/602). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ في روايةٍ عنه، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/516). والرِّوايةُ الثانيةُ عن مجاهدٍ أنَّ الأعلامَ هنا بمعنى: القُصورِ. ذكَره الثَّعلبيُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/321). .
قال تعالَى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [الرحمن: 24].
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33).
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ.
أي: إنْ يَشَأِ اللهُ تعالَى ألَّا تَجريَ تلك السُّفُنُ في البَحرِ يَمنَعْ هُبوبَ الرِّيحِ التي تُسَيِّرُها، فَيثبُتْنَ في مَواضِعِهنَّ على سَطحِ الماءِ، فلا يَتقَدَّمْنَ ولا يَتأخَّرْنَ [602] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/516)، ((تفسير ابن كثير)) (7/209)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/106). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ .
أي: إنَّ في ذلك [603] قيل: المشارُ إليه بقَولِه: ذَلِكَ جرْيُ هذه الجواري في البَحرِ بقُدرةِ اللهِ، حيثُ سَخَّر لها البحرَ، وأجرَى لها الهواءَ. ومِمَّن ذهَب إلى هذا المعنى في الجُملة: ابنُ جَرير، وابن كَثير، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/517)، ((تفسير ابن كثير)) (7/209)، ((تفسير القاسمي)) (8/371). وقِيلَ: المُرادُ: ما ذُكِرَ مِن حالِ السُّفُنِ في سَيرِها ورُكودِها. ومِمَّن ذهَب إلى هذا المعنى في الجُملة: مقاتلُ بنُ سليمان، والبقاعيُّ، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/771)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/319)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/106). لَدَلالاتٍ وعَلاماتٍ يَستَدِلُّ بها ويَعتَبِرُ كُلُّ مَن كان كَثيرَ الصَّبرِ، كثيرَ الشُّكرِ للهِ تعالَى [604] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/517)، ((تفسير القرطبي)) (16/33)، ((تفسير ابن كثير)) (7/209)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759). .
كما قال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] .
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34).
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا.
أي: أو إنْ يَشَأِ اللهُ يُغرِقْ تِلك السُّفُنَ بسَببِ ذُنوبِ أهلِها [605] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/518)، ((تفسير القرطبي)) (16/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/106). قال ابنُ كَثير: (قال بعضُ عُلَماءِ التَّفسيرِ: معنى قَولِه: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا أي: لو شاء لَأرسَلَ الرِّيحَ قويَّةً عاتيةً، فأخَذَت السُّفُنَ وأحالَتْها عن سَيرِها المُستقيمِ، فصَرَفَتْها ذاتَ اليمينِ أو ذاتَ الشِّمالِ آبِقةً لا تَسيرُ على طَريقٍ ولا إلى جِهةِ مَقصِدٍ. وهذا القَولُ يتضَمَّنُ هَلاكَها، وهو مُناسِبٌ للأوَّلِ؛ وهو أنَّه تعالى لو شاء لسَكَّن الرِّيحَ فوقَفَت، أو لقَوَّاه فشَرَدَت وأَبَقَت وهَلَكَت). ((تفسير ابن كثير)) (7/209، 210). ومِمَّن ذهَب إلى هذا المعنى: القُرطبي، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/33)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 265، 268). قال أبو حيَّانَ: (لا يتعيَّنُ أنْ يكونَ التقديرُ: أو يَعصِفْها فيَغرَقْنَ؛ لأنَّ إهلاكَ السُّفنِ لا يَتعيَّنُ أنْ يكونَ بعصْفِ الرِّيحِ، بل قدْ يُهلِكُها تعالى بسَببٍ غيرِ الرِّيح، كنُزولِ سطْحِها بكَثرةِ الثِّقَل، أو انكسارِ اللَّوحِ يكونُ سَببًا لإهلاكِها، أو يَعرِضُ عدوٌّ يُهلِكُ أهْلَها). ((تفسير أبي حيان)) (9/341). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/321). .
وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ.
أي: ويَتجاوَزِ اللهُ عن كَثيرٍ مِن الذُّنوبِ، فلا يُعاقِبْ عليها [606] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/519)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 966)، ((تفسير ابن كثير)) (7/209). قال الزمخشريُّ: (أو إنْ يَشَأْ يُهلِكْ ناسًا، ويُنجِ ناسًا على طَريقِ العَفوِ عنهم). ((تفسير الزمخشري)) (4/227). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/618)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/107). وقال ابنُ عُثَيمين: (يعني: حتَّى مع إغراقِ السُّفُنِ يَعفو اللهُ تبارَك وتعالَى عن كثيرٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 268). .
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35).
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالَى: وَيَعْلَمَ قِراءتانِ:
1- قِراءةُ الرَّفعِ: وَيَعْلَمُ على الاستئنافِ إمَّا بجُملةٍ فِعليَّةٍ، ويكونُ الَّذِينَ فاعِلًا، قِيل: مَعناها: وسيَعلَمُ الذين يُجادِلون في آياتِنا...، وإمَّا بجُملةٍ اسميَّةٍ، أي: وهو يَعلَمُ الذين... ويكونُ الَّذِينَ مَفعولًا [607] قرَأ بها ابنُ عامرٍ ونافعٌ وأبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/367). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 643)، ((تفسير السمعاني)) (5/80)، ((تفسير ابن عطية)) (5/38)، ((تفسير أبي حيان)) (9/341)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/558). .
2- قِراءةُ النَّصبِ: وَيَعْلَمَ على العَطفِ على تَعليلٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: لِيَنتقِمَ منْهم ويَعلَمَ الذين يُجادِلون... وقيل غيرُ ذلك [608] قرَأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/367). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 643)، ((تفسير الرازي)) (27/603)، ((تفسير أبي السعود)) (8/33). .
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35).
أي: ويَعلَمَ الذين يُجادِلونَ في آياتِ اللهِ تعالَى لِدَفعِها وإبطالِها أنَّه لا مَفَرَّ لهم ولا مَهرَبَ يَحيدونَ إليه مِن عِقابِ اللهِ تعالَى [609] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 966)، ((تفسير ابن عطية)) (5/38)، ((تفسير ابن كثير)) (7/209)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759). قال ابنُ الجَوْزيُّ: (للمُفَسِّرين في معنى الآيةِ قولانِ: أحَدُهما: ويَعلَمَ الذين يُخاصِمونَ في آياتِ اللهِ حينَ يُؤخَذونَ بالغَرَقِ أنَّه لا مَلجأَ لهم. والثَّاني: أنَّهم يَعلَمونَ بعْد البَعثِ أنَّه لا مَهرَبَ لهم مِنَ العَذابِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/67). ومِمَّن ذهَب إلى نحْوِ القَولِ الأوَّلِ: الرَّسْعني، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/83)، ((تفسير القرطبي)) (16/33). وقال ابنُ تَيميةَ: (ومَعنى آيةِ الشُّورى: أنَّه سُبحانَه إنْ شاء أسكَنَ فيَظْلَلْنَ رواكِدَ على ظَهْرِه، وإنْ شاء أوبَقَهنَّ بما كَسَبوا، ويَعفو عن كَثيرٍ، ويَعلَمَ الذين يجادِلونَ في آياتِنا، وهذا كُلُّه في جَوابِ: إِنْ يَشَأْ أي: وإن يشأْ يُهلِكْهنَّ بذُنوبِهم ويَعْفُ أيضًا عن كثيرٍ منها، ويجتَمِعَ مع ذلك عِلمُ المجادِلينَ في آياتِنا بأنَّهم ما لهم مِن محيصٍ؛ فهو إنْ شاء جَمَع بيْنَ أنْ يُهلِكَ بَعضًا، ويَعفوَ عن بعضٍ، وبيْنَ عِلمِ المجادِلينَ في آياتِه حينئذٍ أنَّه ما لهم مِن مَحيصٍ). ((بيان تلبيس الجهمية)) (4/529). ومِمَّن ذهَب إلى القَولِ الثاني: الواحديُّ، والبَغوي، والخازن. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/ 56)، ((تفسير البغوي)) (4/150)، ((تفسير الخازن)) (4/101). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالَى: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ أنَّ هذه المخلوقاتِ هي مِن آياتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ العَظيمةِ، ولكِنْ لا يُتبيَّنُ أنَّها مِن آياتِ اللهِ إلَّا بالتَّأمُّلِ والتَّدَبُّرِ؛ لأنَّنا اعتَدْنا هذه المخلوقاتِ؛ اعتَدْنا طُلوعَ الشَّمسِ وغُروبَها، وطُلوعَ القَمَرِ وغُروبَه، فلم يَكُنْ ذلك مُحَرِّكًا لقُلوبِنا؛ لأنَّه شَيءٌ مُعتادٌ، ولكِنْ لو أنَّنا تَدبَّرْنا هذه المخلوقاتِ لَتبيَّنَ لنا أنَّها مِن آياتِ اللهِ العَظيمةِ [610] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 247). !
2- قَولُ اللهِ تعالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ داعٍ لكُلِّ أحَدٍ إلى المبادَرةِ عندَ وُقوعِ المُصيبةِ إلى مُحاسَبةِ النَّفسِ؛ لِيَعرِفَ مِن أينَ جاء تَقصيرُه، فيُبادِرَ إلى التَّوبةِ عنه، والإقبالِ على اللهِ تعالَى؛ لِيُنقِذَ نَفْسَه مِنَ الهَلَكةِ [611] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/315-316). . قيل لأبي سُلَيمانَ الدَّارانيِّ: (ما بالُ العُقلاءِ أزالوا اللَّومَ عمَّن أساءَ لهم؟! قال: إنَّهم عَلِموا أنَّ اللهَ إنَّما ابْتَلاهم بذُنوبِهم، وقرَأ هذه الآيةَ) [612] يُنظر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/198). ، وفي هذا تَبشيرٌ وتَحذيرٌ؛ إذ أعلَمَنا أنَّ مَصائِبَ الدُّنيا عُقوباتٌ لِذُنوبِنا، وهو أرحَمُ أنْ يُثَنِّيَ العُقوبةَ على عَبدِه بذَنْبٍ قدْ عاقَبَه به في الدُّنيا [613] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 255). !
3- في قَولِه تعالَى: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ أنَّه لا مَلجَأَ للبَشَرِ في جَلبِ المنافعِ ودَفعِ المَضارِّ إلَّا إلى اللهِ تعالَى، وأنَّهم مهْما استغاثوا بغَيرِه فإنَّهم خائِبونَ [614] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 98). .
4- قَولُ اللهِ تعالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ فيه تَنبيهٌ على أنَّ المؤمِنَ يَجِبُ ألَّا يَكونَ غافِلًا عن دَلائِلِ مَعرفةِ اللهِ البتَّةَ؛ لأنَّه لا بدَّ أن يكونَ إمَّا في البَلاءِ، وإمَّا في الآلاءِ؛ فإنْ كان في البَلاءِ كان مِن الصَّابِرينَ، وإنْ كان في النَّعماءِ كان مِن الشَّاكِرينَ، وعلى هذا التَّقديرِ فإنَّه لا يكونُ البتَّةَ مِن الغافِلينَ [615] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/602). .
5- قولُه تعالَى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا فيه التَّحذيرُ مِن المعاصي، وأنَّها سَببٌ للعُقوباتِ [616] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 268). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قَولُ اللهِ تعالَى: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ فيه سُؤالٌ: كيف يَجوزُ إطلاقُ لَفظِ (الدَّابَّةِ) على الملائِكةِ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه قدْ يُضافُ الفِعلُ إلى جماعةٍ وإنْ كان فاعِلُه واحِدًا منهم؛ يقالُ: (بَنو فُلانٍ فعَلوا كذا)، وإنَّما فعَلَه واحِدٌ منهم، ومنه قَولُه تعالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 22] على قولٍ في تَفسيرِها.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الدَّبيبَ هو الحَركةُ، والملائِكةُ لهم حَرَكةٌ.
الوَجهُ الثَّالِثُ: لا يَبعُدُ أن يُقالَ: إنَّه تعالَى خَلَق في السَّمَواتِ أنواعًا مِن الحيواناتِ يَمشُونَ مَشْيَ الأناسيِّ على الأرضِ [617] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/599). .
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ الدَّابَّةَ: ما يَدِبُّ على الأرضِ، أي: يَمْشي، فيَشمَلُ الطَّيرَ؛ لأنَّ الطَّيرَ يَمشي إذا نَزَل، وهو مِمَّا أُريدَ في قَولِه هنا: فِيهِمَا أي: في الأرضِ وفي السَّماءِ، أي: بَعضِ ما يُسَمَّى بالسَّماءِ، وهو الجَوُّ، وهو ما يَلوحُ للنَّاظِرِ مِثلَ قُبَّةٍ زَرقاءَ على الأرضِ في النَّهارِ؛ قال تعالَى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ [النحل: 79] ؛ فإطلاقُ الدَّابَّةِ على الطَّيرِ باعتِبارِ أنَّ الطَّيرَ يَدِبُّ على الأرضِ كَثيرًا؛ لالتِقاطِ الحَبِّ وغَيرِ ذلك. وأمَّا الموجوداتُ الَّتي في السَّمَوات العُلا مِن الملائِكةِ والأرواحِ فلا يُطلَقُ عليها اسمُ دابَّةٍ [618] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/97). .
الوَجهُ الخامسُ: أنْ يكونَ على حذْفِ مُضافٍ، أي: وما بَثَّ في أحَدِهما [619] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/338). .
2- في قَولِه تعالَى: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ أنَّ البهائمَ جميعَها يَحْشُرُها اللهُ سُبحانَه، فحَرْفُ (إذَا) إنَّما يكونُ لِمَا يَأتي لا مَحالةَ، وقالَ تعالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38] ، وقالَ تعالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5] ، والأحاديثُ في ذلك مَشهورةٌ؛ فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يومَ القِيامةِ يَحْشُرُ البهائمَ ويَقْتَصُّ لبعضِها مِن بعضٍ، ثُمَّ يقولُ لها: كُوني تُرابًا، فتَصيرُ تُرابًا [620] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/248). ويُنظر ما أخرَجه ابنُ جَرير في ((التفسير)) (24/180)، وابنُ أبي حاتم في ((التفسير)) (7262)، والحاكم (3231) موقوفًا على أبي هُرَيرةَ رَضي اللهُ عنه. صَحَّحه الحاكِمُ على شرْط مُسلم، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/772). وأخرَجه من طريقٍ آخَرَ: ابنُ جرير في ((التفسير)) (24/180)، والحاكم (8716) موقوفًا على عبدِ الله بن عمرٍو رَضي اللهُ عنهما. .
3- في قَولِه تعالَى: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ أنَّ أفعالَ اللهِ سُبحانَه وتعالَى اختياريةٌ؛ فالمعنى: إذا شاء جمْعَهم، فهو قَديرٌ عليه [621] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/320). .
4- في قَولِه تعالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ إثباتُ الأسبابِ؛ وَجهُ ذلك: أنَّ الباءَ هنا للسَّبَبيَّةِ؛ ففيه إثباتُ الأسبابِ، وإثباتُ الأسبابِ ثابِتٌ شَرعًا وعَقلًا وحِسًّا، وإنكارُه ضَلالٌ في الدِّينِ، وسَفَهٌ في العَقلِ [622] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 252). .
5- في قَولِه تعالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ أنَّ المعاصيَ سَببُ المصائبِ؛ فسَيِّئاتُ المصائبِ والجزاءُ هو مِن سَيِّئاتِ الأعمالِ [623] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/138). ، وكُلُّ نَكَدٍ لاحِقٍ إنَّما هو بسَبَبِ ذَنبٍ سابِقٍ، أقلُّه التَّقصيرُ [624] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/315). .
6- في قَولِه تعالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ أنَّ اللهَ تعالَى إذا عاقبَ المؤمِنَ في الدُّنيا لم يُعاقِبْه في الآخِرةِ؛ فلنْ يَجمَعَ اللهُ له بين عُقوبتَينِ [625] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/74). ؛ فالمصائبُ كفَّاراتٌ للذُّنوبِ بالنِّسبةِ للمُؤمنِ، فإنَّه إذا كان ذلك بما كسَبتْ أيدِينا دلَّ هذا على أنَّها مُكَفِّرَةٌ لِمَا عَمِلْناه منها وما كَسَبْناه [626] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (12/617). .
7- قولُه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ دلَّ على أنَّ مِن المصائبِ التي تُصيبُ النَّاسَ في الدُّنيا ما سلَّطَه اللهُ عليهم جَزاءً على سُوءِ أعمالِهم، وإذا كان ذلك ثابتًا بالنِّسبةِ لأُناسٍ مُعيَّنينَ، كان فيه نِذارةٌ وتَحذيرٌ لِغَيرِهم ممَّن يَفعَلُ مِن جِنسِ أفعالِهم أنْ تَحُلَّ بهم مَصائبُ في الدُّنيا جَزاءً على أعمالِهم زِيادةً في التَّنكيلِ بهم، إلَّا أنَّ هذا الجزاءَ لا يَطَّرِدُ؛ فقدْ يُجازي اللهُ قومًا على أعمالِهم جَزاءً في الدُّنيا مع جَزاءِ الآخرةِ، وقدْ يَترُكُ قومًا إلى جَزاءِ الآخرةِ، فجَزاءُ الآخرةِ في الخيرِ والشرِّ هو المطَّرِدُ الموعودُ به، والجزاءُ في الدُّنيا قدْ يَحصُلُ وقدْ لا يَحصُلُ، كما قال تعالَى: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [627] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/100). .
8- قال تعالى: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ، أي: ليْس لكم وليٌّ يَتولَّاكُم فيَمنَعَكم مِن سُلطانِ اللهِ، ولا نَصيرَ يَنصُرُكم على اللهِ إنْ أرادَ إصابتَكم فتَغلِبوه؛ فجمَعَتِ الآيةُ نفْيَ ما هو مُعتادٌ بيْنَهم مِن وُجوهِ الوِقايةِ [628] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/104). .
9- قولُه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ قُرِئ االرِّيحَ بلَفظِ الجمْعِ، وقُرِئ الرِّيحَ بلَفْظِ المفْردِ [629] قرَأها أبو جعفرٍ ونافعٌ: الرِّيَاحَ بالجمعِ، والباقونَ بالإفرادِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/223). ، وفي القِراءةِ بلَفظِ المفرَدِ ما يدُلُّ على أنَّ الرِّيحَ قدْ تُطلَقُ بصِيغةِ الإفرادِ على رِيحِ الخيرِ، وما قيل: إنَّ (الرِّياحَ) للخيرِ و(الرِّيحَ) للعذابِ في القُرآنِ، هو غالبٌ لا مُطَّرِدٌ، وقدْ قُرِئ في آياتٍ أُخرى (الرِّياحُ) و(الرِّيحُ) في سِياقِ الخيرِ دونَ العذابِ [630] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/105). .
10- في قَولِه تعالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أنَّ ذِكرَ النِّعَمِ يَدعو إلى الشُّكرِ، وذِكرَ النِّقَمِ يَقْتضي الصَّبرَ على فِعلِ المأمورِ وإنْ كَرِهَته النَّفْسُ، وعنِ المحظورِ وإنْ أحَبَّته النَّفسُ؛ لئلَّا يُصيبَه ما أصاب غيْرَه مِن النِّقمةِ [631] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/194). .
11- الإيمانُ نِصفانِ: نِصفٌ صَبرٌ، ونِصفٌ شُكرٌ؛ قال تعالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [632] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 265). ، وفيه فَضيلةُ الصَّبرِ والشُّكرِ، فالصَّبرُ على الضَّرَّاءِ، والشُّكرُ على الرَّخاءِ، والإنسانُ دائمًا مُصابٌ بهاتَينِ الآفتَينِ؛ إمَّا ضَرَّاءَ وإمَّا سَرَّاءَ [633] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 147). ، وإنَّما يَنْتَفِعُ بآياتِ اللهِ المشهودةِ العِيانيَّةِ أهلُ الصَّبرِ والشُّكرِ [634] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 131). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ انتقالٌ مِن ذِكرِ إنزالِ الغيثِ الجامعِ بيْنَ كَونِه نِعمةً، وكونِه آيةً، إلى ذِكرِ آياتٍ دالَّةٍ على انفِرادِ اللهِ تعالَى بالإلهيَّةِ، وهذا الانتقالُ استِطرادٌ واعتراضٌ بيْن الأغراضِ التي سِياقُ الآياتِ فيها [635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/97). .
- وجُملةُ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ مُعترِضةٌ في جُملةِ الاعتراضِ؛ لإدماجِ إمكانِ البَعثِ في عُرْضِ الاستِدلالِ على عَظيمِ قُدرةِ اللهِ وعلى تَفرُّدِه بالإلهيَّةِ، والمعنى: أنَّ القادِرَ على خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ وما فيهما مِن عدَمٍ قادرٌ على إعادةِ خلْقِ بعضِ ما فيهما للبَعثِ والجزاءِ؛ لأنَّ ذلك كلَّه سَواءٌ في جَوازِ تَعلُّقِ القُدرةِ به، فكيْف تعُدُّونَه مُحالًا [636] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/98). ؟!
- وقال: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ ولم يَقُلْ: (على جَمعِها)؛ لأجْلِ أنَّ المَقصودَ مِن هذا الجَمعِ المحاسَبةُ، فكأنَّه تعالى قال: وهو على جَمعِ العُقَلاءِ إذا يَشاءُ قَديرٌ [637] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/600). .
- و(إذا) ظَرْفٌ للمُستقبَلِ، وهو هنا مُجرَّدٌ عن تَضمُّنِ الشَّرْطيَّةِ؛ فالتَّقديرُ: حِينَ يَشاءُ في مُستقبَلِ الزَّمانِ، وهو مُتعلِّقٌ بـ جَمْعِهِمْ، وهذا الظَّرْفُ إدْماجٌ [638] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المُتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ثانٍ؛ لإبطالِ استِدلالِهم بتَأخُّرِ يوْمِ البعْثِ على أنَّه لا يَقَعُ، كما حُكِي عنهم في قولِه تعالَى: مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء: 51] ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ [639] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/98). [سبأ: 29، 30].
2- قولُه تعالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ لَمَّا كان ما أصابَ قُريشًا مِن القَحْطِ والجُوعِ استِجابةً لِدَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهم، وكانتْ تلك الدَّعوةُ ناشئةً على ما لاقَوْه به مِن الأذَى؛ لا جَرَمَ كان ما أصابَهم مُسبَّبًا على ما كَسَبتْ أيدِيهِم؛ فالجُمْلةُ عطْفٌ على جُملةِ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [640] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/98، 99). [الشورى: 28].
- والخِطابُ في قولِه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ للمُشرِكينَ ابتداءً؛ لأنَّهم المقصودُ مِن سِياقِ الآياتِ كلِّها، وهمْ أَوْلى بهذه الموْعظةِ؛ لأنَّهم كانوا غيْرَ مُؤمنينَ بوَعيدِ الآخرةِ، ويَشمَلُ المؤمنينَ بطَريقِ القِياسِ، وبما دَلَّ على شُمولِ هذا الحُكمِ لهم مِن الأخبارِ الصَّحيحةِ ومِن آياتٍ أُخرَى [641] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/99). .
- والباءُ في فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ للسَّببيَّةِ، أي: سَببُ ما أصابَكم مِن مُصيبةٍ هو أعمالُكم السيِّئةُ [642] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/33)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/99). .
- قولُه: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ عطْفٌ على جُملةِ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وضَميرُ (يَعْفُو) عائدٌ إلى ما عادَ إليه ضَميرُ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ [الشورى: 29] ، وهذا يُشيرُ إلى ما يَتراءَى لنا مِن تَخلُّفِ إصابةِ المُصيبةِ عن بعضِ الَّذين كسَبتْ أيديهِم جَرائمَ، ومِن ضِدِّ ذلك ممَّا تُصيبُ المصائبُ بعضَ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، وهو إجمالٌ يُبيِّنُه على الجُملةِ: أنَّ ما يَعلَمُه اللهُ مِن أحوالِ عِبادِه، وما تَغلَّبَ مِن حَسناتِهم على سيِّئاتِهم، وما تَقتضيهِ حِكمةُ اللهِ مِن إمْهالِ بَعضِ عِبادِه، أو مِن ابتلاءِ بعضِ المُقرَّبينَ، وتلك مَراتبُ كثيرةٌ، وأحوالٌ مُختلفةٌ، تَتعارَضُ وتَتساقَطُ، والموفَّقُ يَبحَثُ عن الأسبابِ، فإنْ أَعجَزتْه فوَّضَ العِلمَ إلى اللهِ [643] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/103). .
- وقولُه: كَثِيرٍ صِفةٌ لِمَحذوفٍ، أي: عن خلْقٍ أو ناسٍ [644] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/103). .
3- قولُه تعالَى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
- قولُه: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ عطْفٌ على جُملةِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] ، وهو احتِراسٌ، أي: يَعْفو عن قُدرةٍ؛ فإنَّكم لا تُعجِزونَه ولا تَغلِبونَه، ولكنْ يَعْفو تَفضُّلًا [645] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/103). .
- وتَقْييدُ النَّفْيِ بقولِه: فِي الْأَرْضِ لإرادةِ التَّعميمِ، أي: في أيِّ مَكانٍ مِن الأرضِ؛ لئلَّا يَحسَبوا أنَّهم في مَنَعةٍ بحُلولِهم في مكَّةَ التي أمَّنَها اللهُ تعالَى؛ وذلك أنَّ العرَبَ كانوا إذا خافوا سَطوةَ ملِكٍ أو عَظيمٍ سكَنوا الجِهاتِ الصَّعبةَ [646] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/104). .
- وجِيءَ بالخَبرِ جُملةً اسميَّةً؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ الخَبرِ ودوامِه، أي: نفْيُ إعجازِهم ثابتٌ لا يَتخلَّفُ، فهمْ في مُكْنةِ خالِقِهم [647] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/104). .
- ومِنْ دُونِ اللَّهِ ظَرفٌ مُستقَرٌّ [648] الظَّرْف المُستقَرُّ -بفتحِ القافِ-: سُمِّيَ بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذَينِ الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّيَ ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). ، هو خبرٌ ثانٍ عن (وَليٍّ ونَصيرٍ)، والخبرُ الأوَّلُ هو (لكم)، وتَقديمُ الخبرَينِ للاهتِمامِ بالخبرِ، ولِتَعجيلِ يأْسِهم مِن ذلك [649] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/104). .
- وفي قولِه: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: فِي الْأَرْضِ فقطْ ولم يَذكُرِ (في السَّماء)، وقال في سُورةِ (العنكبوتِ): وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [العنكبوت: 22] بزِيادةِ وَلَا فِي السَّمَاءِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا تقدَّمَ في سُورةِ (العنكبوتِ) قولُه تعالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: 4] ، وهذا مِن أشدِّ الوَعيدِ؛ إذ حاصِلُه أنَّه لا يَفوتُه سُبحانه أحدٌ، ولا مَهرَبَ منه تعالَى إلَّا إليه؛ ناسَبَ هذا قولُه تعالَى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، كما قال: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [البقرة: 148] ، وذلك تَناسُبٌ بيِّنٌ، ولَمَّا لم يَرِدْ هنا في سُورةِ الشُّورى مِن أوَّلِها إلى الآيةِ مِثْلُ هذا الوَعيدِ الشَّديدِ، ولا كان فيها ما يَسْتدعي هذا التَّعميمَ والاستيفاءَ الوَعيديَّ؛ ورَدَتِ الآيةُ مُناسِبةً لذلك، فقال تعالَى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، ولم يكُنِ التَّعميمُ هنا لِيُناسِبَ؛ فورَدَ كلٌّ على ما يجِبُ [650] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/389). . وقيل غيرُ ذلك [651] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص 1005-1009)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص198)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/361-362)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 437)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/233). .
4- قولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لَمَّا جَرَى تَذكيرُهم بأنَّ ما أصابَهم مِن مُصيبةٍ هو مُسبَّبٌ عن اقتِرافِ أعْمالِهم، وتَذكيرُهم بحُلولِ المصائبِ تارةً، وكشْفِها تارةً أُخرى بقولِه: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] ، وأَعقَبَ بأنَّهم في الحالتَينِ غيْرُ خارجينَ عن قَبْضةِ القُدرةِ الإلهيَّةِ؛ سِيقَ لهم ذِكرُ هذه الآيةِ جامعةً مِثالًا لإصابةِ المصائبِ، وظُهورِ مَخايِلِها المُخيفةِ المُذكِّرةِ بما يَغفُلونَ عنه مِن قُدرةِ اللهِ، والَّتي قدْ تَأْتي بما أُنذِروا به، وقدْ تَنكشِفُ عن غَيرِ ضُرٍّ، ودَليلًا على عَظيمِ قُدرةِ اللهِ تعالَى، وأنَّه لا مَحيصَ عن إصابةِ ما أرادَه، وإدماجًا للتَّذكيرِ بنِعمةِ السَّيرِ في البحرِ، وتَسخيرِ البحرِ للنَّاسِ؛ فإنَّ ذلك نِعمةٌ؛ قال تعالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ [البقرة: 164] ، فكانتْ هذه الجُملةُ اعتِراضًا مِثلَ جُملةِ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [652] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/105). [الشورى: 29] .
- قولُه: وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ الجَواري: جمْعُ جاريةٍ، صِفةٌ لِمَحذوفٍ دلَّ عليه ذِكرُ البَحرِ، أي: السُّفنُ الجَواري في البَحرِ. وعُدِلَ عن (الفُلكِ) إلى الْجَوَارِ؛ إيماءً إلى مَحلِّ العِبرةِ؛ لأنَّ العِبرةَ في تَسخيرِ البحرِ لِجَرْيِها، وتَفكيرِ الإنسانِ في صُنعِها. والمرادُ بالجَواري: السُّفنُ العظيمةُ التي تسَعُ ناسًا كثيرينَ، والعِبرةُ بها أظهَرُ، والنِّعمةُ بها أكثَرُ [653] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/105). .
- قولُه: فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ، أي: فتَسبَّبَ عن ذلك أنَّهنَّ يَظلَلْنَ -أي: يُقِمْنَ- ليلًا كان أو نهارًا، ولعلَّه عبَّرَ بـ (يَظْلَلْنَ) مع أنَّ أصلَه الإقامةُ نهارًا؛ لأنَّ النَّهارَ مَوضعُ الاقتدارِ على الأشياءِ، وهو المُنتظَرُ عِندَ كلِّ مُتعسِّرٍ للسَّعيِ في إزالةِ عُسرِه، وتَيسُّرِ أمْرِه [654] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/319). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ جُعِلتْ أحوالُ الفُلكِ في البحرِ آياتٍ لكلِّ صبَّارٍ شُكورٍ؛ لأنَّ في الحالتَينِ خَوفًا ونَجاةً، والخوفُ يَدْعو إلى الصَّبرِ، والنَّجاةُ تَدْعو إلى الشُّكرِ، والمرادُ: أنَّ في ذلك آياتٍ لكلِّ مُؤمنٍ مُتخلِّقٍ بخُلُقِ الصَّبرِ على الضَّرَّاءِ والشُّكرِ للسَّرَّاءِ؛ فهو يَعتبِرُ بأحوالِ الفُلكِ في البحرِ اعتبارًا يُقارِنُه الصَّبرُ أو الشُّكرُ. وإنَّما جُعِل ذلك آيةً للمؤمنينَ؛ لأنَّهم الَّذين يَنتفِعونَ بتِلك الآيةِ، فيَعلَمونَ أنَّ اللهَ مُنفرِدٌ بالإلهيَّةِ، بخِلافِ المشرِكينَ؛ فإنَّها تمُرُّ بأعيُنِهم فلا يَعتبِرونَ بها [655] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/106). ؛ فوَجهُ الجَمعِ بيْن الصَّبرِ والشُّكرِ: أنَّ هذه السُّفُنَ إنْ جَرَت على ما يَنْبغي فوَظيفةُ الإنسانِ الشُّكرُ، وإنْ جَرَت على ما لا يَنْبغي فوَظيفتُه الصَّبرُ [656] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 265). .
- وقولُه: صَبَّارٍ، أي: على بَلاءِ اللهِ، شَكُورٍ، أي: لِنَعمائِه، وهما صِفتا المؤمِنِ المُخلِصِ؛ فجعَلَهما كِنايةً عنه، وهو الذي وكَّلَ هِمَّتَه بالنَّظرِ في آياتِ اللهِ، فهو يَسْتملي منها العِبَرَ. وحسَّنَ مَوقعَ هذه الكِنايةِ في هذا المقامِ: أنَّ مَواجِبَ الصَّبرِ والشُّكرِ لم تَتبيَّنْ في سائرِ الحالاتِ ظُهورَها في حالَتَي الرُّكوبِ في البحرِ والخُروجِ منه [657] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/227)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/68). .
5- قولُه تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ
- قولُه: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا فيه إيقاعُ الإيباقِ على السُّفنِ الجَواري مع أنَّه حالُ أهلِهنَّ؛ للمُبالَغةِ والتَّهويلِ [658] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/33). .
- قولُه: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ عطْفٌ على يُوبِقْهُنَّ؛ فهو في معْنى جَزاءٍ للشَّرطِ المقدَّرِ، أي: وإنْ يَشَأْ يَعْفُ عن كَثيرٍ فلا يُوبِقْهُم مع استِحقاقِهم أنْ يُوبَقُوا. وهذا العطْفُ اعتراضٌ [659] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/107). .
6- قولُه تعالَى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ على قِراءةِ الرَّفعِ وَيَعْلَمَ [660] تقدمت الإشارة إلى هذه القراءة في مشكل الإعراب. ؛ فهو استئنافٌ فيه تَهديدٌ للمشرِكينَ بأنَّهم لا مَحيصَ لهم مِن عَذابِ اللهِ تعالَى؛ لأنَّه لَمَّا قال: وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: 32] ، صار المعنَى: ومِن آياتِ انفرادِه بالإلهيَّةِ الجَواري في البحرِ، والمشرِكونَ يُجادِلونَ في دَلائلِ الوحدانيَّةِ بالإعراضِ والانصرافِ عن سَماعِها، فهدَّدَهم اللهُ بأنْ أَعلَمَهم أنَّهم لا مَحيصَ لهم، أي: مِن عَذابِه؛ وحُذِف مُتعلَّقُ المحيصِ إبهامًا له تَهويلًا للتَّهديدِ؛ لِتَذهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذهبٍ مُمكنٍ، فيَكونُ قولُه: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ خَبرًا مُرادًا به الإنشاءُ والطَّلبُ، فهو في قوَّةِ: ولْيَعلَمِ الَّذين يُجادِلونَ، أو اعلَموا يا مَن يُجادِلونَ، وليْس خبرًا عنهم؛ لأنَّهم لا يُؤمِنونَ بذلك حتى يَعلَموه. وأمَّا قِراءةُ النَّصبِ فهي على العَطْفِ على فِعلٍ مَدخولٍ لِلَامِ التَّعليلِ، وتُضمَّنُ (أنْ) بعْدَه، والتَّقديرُ: لِيَنتقِمَ منْهم ويَعلَمَ الذين يُجادِلون... إلخ. أو الواوُ واوُ المعيَّةِ التي يُنصَبُ الفِعلُ المضارِعُ بعْدَها بـ (أنْ) مُضمَرةً. ويجوزُ أنْ يُجعَلَ الخبرُ مُستعمَلًا في مُقارَبةِ المُخبَرِ به؛ كقولِهم: قدْ قامَتِ الصَّلاةُ، فلمَّا كان عِلمُهم بذلك يُوشِكُ أنْ يَحصُلَ، نُزِّلَ مَنزلةَ الحاصلِ، فأَخبَرَ عنهم به، وعلى هذا الوجْهِ يَكونُ إنذارًا بعِقابٍ يَحصُلُ لهم قَريبٍ، وهو عَذابُ السَّيفِ والأَسْرِ يومَ بَدْرٍ، وذُكِر فِعلُ (يَعلَم)؛ للتَّنويهِ والاعتِناءِ بالخبرِ [661] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/107، 108). .