موسوعة التفسير

سورةُ فاطرٍ
الآيات (42-45)

ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ

غريبُ الكَلِماتِ:

جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: أي: أقوى الأيمانِ وأغلَظَها مُجتَهِدينَ في تَوكيدِها. وحقيقةُ الجَهدِ: التَّعَبُ والمشَقَّةُ ومُنتهَى الطَّاقةِ، ثمَّ أُطلِقَ على أشَدِّ الفِعلِ ونِهايةِ قُوَّتِه؛ لِما بيْنَ الشِّدَّةِ والمَشقَّةِ مِن المُلازَمةِ. والأيْمانٌ: جمْعُ يَمينٍ، واليمينُ: الحَلِفُ والقَسَم، قيل: أصلُه مِن اليُمْن، أي: البَركة؛ سُمِّيت بذلك لأنَّها تَحفَظُ الحقوقَ، وقيل: سُمِّي الحَلِفُ يمينًا؛ لأنَّه يكونُ بأَخْذِ اليَمينِ، أو لأنَّهم كانوا اذا تحالفوا أو توافقوا ضرَب كلُّ امْرِئٍ مِنْهم يَمينَه على يَمين صاحِبِه [760] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/484)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/486) و(5/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 208، 893)، ((تفسير القرطبي)) (6/264)، ((لسان العرب)) لابن منظور (13/460)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 152)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/233). .
وَمَكْرَ السَّيِّئِ: أي: المكرَ السَّيِّئَ، وهو مِن إضافةِ المَوصوفِ إلى الصِّفةِ، وأصلُ (مكر): الاحتيالُ والخِداعُ، وأصلُ (سوء): يدُلُّ على قُبْحٍ [761] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/393)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/113) و(5/345)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/334). .
يَحِيقُ: أي: يُحيطُ ويَنزِلُ، وأصلُ (حيق): يدُلُّ على نُزولُ الشَّيءِ بالشَّيءِ [762] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/394)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 520)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 266). .
سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ: أي: العَذابَ الَّذي نزَلَ بالكُفَّارِ، والسُّنَّةُ: الطَّريقةُ، وأصلُ (سنن): يدُلُّ على جَرَيانٍ شَيءٍ واطِّرادِه [763] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/22)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/60)، ((تفسير القرطبي)) (14/360). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: وأقسَمَ مُشرِكو العَرَبِ باللهِ مُجتَهِدينَ في أيْمانِهم أنَّه لو جاءهم رسولٌ مِن عندِ اللهِ لَيَكونُنَّ أعظَمَ هُدًى مِن إحدى الأُمَمِ السَّابِقةِ، فلمَّا جاءهم مُحمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نَذيرًا ما زادَهم مجيئُه إلَّا نُفورًا مِنَ الحَقِّ، وضَلالًا إلى ضَلالِهم، تكبُّرًا وعُتوًّا في الأرضِ، ومكرًا سيِّئًا بالنَّاسِ، فزَيَّنوا لهم الباطِلَ، وصَدُّوهم عن الحَقِّ، ولا يَنزِلُ المَكرُ السَّيِّئُ إلَّا بأهلِه. فهل يَنتَظِرونَ إلَّا عادةَ اللهِ الجاريةَ في إهلاكِ مَن قَبْلَهم مِن المكَذِّبينَ؟! فلن تجِدَ -يا مُحمَّدُ- لسُنَّةِ اللهِ تَبديلًا.
ثمَّ يَذكُرُ الله تعالى ما يؤكِّدُ عدَمَ تغييرِ سُنَّتِه في خَلْقِه، ويَحُضُّ على السَّيرِ في الأرضِ، والاعتبارِ بأحوالِ المُهلَكينَ السَّابِقينَ، فيقولُ: أوَلم يَسِرْ هؤلاء المُشرِكونَ في الأرضِ فيَنظُروا كيف كان عاقِبةُ مَن قَبْلَهم مِن الكُفَّارِ، فيَتَّعِظوا بما حَلَّ بهم مِنَ العَذابِ، وكان هؤلاء الكُفَّارُ أشَدَّ مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ قُوَّةً؟!
وما كان مِن شأنِ الله تعالى أن يُعجِزَه شَيءٌ مِن الأشياءِ، سواءٌ أكانَ في السَّمواتِ أم في الأرضِ؛ لِكَمالِ عِلمِه وقُدرتِه سُبحانَه.
ثمَّ يختِمُ سبحانَه السُّورةَ الكريمةَ ببيانِ جانبٍ مِن رحمتِه، وكمالِ حِلمِه، فيقولُ: ولو يُعاقِبُ اللهُ النَّاسَ بما عَمِلوه مِن الذُّنوبِ لَأهلَكَ جميعَ ما على ظَهرِ الأرضِ، ولكِنْ يُمهِلُهم سُبحانَه إلى وَقتٍ مَعلومٍ عِندَه، فإذا جاء هذا الوَقتُ فلا يَخفَى عليه سُبحانَه شَيءٌ مِن أحوالِهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى إنكارَ المُشرِكينَ للتَّوحيدِ؛ ذكَرَ تَكذيبَهم للرَّسولِ ومُبالَغتَهم فيه [764] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/246). .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ.
أي: وأقسَم مُشِركو العَرَبِ باللهِ بأبلَغِ الأيْمانَ وأغلَظِها -مِن قَبْلِ بَعثةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنَّه لو جاءهم رسولٌ مِن عندِ اللهِ يُنذِرُهم عذابَ اللهِ، لَيَكونُنَّ أعظَمَ هدًى مِن إحدى الأُمَمِ السَّابِقةِ [765] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/392)، ((تفسير القرطبي)) (14/358)، ((تفسير ابن كثير)) (6/559)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/73)، ((تفسير السعدي)) (ص: 691). قال ابن عثيمين: (إمَّا أن نَلتزِمَ بالعُمومِ ونقولَ: إنَّهم يقولون: أهدى مِن إحدى الأمَمِ مِن أيِّ أمَّةٍ كانت... فكأنَّهم يقولون: أهدى مِن كلِّ الأمَمِ، لكِنْ لم يُعَيِّنوا؛ لأنَّهم لم يَدرُوا مَن هو الَّذي على حَقٍّ. وإمَّا أن يُقالَ: خُصَّ هذا الجانِبُ بأُمَّتينِ فقط؛ لأنَّ المعروفَ أنَّهم على دينٍ هم اليهودُ والنَّصارى). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 298). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: أهدَى مِن جميعِ الأُمَمِ الَّذين أُرسِلَ إليهم الرُّسُلُ: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/559). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بهم: اليهودُ والنَّصارى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/560)، ((تفسير القرطبي)) (14/358)، ((تفسير السعدي)) (ص: 691). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ بهم أهلُ الكتابِ: ابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/36). وقال البِقاعي: (مِنْ إِحْدَى أي: واحدةٍ مِن الْأُمَمِ أي: السَّالفةِ، أو مِن الأمَّةِ الَّتي لم يكُنْ في الأُمَمِ الَّتي جاءتها النُّذُرُ أهدى منها). ((نظم الدرر)) (16/73). .
كما قال تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [الأنعام: 156، 157].
وقال سُبحانَه: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الصافات: 167 - 170].
فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا.
أي: فلمَّا جاءهم محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِيُنذِرَهم عذابَ اللهِ على شِركِهم وكُفرِهم، ما زادهم مجيئُه إلَّا نُفورًا مِن الحَقِّ، وضَلالًا إلى ضلالِهم، ولم يَصيروا أهدى مِن إحدى الأُمَمِ كما أقسَموا مِن قَبْلُ [766] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/392، 393)، ((تفسير ابن كثير)) (6/559)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 691)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 298، 299). قال السعدي: (ليس إقسامُهم المذكورُ لِقَصدٍ حَسَنٍ، وطلَبٍ للحَقِّ، وإلَّا لَوُفِّقُوا له، ولكِنَّه صادِرٌ عن استِكبارٍ في الأرضِ على الخَلقِ، وعلى الحَقِّ، وبَهرجةٍ في كلامِهم هذا، يُريدونَ به المكرَ والخِداعَ، وأنَّهم أهلُ الحَقِّ، الحَريصونَ على طلَبِه، فيَغتَرُّ به المغترُّون، ويمشي خَلْفَهم المُقتَدون). ((تفسير السعدي)) (ص: 691). !
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43).
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ.
أي: عُتوًّا على الله، وتَكبُّرًا في الأرضِ عن الإيمانِ به، ومَكرًا سَيِّئًا بالنَّاسِ، فقد خَدعوهم، وزيَّنوا لهم الباطِلَ؛ لِيَصُدُّوهم عن الحَقِّ [767] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/393)، ((الوسيط)) للواحدي (3/508)، ((تفسير القرطبي)) (14/358)، ((تفسير ابن كثير)) (6/559). قال الرازي: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ ونصْبُه يحتمِلُ ثلاثةَ أوجُهٍ؛ أحدُها: أنْ يكونَ حالًا، أي: مستكبرينَ في الأرضِ. وثانيها: أنْ يكونَ مفعولًا له، أي: للاستكبارِ. وثالثُها: أنْ يكونَ بدَلًا عن النُّفورِ). ((تفسير الرازي)) (26/246). ممَّن اختار الوجهَ الثَّانيَ: ابنُ جرير، وأبو حيَّان، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/ 393 )، ((تفسير أبي حيان)) (9/41)، ((تفسير الشوكاني)) (4/408). قال ابن عاشور: (لِأنَّ النُّفورَ في معنَى الفعلِ، فصَحَّ إعمالُه في المفعولِ له. والتَّقديرُ: نَفَروا لأجْلِ الاستِكبارِ في الأرضِ). ((تفسير ابن عاشور)) (22/334). وممَّن اختار الوجهَ الثَّالثَ -أنَّها بدَلٌ مِن كَلمةِ نُفُورًا: الأخفَشُ -كما في ((تفسير أبي حيان)) (9/41)-، والعُلَيميُّ، والألوسي. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (5/461)، ((تفسير الألوسي)) (11/377). قال البِقاعي: (وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي: ولأجلِ مكرِهم المكرَ الَّذي مِن شأنِه أن يَسوءَ صاحِبَه وغَيرَه، وهو إرادتُهم لإيهانِ أمرِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وإطفاءِ نورِ الله. وقراءةُ عبدِ اللهِ «ومكرًا سيئًا» يدُلُّ على أنَّه مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى صفتِه). ((نظم الدرر)) (16/75). وقال السمعاني: (فِي المكرِ السَّيِّئِ قولانِ؛ أحدُهما: أنَّه الشِّركُ، والآخرُ: أنَّه المكرُ برسولِ الله). ((تفسير السمعاني)) (4/364). وقال الواحدي: (والمفسِّرونَ فسَّروا المكرَ السَّيِّئَ هاهنا بالشِّركِ. والتَّقديرُ: ومكروا مكرًا سَيِّئًا، والمكرُ السَّيِّئُ: هو عمَلُهم القبيحُ مِن الشِّركِ، والمكرُ هو العملُ القبيحِ). ((البسيط)) (18/443). .
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
أي: ولا يَنزِلُ سُوءُ المَكرِ السَّيِّئِ إلَّا بأهلِه الَّذين يَمكُرونَه، فيَحُلُّ عليهم، ويُحيطُ بهم [768] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/394)، ((تفسير القرطبي)) (14/359)، ((تفسير ابن كثير)) (6/559)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 691)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/335). .
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ.
أي: فهل يَنتَظِرُ هؤلاء المُشرِكونَ إلَّا عادةَ اللهِ الجاريةَ في الأُمَمِ السَّابِقةِ في إهلاكِهم في الدُّنيا على كُفرِهم بالحَقِّ [769] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/394)، ((تفسير ابن كثير)) (6/559)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/75، 76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 691)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/337). ؟
كما قال تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [يونس: 102] .
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.
أي: فلن تَجِدَ -يا محمَّدُ- لطريقةِ اللهِ الَّتي قضاها وحَكَم بها تبديلًا لها، بل هي سُنَّةٌ ماضيةٌ، وعادةٌ جاريةٌ، فلا بُدَّ أن يُعذَّبَ هؤلاء المُشرِكونَ إن استمَرُّوا على باطِلِهم؛ ولن تجِدَ لهذه العادةِ تحويلًا [770] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/395)، ((تفسير القرطبي)) (14/360)، ((تفسير ابن كثير)) (6/559، 560)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/76). قيل: معنى تَحْوِيلًا: أي: تحويلَ العذابِ عنهم. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: القرطبيُّ، وابنُ كثير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/360)، ((تفسير ابن كثير)) (6/560)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 304، 305). وقيل: المعنى: تحويلُه مِن حالةٍ إلى حالةٍ أخفَى منها. وممَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (16/76). .
كما قال تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [المرسلات: 16 - 18] .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ للأوَّلينَ سُنَّةً، وهي: الإهلاكُ؛ نبَّهَهم بتذكيرِ حالِ الأوَّلينَ؛ فإنَّهم كانوا مارِّينَ على ديارِهم، رائينَ لآثارِهم [771] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/248). .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: أوَلمْ يَسِرْ هؤلاء المُشرِكونَ في الأرضِ، فيَنظُروا كيف كان عاقِبةُ كُفَّارِ الأُمَمِ الَّذين مِن قَبْلِهم، فيَتَّعِظوا بما حَلَّ بهم مِن العذابِ؛ بسَبَبِ ذُنوبِهم، فيَخافوا ويَحذَروا أن يُصيبَهم مِثلُ ما أصابَهم [772] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/395)، ((تفسير القرطبي)) (14/360)، ((تفسير ابن كثير)) (6/560)، ((تفسير السعدي)) (ص: 691). ؟
وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
أي: وكان كُفَّارُ الأُمَمِ السَّابِقةِ أشَدَّ مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ قُوَّةً، فعذَّبَهم اللهُ بسَبَبِ ذُنوبِهم؛ فلن يَتعذَّرَ على اللهِ إهلاكُ كُفَّارِ قُرَيشٍ كما عذَّب أولئك [773] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/395)، ((تفسير القرطبي)) (14/361)، ((تفسير ابن كثير)) (6/560)، ((تفسير السعدي)) (ص: 692)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/338). .
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [غافر: 21، 22].
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا.
أي: وإذا أراد اللهُ إهلاكَ المُشرِكينَ أو فِعلَ أيِّ شَيءٍ في السَّمَواتِ أو في الأرضِ، فلن يُعجِزَه ذلك؛ لكَمالِ عِلمِه وقُدرتِه سُبحانَه؛ فلا يخفَى عليه شَيءٌ، ولا يَتعذَّرُ عليه أمرٌ [774] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/396)، ((تفسير القرطبي)) (14/361)، ((تفسير ابن كثير)) (6/560)، ((تفسير السعدي)) (ص: 692)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة فاطر)) (ص:  316، 317). .
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المُشرِكونَ يَستَعجِلونَ بالوَعيدِ استِهزاءً؛ بيَّنَ أنَّه لا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ على ما كَسَبوا؛ لعلَّهم يُنيبون أو يُنيبُ بَعضُهم إلى رَبِّه، ويَثوبُ إلى رُشدِه، فقال [775] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (22/142). :
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
أي: ولو يُعاقِبُ اللهُ النَّاسَ على جَميعِ ما عَمِلوه مِن الذُّنوبِ ولم يُمهِلْهم، لأهلَكَ جميعَ النَّاسِ والدَّوابِّ على ظَهرِ الأرضِ [776] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/396)، ((تفسير القرطبي)) (14/361)، ((تفسير ابن كثير)) (6/560)، ((تفسير السعدي)) (ص: 692). .
وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
أي: ولكِنَّ اللهَ يُمهِلُ الكافِرينَ والعُصاةَ إلى وَقتٍ مَعلومٍ عِندَه، ثمَّ يُحِلُّ بهم عِقابَه [777] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/396)، ((الوسيط)) للواحدي (3/68)، ((تفسير السعدي)) (ص: 692). .
كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61].
وقال سُبحانَه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58] .
وعن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملي [778] لَيُمْلي: أي: يُمهِلُ. يُنظر: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (17/157). للظَّالمِ حتَّى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) [779] أخرجه البخاري (4686) واللفظ له، ومسلم (2583). .
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا.
أي: فإذا جاء وَقتُ أخْذِهم فإنَّ اللهَ بعِبادِه [780] قيل: المرادُ بعِبادِه: المؤمِنون، فهو تسليةٌ لهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الرازيُّ، وقال: (فإذا جاء الهلاكُ فالله بالعبادِ بصيرٌ؛ إمَّا أن يُنجِيَهم، أو يكونَ تَوَفِّيهم تقريبًا مِن الله لا تعذيبًا). ((تفسير الرازي)) (26/249). وقيل: هذا توعُّدٌ للمُكَذِّبينَ ولِمَن يَستحِقُّ العِقابَ، أي: فيُجازيهم بأعمالِهم. وممَّن قال بهذا القولِ في الجملةِ: الزمخشريُّ، والقرطبي، وأبو حيان. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/619)، ((تفسير القرطبي)) (14/362)، ((تفسير أبي حيان)) (9/43). وقيل: المرادُ بهم جميعُ العبادِ؛ مُؤمِنِهم وكافِرِهم؛ فيُجازيهم بحسَبِ أعمالِهم؛ خَيرِها وشَرِّها. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، ومكِّي، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/397)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5995)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 578). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (4/444). بَصيرٌ، لا يَخفَونَ عليه سُبحانَه [781] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/397)، ((تفسير القرطبي)) (14/362)، ((تفسير السعدي)) (ص: 692). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا يَحُضُّ على السَّيرِ في الأرضِ بالقُلوبِ والأبدانِ؛ للاعتبارِ لا لمجَرَّدِ النَّظَرِ والغَفَلةِ، وأن يَنظُروا إلى عاقبةِ الَّذين مِن قَبْلِهم ممَّن كَذَّبوا الرُّسُلَ، وكانوا أكثَرَ منهم أموالًا وأولادًا، وأشَدَّ قُوَّةً، وعَمَروا الأرضَ أكثَرَ مِمَّا عَمَرَها هؤلاء، فلمَّا جاءهم العذابُ لم تَنفَعْهم قُوَّتُهم، ولم تُغْنِ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم مِن اللهِ شَيئًا، ونَفَذَت فيهم قُدرةُ اللهِ ومَشيئتُه [782] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 691). .
2- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا أي: فيَتسَبَّبَ لهم عن ذلك السَّيرِ أنَّه يَتجَدَّدُ لهم نظَرٌ واعتِبارٌ يومًا مِن الأيَّامِ؛ فإنَّ العاقِلَ مَن إذا رأى شيئًا تفكَّرَ فيه؛ حتَّى يعرِفَ ما يَنطِقُ به لِسانُ حالِه إنْ خفِيَ عنه ما جرَى مِن مقالِه [783] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/76). .
3- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أنَّنا ينبغي أنْ نَنظُرَ إلى عاقبةِ السَّابقِينَ نَظَرَ اعتِبارٍ بمآلِهم حينَ كَذَّبوا رُسُلَهم، وليس اعتبارًا بقوَّتِهم وصِناعتِهم وطِرازِهم، وما أشْبَهَ ذلك [784] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 317). !
4- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ فيه تذكيرٌ لهم عن أن يَغُرَّهم تأخيرُ المؤاخَذةِ، فيَحسَبوه عَجزًا أو رِضًا مِن اللهِ بما هم فيه! فعَلَّمَهم أنَّ لعِذابِ اللهِ آجالًا اقتضَتْها حِكمتُه، فيها رَعْيُ مصالحِ أُمَمٍ آخَرينَ، أو استِبقاءُ أجيالٍ آتِينَ [785] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/339). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا هذه الآيةُ وغَيرُها وما يُؤْثَرُ مِن تنَصُّرِ بعضِ العَرَبِ، ومِنِ اتِّساعِ بَعضِهم في التَّحَنُّفِ: يدُلُّ على أنَّ العرَبَ كانوا يَعلَمونَ رِسالةَ الرُّسُلِ [786] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/332، 333). .
2- في قَولِه تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا الإشارةُ إلى أنَّه لا ينبغي للإنسانِ النَّذرُ -أي: أن يَنذِرَ الطَّاعةَ؛ لأنَّه قد لا يُوَفَّقُ في القيامِ بها؛ فهؤلاء أقسَموا، ولَمَّا وُجِدَ مُوجبُ الطَّاعةِ لم يقوموا بالطَّاعةِ [787] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 306). .
3- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا جوابُ (لَمَّا): مَا زَادَهُمْ، وفيه دليلٌ واضِحٌ على حرفيَّةِ (لَمَّا)، لا ظَرفيَّتِها؛ إذ لو كانت ظَرفًا لم يَجُزْ أن يتقدَّمَ على عامِلِها المنفيِّ بـ (ما) [788] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/41). .
4- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ يُنبئُ عن الإحاطةِ الَّتي هي فَوقَ اللُّحوقِ، وفيه مِنَ التَّحذيرِ ما ليس في قَولِه: (ولا يَلحَقُ) أو (ولا يَصِلُ) [789] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/246، 247). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ الإشارةُ إلى أنَّ المَكْرَ يكونُ سَيِّئًا ويكونُ حَسنًا، وهو كذلك؛ فإنَّ مَكْرَ اللهِ تعالى بأعدائِه الَّذين يَمكُرونَ به: مَكرٌ حَسَنٌ يُثنى عليه به، ومَكْرُ أولئك سَيِّئٌ [790] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 307). قال ابن القيِّم: (المكرُ: إيصالُ الشَّرِّ إلى الغيرِ بطريقٍ خفيٍّ، وكذلك الكَيدُ والمُخادَعةُ، ولكنَّه نَوعانِ: قبيحٌ، وهو إيصالُ ذلك لِمَن لا يَستحِقُّه. وحَسَنٌ، وهو إيصالُه إلى مُستحِقِّه عُقوبةً له؛ فالأوَّلُ مذمومٌ، والثَّاني ممدوحٌ، والرَّبُّ تعالى إنَّما يَفعلُ مِن ذلك ما يُحمَدُ عليه عدلًا منه وحِكمةً). ((إعلام الموقعين)) (3/170). .
6- في قَولِه تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أنَّ مَن أرادَ السُّوءَ حاقَ به السُّوءُ، وفي المثلِ المشهورِ [791] يُنظر: ((الأمثال)) لابن سلَّام (ص: 270)، ((جمهرة الأمثال)) لأبي هلال العسكري (2/289)، ((مجمع الأمثال)) للميداني (2/297)، ((المستقصى في أمثال العرب)) للزمخشري (2/354). : «مَن حَفَرَ لأخيه حفرةً وَقَعَ فيها»؛ فالإنسانُ إذا أرادَ المَكْرَ -والعياذُ باللهِ- فإنَّ مَكرَه يَحيقُ به [792] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 307). . عن محمَّدِ بنِ كعبٍ قال: (ثلاثٌ مَن فعَلَهُنَّ لم يَنْجُ حتَّى يُنزَلَ به: مَن مَكَر، أو بغَى، أو نَكَث)، ثمَّ قرأ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [يونس: 23] ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [793] أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/36). [الفتح: 10] .
7- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فيه سُؤالٌ: كثيرًا ما نرى أنَّ الماكِرَ يَمكُرُ، ويُفيدُه المَكرُ، ويَغلِبُ الخَصمَ بالمَكرِ، والآيةُ تدُلُّ على عدَمِ ذلك؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ؛ منها:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ المكرَ المذكورَ في الآيةِ: هو المكرُ الَّذي مَكَروه مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم مِن العزمِ على القَتلِ والإخراجِ، ولم يَحِقْ إلَّا بهم؛ حيثُ قُتِلوا يومَ بَدرٍ وغَيرِه، وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ.
الوجهُ الثاني: أنَّ الأمورَ بعواقِبِها، ومَن مَكَر به غَيرُه، ونَفَذَ فيه المكرُ عاجِلًا في الظَّاهِرِ؛ ففي الحقيقةِ هو الفائِزُ، والماكِرُ هو الهالِكُ، وذلك مِثلُ راحةِ الكافِرِ ومَشقَّةِ المسلمِ في الدُّنيا، ويُبيِّنُ هذا المعنى قَولُه تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ، يعني: إذا كان لمَكرِهم في الحالِ رَواجٌ، فالعاقِبةُ للتَّقْوى، والأمورُ بخواتيمِها، فيَهلِكونَ كما هلَكَ الأوَّلونَ [794] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/247). .
8- في قَولِه تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا دَليلٌ على أنَّ هذا مِن مُقتضَى حِكمتِه سُبحانَه، وأنَّه يَقضي في الأمورِ المُتماثِلةِ بقَضاءٍ مُتماثِلٍ لا بقَضاءٍ مُخالِفٍ؛ فإذا كان قد نَصَرَ المؤمِنينَ لأنَّهم مُؤمِنون، كان هذا مُوجِبًا لنَصرِهم حيث وُجِدَ هذا الوصفُ، بخِلافِ ما إذا عَصَوا ونَقَضُوا إيمانَهم، ولهذا قال: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، فعَمَّ كلَّ سُنَّةٍ له، وهو يَعُمُّ سُنَّتَه في خَلْقِه وأمْرِه في الطبيعيَّاتِ والدِّينيَّاتِ [795] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/54). .
9- في قَولِه تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا رَدٌّ على مَن يَجعَلُ اللهَ يَفعَلُ بمجرَّدِ إرادةٍ تُرَجِّحُ أحدَ المتماثلَينِ بلا مُرَجِّحٍ! فإنَّ هؤلاء ليس عندَهم له سُنَّةٌ لا تَتَبَدَّلُ، ولا حِكمةٌ تُقصَدُ! وهذا خلافُ النُّصوصِ والعُقولِ؛ فإنَّ السُّنَّةَ تقتضي تماثُلَ الآحادِ، وأنَّ حُكمَ الشَّيءِ حُكمُ نَظيرِه؛ فيقتضي التَّسويةَ بينَ المُتماثِلاتِ، وهذا خِلافُ قَولِهم [796] يُنظر: ((الرَّد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 391). .
10- في قَولِه تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا كمالُ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وحِكمتِه؛ حيثُ إنَّ سُنَّتَه لا تُبَدَّلُ ولا تُغَيَّرُ؛ وجْهُ كونِها مِن كَمالِ القُدرةِ: أنَّ العاجِزَ لا يَستطيعُ أنْ يَجعَلَ أفعالَه على وتيرةٍ واحدةٍ، بل قد تَتخلَّفُ وتَتغيَّرُ؛ لعَجْزِه عن الاطِّرادِ، وأمَّا كَونُه مِن تمامِ الحِكمةِ فلأنَّ مُعاقَبةَ السَّابقِينَ كانت لسبَبٍ، وهذا السَّبَبُ إذا وُجِدَ في الآخِرينَ فإنَّه يَعمَلُ عمَلَه؛ لأنَّ مُقتضَى الحِكمةِ أنَّ الأسبابَ لا تَتخلَّفُ عنها مُسبَّباتُها [797] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 308). .
11- قال تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا، وسُنَّةُ اللهِ في الأوَّلينَ، الَّتي لا تُبدَّلُ ولا تُغَيَّرُ: أنَّ كُلَّ مَن سار في الظُّلمِ والعِنادِ، والاستِكبارِ على العِبادِ: أنْ يُحِلَّ به نِقمَتَه، وتُسلَبَ عنه نِعمتُه؛ فلْيَترقَّبْ هؤلاء ما فُعِلَ بأولئك [798] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 691). .
12- في قَولِه تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ استِعمالُ القياسِ؛ فيَقيسُ حالَ هؤلاءِ بحالِ الأوَّلينَ الَّذين كذَّبوا فعُوقِبوا [799] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 308). .
13- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنَّ في التاريخِ عِبَرًا يَعتَبِرُ بها العاقلُ [800] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 318). .
14- في قَولِه تعالى: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً استِعمالُ قياسِ الأَولى؛ فإذا كان اللهُ تعالى أهلَكَهم مع كَونِهم أشدَّ منهم قُوَّةً، فإنَّ إهلاكَ هؤلاءِ مِن بابِ أَولى [801] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 318). .
15- في قَولِه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ أنَّ مِن صفاتِ اللهِ تعالى ما يكونُ سلبيًّا -أي: منفيًّا عن اللهِ-، والقاعدةُ العامَّةُ: «أنَّ كلَّ صفةِ نقصٍ؛ فهي منفيَّةٌ عن اللهِ عزَّ وجلَّ، كما أنَّ كلَّ صفةِ كمالٍ فهي ثابتةٌ له» [802] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 319). .
16- أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يَنفي شيئًا عن نَفْسِه إلَّا لثُبوتِ كَمالِ ضِدِّه؛ لأنَّه لَمَّا قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ قال: إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا، فيُستفادُ مِن ذلك: أنَّ كُلَّ صفةٍ مَنفيَّةٍ عن اللهِ لا يُرادُ منها مجرَّدُ النَّفْيِ؛ لأنَّ مُجرَّدَ النَّفيِ المَحْضِ ليس فيه فائدةٌ؛ إذ إنَّ النَّفيَ المَحْضَ عدَمٌ مَحْضٌ، والعَدَمُ ليس بشَيءٍ، فضلًا عن أنْ يكونَ كَمالًا، ولأنَّ النَّفيَ قد يكونُ سَبَبُه العجزَ، كما قال الشَّاعرُ [803] هو النجاشي، واسمُه: قيسُ بنُ عَمرِو بنِ مالكٍ، مِن بني الحارثِ بنِ كعبٍ. يُنظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/317، 319)، ((خزانة الأدب)) للبغدادي (1/232). :
قُبَيِّلةٌ لا يَغدِرونَ بذِمَّةٍ
ولا يَظلِمونَ النَّاسَ حبَّةَ خَرْدَلِ
فهذا ذَمٌّ؛ لأنَّهم -لِعَجزِهم- لا يَستطيعونَ، فلا يَظلِمونَ النَّاسَ، ولا يَغدِرون بالذِّمَمِ، وقد يكونُ سببُه عدَمَ القابليَّةِ، لا للكَمالِ، ولكنْ لأنَّه غيرُ قابلٍ لهذه الصِّفةِ، كما لو قُلتَ: «إنَّ جدارَ بيتِنا لا يَظلِمُ»، فهو صَحيحٌ أنَّه لا يَظلمُ أحدًا، لكنْ لا لأنَّه كامِلُ العَدْلِ، ولكِنْ لأنَّه لا يَقبَلُ صِفةَ الظُّلْمِ، فنَفْيُها عنه كثُبوتِها له، حتَّى لو قلتَ: «جدارُنا يَظلِمُ» فلا أحدَ يُصَدِّقُك؛ إذَنْ: فصِفاتُ اللهِ المَنفيَّةُ الَّتي يُسمِّيها العُلَماءُ -رَحِمَهم اللهُ- السَّلبيَّةَ: تَتضَمَّنُ كمالَ الضِّدِّ، يعني: لِكَمالِ عِلمِه وقُدرَتِه فلا يُعجِزُه شَيءٌ في السَّمَواتِ ولا في الأرضِ [804] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 319). .
17- في قَولِه تعالى: بِمَا كَسَبُوا الرَّدُّ على الجَبريَّةِ؛ فأثبتَ سُبحانَه للعبدِ كَسْبًا، والجَبريَّةُ يقولون: «إنَّ الإنسانَ مُجبَرٌ على العَمَلِ لا يستطيعُ أنْ يَكتسِبَ، بل يُجبَرُ على أنْ يَعمَلَ خَيرًا أو شَرًّا» [805] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 325). !
18- في قَولِه تعالى: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ تمامُ قدرةِ اللهِ تعالى؛ حيث يَقْدِرُ على إهلاكِ العالَمِ بلحظةٍ [806] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 325). !
19- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يُشيرُ إلى كَمالِ حِلمِه تعالى، وشِدِّةِ إمهالِه وإنظارِه أربابَ الجرائمِ والذُّنوبِ [807] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 692). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا
- قولُه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ جَهْدُ الأيْمانِ هنا كِنايةٌ عن تَأْكيدِها [808] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/331). .
- وفي قَولِه: لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ عبَّرَ عن الرَّسولِ بالنَّذيرِ؛ لأنَّ مُجادَلةَ أهْلِ الكِتابِ للمُشرِكينَ كانتْ مُشتَمِلةً على تَخويفٍ وإنْذارٍ؛ ولذلك لم يَقتصِرْ على وَصْفِ النَّذيرِ في قولِه تعالى: أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [809] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/332). [المائدة: 19] .
- قولُه: لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ إحْدَى الأُممِ هي أُمَّةٌ غيرُ مُعيَّنةٍ مِن الأُممِ ذاتِ الدِّينِ: إمَّا الأُمَّةُ النَّصرانيَّةُ، وإمَّا الأُمَّةُ اليَهوديَّةُ، أو الصَّابئةُ، وكان التَّعبيرُ عنها بـ إِحْدَى الْأُمَمِ إبهامًا لها يَحتمِلُ أنْ يكونَ إبهامًا مِن كلامِ المُقْسِمينَ؛ تَجنُّبًا لمُجابَهةِ تلك الأُمَّةِ بصَريحِ التَّفضيلِ عليها. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ إبهامًا مِن كلامِ القُرآنِ على عادةِ القُرآنِ في التَّرفُّعِ عمَّا لا فائدةَ في تَعْيينِه؛ إذ المَقصودُ أنَّهم أشهَدوا اللهَ على أنَّهم إنْ جاءَهم رسولٌ يَكونوا أسبَقَ مِن غَيرِهم اهتِداءً، فإذا هُم لم يَشَمُّوا رائحةَ الاهتداءِ. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ فريقٌ مِن المُشرِكينَ نَظَروا في قَسَمِهم بهَديِ اليهودِ، وفريقٌ نَظَروا بهَديِ النَّصارَى، وفريقٌ بهَدْيِ الصَّابئةِ؛ فجمَعَتْ عِبارةُ القُرآنِ ذلك بقَولِهِ: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ؛ لِيَأتيَ على مَقالةِ كُلِّ فريقٍ مع الإيجازِ [810] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/332). .
- في قولِه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ما يُعرَفُ في البلاغةِ بائتِلافِ اللَّفظِ مع المَعْنى، أي: أنْ تكونَ أَلْفاظُ المَعْنى المرادِ يُلائِمُ بعضُها بعضًا، ليس فيها لَفظةٌ نافِرةٌ عن إخْوانِها، غَيرُ لائِقةٍ بمَكانِها، أو مَوْصوفةٌ بحُسنِ الجِوارِ بحيثُ إذا كان المَعْنى غَريبًا قُحًّا، كانتْ أَلْفاظُهُ غَريبةً مَحْضةً، وبالعَكسِ، ولَمَّا كانت جَميعُ الأَلْفاظِ المُجاوِرةِ للقَسَمِ في هذه الآيةِ كُلِّها مِن المُسْتَعمَلِ المُتداوَلِ، لم تَأْتِ فيها لَفْظةٌ غَريبةٌ تَفتَقِرُ إلى مُجاوَرةِ ما يُشاكِلُها في الغَرابةِ [811] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/168). .
- والاستِثْناءُ في قولِه: مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا مُفرَّعٌ مِن مَفعولِ زَادَهُمْ المحذوفِ، أي: ما أفادَهم صلاحًا وحالًا أو نَحوَ ذلك إلَّا نُفورًا؛ فيكونُ الاستثناءُ مِن تَأكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه؛ لأنَّهم لم يَكونوا نافِرينَ مِن قبْلُ [812] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/333). .
2- قَولُه تعالى: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا
- قولُه: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ الاستِكبارُ: شِدَّةُ التَّكبُّرِ؛ فالسِّينُ والتاءُ فيه للمُبالَغةِ، مِثلُ استَجابَ [813] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/334). .
- وجُملةُ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ تَذييلٌ أو مَوعِظةٌ، وفيه حَذفُ مُضافٍ تَقديرُه: ضُرُّ المكرِ السَّيِّئِ، أو سُوءُ المكْرِ السَّيِّئِ، كما دلَّ عليه فِعلُ يَحِيقُ، فإنْ كان التَّعريفُ في المَكْرِ للجِنْسِ كان المرادُ بـ (أهْلِهِ) كُلَّ ماكِرٍ، وهذا هو الأنسَبُ بمَوقِعِ الجُمْلةِ ومَحملِها على التَّذييلِ؛ لِيَعُمَّ كُلَّ مَكرٍ وكلَّ ماكرٍ، فيَدخُلُ فيه الماكِرون بالمُسلِمينَ مِن المُشرِكينَ؛ فيَكونُ القَصرُ الَّذي في الجُمْلةِ قَصرًا ادِّعائيًّا [814] القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاح البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبْتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِع، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على الموصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثَرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ، مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ، بتنزيلِ غيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ مُعَيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيْدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرة؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ(إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167- 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). مَبنيًّا على عَدَمِ الاعتِدادِ بالضُّرِّ القليلِ الَّذي يَحيقُ بالمَمْكورِ به بالنِّسبةِ لِمَا أعدَّه اللهُ للماكِرِ في قَدَرِه مِن مُلاقاةِ جَزائِه على مَكْرِه [815] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/335). .
- وإذا كان تَعريفُ المَكْرِ تَعريفَ العَهدِ، كان المَعْنى: ولا يَحيقُ هذا المَكرُ إلَّا بأهْلِه، أي: الَّذين جاءَهم النَّذيرُ فازْدادوا نُفورًا؛ فيَكونُ مَوقِعُ قَولِه: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ مَوقِعَ الوعيدِ بأنَّ اللهَ يَدفَعُ عن رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَكْرَهم، ويَحيقُ ضُرُّ مَكْرِهم بهم بأنْ يُسلِّطَ عليهم رَسولَه على غَفلةٍ منهم، فالقَصرُ حَقيقيٌّ؛ ففي الجُمْلةِ إيجازٌ [816] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/335، 336). .
- وفي قَولِهِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بإرْسالِ المَثَلِ [817] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/168). وإرسالُ المثَلِ: عِبارةٌ عن أن يأتيَ المُتكلِّمُ في بعضِ كلامِه بما يَجري مجرى المَثَلِ السَّائرِ؛ مِن حِكمةٍ، أو نَعتٍ، أو غيرِ ذلك. يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (3/27) و(4/411). .
- قولُه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا تَفريعٌ على جُمْلةِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا الآيةَ. ويجوزُ أنْ يكونَ تفريعًا على جُمْلةِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، على أنَّ تَعريفَ المكرِ للعهدِ، والخِطابُ في تَجِدَ لغَيرِ مُعيَّنٍ، فيَعُمُّ كُلَّ مُخاطَبٍ، وبذلك يَتسنَّى أنْ يَسيَر هذا الخَبَرُ مَسيرَ الأمثالِ، وفي هذا تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتهديدٌ للمُشرِكينَ [818] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/337). .
- والفاءُ في قولِه: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا فاءٌ فَصيحةٌ؛ لأنَّ ما قبْلَها لَمَّا ذكَّرَ النَّاسَ بسُنَّةِ اللهِ في المكذِّبينَ، أفصَحَ عن اطِّرادِ سُنَنِ اللهِ تعالى في خلْقِه، والتَّقديرُ: إذا عَلِموا ذلك فلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبديلًا. و(لن) لتأكيدِ النَّفيِ [819] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/337). .
- قَولُه: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا التَّبديلُ: تَغييرُ الشَّيءِ عمَّا كان عليه مع بَقاءِ مادَّتِه، والتَّحويلُ: نقْلُه مِن مكانٍ إلى آخَرَ، وقال ذلك مع أنَّ سُنَّةَ اللهِ لا تُبدَّلُ ولا تُحوَّلُ؛ لأنَّه أرادَ بالأوَّلِ أنَّ العذابَ لا يُبدَّلُ بغَيرِه، وبالثَّاني أنَّه لا يُحوَّلُ عن مُستحِقِّه إلى غيرِه، وجُمِعَ بيْنَهما هنا تَتميمًا لتهديدِ المُسيءِ لقُبحِ مَكْرِه في قَولِه تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [820] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 470). .
- و(سُنَّةُ الأوَّلينَ) أُضيفتْ أوَّلًا إليهم؛ لأنَّها سُنَّتْ بهم، ثم أُضيفتْ (السُّنَّةُ) ثانيًا إلى اللهِ؛ لأنَّه هو الَّذي سنَّها، وبيَّنَ تَعالى أنَّ الانتِقامَ مِن مُكَذِّبي الرُّسُلِ عادةٌ لا يُبدِّلُها بغَيرِها، ولا يُحوِّلُها إلى غيرِ أهْلِها، وأنَّ ذلك كائن لا مَحالةَ [821] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/42). .
3- قَولُه تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا هذا استِشهادٌ على ما قبْلَه مِن جَرَيانِ سُنَّتِه تعالى على تَعذيبِ المُكذِّبينَ بما يُشاهِدونَه، واستِدلالٌ على أنَّ مُساواتَهم للأوَّلينَ تُنذِرُ بأنْ سيَحُلَّ بهم ما حلَّ بأولئك مِن نَوعِ ما يُشاهِدونَه مِن آثارِ استِئْصالِهم في دِيارِهم [822] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/156، 157)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/338). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... للإنكارِ والنَّفيِ [823] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/156، 157)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/169). .
- وقولُه: وَكَانُوا أَشَدَّ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال في (الرُّومِ): كَانُوا أَشَدَّ [الروم: 9] مِن غَيرِ واوٍ، وهنا بزيادةِ الواوِ؛ قيل: وجْهُ ذلِك أنَّ الجُملةَ في سُورةِ (الرُّومِ) استِئنافُ إخبارٍ عمَّا كانوا عليه، وهنا: وَكَانُوا أي: وقد كانوا؛ فالجُملةُ حالٌ، فهُما مَقصدانِ [824] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/43). .
- قولُه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ لَمَّا عَرَض وصْفَ الأُمَمِ السَّابقةِ بأنَّهم أشدُّ قُوَّةً مِن قُريشٍ في مَعرضِ التَّمثيلِ بالأوَّلينَ تَهديدًا واستِعدادًا لِتَلقِّي مِثلِ عذابِهم؛ أتْبَعَ ذلك باحتِراسٍ عن الطَّماعيةِ في النَّجاةِ مِن مِثلِ عَذابِهم بعِلَّةِ أنَّ لهم مِن المنجِّياتِ ما لم يكُنْ للأُمَمِ الخاليةِ، كزَعْمِهم: أنَّ لهم آلهةً تَمنَعُهم مِن عَذابِ اللهِ بشَفاعتِها أو دِفاعِها؛ فقيل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. وجِيءَ بلامِ الجُحودِ في قَولِهِ: لِيُعْجِزَهُ مع (كان) المَنفيَّةِ؛ لإفادةِ تأْكيدِ نَفْيِ كُلِّ شَيءٍ يَحولُ دونَ قُدرةِ اللهِ وإرادتِه، فهذه الجُملةُ كالاحتِراسِ [825] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/338، 339). .
- وقولُه: فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ اعتِراضٌ مُقرِّرٌ لِمَا يُفهَمُ مَّما قبْلَه مِن استِئصالِ الأممِ السَّالفةِ [826] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/157). .
- وجُملةُ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا تَعليلٌ لانتفاءِ شَيءٍ يُغالِبُ مُرادَ اللهِ بأنَّ اللهَ شديدُ العِلمِ واسِعُه، لا يَخفَى عليه شَيءٌ، وبأنَّه شديدُ القُدرةِ. وقد حصَرَ هذانِ الوَصفانِ انتفاءَ أنْ يكونَ شَيءٌ يُعجِزُ اللهَ؛ لأنَّ عَجْزَ المُريدِ عن تَحقيقِ إرادتِه: إمَّا أنْ يكونَ سببُه خَفاءَ مَوضِعِ تَحقُّقِ الإرادةِ، وهذا يُنافي إحاطةَ العِلمِ، أو عدَمَ استِطاعةِ التَّمكُّنِ منه، وهذا يُنافي عُمومَ القُدْرةِ [827] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/157)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/339). .
4- قَولُه تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا
- قولُه: عَلَى ظَهْرِهَا كنايةٌ عن الأرضِ، وعُلِمَ ذلك ممَّا تقدَّمَ وممَّا تأخَّرَ؛ فقد تقدَّمَ قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [فاطر: 44] ؛ فهو أقرَبُ المذكوراتِ الصَّالحةِ لِعَودِ الهاءِ إليها، وأمَّا ما تأخَّرَ فقَولُه: مِنْ دَابَّةٍ؛ لأنَّ الدَّوابَّ على ظهرِ الأرضِ [828] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/249). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ: قال هنا وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا، وفي سُورةِ (النَّحلِ) قال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61] ؛ فقال في هذه الآيةِ: بِمَا كَسَبُوا، وقال في سُورةِ (النَّحلِ): بِظُلْمِهِمْ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ (مَا كَسَبُوا) يَعُمُّ الظُّلمَ وغيرَه. وأُوثِرَ في سُورةِ (النَّحلِ) بِظُلْمِهِمْ؛ لأنَّها جاءت عَقِبَ تَشنيعِ ظُلمٍ عَظيمٍ مِن ظُلْمِهم، وهو: ظُلْمُ بَناتِهم المَوْءوداتِ، وهنالك قال: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا [النحل:61] ، وهنا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا، وهو تَفنُّنٌ [829] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/339، 340). .
- وفيه أيضًا مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا، وقال هنالك في سُورةِ (النَّحلِ): لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61] ؛ فما هنا إيماءٌ إلى الحِكمةِ في تأخيرِهم إلى أجَلٍ مُسمًّى، والتَّقديرُ: فإذا جاء أجَلُهم أخَذَهم بما كَسَبوا، ولهذا فقولُه: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا دليلُ جَوابِ (إذا) وليس هو جوابَها، ولذلك كان حَقيقًا بقَرْنِه بفَاءِ التَّسبُّبِ. وأمَّا ما في سُورةِ (النَّحلِ) فهو الجَوابُ، وهو تَهديدٌ بأنَّهم إذا جاء أجَلُهم وقَعَ بهم العذابُ دون إمهالٍ [830] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/340). .
- وقولُه: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا هو أيضًا جوابٌ عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ أنْ يُقالَ: ماذا جَنَتِ الدَّوابُّ حتَّى يَستأصِلَها اللهُ بسببِ ما كَسَبَ النَّاسُ، وكيف يُهلَكُ كُلُّ مَن على الأرضِ، وفيهم المُؤمِنونَ والصَّالِحونَ؟ فأُفيدَ أنَّ اللهَ أعلَمُ بعَدلِه؛ فأمَّا الدَّوابُّ فإنَّها مَخلوقةٌ لأجْلِ الإنسانِ، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ؛ فإهلاكُها قد يكونُ إنذارًا للنَّاسِ لعلَّهم يُقلِعون عن إجْرامِهم، وأمَّا حالُ المُؤمِنينَ في حينِ إهلاكِ الكُفَّارِ، فاللهُ أعلَمُ بهم، فلعلَّ اللهَ أنْ يَجعَلَ لهم طريقًا إلى النَّجاةِ كما نجَّى هودًا ومَن معه، ولعلَّه إنْ أهلَكَهم أنْ يُعوِّضَ لهم حُسنَ الدَّارِ [831] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/340). .
- وقولُه: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا تَوعُّدٌ للمُكذِّبينَ، أي: فيُجازيهم بأعْمالِهِم [832] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/43). .