موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيات (1-7)

ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ

غَريبُ الكَلِماتِ:

يُفْتَنُونَ: أي: يُختَبَرونَ، ويُمتَحنونَ، والفِتْنةُ مأخوذةٌ مِنَ الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لِتَظهَرَ جَودتُه مِن رداءتِه [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 337)، ((تفسير ابن جرير)) (11/373)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472، 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 623، 624). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
قولُه تعالى: أَنْ يُتْرَكُوا: مَصدَرٌ مُؤَوَّلٌ سَدَّ مَسَدَّ مَفعولَي (حَسِبَ). وأَنْ يَقُولُوا مَنصوبٌ على نزعِ الخافِضِ، وهو الباءُ، أو اللَّامُ، أي: بأن يَقولوا، أو لِأن يقولوا. وقيل: بدَلٌ مِنْ أَنْ يُتْرَكُوا [6] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/159)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/550)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1029)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/5). .

المعنى الإجماليُّ:

افتُتِحَت هذه السُّورةُ بالحروفِ المقَطَّعةِ؛ لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ إذ تُبرِزُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بالإتيانِ بشَيءٍ مِن مِثلِه، مع أنَّه مُرَكَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ الَّتي يَتحدَّثون بها!
ثمَّ قال تعالى: أحَسِبَ النَّاسُ إذا آمَنوا أنَّهم يُتركُونَ مِن غيرِ أن يُمتحَنوا؟! ولقد اختبَرْنا الَّذين مِن قَبْلِهم وابتَلَيْناهم، فلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الصَّادقينَ في إيمانِهم مع البلاءِ، ولَيَعلَمَنَّ الكاذبينَ في دَعْوى الإيمانِ عِلمَ مُشاهَدةٍ يَترتَّبُ عليه جزاؤُهم، بل أَظَنَّ الَّذين يَرتَكِبونَ السَّيِّئاتِ أنَّهم يُعجِزونَنا ويُفلِتونَ مِنَّا فلا نُعَذِّبُهم؟! فما أسْوأَه مِن ظَنٍّ، وما أفسَدَه مِنِ اعتقادٍ!
ثمَّ ذكَر الله تعالى ما يُشعِرُ المؤمنينَ بالطُّمأنينةِ، ويُدخِلُ عليهم السُّرورَ، فقال: مَن كان يَطمَعُ في لقاءِ اللهِ يومَ القيامةِ فإنَّ القيامةَ واقِعةٌ لا مَحالةَ، واللهُ وَحْدَه هو السَّميعُ العَليمُ، ومَن جاهَدَ نفْسَه على فِعلِ ما أمَرَه اللهُ وترْكِ ما نهاه عنه، فإنَّما نَفْعُ ذلك لنَفْسِه في الدُّنيا والآخرةِ؛ إنَّ اللهَ غنيٌّ عن جميعِ خَلْقِه. والَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ لَنُكَفِّرنَّ عنهم سيِّئاتِهم، ولا نؤاخِذُهم بها، ولَنُثيبَنَّهم بأحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَه مِنَ الطَّاعاتِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

الم (1).
هذه الحروفُ المقَطَّعةُ الَّتي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بمِثلِه، مع أنَّه مُرَكَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ الَّتي يَتحدَّثونَ بها [7] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/206)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/24). .
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2).
أي: أظَنَّ النَّاسُ أنَّهم يَسْلَمونَ مِن الفِتنةِ إذا آمَنوا فيُتركُونَ مِن غَيرِ أن يُمتحَنوا [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/355، 356)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/182)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/13)، ((تفسير ابن كثير)) (6/263)، ((اختيار الأولى)) لابن رجب (ص: 123)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/202، 203)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/155). ؟!
كما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142] .
وقال تبارك وتعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] .
وقال سُبحانَه وتعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] .
وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ أشَدُّ بَلاءً؟ قال: الأنبياءُ، ثمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ، فيُبتلَى الرَّجُلُ على حَسَبِ دِينِه؛ فإنْ كان دينُه صُلْبًا اشتَدَّ بَلاؤُه، وإنْ كان في دينِه رِقَّةٌ ابتُليَ على حَسَبِ دينِه، فما يَبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يَترُكَه يمشي على الأرضِ ما عليه خَطيئةٌ )) [9] أخرجه الترمذي (2398) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7481)، وابن ماجه (4023)، وأحمد (1494). قال الترمذيُّ: (حسَنٌ صحيحٌ)، وكذا قال الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2398)، وذكر ثبوتَه ابنُ القيِّمِ في ((طريق الهجرتين)) (193)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (3/52). .
وعن حُذَيْفةَ رَضيَ الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ كالحَصيرِ عُودًا عُودًا [10] أي: تَظهَرُ بها فِتنةٌ بعدَ أخرى، كما يُنسَجُ الحَصيرُ عُودًا عُودًا. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (8/3378). ، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ [11] نُكِتَ: أي: نُقِطَ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/172). فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قَلبٍ أنكَرَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ بَيضاءُ، حتَّى تَصيرَ على قَلبينِ: على أبيضَ مِثلِ الصَّفا [12] الصَّفا: أي: الحَجَرِ الأملَسِ الَّذي لا يَعلَقُ به شَيءٌ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/172). ، فلا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا [13] مِرْبادًّا: أي: صار كلَونِ الرَّمادِ، مِنَ الرُّبْدةِ: لَونٌ بيْنَ السَّوادِ والغُبْرةِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (8/3378). ، كالكُوزِ مُجَخِّيًا [14] مُجَخِّيًا: أي: مائِلًا مَنكوسًا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/173). ، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلَّا ما أُشرِبَ مِن هَواهُ)) [15] رواه مسلم (144). .
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3).
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: ولقد اختبَرْنا الماضِينَ مِن قَبلِ هذه الأُمَّةِ وابتَلَيْناهم [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/357)، ((تفسير السمرقندي)) (2/625)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 828)، ((تفسير القرطبي)) (13/324). .
عن خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((شَكَوْنا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مُتوَسِّدٌ بُرْدةً [17] أي: كِساءً مُخَطَّطًا، والمعنى: جاعِلٌ البُرْدةَ وِسادةً له، مِن تَوسَّدَ الشَّيءَ: جعَلَه تحتَ رأسِه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3747). له في ظِلِّ الكَعبةِ، قُلْنا له: ألَا تَستَنصِرُ لنا؟ ألَا تدعو اللهَ لنا؟ قال: كان الرَّجُلُ فيمَنْ قَبْلَكم يُحفَرُ له في الأرضِ، فيُجعَلُ فيه، فيُجاءُ بالمِنشارِ فيُوضَعُ على رأسِه فيُشَقُّ باثنَتَينِ، وما يَصُدُّه ذلك عن دِينِه، ويُمْشَطُ بأمْشاطِ الحديدِ ما دُونَ لَحمِه مِن عَظمٍ أو عَصَبٍ، وما يَصُدُّه ذلك عن دينِه، واللهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ حتَّى يَسيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ لا يَخافُ إلَّا اللهَ أو الذِّئبَ على غَنَمِه، ولَكِنَّكم تَستَعجِلونَ )) [18] رواه البخاري (3612). .
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.
أي: فلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الصَّادِقينَ في إيمانِهم الثَّابِتينَ عليه مع البلاءِ، ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ في دَعْوى الإيمانِ، عِلمَ رؤيةٍ ومُشاهَدةٍ يَترتَّبُ عليه الجزاءُ، ويُظهِرُه لعِبادِه، وقد كان عَلِمَه في الأزَلِ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/357)، ((تفسير الثعلبي)) (7/270)، ((تفسير ابن جزي)) (2/122)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/200)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/390)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 14، 15). قال ابن جُزَي: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: يعلمُ صدقَهم علمًا ظاهرًا في الوجودِ، وقد كان علِمه في الأزلِ، والصِّدقُ والكذِبُ في الآيةِ يعني بهما: صِحَّةَ الإيمانِ والثُّبوتَ عليه، أو ضِدَّ ذلك). ((تفسير ابن جزي)) (2/122). وقال البخاري في ((صحيحه)) (6/113): (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ: عَلِمَ اللهُ ذلك، إنَّما هي بمنزلةِ: فلِيَمِيزَ اللهُ؛ كقولِه: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال: 37] ). ويُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/113). .
كما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة: 16] .
وقال تبارك وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31] .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أُعْقِب تَثْبيتُ المؤمِنينَ على ما يُصيبُهم مِن فُتونِ المشركينَ وما في ذلك مِنَ الوعدِ والوعيدِ، بزَجْرِ المشركينَ على ما يَعملونَه مِنَ السَّيِّئاتِ في جانبِ المؤمنينَ، وأعظَمُ تلك السَّيِّئاتِ فُتونُهم المسلمينَ [20] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/206). .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا.
أي: بل [21] قال السمينُ الحلبيُّ: (أَمْ هذه مُنقطِعةٌ، فتُقدَّرُ بـ «بل» والهمزةِ عندَ الجمهورِ، والإضرابُ انتِقالٌ لا إبطالٌ). ((الدر المصون)) (9/8). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 18). وقيل: أَمْ مُعادلةٌ للألفِ في قولِه: أَحَسِبَ [العنكبوت: 2] . وممَّن اختاره: ابنُ عطية، وابنُ جُزَي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/306)، ((تفسير ابن جزي)) (2/122)، ((تفسير العليمي)) (5/230). أظَنَّ الَّذين يَرتَكِبونَ السَّيِّئاتِ [22] قيل: المرادُ بالسَّيِّئاتِ هنا: الكُفرُ والشِّركُ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، وابنُ جرير، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/372)، ((تفسير ابن جرير)) (18/360)، ((تفسير القرطبي)) (13/326). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/360). وقيل: السَّيِّئاتُ هنا: فِتنةُ المؤمِنينَ وتَعذيبُهم والتَّنكيلُ بهم؛ فالَّذين يَعملونَ السَّيِّئاتِ هم الفاتِنونَ للمُؤمِنينَ. وممَّن قال بذلك: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/206). وقال ابنُ عطيَّة: (لفظُ الآيةِ يَعُمُّ كلَّ عاصٍ وعاملِ سَيِّئةٍ مِن المسلمينَ وغيرِهم... السَّيِّئَاتِ الكفرُ وما اشتمَلَ عليه، ويَدخُلُ في ذلك المعاصي مِن المؤمنينَ مع الأعمالِ الصَّالحاتِ واجتنابِ الكبائرِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/306، 307). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 18). أنَّهم يُعجِزونَنا ويُفلِتونَ مِنَّا، فلا نُعَذِّبُهم [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/360)، ((تفسير القرطبي)) (13/326)، ((تفسير ابن كثير)) (6/263، 264)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/392). ؟!
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور: 19] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 57، 58].
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10].
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
أي: بِئسَ ما يَظُنُّه المُشِركونَ مِن أنَّهم يُعجِزونَ اللهَ ويُفلِتونَ منه، فلا يُؤاخِذُهم بسَيِّئاتِهم الَّتي عَمِلوها، وهو القاهِرُ القادِرُ على كُلِّ شَيءٍ، فما أسْوَأَه مِن ظَنٍّ، وما أفسَدَه مِن اعتقادٍ [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/360)، ((تفسير القرطبي)) (13/327)، ((تفسير ابن كثير)) (6/264)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/392)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 18، 19). !
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5).
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ.
أي: مَن كان يَطمَعُ في لِقاءِ اللهِ يَومَ القيامةِ، فإنَّ القيامةَ واقِعةٌ قَريبًا لا مَحالةَ [25] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/307)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/462)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/52)، ((تفسير ابن كثير)) (6/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 21). .
كما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ [البقرة: 223] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ  [الانشقاق: 6] .
وقال سُبحانَه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] .
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
أي: واللهُ وَحْدَه هو السَّميعُ لجَميعِ الأصواتِ، العَليمُ بكُلِّ الكائناتِ؛ فهو السَّميعُ لِقَولِ مَن قال: آمَنَّا بالله، العليمُ بصِدقِ أو كَذِبِ دَعواهم، ويَعلَمُ مَن كان صادِقًا في رَجاءِ لِقائِه، فيُثيبُه ويَمنَحُه ما يَرجوه [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/361)، ((تفسير ابن عطية)) (4/307)، ((تفسير ابن كثير)) (6/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626). .
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حَثَّ اللهُ تعالى على العَمَلِ؛ بيَّن أنَّه ليس إلَّا لِنَفعِ العامِلِ [27] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/393). ، فقال:
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ.
أي: ومَن بَذَلَ جُهدَه في حَمْلِ نفْسِه على فِعْلِ ما أمَرَه اللهُ، وتَرْكِ ما نهاه عنه؛ وتحمَّلَ المَشاقَّ في سَبيلِ اللهِ، وقِتالِ أعدائِه، ومُجاهَدةِ شَيطانِه- فإنَّما نَفْعُ ذلك وثَوابُه لِنَفْسِه في الدُّنيا والآخِرةِ [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/361)، ((تفسير القرطبي)) (13/327)، ((تفسير ابن كثير)) (6/264)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/210، 211)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 26). .
كما قال تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ [الروم: 44، 45].
إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.
أي: إنَّ اللهَ غَنيٌّ عن جَميعِ خَلْقِه، فلا تَنفَعُه أعمالُهم وعِبادتُهم، كما لا تَضُرُّه مَعصيتُهم [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/361)، ((البسيط)) للواحدي (17/495)، ((تفسير السمعاني)) (4/167))، ((تفسير القرطبي)) (13/327)، ((تفسير الشوكاني)) (4/223). .
عن أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رَضيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما روَى عن اللهِ تبارَكَ وتعالى أنَّه قال: ((... يا عِبادي إنَّكم لن تَبلُغوا ضَرِّي فتَضُرُّوني، ولن تَبلُغوا نَفعي فتَنفَعوني، يا عِبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقَى قَلبِ رَجُلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شَيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ واحدٍ، ما نقَص ذلك مِن مُلكي شَيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيتُ كُلَّ إنسانٍ مَسألتَه، ما نقَصَ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يَنقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدخِلَ البَحرَ )) [30] رواه مسلم (2577). .
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى إجمالًا أنَّ مَن يَعملُ صالحًا فلِنَفْسِه؛ بيَّن مفصِّلًا بعضَ التَّفصيلِ جزاءَ المطيعِ، الصَّالحِ عمَلُه؛ فقال [31] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/29). :
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ.
أي: والَّذين آمَنوا بما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وثَبَتوا على إيمانِهم عندَ البَلاءِ، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ بإخلاصٍ لله ومُتابَعةٍ لِشَرعِه؛ لَنُبطِلَنَّ سَيِّئاتِهم، ولَنعفُونَّ عن مؤاخَذتِهم بها [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/361)، ((الوسيط)) للواحدي (3/413)، ((تفسير القرطبي)) (13/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 2830). قال الزمخشري: (إمَّا أن يريدَ قَومًا مُسلِمينَ صالحينَ قد أساؤوا في بعضِ أعمالِهم، وسيِّئاتُهم مَغمورةٌ بحَسَناتِهم، فهو يُكَفِّرُها عنهم، أي: يُسقِطُ عِقابَها بثوابِ الحسَناتِ... وإمَّا قومًا مُشرِكينَ آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، فاللهُ عزَّ وجَلَّ يُكفِّرُ سيِّئاتِهم بأن يُسقِطَ عِقابَ ما تقدَّمَ لهم مِنَ الكُفرِ والمعاصي). ((تفسير الزمخشري)) (3/441). .
كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 110].
وقال سُبحانَه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] .
وقال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] .
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
أي: ولَنُثيبَنَّ أولئك المؤمِنينَ الَّذين يَعمَلونَ الصَّالِحاتِ بأحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَه مِن الطَّاعاتِ [33] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/413)، ((تفسير القرطبي)) (13/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626). ممَّن اختار أنَّ قَولَه تعالى: أَحْسَنَ: يعودُ إلى العمَلِ، أي: نُجازيهم بأحسَنِ أعمالِهم، الَّتي هي الطَّاعاتُ: الواحديُّ، والقرطبيُّ، والسعديُّ. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاس في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3035). قال السعدي: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ وهي أعمالُ الخَيرِ؛ مِن واجباتٍ ومستحَبَّاتٍ، فهي أحسَنُ ما يعملُ العبدُ؛ لأنَّه يعملُ المباحاتِ أيضًا وغيرَها). ((تفسير السعدي)) (ص: 626). وقيل: أَحْسَنَ يعودُ إلى الجزاءِ، أي: يجازيهم اللهُ أحسَنَ جزاءٍ على ما عَمِلوه. وممَّن قال بذلك: ابنُ كثير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/264)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 30). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (20/212). قال ابن عثيمين: (وأحسَنُ جزاءٍ بيَّنه الله تعالى في قولِه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] ، وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة: 261] ، فهذا الجزاءُ أحسَنُ جزاءٍ؛ لأنَّ الجزاءَ غايتُه أن يكونَ مِثلَما فعَلَ الفاعلُ، لكن هنا يُجازَى بأحسَنَ وأعظَمَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 30). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- لا بُدَّ أنْ يُبتلَى المرءُ في أمرِ اللهِ ونَهْيِه؛ تارةً يَترُكُ ما يَهوى، وتارةً يَفعَلُ ما يَكرهُ، كما يُبتلَى في الحوادِثِ المقَدَّرةِ بمِثلِ ذلك، وقد قال سُبحانَه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [34] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/104). .
2- إنَّ المؤمنَ لا بدَّ أن يُفتنَ بشَيءٍ مِن الفِتَنِ المؤلِمةِ الشَّاقَّةِ عليه؛ ليُمتحَنَ إيمانُه، كما قال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، ولكن الله يَلطُفُ بعبادِه المؤمنينَ في هذه الفِتَنِ، ويُصَبِّرُهم عليها، ويُثَبِّتُهم فيها، ولا يُلقيهم في فتنةٍ مُهلِكةٍ مُضِلَّةٍ تَذهَبُ بدينِهم، بل تَمُرُّ عليهم الفِتَنُ وهم منها في عافيةٍ [35] يُنظر: ((اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى)) لابن رجب (ص: 123). .
3- الفِتنةُ كِيرُ القُلوبِ، ومَحَكُّ الإيمانِ، وبها يتبيَّنُ الصَّادِقُ مِنَ الكاذِبِ؛ قال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، فالفِتنةُ قَسَّمت النَّاسَ إلى صادقٍ وكاذبٍ، ومؤمِنٍ ومنافقٍ، وطَيِّبٍ وخبيثٍ؛ فمَن صبَرَ عليها كانت رحمةً فى حَقِّه، ونجا بصبرِه مِن فِتنةٍ أعظَمَ منها، ومَن لم يصبِرْ عليها وقعَ فى فتنةٍ أشَدَّ منها؛ فالفِتنةُ لا بُدَّ منها فى الدُّنيا والآخرةِ، كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات: 13، 14]، فالنَّارُ فِتنةُ مَن لم يصبِرْ على فِتنةِ الدُّنيا، ومَن صبَر كانت الفِتنةُ مُمَحِّصةً له، ومُخَلِّصةً مِنَ الذُّنوبِ، كما يُخلِّصُ الكِيرُ خَبَثَ الذَّهبِ والفِضَّةِ [36] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/162). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ فيه أنَّ هذه سُنَّةٌ قَديمةٌ جاريةٌ في الأُمَمِ كُلِّها؛ فلا ينبغي أن يُتوَقَّعَ خِلافُها [37] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/188). .
5- قال تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، وقال أيضًا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [البقرة: 214]، وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142] ، وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [التوبة: 16] . في هذه الآياتِ سِرٌّ لطيفٌ، وعِبرةٌ وحكمةٌ، وذلك أنَّ أبانا آدَمَ كان في الجنَّةِ يأكُلُ منها رَغَدًا حيثُ شاءَ في أتَمِّ نعمةٍ، وأكمَلِ سُرورٍ، وأرْغَدِ عَيشٍ، ولو تَناسَلْنا فيها لَكُنَّا في أرغَدِ عَيشٍ وأتمِّ نعمةٍ، ولكنَّ إبليسَ عليه لعائنُ اللهِ احتالَ بمَكْرِه وخِداعِه على أبَوَيْنا حتَّى أخرَجَهما مِنَ الجنَّةِ إلى دارِ الشَّقاءِ والتَّعبِ، وحينَئذٍ حكَم اللهُ تعالَى أنَّ جنَّتَه لا يَدخُلُها أحدٌ إلَّا بعدَ الابتلاءِ بالشَّدائدِ وصعوبةِ التَّكاليفِ؛ فعلى العاقلِ مِنَّا معاشِرَ بني آدمَ أنْ يَتصَوَّرَ الواقعَ، ويَعلَمَ أنَّنا في الحقيقةِ سَبْيٌ سَباه إبليسُ بمكرِه وخِداعِه مِنْ وطنِه الكريمِ إلى دارِ الشَّقاءِ والبلاءِ، فيُجاهِدَ عدوَّه إبليسَ ونفْسَه الأمَّارةَ بالسُّوءِ حتَّى يَرجِعَ إِلى الوطنِ الأوَّلِ الكريمِ؛ ولهذه الحكمةِ أكثرَ اللهُ تعالَى في كتابِه مِن ذِكرِ قِصَّةِ إبليسَ مع آدمَ لِتَكونَ نُصْبَ أعيُنِنا دائمًا [38] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/209). .
6- قَولُ الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ هذه الآيةُ وإن كانت وارِدةً في شأنِ المُشرِكينَ المُؤْذِينَ للمُؤمِنينَ -على أحدِ الأقوالِ-؛ فهي تُشيرُ إلى تحذيرِ المُسلِمينَ مِن مُشابهتِهم في اقترافِ السَّيِّئاتِ، استِخفافًا بوعيدِ اللهِ عليها؛ لأنَّهم في ذلك يأخُذونَ بشَيءٍ مِن مُشابهةِ حِسْبانِ الانفِلاتِ، وإن كان المؤمِنُ لا يَظُنُّ ذلك، ولكِنَّه يُنَزَّلُ مَنزِلةَ مَن يَظُنُّه؛ لإعراضِه عن الوعيدِ حين يَقتَرِفُ السَّيِّئةَ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/207). .
7- قَولُ الله تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ يُوجِبُ إكثارَ العبدِ مِن العَمَلِ الصَّالحِ، وإتقانَه له؛ وذلك لأنَّ مَن يَفعلُ فِعلًا لأجْلِ مَلِكٍ، ويَعلَمُ أنَّ المَلِكَ يَراه ويُبصِرُه؛ يُحسِنُ العملَ ويُتقِنُه، وإذا عَلِمَ أنَّ نَفْعَه له، ومُقَدَّرٌ بقَدْرِ عَمَلِه؛ يُكثِرُ منه، فإذا قال اللهُ: (إنَّه سميعٌ عَليمٌ)، فالعَبدُ يُتقِنُ عَمَلَه ويُخلِصُه له، وإذا قال بأنَّ جِهادَه لِنَفْسِه، يُكثِرُ منه [40] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/29). .
8- مَن آمَنَ بالرُّسُلِ وأطاعَهم عاداه أعداؤُهم وآذَوْهُ، فابتُليَ بما يؤْلِمُه، وإنْ لم يؤْمِنْ بهم ولم يُطِعْهم عُوقِبَ في الدُّنيا والآخرةِ، فحصَلَ له ما يؤْلِمُه، وكان هذا المؤْلِمُ له أعظَمَ ألَمًا وأَدْوَمَ مِن ألَمِ اتِّباعِهم؛ فلا بُدَّ مِن حصولِ الألمِ لكلِّ نفْسٍ آمنَتْ أو رَغِبَتْ عن الإيمانِ، لكنَّ المؤْمِنَ يَحصُلُ له الألمُ في الدُّنيا ابتِداءً، ثمَّ تَكونُ له العاقبةُ في الدُّنيا والآخرةِ، والمُعْرِضَ عن الإيمانِ تَحصُلُ له اللَّذَّةُ ابتِداءً، ثمَّ يَصيرُ إلى الألمِ الدَّائمِ.
ولَمَّا كان الألمُ لا مَحِيصَ منه الْبَتَّةَ، عَزَّى اللهُ سبحانَه مَنِ اختار الألمَ اليسيرَ المُنقطِعَ على الألمِ العظيمِ المُستمِرِّ، بقولِه: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فضرَبَ لمُدَّةِ هذا الألمِ أجَلًا لا بُدَّ أنْ يأتيَ، وهو يومُ لقائِه، فيَلْتَذَّ العبدُ أعظَمَ اللَّذَّةِ بما تحَمَّلَ مِنَ الألمِ مِنْ أجْلِه وفي مَرْضاتِه، وتَكونُ لَذَّتُه وسُرورُه وابتِهاجُه بقَدْرِ ما تحمَّلَ مِنَ الألمِ في اللهِ وللهِ [41] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/13-15). .
9- في قَولِه تعالى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أنَّ مَن لم يُجاهِدْ فإنَّ ضَرَرَه على نفْسِه؛ لأنَّه إذا كانت منفعةُ الجهادِ له؛ فمَضَرَّةُ تَركِه عليه [42] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 27). .
10- قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ قيل: هذا تَعزيةٌ للمُشتاقينَ وتَسليةٌ لهم، أي: أنا أعلَمُ أنَّ مَن كان يرجو لقائي فهو مُشتاقٌ إلَيَّ؛ فقد أجَّلْتُ له أجَلًا يكونُ عن قَريبٍ، فإنَّه آتٍ لا مَحالةَ، وكُلُّ آتٍ قريبٌ، وفيه لطيفةٌ أخرى: وهي تعليلُ المُشتاقينَ برَجاءِ اللِّقاءِ [43] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/52). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال تعالى: الم هذه الحروفُ الهجائيَّةُ ليس لها معنًى، وابتداءُ السُّورةِ بهذه الحروفِ المقطَّعةِ له مَغزًى؛ وهو الإشارةُ إلى أنَّ هذا القرآنَ الكريمَ -الَّذي أعجَزَكم مَعْشَرَ العربِ، وأعجَزَ غيرَكم- لَمْ يأتِ بحروفٍ جديدةٍ لا تَعرِفونها، وإنَّما أتَى بحروفٍ تَعرِفونها، وتُرَكِّبُون منها كلامَكم، ومع ذلك أعجَزَكم! ولهذا لا تَكادُ تَجِدُ سورةً مَبدوءةً بهذه الحروفِ الهجائيَّةِ إلَّا وجدْتَ بعدَها ذِكْرَ القرآنِ أو ما هو مِن خصائصِ القرآنِ، انظرْ قولَه سبحانه وتعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة: 1، 2]، وقوله: الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران: 1 - 3]، وهكذا. وأمَّا قولُه تعالى: الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا فليس فيه ذِكْرُ القرآنِ، لكنْ فيها ذِكْرُ ما هو مِن لازِمِ القرآنِ، وهو قولُه: أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ؛ فإنَّ مَن آمَنَ بالقرآنِ لا بُدَّ أنْ يُفْتَنَ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 7). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (1/160). .
2- لفظُ الفِتنةِ فى كتابِ الله تعالى يُرادُ بها الامتحانُ الَّذى لم يَفتَتِنْ صاحبُه، بل خلَص مِن الافتِتانِ، ويُرادُ بها الامتِحانُ الَّذى حصَل معه افتِتانٌ.
فمِنَ الأوَّلِ: قولُه تعالى لموسى عليه السَّلامُ: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه: 40] .
ومِنَ الثَّانى: قولُه تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال: 39] ، وقولُه: أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49] .
ويُطلَقُ على ما يَتناوَلُ الأمْرَينِ؛ كقولِه تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [45] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/159). .
3- ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ المُسيءِ مُجمَلًا بقولِه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا إشارةً إلى التَّعذيبِ مُجمَلًا، وذكر حالَ المُحسِنِ مُجمَلًا بقولِه: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ، ومُفَصَّلًا بقولِه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ؛ ليكونَ ذلك إشارةً إلى أنَّ رحمتَه أتَمُّ مِن غَضَبِه، وفَضْلَه أعَمُّ مِن عَدلِه [46] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/31). .
4- قال الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ هذا إبطالٌ لمذهَبِ مَن يقولُ: (التَّكاليفُ إرشاداتٌ، والإيعادُ عليه ترغيبٌ وترهيبٌ، ولا يُوجَدُ مِنَ الله تعذيبٌ، ولو كان يُعَذِّبُ ما كان عاجِزًا عن العذابِ عاجِلًا، فلمَ كان يؤخِّرُ العقابَ؟!)، فقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا، يعني: ليس كما قالوا، بل يُعَذِّبُ مَن يُعَذِّبُ، ويُثيبُ مَن يثيبُ بحُكمِ الوعدِ والإيعادِ، واللهُ لا يُخلِفُ الميعادَ، وأمَّا الإمهالُ فلا يُفضي إلى الإهمالِ، والتَّعجيلُ في جزاءِ الأعمالِ شُغلُ مَن يخافُ الفَوتَ لولا الاستِعجالُ [47] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/27). .
5- قَولُ الله تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ فيه سؤالٌ: كيف وقَعَ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ جوابًا للشَّرطِ؟
الجوابُ: أنَّه إذا كان وقتُ اللِّقاءِ آتيًا كان اللِّقاءُ آتيًا لا محالةَ، كما تقولُ: (من كان يرجو لِقاءَ المَلِك، فإنَّ يومَ الجُمُعةِ قَريبٌ)، إذا عُلِمَ أنَّه يَقعُدُ للنَّاسِ يومَ الجُمُعةِ [48] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/125). .
6- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ فيه سؤالٌ: قَولُه فَإِنَّمَا يقتضي الحَصرَ، فينبغي أن يكونَ جِهادُ المرءِ لِنَفْسِه فحَسْبُ، ولا يَنتفِعُ به غيرُه، وليس كذلك؛ فإنَّ مَن جاهَدَ يَنتفِعُ به ومَن يريدُ هو نَفعَه، حتَّى إنَّ الوالِدَ والولَدَ ببَرَكةِ المجاهِدِ وجِهادِه ينتَفِعانِ؟
الجوابُ: ذلك نَفعٌ له؛ فإنَّ انتِفاعَ الولَدِ انِتفاعٌ للأبِ، والحَصرُ هاهنا معناه أنَّ جِهادَه لا يَصِلُ إلى الله منه نَفعٌ، ويدُلُّ عليه قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [49] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/29). .
7- قَولُه تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ قال بعضُ العارِفينَ: (لَمَّا عَلِمَ اللهُ شَوقَ المحبِّينَ إلى لقائِه، ضرَبَ لهم مَوعِدًا لِلِقاءٍ تَسكُنُ به قلوبُهم) [50] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 31). .
8- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ يُشيرُ إلى أنَّ الإنسانَ -وإن اجتهَدَ- لا بُدَّ مِن أن يَزِلَّ عن الطَّاعةِ؛ لأنَّه مَجبولٌ على النَّقصِ [51] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/125). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
- الاستفهامُ في أَحَسِبَ مُستعمَلٌ في الإنكارِ، أي: إنكارِ حِسْبانِ ذلك [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/202). .
- قولُه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا ... المُرادُ بالنَّاسِ كلُّ الَّذين آمَنوا، فالقولُ كِنايةٌ عن حُصولِ المَقولِ في نفْسِ الأمْرِ، أي: أحسِبَ النَّاسُ وُقوعَ تَركِهم لأنْ يَقولوا: آمَنَّا [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/202). !
2- قولُه تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ انتِقالٌ إلى التَّنويهِ بالفُتونِ لأجْلِ الإيمانِ باللهِ بأنَّه سُنَّةُ اللهِ في سالِفِ أهلِ الإيمانِ. وتأْكيدُ الجُملةِ بلامِ القسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ (لَقَدْ)؛ لتَنزيلِ المُؤمنينَ حينَ استَعظَموا ما نالَهم مِنَ الفِتنةِ مِن المُشركين، واستَبْطَؤوا النَّصرَ على الظَّالمين، وذُهولِهم عن سُنَّةِ الكَونِ في تلك الحالةِ: مَنزلةَ مَن يُنكِرُ أنَّ مَن يُخالِفُ الدَّهْماءَ في ضَلالِهم، ويَتجافَى عن أخلاقِهم ورَذالتِهم لا بُدَّ أنْ تَلحَقَه منهم فِتنةٌ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/203، 204). .
- قولُه: وَلَقَدْ فَتَنَّا ... مَوصولٌ بـ أَحَسِبَ أو بـ لَا يُفْتَنُونَ؛ فإذا اتَّصَل بـ لَا يُفْتَنُونَ دخَلَ في حيِّزِ مُتعلَّقِ الحِسْبانِ المُنكَرِ، أي: أحَسِبوا ألَّا يَكونوا كغيرِهم، وليس لهم أُسوةٌ بالأُمَمِ السَّالِفةِ؟! فيكونُ حالًا مِن فاعلِ لَا يُفْتَنُونَ، وإذا اتَّصَل بـ أَحَسِبَ كان حالًا مُقرِّرةً لِجَهةِ الإنكارِ، أي: أحصَلَ الحِسْبانُ والحالةُ هذه؟! وفي هذا تَنبيهٌ على الخطأِ، وفي الأوَّلِ تَخطئةٌ [55] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/439)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/133). .
- قولُه: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا فيه الْتِفاتٌ إلى الاسمِ الجليلِ اللَّهُ، حيث عدَلَ عن طَريقِ التَّكلُّمِ إلى طريقِ الغَيبةِ بإظهارِ اسمِ الجَلالةِ على أُسلوبِ الالتِفاتِ؛ لِمَا في هذا الإظهارِ مِن الجَلالةِ، ولإدخالِ الرَّوعةِ، وتربيةِ المَهابةِ؛ لِيُعلَمَ أنَّ الجزاءَ على ذلك جزاءُ مالِكِ المُلْكِ [56] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/30)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (20/309)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/206). .
- وتَكريرُ الجوابِ وَلَيَعْلَمَنَّ؛ لزِيادةِ التَّأكيدِ والتَّقريرِ [57] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/30)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (20/309). .
- وتعريفُ المُتَّصفِينَ بصِدقِ الإيمانِ بالموصولِ والصِّلةِ الماضَويَّةِ الَّذِينَ صَدَقُوا؛ لإفادةِ أنَّهم اشتَهَروا بحَدَثانِ صِدقِ الإيمانِ، وأنَّ صِدْقَهم مُحقَّقٌ. وأمَّا تعريفُ المتَّصفِينَ بالكذِبِ بطريقِ التَّعريفِ باللَّامِ وبصِيغةِ اسمِ الفاعلِ الْكَاذِبِينَ؛ فلإفادةِ أنَّهم عُهِدوا بهذا الوصفِ وتميَّزوا به، مع ما في ذلك مِنَ التَّفنُّنِ والرِّعايةِ على الفاصِلةِ [58] يُنظر: ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (20/309)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/206)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/401). .
وقيل: إنَّ وَقتَ نُزولِ الآيةِ كانت الحِكايةُ عن قَومٍ قَريبي العَهدِ بالإسلامِ في أوائِلِ إيجابِ التَّكاليفِ، وعن قومٍ مُستَديمينَ للكُفرِ مُستمِرِّينَ عليه، فقال في حَقِّ المؤمِنينَ: الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفِعلِ، أي: وُجِدَ منهم الصِّدقُ؛ فإنَّه لا يُفهَمُ مِن صيغةِ الفِعلِ التَّكرارُ والرُّسوخُ، وقال في حَقِّ الكافِرِ: الْكَاذِبِينَ بالصِّيغةِ المُنبِئةِ عن الثَّباتِ والدَّوامِ، وهي اسمُ الفاعِلِ [59] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/27). .
3- قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
- قولُه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا (أمْ) مُنقطِعةٌ، وما فيها مِن معنى (بلْ) للإضرابِ والانتقالِ عن التَّوبيخِ بإنكارِ حِسْبانِهم مَتروكينَ غيرَ مَفتونينَ إلى التَّوبيخِ بإنكارِ ما هو أبطَلُ مِن الحِسْبانِ الأوَّلِ، وهو حِسْبانُهم ألَّا يُجازَوْا بسَيِّئاتِهم [60] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/440)، ((تفسير البيضاوي)) (4/188)، ((تفسير أبي حيان)) (8/340)، ((تفسير أبي السعود)) (7/30)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/206). .
- وقولُه: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ذمٌّ لحِسْبانِهم ذلك وإبطالٌ له، فهي مُقرِّرةٌ لِمَعنى الإنكارِ في جُملةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا، فلها حُكْمُ التَّوكيدِ؛ فلذلك فُصِلَت [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/207). . والحُكمُ هنا مُستعمَلٌ في مَعنى الظَّنِّ والاعتقادِ؛ تهكُّمًا بهم بأنَّهم نَصَبوا أنفُسَهم مَنصِبَ الَّذي يَحكُمُ فيُطاعُ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/207). .
- والمَجِيءُ بالمُضارِعِ يَحْكُمُونَ قيل: للإشعارِ بأنَّ حُكْمَهم مَذمومٌ حالًا واستِقبالًا، وقيل: لأجْلِ الفاصِلةِ وقَعَ المضارِعُ مَوقِعَ الماضي اتِّساعًا [63] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/341). .
4- قولُه تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ مَسوقٌ للمؤمنينَ خاصَّةً؛ لأنَّهم الَّذين يَرْجُون لِقاءَ اللهِ؛ فالجُملةُ مُفيدةٌ التَّصريحَ بما أَوْمَأَ إليه قولُه: أَنْ يَسْبِقُونَا [العنكبوت: 4] مِن الوعْدِ بنصْرِ المؤمنينَ على عدُوِّهم، مُبَيِّنةٌ لها؛ ولذلك فُصِلَت، أي: لم تُعطَفْ على الَّتي قبْلَها، ولولا هذا الوقْعُ لكان حقُّ الإخبارِ بها أنْ يَجِيءَ بواسطةِ حرْفِ العطْفِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/207، 208). .
- وفي قَولِه: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ جَعْلُ فِعلِ الشَّرطِ فِعلَ الكَونِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ هذا الرَّجاءِ مِن فاعِلِ فِعلِ الشَّرطِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/208). .
- وعُبِّرَ بفِعلِ الرَّجاءِ يَرْجُو عن ترقُّبِ البعثِ؛ لأنَّ الكلامَ مَسوقٌ للمؤمنينَ، وهم ممَّن يَرجو لِقاءَ اللهِ؛ لأنَّهم يَترقَّبونَ البعثَ؛ لِمَا يَأْمُلون مِنَ الخَيراتِ فيه [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/209). .
- وأَجَلَ اللَّهِ يجوزُ أنْ يكونَ الوقتَ الَّذي عيَّنَه اللهُ في عِلْمِه للبعثِ والحسابِ؛ فيكونَ مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ، ومَقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (فإنَّه لآتٍ)، فعُدِلَ إلى الإظهارِ، كما في إضافةِ أَجَلَ إلى اسمِ الجَلالةِ مِن الإيماءِ إلى أنَّه لا يُخلَفُ، والمقصودُ الاهتمامُ بالتَّحريضِ على الاستعدادِ. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بـ أَجَلَ اللَّهِ الأجَلَ الَّذي عيَّنَه اللهُ لنصْرِ المؤمنينَ، وانتهاءِ فِتنةِ المشركينَ إيَّاهم باستِئصالِ مَساعيرِ [67] المَساعيرُ: جمع مِسْعَرٍ ومِسْعارٍ، وهو: ما سُعِرَتْ به النَّارُ، أي: ما تُحَرَّكُ به النَّارُ مِن حَديدٍ أو خَشَبٍ. ويُقالُ لموقِدِ الحربِ: مِسْعَرُ حربٍ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (12/30). تلك الفِتنةِ، وهم صَناديدُ قُريشٍ؛ وذلك بما كان مِنَ النَّصرِ يومَ بدْرٍ، ثمَّ ما عَقِبَه إلى فتْحِ مكَّةَ؛ فيكونَ الكلامُ تَثبيتًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللمؤمنينَ حينَ اسْتبطَأَ المؤمنونَ النَّصرَ للخلاصِ مِن فِتنةِ المشركينَ حتَّى يَعْبُدوا اللهَ لا يَفْتِنوهم في عِبادتِه. وتأكيدُ جُملةِ الجزاءِ بحرْفِ التَّوكيدِ على الوجْهِ الأوَّلِ للتَّحريضِ والحثِّ على الاستعدادِ لِلِقاءِ اللهِ، وعلى الوجْهِ الثَّاني لقصْدِ تَحقيقِ النَّصرِ الموعودِ به؛ تَنزيلًا لاستِبطائِه مَنزِلةَ التَّردُّدِ؛ لقَصْدِ إذكاءِ يَقينِهم بما وعَدَ اللهُ، ولا يُوهِنُهم طولُ المدَّةِ الَّذي يُضَخِّمُه الانتظارُ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/208). .
- وإظهارُ اسمِ الجَلالةِ في جُملةِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ -مع كونِ مُقْتضى الظَّاهرِ الإضمارَ؛ لتَقدُّمِ اسمِ الجَلالةِ في جُملةِ الشَّرطِ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ-؛ لئلَّا يَلتبِسَ مُعادُ الضَّميرِ بأنْ يُعادَ إلى (مَن)؛ إذ المقصودُ الإعلامُ بأجَلٍ مَخصوصٍ، وهو وقْتُ النَّصرِ الموعودِ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/209). .
- وأيضًا في قَولِه: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ مِن فُنونِ البلاغةِ: الحذْفُ؛ فيجوزُ أنْ يكونَ الجوابُ مَحذوفًا، أي: فلْيَختَرْ مِنَ الأعمالِ ما يُؤدِّي إلى حُسنِ الثَّوابِ، ولْيَحذَرْ ما يَسوقُه إلى سُوءِ العذابِ، كما في قَولِه تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] ، وفيه مِن الوعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى. وقيل: فلْيُبادِرْ إلى ما يُحقِّقُ أمَلَه، ويُصَدِّقُ رجاءَهُ، أو ما يُوجِبُ القُربةَ والزُّلفَى [70] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/441)، ((تفسير أبي السعود)) (7/30)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/401). .
- قولُه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تَذييلٌ لتَحقيقِ حُصولِ المَرْجُوِّ والمَخُوفِ وعْدًا ووَعيدًا [71] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/138). ، ووقَعَ التَّذييلُ بوَصفَيِ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ دونَ غيرِهما مِن الصِّفاتِ العُلى؛ للإيماءِ بوصْفِ السَّميعِ إلى أنَّ اللهَ تعالى سمِعَ مَقالةَ بعضِهم مِنَ الدُّعاءِ بتَعجيلِ النَّصرِ، والإيماءِ بوصْفِ العليمِ إلى أنَّ اللهَ عَلِمَ ما في نُفوسِهم مِنِ استعجالِ النَّصرِ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/208، 209). . وقيل: لأنَّه سبَقَ القَولُ في قَولِه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا، وسَبَق الفِعلُ بقَولِه: وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وبقَولِه: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وبِقَولِه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ، ولا شَكَّ أنَّ القَولَ يُدرَكُ بالسَّمعِ، والعَمَلَ منه ما لا يُدرَكُ بالبَصَرِ، ومنه ما يُدرَكُ به، كالقُصودِ، والعِلمَ يَشمَلُهما؛ وهو السَّميعُ: يَسمَعُ ما قالوه، وهو العليمُ: يعلَمُ مَن صَدَق فيما قال ممَّن كَذَب، وأيضًا عَليمٌ يَعلَمُ ما يُعمَلُ، فيُثيبُ ويُعاقِبُ [73] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/28). .
5- قوله تعالى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
- قولُه: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ القصْرُ المُستفادُ مِن (إنَّما) هو قصْرُ الجهادِ على الكَونِ لنفْسِ المجاهِدِ، أي: الصَّالحِ نفْسِه؛ إذ العِلَّةُ لا تَتعلَّقُ بالنَّفْسِ، بلْ بأحوالِها، أي: جِهادٌ لفائدةِ نفْسِه، لا لِنَفْعٍ يَنجَرُّ إلى اللهِ تعالى؛ فالقصْرُ الحاصلُ بأداةِ (إنَّما) قصرٌ ادِّعائيٌّ؛ للتَّنبيهِ إلى ما يَغفُلون عنه مِنَ الفوائدِ المُنجَرَّةِ إلى أنفُسِ المُجاهِدينَ؛ ولذلك عقَّبَ الرَّدَّ المُستفادَ مِنَ القصْرِ بتَعليلِه بأنَّ اللهَ غَنيٌّ عن العالَمينَ، فلا يَكونُ شَيءٌ مِن الجِهادِ نافعًا للهِ تعالى، ولكنَّ نفْعَه للأُمَّةِ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/211). .
- وأكَّدَ قولَه: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لأنَّ كثرةَ الأوامرِ رُبَّما أَوجَبَت للجاهلِ ظَنَّ الحاجةِ، وذلك نُكتةُ الإتيانِ باسمِ الجلالة (الله) [75] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/394). .
6- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ يجوزُ أنْ يكونَ عطفًا على جُملةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا [العنكبوت: 4] ؛ لِمَا تَضمَّنَتْه الجُملةُ المعطوفُ عليها مِن التَّهديدِ والوعيدِ، فعطَفَ عليها ما هو وعدٌ وبِشارةٌ لِلَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، مع ما أفْضَى إلى ذِكْرِ هذا الوعدِ مِن قولِه قبْلَه: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت: 6] ؛ فإنَّ مَضمونَ جُملةِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... يُفيدُ بَيانَ كَونِ جِهادِ مَن جاهَدَ لنفْسِه. ويجوزُ أنْ تكونَ عطْفًا على جُملةِ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت: 6] ، وسُلِكَ بها طريقُ العطْفِ باعتبارِ ما أَومَأَ إليه الموصولُ وصِلَتُه مِن أنَّ سبَبَ هذا الجزاءِ الحسَنِ هو أنَّهم آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، وهو على هذا الوجْهِ: إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لنُكتةِ هذا الإيماءِ [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/211، 212). .
- وتَقديرُ قولِه: أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ: ولَنجزيَنَّهم جزاءً أحسَنَ. وإضافتُه إلى الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ؛ لإفادةِ عِظَمِ الجزاءِ كلِّه؛ فهو مُقدَّرٌ بأحسَنِ أعمالِهم [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/212). ، وذلك على أحدِ الأقوال في التَّفسيرِ.