موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (107-110)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ

غريب الكلمات:

الْفِرْدَوْسِ: أي: أعلَى الجنَّةِ، وأوسطِها، أو: مُعْظم الجنَّةِ. وقيل: هو البستانُ المخصوصُ بالحسنِ وذلك بلسانِ الرُّومِ. وأصلُ الفردوسِ: البستانُ الواسعُ الجامعُ لأصنافِ الثَّمَرِ [1579] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/430)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 296)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 220)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/21)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/321).   .
حِوَلًا: أي: تَحَوُّلًا، وأصلُ (حول): يَدلُّ على تَغيُّرِ الشَّيءِ، وانفصالِه عن غَيرِه [1580]  يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 271)، ((تفسير ابن جرير)) (15/437)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 203)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/121)، ((المفردات)) للراغب (ص: 266)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 220).   .
لَنَفِدَ: أي: فَنِيَ، والنَّفادُ: الفَناءُ، وأصلُ (نفد): يدُلُّ على انْقِطاعِ شيءٍ وفَنائِه [1581] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 465)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/458)، ((المفردات)) للراغب (ص: 817).   .
مَدَدًا: أي: زيادةً، وأصلُ (مدد): يدُلُّ على اتِّصالِ شَيءٍ بشَيءٍ في استِطالةٍ [1582] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/438)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/269)، ((المفردات)) للراغب (ص: 763)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 220).   .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبينًا الوعدَ الحسنَ للمؤمنينَ: إنَّ الذين آمَنوا، وعَمِلوا الصَّالحاتِ؛ لهم جنَّاتُ الفِردَوسِ مَنزِلًا، خالدينَ فيها أبدًا، لا يُريدونَ عنها تحوُّلًا. قُلْ -يا محمَّدُ-: لو كان ماءُ البَحرِ حِبرًا للأقلامِ التي يُكتَبُ بها كَلامُ اللهِ، لنَفِدَ ماءُ البَحرِ قبلَ أن تنفَدَ كَلِماتُ اللهِ، ولو جِئْنا بمِثلِ البَحرِ بِحارًا أُخرى مَدَدًا له. قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: إنَّما أنا بشَرٌ مِثلُكم يُوحَى إليَّ مِن ربِّي أنَّ مَعبودَكم إلهٌ واحِدٌ، فمَن كان يرجو رؤيةَ اللهِ في الآخرةِ وثوابَه، ويخشى عِقابَه؛ فلْيعمَلْ عَملًا صالِحًا لرَبِّه مُوافِقًا لشَرعِه، ولا يُشرِكْ في العبادةِ معه أحدًا غيرَه، ولا يراءِ في عبادتِه أحدًا.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما فرغَ مِن ذِكرِ الكفرةِ والأخسرينَ أعمالًا الضالِّينَ- عقَّب بذِكرِ حالةِ المؤمنينَ؛ ليظهرَ التباينُ [1583] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/546).   .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الوعيدَ؛ أتبَعَه بالوعدِ، ولَمَّا ذكر في الكُفَّارِ أنَّ جهنَّمَ نُزُلُهم؛ أتبَعَه بذِكرِ ما يُرغِّبُ في الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، فقال [1584] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢١/٥٠٢).   :
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107).
أي: إنَّ الذينَ آمنوا باللهِ وبما جاءت به رسُلُه، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحاتِ الخالِصةَ لله، الموافِقةَ لشريعتِه؛ كانت لهم بساتينُ الفِردوسِ منازِلَ يَسكُنونَها [1585] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/430)، ((تفسير ابن عطية)) (3/546)، ((تفسير ابن كثير)) (5/203). ممن اختار أنَّ النزلَ بمعنى المنزلِ: ابنُ جرير، والسمرقندي، والواحدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/430)، ((تفسير السمرقندي)) (2/365)، ((الوسيط)) للواحدي (3/170). وممن اختار أنَّ النزلَ بمعنى ما يُهيَّأُ للضيفِ: الرسعني، وابنُ كثيرٍ، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/377)، ((تفسير ابن كثير)) (7/539)، ((تفسير السعدي)) (ص: 488)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/354). قال ابن عثيمين: (قوله: كَانَتْ لَهُمْ هل المرادُ بالكينونةِ هنا الكينونةُ الماضيةُ، أو المرادُ تَحقيقُ كَونِها نُزُلًا لهم، كقَولِه تعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا؟ نقول: الأمرانِ واقعانِ، فكانت في عِلمِ اللهِ نُزُلًا لهم، وكانت نزلًا لهم على وجهِ التحقيقِ؛ لأنَّ «كان» قد يُسلَبُ منها معنى الزمانِ، ويكونُ المرادُ بها التحقيقَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 148). وقال ابنُ القيم: (الفِردوسُ: اسمٌ يقالُ على جميعِ الجنَّةِ، ويُقال: على أفضَلِها وأعلاها، كأنَّه أحقُّ بهذا الاسمِ مِن غيرِه مِن الجنَّات، وأصلُ الفِردوسِ: البُستانُ... وقال الضحَّاكُ: هي الجنَّةُ الملتفَّةُ بالأشجارِ، وهو اختيارُ المبَرِّد. وقال: الفردوسُ فيما سَمِعتُ مِن كلامِ العَرَبِ: الشَّجرُ الملتَفُّ، والأغلَبُ عليه العِنَبُ، وجمعُه الفراديسُ... قال الزجَّاج: وحقيقتُه أنَّه البستانُ الذي يجمَعُ كُلَّ ما يكونُ في البساتينِ). ((حادي الأرواح)) (ص: 99، 100). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/315). وقال السعدي: (يحتَمِلُ أن المرادَ بجنَّاتِ الفردوسِ: أعلى الجنَّة، وأوسَطُها، وأفضَلُها، وأنَّ هذا الثوابَ لِمن كَمَّلَ الإيمانَ والعَمَلَ الصَّالحَ، وهم الأنبياءُ والمقَرَّبون. ويحتَمِلُ أن يُرادَ بها جميعُ منازِلِ الجِنانِ، فيشمَلُ هذا الثَّوابُ جميعَ طَبقاتِ أهلِ الإيمانِ مِن المقَرَّبين والأبرارِ والمقتَصِدين، كلٌّ بحَسَبِ حالِه، وهذا أولى المعنيَينِ؛ لعُمومِه، ولذِكرِ الجنَّةِ بلَفظِ الجَمعِ المضافِ إلى الفِردَوس، ولأنَّ الفِردَوسَ يطلَقُ على البستانِ المحتوي على الكَرْمِ، أو الأشجارِ الملتَفَّةِ، وهذا صادِقٌ على جميعِ الجنَّةِ؛ فجنَّةُ الفردوسِ نُزُلٌ وضيافةٌ لأهلِ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 488). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/50). .
عن أبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ في الجنَّةِ مائةَ دَرَجةٍ، أعدَّها اللهُ للمُجاهِدينَ في سَبيلِ اللهِ، ما بين الدَّرَجتَينِ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سألتُم اللهَ فاسْألوه الفِردَوسَ؛ فإنَّه أوسَطُ الجنَّةِ، وأعلى الجنَّةِ، وفوقه عَرشُ الرَّحمنِ، ومنه تفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ) ) [1586] رواه البخاري (2790).   .
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108).
أي: لابثينَ في جنَّاتِ الفِردَوسِ أبدًا، لا يَطلُبونَ عنها تَحوُّلًا إلى غَيرِها، ولا يَختارونَ سِواها [1587] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/437)، ((تفسير القرطبي)) (11/68)، ((تفسير ابن كثير)) (5/204).   .
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما ذكَر الله تعالى في هذه السورةِ أنواعَ الدلائلِ والبيناتِ، وشرَح أقاصيصَ الأولينَ؛ نبَّه على كمالِ حالِ القرآنِ [1588] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢١/٥٠3)، ((تفسير الشوكاني)) (3/375).   .
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (قالت قُرَيشٌ لليهودِ: أعطُونا شَيئًا نسألُ عنه هذا الرَّجلَ، فقالوا: سَلُوه عن الرُّوحِ، فسألوه، فنَزَلت: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، قالوا: أُوتينا عِلمًا كثيرًا؛ أُوتينا التَّوراةَ، ومَن أُوتيَ التَّوراةَ فقد أُوتيَ خيرًا كثيرًا! قال: فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) [1589] أخرجه الترمذي (3140)، والنَّسائي في ((السنن الكبرى)) (11314)، وأحمد (2309) واللفظ له. قال الترمذي: (حسنٌ صحيحٌ غريبٌ مِن هذا الوجه)، وأخرجه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (99)، وصحَّح إسنادَه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (2/579)، وصحَّحه ابنُ دقيق العيد في ((الاقتراح)) (104)، وصحَّح إسنادَه الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (1/212)، وقال ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (8/253): (رجالُه رجالُ مسلمٍ)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (4/86)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3140).   .
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: لو كان البَحرُ مِدادًا للأقلامِ التي تُكتَبُ بها كَلِماتُ رَبِّي [1590] قال الرسعني: (المِداد: ما تُمَدُّ به الدواةُ مِن الحِبرِ، وأصلُه: الزيادةُ، ومجيءُ الشيءِ بعدَ الشيءِ). ((تفسير الرسعني)) (4/380). وقال ابنُ عثيمين: (والمرادُ بالكلماتِ هنا: الكلماتُ الكونيةُ والشرعيةُ). ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (1/253). وقال أيضًا: (أمَّا الشَّرعيَّةُ فهو ما أوحاه إلى رسُلِه، وأمَّا الكونيَّةُ فهي ما قضى به قَدَرُه). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 150). ، لفَرَغ ماءُ البحرِ قبل أن يُفرَغَ مِن كِتابةِ كَلِماتِ رَبِّي؛ لعدَمِ تناهي مَعلوماتِه سُبحانَه وبِحَمدِه [1591] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/438)، ((تفسير ابن عطية)) (3/547)، ((تفسير القرطبي)) (11/68)، ((تفسير ابن كثير)) (5/204)، ((تفسير السعدي)) (ص: 488)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/54). وقال الرسعني: (وإنَّما لم تنفَدْ كَلِماتُ الله؛ لأنَّ كلامَه صِفةٌ مِن صفاتِه، فلا يتطرَّقُ إليها نفادٌ). ((تفسير الرسعني)) (4/380).   .
  وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا.
أي: ولو زِدْنا البحرَ بمِثلِ ما فيه من الماءِ مَرَّةً بعدَ أُخرى، لنَفِدَ ماءُ البحرِ وما زِيدَ فيه مِن بحارٍ، ولم تَنفَدْ كَلِماتُ اللهِ [1592] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/438)، ((البسيط)) للواحدي (14/174)، ((تفسير البغوي)) (3/222)، ((تفسير القرطبي)) (11/68)، ((تفسير ابن كثير)) (5/204).   .
كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: 27] .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ كَمالَ كَلامِ اللهِ، أمَرَ مُحمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَسلُكَ طريقةَ التواضُعِ، فقال: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أي: لا امتيازَ بيني وبينكم في شَيءٍ مِن الصِّفاتِ إلَّا أنَّ اللهَ تعالى أوحى إليَّ أنَّه: لا إلهَ إلَّا اللهُ الواحدُ الأحدُ الصَّمدُ [1593] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢١/٥٠٣).  
وأيضًا لَمَّا كان الكافرون ربَّما قالوا: ما لك لا تحَدِّثُنا من هذه الكلماتِ بكُلِّ ما نسألُك عنه حيثما سألناك؟! وكانوا قد استنكروا كونَ النبيِّ بشَرًا، وجوَّزوا كونَ الإلهِ حَجَرًا! وغَيَّوا إيمانَهم به بأمورٍ سألوه في الإتيانِ بها، وكان قد ثبَت بإجابتِهم عن المسائِلِ على هذا الوجهِ أنَّه رسولٌ- أمَرَه سبحانَه أن يجيبَهم عن ذلك كُلِّه بما يَرُدُّ عليهم غلَطَهم، ويفضَحُ شُبَهَهم؛ إرشادًا لهم إلى أهَمِّ ما يَعنيهم مِنَ الحَرْفِ الذي النِّزاعُ كُلُّه دائرٌ عليه، وهو التَّوحيدُ [1594] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (١٢/١٥٣).   .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ المكَذِّبينَ برِسالتِك [1595] ممَّن جعل الخِطابَ للمُشرِكينَ: ابن جرير، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/439)، ((تفسير ابن كثير)) (5/205). وقال السعدي: (أي: قُلْ يا محمَّدُ للكُفَّارِ وغَيرِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 489).   : إنَّما أنا بشَرٌ مِثلُكم مِن بني آدَمَ، لا عِلمَ لي بالغَيبِ إلَّا ما عَلَّمَني ربِّي، وقد أوحى إليَّ بأنْ أُبلِّغَكم أنَّ مَعبودَكم الذي يستَحِقُّ العبادةَ واحدٌ لا شريكَ له [1596] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/439)، ((تفسير القرطبي)) (11/69)، ((تفسير ابن كثير)) (5/205)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/55).   .
فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا.
أي: فمَن كان يرجو رُؤيةَ اللهِ في الآخرةِ، وثوابَه، ويخشَى عِقابَه؛ فلْيَعمَلْ في الدُّنيا عَمَلًا صالِحًا خالِصًا لله، مُوافِقًا لِشَرعِه [1597] يُنظر: ((تفسير مقاتل)) (2/605)، ((تفسير ابن جرير)) (15/439)، ((تفسير القرطبي)) (11/69)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/462) و (28/177)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 132)، ((تفسير ابن كثير)) (5/205)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489). قال الشنقيطي: (قولُه في هذه الآيةِ: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ يشملُ كونَه يأمُلُ ثوابَه، ورؤيةَ وجهِه الكريمِ يومَ القيامةِ، وكونَه يخشَى عِقابَه، أي: فمَنْ كان راجيًا مِنْ رَبِّه يومَ يلقاهُ الثَّوابَ الجزيلَ والسَّلامةَ مِنَ الشَّرِّ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا). ((أضواء البيان)) (3/356).  
وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.
أي: لا يعبُدْ معَ اللهِ غيرَه [1598] قال ابن جُزي: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا يحتَمِلُ أن يريدَ الشِّركَ بالله، وهو عبادةُ غَيرِه، فيكونَ راجعًا إلى قولِه: يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، أو يريدَ الرِّياءَ؛ لأنَّه الشِّركُ الأصغَرُ، واللَّفظُ يحتَمِلُ الوَجهينِ، ولا يَبعُدُ أن يُحمَلَ على العُمومِ في المعنيَينِ. والله أعلم). ((تفسير ابن جزي)) (1/476). وقال الشوكاني: (قال الماوَرْديُّ: قال جميعُ أهلِ التأويلِ في تفسيرِ هذه الآية: إنَّ المعنى: لا يُرائي بعَمَلِه أحدًا. وأقولُ: إنَّ دخولَ الشِّرك الجليِّ الذي كان يفعَلُه المُشرِكونَ تحت هذه الآيةِ هو المقَدَّمُ على دخولِ الشِّركِ الخفيِّ الذي هو الرِّياءُ، ولا مانِعَ مِن دُخولِ هذا الخفيِّ تحتها، إنَّما المانِعُ مِن كونِه هو المرادَ بهذه الآيةِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/375). ويُنظر: ((نظم الدرر)) (12/155). وقال الشنقيطي: (وقوله: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا قال جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ: أي: لا يُراءِ النَّاسَ في عمَلِه؛ لأنَّ العمَلَ بعبادةِ الله لأجلِ رياءِ النَّاسِ مِن نَوعِ الشِّركِ، كما هو معروفٌ عند العُلَماءِ أنَّ الرياءَ مِن أنواعِ الشِّركِ،... والتحقيقُ أنَّ قَولَه: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا أعَمُّ مِن الرياءِ وغَيرِه، أي: لا يعبُدْ رَبَّه رياءً وسُمعةً، ولا يَصرِفْ شَيئًا مِن حقوقِ خالِقِه لأحدٍ مِن خَلقِه؛ لأنَّ الله يقولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] ، [النساء: 116] في الموضِعَينِ، ويقولُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ). ((أضواء البيان)) (3/356). ولا يُراءِ في عبادةِ اللهِ أحدًا مِن الخَلقِ، بل يَجعَل عبادتَه خالِصةً لله وَحدَه لا شَريكَ له [1599] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/440)، ((تفسير القرطبي)) (11/70)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/329)، ((تفسير ابن كثير)) (5/205)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489). وممَّن اختار أنَّ المراد بالشِّركِ هنا الرِّياءُ: ابن جرير، والواحدي، والزمخشري، وابن تيمية، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/440)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 674)، ((تفسير الزمخشري)) (2/750)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489). ويُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 132). وعزا الماوردي هذا القولَ إلى جميعِ أهلِ التأويلِ -كما في ((تفسير القرطبي)) (11/70)-، وعزاه النيسابوري في ((تفسيره)) (4/464) إلى المفسِّرينَ. وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: سفيانُ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، ومجاهدٌ، والحسنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/440)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2394)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/115). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّرَكاءِ عن الشِّركِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشرَكَ فيه معيَ غيري، تَرَكتُه وشِرْكَه )) [1600] رواه مسلم (2985).  
وعن أبي هُريرةَ رضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى يومَ القيامةِ عليه رجُلٌ استُشهِد، فأُتيَ به، فعرَّفه نِعَمَه فعَرَفَها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فيك حتى استُشهِدتُ، قال: كَذَبتَ، ولكِنَّك قاتَلْتَ؛ لِأن يُقالَ: جريءٌ، فقد قيل، ثمَّ أُمِر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقيَ في النَّارِ! ورجلٌ تعلَّم العِلمَ وعلَّمَه، وقرأ القُرآنَ، فأُتيَ به، فعرَّفه نِعَمه فعَرَفَها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعَلَّمتُه، وقرأتُ فيك القُرآنَ، قال: كَذبْتَ، ولكنَّك تعَلَّمتَ العِلمَ؛ لِيُقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القُرآنَ؛ لِيُقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِب على وجهِه، حتى أُلقيَ في النَّارِ! ورجلٌ وسَّع اللهُ عليه، وأعطاه مِن أصنافِ المالِ كُلِّه، فأُتيَ به، فعرَّفه نِعَمَه فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِن سَبيلٍ تحِبُّ أن يُنفَقَ فيها إلَّا أنفَقتُ فيها لك، قال: كذبْتَ، ولكِنَّك فعَلْتَ؛ ليقالُ: هو جَوادٌ، فقد قيل، ثمَّ أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه، ثم أُلقيَ في النَّارِ !)) [1601] رواه مسلم (1905).   .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] أي: لا يُراءِ بعَمَلِه، بل يعمَلُه خالِصًا لوجهِ اللهِ تعالى؛ فالذي يجمَعُ بين الإخلاصِ والمُتابعةِ، هو الذي ينالُ ما يرجو ويَطلُبُ، وأمَّا مَن عدا ذلك، فإنَّه خاسِرٌ في دُنياه وأُخراه، وقد فاته القُربُ مِن مَولاه، ونَيلُ رِضاه [1602] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٨٩).   .
2- في قَولِه تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا أنَّه لا بدَّ مِن مُلاقاةِ الله عزَّ وجلَّ، والنصوصُ في هذا كثيرةٌ، كقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] ، فيُؤخَذُ مِن ذلك: أنَّه يجِبُ على الإنسانِ أنْ يَستَعِدَّ لمُلاقاةِ اللهِ، وأنْ يَعرِفَ كيف يُلاقي اللهَ؛ هل يُلاقيه على حالٍ مَرْضيَّةٍ عندَ الله عزَّ وجلَّ، أو على العَكسِ؟ ففتِّشْ نفسَك واعرِفْ ما أنت عليه [1603] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 405).   .
3- قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا مَن عَلِمَ أنَّ إلهَهُ ومَعبودَه فَردٌ؛ فليُفرِدْه بالعُبوديَّةِ [1604] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/59).   .
4- قال اللهُ تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا في تأمُّلِ قَولِه تعالى: بِعِبَادَةِ رَبِّهِ يتبيَّنُ أنَّه جلَّ وعلا حَقيقٌ بألَّا يُشرَكَ به؛ لأنَّه الربُّ الخالِقُ المالكُ المُدَبِّرُ لجميعِ المخلوقاتِ [1605] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 153).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا دفعًا لِما قد يُتوَهَّمُ مِن أنَّ الأمرَ كما في الدُّنيا مِن أنَّ كُلَّ أحدٍ في أيِّ نعيمٍ كان: يشتهي ما هو أعلى منه؛ لأنَّ طولَ الإقامةِ قد يُورِثُ السَّآمةَ، بل هم في غايةِ الرِّضا بها؛ لِما فيها من أنواعِ الملاذِّ التي لا حَصرَ لها ولا انقِضاءَ، لا يشتهي أحدٌ منهم غيرَ ما عنده سواءٌ كان في الفردوسِ أو فيما دونَه [1606] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/150).   .
2- في قَولِه تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا فَرَّقَ سُبحانَه بين المِدَادِ الذي يُكتَبُ به كلماتُه وبين كلماتِه؛ فالبحرُ وغيرُه مِن المِدَادِ الذي يُكْتَبُ به الكلماتُ مخلوقٌ؛ وكلماتُ اللهِ غيرُ مخلوقةٍ [1607] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/303).   .
3- كونُ الرَّبِّ لم يَزَلْ مُتكلِّمًا إذا شاء -كما هو قولُ أهلِ الحديثِ- مبنيٌّ على مُقَدِّمتَينِ: على أنَّه تقومُ به الأمورُ الاختياريَّةُ، وأنَّ كلامَه لا نهايةَ له؛ قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [1608] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (3/359).   [لقمان: 27] .
4- قولُه تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا هذا مِن بابِ تقريبِ المعنى إلى الأذهانِ؛ لأنَّ هذه الأشياءَ مخلوقةٌ، وجميعُ المخلوقاتِ مُنقَضيةٌ مُنتَهِيةٌ، وأمَّا كلامُ اللهِ فإنَّه من جملةِ صفاتِه، وصفاتُه غيرُ مخلوقةٍ، ولا لها حَدٌّ ولا مُنتهى، فأيُّ سَعةٍ وعَظَمةٍ تصوَّرَتْها القُلوبُ، فالله فوقَ ذلك، وهكذا سائِرُ صِفاتِ الله تعالى؛ كعِلْمِه، وحِكْمتِه، وقُدرتِه، ورَحمتِه [1609] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 489).   .
5- قَوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فيه دَليلٌ على رؤيةِ اللهِ، وقد أجمع أهلُ اللِّسانِ على أنَّ اللقاءَ متى نُسِبَ إلى الحيِّ السَّليمِ مِن العَمَى والمانِعِ، اقتضَى المعاينةَ والرُّؤيةَ [1610] يُنظر: ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (ص: 288).   .
6- في قَولِه تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا دَلالةٌ على أنَّه لا بدَّ في العملِ أنْ يكونَ مَشروعًا مأمورًا به -وهو العملُ الصَّالحُ- ولا بدَّ أنْ يُقصَدَ به وجهُ اللهِ [1611] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/76).   .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا
هذا مُقابِلُ قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [الكهف: 102] ، على عادةِ القرآنِ في ذِكْرِ البِشارةِ بعدَ الإنذارِ [1612] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/49).   ، وهو بيانٌ -بطَريقِ الوعدِ- لِمآلِ الَّذين اتَّصَفوا بأضدادِ ما اتَّصَف به الكفَرةُ إثْرَ بَيانِ مآلِهم بطريقِ الوعيدِ، أي: آمَنوا بآياتِ ربِّهم ولِقائِه [1613] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/250).   .
     - قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فيه تأكيدُ الجملةِ للاهتمامِ بها؛ لأنَّها جاءَت في مُقابلةِ جملةِ: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [الكهف: 102] ، وهي مُؤكَّدةٌ؛ كي لا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ جزاءَ المؤمِنين غيرُ مُهتمٍّ بتأكيدِه مع ما في التَّأكيدَيْنِ مِن تَقْويَةِ الإنذارِ وتقْويةِ البِشارةِ [1614] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/49).   .
     - وفي قولِه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَعْلُ المسنَدِ إليه الموصولَ بصِلَةِ الإيمانِ وعمَلِ الصَّالحاتِ؛ للاهْتِمامِ بشأنِ أعمالِهم؛ فلِذلك خُولِف نَظْمُ الجملةِ الَّتي تُقابِلُها، فلم يَقُلْ: (جَزاؤُهم الجَنَّةُ) [1615] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/49-50).   .
     - قولُه: كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا في الإتيانِ بقولِه: كَانَتْ دَلالةٌ على أنَّ استِحْقاقَهم الجَنَّاتِ أمرٌ مُستقِرٌّ مِن قَبلُ مهيَّأٌ لهم. وجيءَ بلامِ الاستِحْقاقِ؛ تَكريمًا لهم بأنَّهم نالوا الجَنَّةَ باستِحْقاقِ إيمانِهم وعمَلِهم [1616] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/49-50).   .
     - قولُه: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ جمَعَ الجنَّاتِ؛ إيماءً إلى سَعَةِ نَعيمِهم، وأنَّها جِنانٌ كثيرةٌ. وإضافةُ الجَنَّاتِ إلى الفِرْدَوسِ بَيانيَّةٌ، أي: جَنَّاتٌ هي مِن صِنْفِ الفِرْدَوسِ، وهو البستانُ الجامعُ لكلِّ ما يكونُ في البساتينِ، أو تكونُ إِضَافَةُ (جَنَّات) إلى (الفردوسِ) إضافةً حقيقيَّةً، أي: جنَّاتُ هذا المكانِ، على اعتبار أن الفردوسَ هو أعلَى الجنَّةِ أو وسطُها [1617] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/50).   .
     - قولُه: نُزُلًا المعنى: كانَت لهم ثِمارُ جَنَّاتِ الفِرْدَوسِ نُزلًا، أو جُعِلَت نفْسُ الجَنَّاتِ نُزلًا؛ مُبالَغةً في الإكرامِ، وفيه إيذانٌ بأنَّها عِندما أعَدَّ اللهُ لهم على ما جَرى على لِسانِ النُّبوَّةِ مِن قولِه: (أعدَدتُ لعِبادي الصَّالِحين ما لا عَينٌ رأَتْ، ولا أذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قلبِ بشَر) [1618] أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824).   ، بمَنْزِلة النُّزلِ بالنِّسبةِ إلى الضِّيافةِ [1619] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/250).   ، وذلك على أحدِ القولينِ في معنَى النزلِ.
2- قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا
     - قولُه: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، أي: لا مَزيدَ عليها حتَّى تُنازِعَهم أنفُسُهم إلى ما هو أجْمَعُ لأغراضِهم وأمانيِّهم. وهذه غايةُ الوصفِ؛ لأنَّ الإنسانَ في الدُّنيا في أيِّ نعيمٍ كان فهو طامِحُ الطَّرْفِ إلى أرفَعَ مِنه. ويَجوزُ أن يُرادَ نَفْيُ التَّحوُّلِ وتأكيدُ الخُلودِ [1620] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/750)، ((تفسير البيضاوي)) (3/295)، ((تفسير أبي السعود)) (5/251).   . وهو تعريضٌ بالكَفَرةِ في أنَّهم يَصطَرِخون في النَّارِ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا [المؤمنون: 107] ، وذلك عكسُ ما كان في الدُّنيا من ركونِ الكُفَّارِ إليها، ومحبَّتِهم في طولِ البَقاءِ فيها، وعزوفِ المؤمنين عنها، وشَوقِهم إلى رَبِّهم بمفارقتِها [1621] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/150).   .
3- قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا استِئْنافٌ ابتِدائيٌّ، وهو انْتِقالٌ إلى التَّنويهِ بعِلْمِ اللهِ تعالى مُفِيضِ العِلمِ على رَسولِه صلَّى اللهُ علَيه وآلِه وسلَّم؛ لأنَّ المشرِكين لَمَّا سأَلوه عن أشياءَ يَظُنُّونَها مُفحِمةً للرَّسولِ وأنْ لا قِبَلَ له بعِلْمِها عَلَّمه اللهُ إيَّاها، وأخبَر عنها أصْدَقَ خبَرٍ، وبيَّنها بأقْصَى ما تَقبَلُه أفهامُهم، وبما يَقصُرُ عنه عِلمُ الَّذين أغْرَوُا المشْرِكين بالسُّؤالِ عنها، وكان آخِرُها خبَرَ ذي القرنَيْنِ؛ أتْبَع ذلك بما يُعلَمُ منه سَعةُ عِلْمِ اللهِ تعالى، وسَعةُ ما يَجْري على وَفْقِ عِلمِه مِن الوحيِ إذا أرادَ إبلاغَ بعضِ ما في علمِه إلى أحدٍ مِن رسلِه. وفي هذا رَدُّ عَجُزِ السُّورةِ على صَدْرِها [1622] رَدُّ العَجُز على الصَّدر -ويُعرَف أيضًا بالتصديرِ- وهو كلُّ كلامٍ منثورٍ أو منظومٍ يُلاقي آخرُه أوَّلَه بوجهٍ مِن الوجوهِ، أو: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظينِ المُكرَّرينِ، أو المتجانسَينِ، أو المُلحقَينِ بهما في أوَّل الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامِ؛ الأوَّل: أن يُوافِقَ آخِرُ الفاصلةِ آخِرَ كَلمةٍ في الصَّدرِ، كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] ، والثاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلُ كَلمةٍ منه، كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ، والثالث: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلماتِه، كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/109)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/514).   ؛ فإنَّه لَمَّا ابتُدِئتْ هذه السُّورةُ بالتنويهِ بشَأنِ القُرآنِ، حيث قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف: 1-2] ثُمَّ أُفيض فيها من أفانينِ الإرشادِ والإنذارِ والوعدِ والوعيدِ، وذُكِرَ فيها مِن أحسنِ القَصصِ ما فيه عِبرةٌ ومَوعظةٌ، وما هو خَفيٌّ من أحوالِ الأممِ؛ حوَّلَ الكلامَ إلى الإيذانِ بأنَّ كلَّ ذلك قَليلٌ مِن عَظيمِ عِلمِ اللهِ تعالى، الذي يَنفَدُ البَحرُ قَبلَ أنْ تَنفَدَ كَلِماتُه سُبحانَه [1623] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/51).   .
     - قولُه: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي اللَّامُ في قَولِه: لِكَلِمَاتِ لامُ العِلَّةِ، أي: لأجْلِ كَلِماتِ ربِّي، والكَلامُ يُؤْذِنُ بمُضافٍ محذوفٍ، تَقديرُه: لِكِتابةِ كَلِماتِ ربِّي؛ إذِ المِدادُ يُرادُ للكِتابةِ وليس البَحرُ ممَّا يُكتَبُ به، ولكنَّ الكلامَ بُنِي على المفروضِ بواسطةِ لَوْ [1624] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/53).   .
     - قولُه: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي في إضافةِ الكَلِماتِ إلى اسْمِ الرَّبِّ المضافِ إلى ضَميرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الموضعَينِ مِن تفخيمِ المضافِ، وتشريفِ المضافِ إليه ما لا يخفَى [1625] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/251).   .
     - وإظهارُ البحرِ والكلماتِ في مَوضِعِ الإضْمارِ لزِيادةِ التَّقريرِ [1626] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/251).   .
     - وقال: وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ولم يَقُلْ: (مِدادًا)؛ إذْ ليس المقصودُ تشبيهَه بالحِبْرِ؛ لِحُصولِ ذلك بالتَّشبيهِ الَّذي قبْلَه، وإنَّما قصَد هنا أنَّ مِثلَه يُمِدُّه [1627] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/53).   . وانْتصَب مَددًا على التَّمييزِ المفسِّرِ؛ للإبهامِ الَّذي في لَفْظِ بِمِثْلِهِ [1628] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/54).   .
     - جوابُ (لو) في قولِه: وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا محذوفٌ؛ لِدَلالةِ المَعْنى عليه، تَقديرُه: لَنَفِد [1629] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/234).   .
4- قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا
     - قولُه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ استئنافٌ ثانٍ، انْتقَل به مِن التَّنويهِ بسَعةِ عِلمِ اللهِ تعالى، وأنَّه لا يُعجِزُه أن يُوحِيَ إلى رَسولِه بعِلْمِ كلِّ ما يُسأَلُ عن الإخبارِ به [1630] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/54-55).   .
     - والحَصْرُ في قولِه: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؛ لِقَصرِ الموصوفِ على الصِّفَةِ، وهو إضافيٌّ للقَلْبِ [1631] قصرُ القلب: هو أنْ يَقلِبَ المتكلمُ فيه حُكمَ السامع، كقولك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لمن يعتقد أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معينةٍ أو طرفٍ معينٍ، لكنَّه يقول: ما زيدٌ هناك بشاعر. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525).   ، أي: ما أنا إلَّا بشَرٌ لا أتجاوزُ البشَريَّةَ إلى العلمِ بالمغيباتِ [1632] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/54-55).   .
     - قولُه: يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ أَدْمَج في هذا أهَمَّ ما يُوحَى إليه وما بُعِث لأجْلِه، وهو تَوحيدُ اللهِ، والسَّعيُ لِما فيه السَّلامةُ عندَ لِقاءِ اللهِ تعالى. وهذا مِن رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ مِن قولِه في أوَّلِ السُّورةِ: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2] ، إلى قولِه: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [1633] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/55).   [الكهف: 5] .
     - قولُه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فيه إدخالُ الماضي كَانَ على المستقبَلِ يَرْجُو -إذْ إنَّ الرَّجاءَ تَوقُّعُ وُصولِ الخيرِ في المستقبَلِ-؛ للدَّلالةِ على أنَّ اللَّائقَ بحالِ المؤمِنِ الاستِمْرارُ والاستدامةُ على رَجاءِ اللِّقاءِ [1634] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/251).   .
     - وتَفْريعُ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا هو مِن جُملةِ الموحَى به إليه، أي: يُوحَى إلَيَّ بوَحْدانيَّةِ الإلهِ، وبإثباتِ البَعْثِ وبالأعمالِ الصَّالحةِ؛  فجاء النَّظْمُ بطَريقةٍ بَديعةٍ في إفادةِ الأُصولِ الثَّلاثةِ؛ إذْ جُعِل التَّوحيدُ أصلًا لها، وفُرِّع عليه الأصْلانِ الآخَران، وأُكِّد الإخبارُ بالوَحْدانيَّةِ بالنَّهيِ عن الإشراكِ بعِبادةِ اللهِ تعالى بقولِه: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وحصَل مع ذلك رَدُّ العَجُزِ على الصَّدْرِ، وهو أسلوبٌ بديعٌ [1635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/55).   .
     - قولُه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا فيه وَضْعُ المُظهَرِ رَبِّهِ موضعَ المُضمَرِ في الموضِعَينِ، معَ التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ؛ لِزِيادةِ التَّقْريرِ، وللإشْعارِ بعِلِّيَّةِ العُنوانِ للأمْرِ والنَّهيِ، ووُجوبِ الامْتِثالِ فِعلًا وتركًا [1636] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/251).   .
     - وفيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث قال عزَّ وجلَّ هنا: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وفي سورةِ الأنبياءِ: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنبياء: 108] ؛ فلم يقَعْ في هذه الثَّانيةِ لفظُ أَنَا بَشَرٌ، ووَرَد في الأُولى؛ ووجه ذلك: أنَّه لَمَّا تَقدَّم في أوَّلِ سورةِ الأنْبِياءِ إثباتُ كَونِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ مِن البشَرِ، فيما حَكاه تعالى مِن قولِ الكُفَّارِ بَعضِهم لبعضٍ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: 3] ، ثمَّ قال تعالى رادًّا لقولِهم، مُثبِتًا كونَ الرُّسلِ مِن البشَرِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 7] ، ثمَّ تَتابَع في السُّورةِ ذِكْرُ الرُّسلِ مِن البشَرِ في عِدَّةِ مَواضِعَ إفصاحًا وإشارةً، آخِرُها قولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، والخِطابُ لِنَبيِّنا عليه السَّلامُ، قال تعالى بعدَ ذلك: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنبياء: 108] ، فلم يُحتَجْ هنا أن يُذكرَ كونُه عليه السَّلامُ مِن البشَرِ؛ إذ قد تَوالَى ذِكرُ ذلك جُملةً وتَفصيلًا. أمَّا سورةُ الكهفِ فلم يتَقدَّمْ فيها مِثلُ هذا؛ فكان مَظِنَّةَ الإعلامِ بكَونِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن البشَرِ إرغامًا لأعدائِه، ولِمَا في ذلك مِن تَلطُّفِه تعالى بالخَلقِ ورَحمتِه إيَّاهم؛ فكَونُ الرُّسلِ مِن البشَرِ مِن أعظَمِ إنعامِه سُبحانه على الخَلقِ، وخُصَّتْ آيةُ الكَهفِ بذِكْرِ بَشريَّتِه عليه السَّلامُ لِما بُيِّن؛ فوَرَد كلُّ ذلك على ما يُناسِبُ، ولم يَكُنْ عَكْسُ الوارِدِ لِيُناسِبَ [1637] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/324).   .