موسوعة التفسير

سورةُ مُحمَّدٍ
الآيات (29-31)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ

غريب الكلمات:

أَضْغَانَهُمْ: أي: أحقادَهم، واحِدُها ضِغْنٌ: وهو ما في القَلبِ مُستَكِنٌّ مِن العَداوةِ، وأصلُ (ضغن): يدُلُّ على تغطيةِ شَيءٍ في مَيْلٍ واعْوِجاجٍ [490] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 80)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/364)، ((المفردات)) للراغب (ص: 509)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 356)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 382)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 137). .
بِسِيمَاهُمْ: أي: بعَلاماتِهم وآثارِهم، وأصلُ (وسم): يدُلُّ على أثَرٍ ومَعْلَمٍ [491] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/110)، ((المفردات)) للراغب (ص: 871)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116). .
لَحْنِ الْقَوْلِ: أي: مَعاريضِ الكَلامِ ومَعناه وفَحواه، يُقالُ: لَحَنتُ له ألحَنُ: إذا قُلتَ له قَولًا يَفقَهُه عنك، ويَخفَى على غَيرِه، وأصلُ (لحن): يدُلُّ على إمالةِ شَيءٍ عن جِهتِه [492] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 411)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 404)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/239)، ((البسيط)) للواحدي (20/261)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 383). .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ: أي: لَنَختَبِرَنَّكم ولَنَمتَحِنَنَّكم، والبَلاءُ يكونُ في الخَيرِ والشَّرِّ، وأصلُ (بلو): يدُلُّ على الامتحانِ والاختِبارِ [493] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 92)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 433)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/293)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مهدِّدًا المنافِقينَ بكشفِ أستارِهم، وفضحِ أسرارِهم: بل أحَسِبَ الَّذين في قُلوبِهم مَرَضُ الشَّكِّ والنِّفاقِ أنْ لنْ يُظهِرَ اللهُ ما في قُلوبِهم مِن أحقادٍ وعَداوةٍ للإسلامِ وأهلِه؟
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى قُدرتَه على ذلك، فيقولُ: ولو نَشاءُ لَأرَيْناك المُنافِقينَ -يا مُحمَّدُ-، فتَعرِفُهم بعَلاماتِهم الظَّاهِرةِ في وُجوهِهم، ولَتَعرِفَنَّهم -يا محمَّدُ- بفَحْوى أقوالِهم الَّتي تدُلُّ على سُوءِ طَوِيَّتِهم، واللهُ يَعلَمُ أعمالَكم، لا يخفَى عليه شَيءٌ منها، وسيُجازيكم عليها.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه سُنَّةً مِن سُننِه في خلقِه، فيقولُ: ولَنَختَبِرَنَّ إيمانَكم وصَبرَكم، فنَأمُرُكم بالجِهادِ حتَّى نَعلَمَ المجاهِدينَ مِنكم والصَّابِرينَ، ونختبِرَكم اختبارًا يَكشِفُ أحوالَكم وضمائرَكم.

تفسير الآيات:

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
هذا انتِقالٌ مِن التَّهديدِ والوَعيدِ إلى الإنذارِ بأنَّ اللهَ مُطلِعٌ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما يُضمِرُه المُنافِقونَ مِن الكُفرِ والمَكرِ والكَيدِ؛ لِيَعلَموا أنَّ أسْرارَهم غَيرُ خافيةٍ، فيُوقِنوا أنَّهم يَكُدُّون عُقولَهم في تَرتيبِ المَكايِدِ بلا طائلٍ، وذلك خَيبةٌ لِآمالِهم [494] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/120). .
وأيضًا لَمَّا صوَّرَ اللهُ -سُبحانَه- ما أثَّرَتْه خِيانةُ المُنافِقين بأقبَحِ صُوَرِه، فبانَ به أنَّه ما حَمَلهم على ما فَعَلوه إلَّا جَهلُهم وسَفاهَتُهم؛ فأنتَجَ إهانَتَهم بالتَّبْكيتِ، فقال [495] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/251). :
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29).
أي: بل [496] قال الرَّازي: (المفسِّرونَ على أنَّها [أي: أم] مُنقَطِعةٌ). ((تفسير الرازي)) (28/58). وممَّن اختار أنَّها مُنقطِعةٌ بمعنى «بلْ»: ابنُ عطيَّة، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/120)، ((تفسير الشوكاني)) (5/48)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/120). وذكر الرَّازيُّ أنَّه يحتمِلُ أنْ يُقالَ: إنَّها استِفهاميَّةٌ، و (أمْ) إذا كانت مُتَّصِلةً استِفهاميَّةً تَسْتدْعي سَبْقَ جملةٍ أخرَى استِفهامِيَّةٍ، والسَّابقُ مفهومٌ مِن قولِه تعالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد: 26]، فكأنَّه تعالَى قال: أحَسِبَ الَّذينَ كفروا أنْ لن يَعلَمَ اللهُ إسرارَهم، أمْ حَسِبَ المنافقونَ أنْ لنْ يُظْهِرَها؟! والكلُّ فاسدٌ، وإنَّما يَعلَمُها ويُظهِرُها. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/58). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عادل)) (17/463)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/251، 252). أحَسِبَ الَّذين في قُلوبِهم مَرَضُ الشَّكِّ والنِّفاقِ أنَّ اللهَ لن يُظهِرَ ما في قُلوبِهم مِن أحقادٍ وعَداوةٍ للإسلامِ وأهلِه [497] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/221)، ((تفسير القرطبي)) (16/251، 252)، ((تفسير ابن كثير)) (7/321)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/120). ؟
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان مَفهومُ قَولِه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ [محمد: 29] أنَّ اللهَ يُظهِرُ ضَمائرَهم، ويُبرِزُ سَرائرَهم، كأنَّ قائلًا قال: فلِمَ لَمْ يُظهِرْ؟ فقال: أخَّرْناه لِمَحضِ المَشيئةِ، لا لِخَوفٍ منهم كما لا تُفشَى أسرارُ الأكابِرِ خَوفًا منهم [498] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/59). .
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ.
أي: ولو نَشاءُ لأَرَيْناكَ المُنافِقينَ -يا مُحمَّدُ- بأشْخاصِهم وأعْيانِهم، فتَعرِفُهم بعَلاماتِهم الظَّاهِرةِ في وُجوهِهم [499] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/221، 222)، ((تفسير السمعاني)) (5/183)، ((تفسير ابن عطية)) (5/120)، ((تفسير القرطبي)) (16/252)، ((تفسير ابن كثير)) (7/321). قال ابنُ عطيَّة: (قولُه تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ مُقارَبةٌ في شُهرتِهم، ولكِنَّه تعالى لم يُعَيِّنْهم قَطُّ بالأسماءِ والتَّعريفِ التِّامِّ؛ إبقاءً عليهم وعلى قرابتِهم، وإن كانوا قد عُرِفوا بلَحنِ القَولِ، وكانوا في الاشتِهارِ على مراتِبَ، كعبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ، والجَدِّ بنِ قَيسٍ، وغَيرِهم مِمَّن دونَهم في الشُّهرةِ. والسِّيما: العَلامةُ الَّتي كان تعالى يَجعَلُ لهم لو أراد التَّعريفَ التَّامَّ بهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/120). وقال ابن عاشور: (يَحتَمِلُ أنَّ اللهَ شاء ذلك وأراهم للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم... ويحتمِلُ أنَّ اللهَ قال هذا إكرامًا لرَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يُطْلِعْه عليهم). ((تفسير ابن عاشور)) (26/121). .
كما قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 101، 102].
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.
أي: وأُقسِمُ -يا محمَّدُ- لَتَعرِفَنَّ المنافِقينَ في فَحْوى كلامِهم، وما يَصدُرُ منهم مِن أقوالٍ تدُلُّ على مَقاصِدِهم السَّيِّئةِ [500] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/223)، ((تفسير القرطبي)) (16/252)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 356)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/486)، ((تفسير ابن كثير)) (7/321)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/253-255)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789). قال ابن عاشور: (المعنى: فإنْ لم نُرِكَ إيَّاهم بسِيماهم فلَتَقَعَنَّ مَعرِفتُك بهم مِن لَحنِ كَلامِهم، بإلهامٍ يَجعَلُه اللهُ في عِلمِ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا يَخفى عليه شَيءٌ مِن لَحنِ كَلامِهم، فيَحصُلُ له العِلمُ بكُلِّ واحدٍ منهم إذا لحَنَ في قَولِه، وهم لا يخلو واحِدٌ منهم مِنَ اللَّحنِ في قَولِه؛ فمَعرفةُ الرَّسولِ بكُلِّ واحدٍ منهم حاصِلةٌ... ولَحنُ القَولِ: الكَلامُ المحالُ به إلى غَيرِ ظاهِرِه؛ لِيَفطَنَ له مَن يُرادُ أن يَفهَمَه دونَ أن يَفهَمَه غَيرُه، بأن يكونَ في الكلامِ تَعريضٌ أو توريةٌ أو ألفاظٌ مُصطَلَحٌ عليها بيْنَ شَخصَينِ أو فِرقةٍ، كالألفاظِ العِلميَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/121، 122). وقال ابن تيميَّة: (فمَعرِفةُ المُنافِقِ في لَحنِ القَولِ لا بدَّ منها، وأمَّا مَعرِفتُه بالسِّيما فمَوقوفةٌ على المشيئةِ). ((مجموع الفتاوى)) (14/110). .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ.
أي: واللهُ يَعلَمُ أعمالَكم، لا يَخْفَى عليه شَيءٌ منها، وسيُجازيكم عليها [501] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/223)، ((تفسير ابن عطية)) (5/121)، ((تفسير القرطبي)) (16/253)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/255)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789). .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَرَ اللهُ -سُبحانَه- أنه يُعرِّفُ المُنافِقينَ لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أتْبَعَه الإخبارَ بأنَّه يُعرِّفُهم للمؤمنينَ كافَّةً أيضًا [502] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/256). ، بامتِحانِهم بالجِهادِ في سبيلِ اللهِ.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ.
أي: وأُقسِمُ لَنَختَبِرَنَّ إيمانَكم وصَبْرَكم، فنَأمُرُكم بالجِهادِ حتَّى نَعلَمَ المجاهِدينَ مِنكم والصَّابِرينَ على أداءِ ما فرَضَ اللهُ تعالى، وتَحَمُّلِ البَلاءِ- عِلْمَ شَهادةٍ ووُجودٍ يَترَتَّبُ عليه الجَزاءُ [503] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/50)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/16)، ((الوسيط)) للواحدي (4/129)، ((تفسير البيضاوي)) (5/124)، ((تفسير ابن كثير)) (7/322)، ((تفسير الشوكاني)) (5/48)، ((تفسير السعدي)) (ص: 789)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/384، 385). وذهب ابنُ جريرٍ إلى أنَّ المرادَ: ولَنَبْلُونَّكم بالجهادِ؛ حتَّى يَعلَمَ المؤمِنونَ المجاهِدينَ والصَّابِرينَ، ويَتبَيَّنَ لهم أهلُ الإيمانِ مِن أهلِ النِّفاقِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/223). قال الشنقيطي: (ما ذكَرَه [أي: ابنُ جريرٍ] مِن أنَّ المرادَ بقَولِه: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ الآيةَ: حتَّى يَعلَمَ حِزبُنا وأولياؤُنا المجاهِدينَ منكم والصَّابِرينَ- له وَجهٌ، وقد يُرشِدُ له قَولُه تعالى: وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ أي: نُظهِرَها ونُبرِزَها للنَّاسِ). ((أضواء البيان)) (7/386). وقال الألوسي: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالأمرِ بالجهادِ ونحوِه مِن التَّكاليفِ الشَّاقَّةِ). ((تفسير الألوسي)) (13/233). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155 - 157].
وقال سُبحانَه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142] .
وقال تبارَكَ وتعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة: 16] .
وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ.
أي: ونختبِرَكم اختبارًا يَكشِفُ أحوالَكم وضمائرَكم، ويُظهِرُ حَسَنَها وقبيحَها [504] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/129)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1004)، ((تفسير الزمخشري)) (4/328)، ((تفسير الرسعني)) (7/277)، ((تفسير القرطبي)) (16/254)، ((تفسير أبي السعود)) (8/101)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/386). قال الواحدي: (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ أي: نظهرَها، ونكشفَها، بإباءِ مَن يأبى القتالَ، ولا يَصبِرُ على الجهادِ). ((الوسيط)) (4/129). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِن شُبهةٍ أو شَهوةٍ، بحيثُ تُخرِجُ القَلبَ عن حالِ صِحَّتِه واعتدالِه، أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ أنَّ اللهَ لا يُخرِجُ ما في قُلوبِهم مِن الأضغانِ والعَداوةِ للإسلامِ وأهلِه؟! هذا ظَنٌّ لا يليقُ بحِكمةِ اللهِ تعالى؛ فإنَّه لا بُدَّ أن يُمَيِّزَ الصَّادِقَ مِن الكاذِبِ، وذلك بالابتِلاءِ بالمِحَنِ الَّتي مَن ثَبَت عليها ودام إيمانُه فيها، فهو المؤمِنُ حَقيقةً، ومَن رَدَّتْه على عَقِبَيه فلم يَصبِرْ عليها، وحينَ أتاه الامتِحانُ جَزِعَ وضَعُفَ إيمانُه وخَرَجَ ما في قَلْبِه مِن الضِّغْنِ- تَبَيَّنَ نِفاقُه، هذا مُقتضى الحِكمةِ الإلهيَّةِ [505] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 789). .
2- قال الله تعالى عن المُنافِقينَ: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ فلا بدَّ أن يظهَرَ ما في قلوبِهم، ويتبيَّنَ بفَلَتاتِ ألسنتِهم؛ فإنَّ الألسُنَ مَغارِفُ القلوبِ، يَظهَرُ منها ما في القلوبِ مِن الخَيرِ والشَّرِّ [506] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 789). ، قال عُثمانُ بنُ عفَّانَ رضيَ الله عنه: (ما أسَرَّ أحَدٌ سَريرةً إلَّا أظهَرَها اللهُ على صَفَحاتِ وَجْهِه، وفَلَتاتِ لِسانِه) [507] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/110). .
3- يَبتلي اللهُ تعالى المؤمِنينَ بالمصائِبِ العَظيمةِ؛ امتِحانًا حتَّى يَتبيَّنَ الصَّادِقُ مِن غَيرِه، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ؛ فلا يُعرَفُ زَيفُ الذَّهَبِ إلَّا إذا أذَبْناه بالنَّارِ، ولا يُعرَفُ طِيبُ العُودِ إلَّا إذا أحرَقْناه بالنَّارِ، أيضًا لا يُعرَفُ المؤمِنُ إلَّا بالابتلاءِ والامتحانِ؛ فعليك أيُّها المسلمُ بالصَّبرِ، قد تُؤذَى على دينِك، قد يُستهزَأُ بك، ورُبَّما تُلاحَظُ، ورُبَّما تُراقَبُ، ولكنِ اصبِرْ واصْدُقْ [508] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/41). ، فالمؤمِنُ إذا امتُحِنَ صبَرَ واتَّعَظ واستَغفَرَ، ولم يَتشاغَلْ بذَمِّ مَنِ انتَقَم منه؛ فاللهُ حَكَمٌ مُقسِطٌ، ثمَّ يَحمَدُ اللهَ على سَلامةِ دينِه، ويَعلَمُ أنَّ عُقوبةَ الدُّنيا أهوَنُ وخَيرٌ له [509] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/81). .
4- قال اللهُ تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ فذَكَرَ أعظَمَ امتِحانٍ يَمتَحِنُ به عِبادَه، وهو الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ، فقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ، أي: نَختَبِرُ إيمانَكم وصَبْرَكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ، فمَنِ امتَثَل أمْرَ اللهِ وجاهَدَ في سَبيلِ اللهِ لِنَصرِ دِينِه، وإعلاءِ كَلِمتِه، فهو المؤمِنُ حَقًّا، ومَن تكاسَلَ عن ذلك كان ذلك نَقصًا في إيمانِه [510] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 789). .
5- قال الله تعالى: وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ كان مُجاهِدٌ رحِمَه اللهُ إذا بلَغ إلى هذه الآيةِ قال: (اللَّهُمَّ إنَّا نسألُكَ أن لا تَبلُوَ أخبارَنا؛ فإنَّا نَفتضِحُ) [511] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/184). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أنَّ الرُّسُلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لا يَعلَمونَ ما في قُلوبِ الَّذين يُظهِرونَ اتِّباعَهم، والمَعرِفةُ في لَحنِ القَولِ مَبنيَّةٌ على قَرينةٍ لا على شَيءٍ مَحسوسٍ مَقطوعٍ به [512] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/495). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ استَدَلَّ به مَن جَعَل التَّعريضَ بالقَذفِ مُوجِبًا للحَدِّ [513] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/121)، ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/482)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 238). .
3- في قَولِه تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ جَعَلَ سُبحانَه الإرادةَ والتَّعريفَ بالسِّيما -الَّذي يُدرَكُ بالبَصرِ- مُعَلَّقًا على المَشيئةِ، وأقسَمَ على التَّعريفِ في لَحْنِ القَولِ -وهو الصَّوتُ الَّذي يُدرَكُ بالسَّمعِ-؛ فدلَّ على أنَّ المُنافِقينَ لا بُدَّ أنْ يُعرَفوا في أصواتِهم وكَلامِهم الَّذي يَظْهَرُ فيه لَحنُ قَولِهم، وهذا ظاهِرٌ بَيِّنٌ لِمَن تأمَّلَه في النَّاسِ مِن أهلِ الفِراسةِ في الأقوالِ وغيرِها مِمَّا يَظهَرُ فيها مِن النَّواقِضِ والفُحْشِ وغيرِ ذلك [514] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/68). .
4- قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ أخبَرَ سُبحانَه أنَّه لو شاء لَعَرَّفَهم رسولَه بالسِّيماءِ في وُجوهِهم، ثمَّ قال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فأقسَمَ أنَّه لا بُدَّ أن يعرفَهم في لَحنِ القَولِ، ومنهم مَن كان يَقولُ القَولَ أو يَعمَلُ العمَلَ فيَنزِلُ القُرآنُ يُخبِرُ أنَّ صاحِبَ ذلك القَولِ والعمَلِ منهم؛ كما في سورةِ (بَراءةٌ)، ومنهم مَن كان المُسلِمون أيضًا يَعلَمونَ كَثيرًا منهم بالشَّواهِدِ والدَّلالاتِ والقَرائنِ والأماراتِ، ومنهم مَن لم يَكُنْ يُعرَفُ، كما قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [515] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 356). [التوبة: 101] .
5- في قَولِه تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ دليلٌ على أنَّ للأشرارِ ظواهِرَ نَكيرٍ تدُلُّ على ما يُخَبِّئونَ مِن الشَّرِّ، لا تَخْفى على ذَوي الأبْصارِ، والمتوسِّمِين مِن الأخيارِ [516] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/152). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ظاهِرُ هذه الآيةِ قد يَتوَهَّمُ منه الجاهِلُ أنَّه تعالى يَستفيدُ بالاختِبارِ عِلمًا لم يَكُنْ يَعلَمُه -سُبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كَبيرًا-، بل هو تعالى عالِمٌ بكُلِّ ما سيَكونُ قبْلَ أن يكونَ، وقد بيَّنَ أنَّه لا يستفيدُ بالاختِبارِ عِلمًا لم يَكُنْ يَعلَمُه، بقَولِه جَلَّ وعلا: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154] ؛ فقَولُه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بعدَ قَولِه: (لِيَبتليَ) دليلٌ قاطِعٌ على أنَّه لم يَستَفِدْ بالاختِبارِ شَيئًا لم يكُنْ عالِمًا به -سُبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كَبيرًا-؛ لأنَّ العَليمَ بذاتِ الصُّدورِ غَنيٌّ عن الاختِبارِ، وفي هذه الآيةِ بَيانٌ عَظيمٌ لجَميعِ الآياتِ الَّتي يَذكُرُ اللهُ فيها اختِبارَه لِخَلْقِه. فمعنى حَتَّى نَعْلَمَ أي: عِلمًا يَترَتَّبُ عليه الثَّوابُ والعِقابُ؛ فلا يُنافي أنَّه كان عالِمًا به قبْلَ ذلك، وفائِدةُ الاختِبارِ: ظُهورُ الأمرِ للنَّاسِ، أمَّا عالِمُ السِّرِّ والنَّجوى فهو عالِمٌ بكُلِّ ما سيَكونُ، كما لا يَخفى [517] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/385). والقاعدةُ في ذلك: أنَّ اللهَ تعالى متى علَّق عِلمَه بالأمورِ بعدَ وُجودِها، كان المرادُ بذلك: العِلمَ الَّذي يترتَّبُ عليه الجزاءُ. يُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (2/755، 756). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
- (أم) مُنقَطِعةٌ في مَعْنى (بل) لِلْإضرابِ الانْتِقاليِّ، والاستِفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ (أَمْ) لِلْإنكارِ، والمعنى: لا يَحسَبونَ انتِفاءَ إظْهارِ أضْغانِهم في المُستقبَلِ، كما انْتَفى ذلك فيما مَضَى؛ فلَعلَّ اللهَ أنْ يَفضَحَ نِفاقَهم [518] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/120). .
2- قَولُه تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
- قولُه: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ الالتِفاتُ إلى نُونِ العَظَمةِ؛ لِإبرازِ العِنايةِ بالإراءةِ [519] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/101). .
- واللَّامُ في فَلَعَرَفْتَهُمْ تأْكيدٌ لِلامِ لَأَرَيْنَاكَهُمْ؛ لِزِيادةِ تَحقيقِ تَفرُّعِ المَعرفةِ على الإراءةِ [520] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/121). .
- قولُه: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ في مَعنَى الاحتِراسِ ممَّا يَقْتضيهِ مَفهومُ (لَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ) مِن عَدَمِ وُقوعِ المَشيئةِ لِإراءتِه إيَّاهم بِنُعوتِهم، والمعنَى: فإنْ لم نُرِكَ إيَّاهم بسِيماهُم، فلَتَقَعَنَّ مَعرِفتُك بهم مِن لَحْنِ كَلامِهم بإلْهامٍ يَجعَلُه اللهُ في عِلْمِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلا يَخْفى عليه شَيءٌ مِن لَحنِ كَلامِهم، فيَحصُلُ له العِلْمُ بكلِّ واحدٍ منْهم إذا لَحَنَ في قَولِه، وهمْ لا يَخْلو واحدٌ منْهم مِن اللَّحْنِ في قَولِه؛ فمَعرفةُ الرَّسولِ بكلِّ واحدٍ منهم حاصِلةٌ، وإنَّما ترَكَ اللهُ تَعريفَه إيَّاهم بسِيماهُم، ووَكَلَه إلى مَعرِفتِهم بلَحْنِ قَولِهم إبقاءً على سُنَّةِ اللهِ تعالَى في نِظامِ الخَلْقِ بقَدْرِ الإمكانِ؛ لأنَّها سُنَّةٌ ناشِئةٌ عن الحِكمةِ، فلمَّا أُرِيدَ تَكريمُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإطْلاعِه على دَخائلِ المُنافِقين، سَلَكَ اللهُ في ذلك مَسلَكَ الرَّمْزِ [521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/121، 122). .
- واللَّامُ في وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ لامُ القَسَمِ المَحذوفِ [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/122). .
- وقولُه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ تَذْييلٌ؛ فهو -لِعُمومِه- خِطابٌ لِجَميعِ الأُمَّةِ المَقصودُ منه التَّعليمُ، وهو مع ذلك كِنايةٌ عن لازِمِه، وهو الوَعيدُ لِأهْلِ الأعمالِ السَّيِّئةِ على أعْمالِهم، والوعْدُ لِأهْلِ الأعمالِ الصَّالحةِ على أعْمالِهم، وتَنبيهٌ لِأهْلِ النِّفاقِ بأنَّ اللهَ يُوشِكُ أنْ يَفضَحَ نِفاقَهم [523] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/122). .
- واجتِلابُ المُضارِعِ في قَولِه: يَعْلَمُ؛ لِلدَّلالةِ على أنَّ عِلْمَه بذلك مُستمِرٌّ [524] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/122). .
3- قَولُه تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ عطْفٌ على قَولِه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد: 30] ، ومَعناهُ الاحْتِراسُ ممَّا قدْ يَتوهَّمُ السَّامِعونَ مِن قَولِه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ مِن الاسْتِغناءِ عن التَّكليفِ، ووَجْهُ هذا الاحتِراسِ: أنَّ عِلْمَ اللهِ يَتعلَّقُ بأعْمالِ النَّاسِ بعْدَ أنْ تَقَعَ، ويَتعلَّقُ بها قبْلَ وُقوعِها بأنَّها سَتَقعُ، ويَتعلَّقُ بعَزْمِ النَّاسِ على الاستِجابةِ لِدَعوةِ التَّكاليفِ قُوَّةً وضَعْفًا، ومِن عَدَمِ الاستِجابةِ كُفْرًا وعِنادًا؛ فبَيَّنَ بهذه الآيةِ أنَّ مِن حِكْمةِ التَّكاليفِ أنْ يَظهَرَ أثَرُ عِلْمِ اللهِ بأحْوالِ النَّاسِ، وتَقومَ الحُجَّةُ عليهم [525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/123). .
- وقولُه: حَتَّى نَعْلَمَ مُستعمَلٌ في معنَى: حتَّى نُظهِرَ للنَّاسِ الدَّعاويَ الحقَّ مِن الباطِلةِ؛ فالعِلمُ كِنايةٌ عن إظْهارِ الشَّيءِ المَعلومِ، بقَطْعِ النَّظَرِ عن كَونِ إظْهارِه لِلْغيرِ أو لِلمُتكلِّمِ [526] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/124). .
- قولُه: وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ بَلْوُ الإخبارِ: كِنايةٌ عن أحوالِ أعْمالِهم مِن خَيرٍ وشَرٍّ؛ لأنَّ الأخبارَ إنَّما هي أخبارٌ عن أعْمالِهم، وهذه عِلَّةٌ ثانيةٌ عُطِفَتْ على قَولِه: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ. وأُعِيدَ عطْفُ فِعلِ (نَبْلُوَ) على فِعلِ نَعْلَمَ، وكان مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُعطَفَ أَخْبَارَكُمْ بالواوِ على ضَميرِ المُخاطَبينَ في (لَنَبْلُوَنَّكُمْ)، ولا يُعادَ (نَبْلُوَ)؛ فالعُدولُ عن مُقْتضَى ظاهِرِ النَّظْمِ إلى هذا التَّركيبِ؛ لِلمُبالَغةِ في بَلْوِ الأخبارِ؛ لأنَّه كِنايةٌ عن بَلْوِ أعْمالِهم، وهي المَقصودُ مِن بَلْوِ ذَواتِهم، فذِكْرُه كذِكْرِ العامِّ بعْدَ الخاصِّ؛ إذ تَعلَّقَ البَلْوُ الأوَّلُ بالجِهادِ والصَّبْرِ، وتَعلَّقَ البَلْوُ الثَّاني بالأعمالِ كلِّها، وحصَلَ مع ذلك تأْكيدُ البَلْوِ تأْكيدًا لَفظيًّا [527] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/357)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/124، 125). .