موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيتان (8-9)

ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ

المعنى الإجماليُّ:

يبيِّنُ الله تعالى أنَّ طاعتَه يجبُ أنْ تُقَدَّمَ على كلِّ طاعةٍ، فيقولُ: وعَهِدْنا إلى الإنسانِ أن يُبالِغَ في الإحسانِ إلى والِدَيه، وإنْ جاهَداك لِتَجعَلَ لله شَريكًا لا تعلَمُ حُجَّةً على ألوهيَّتِه، فلا تُطِعْهما في ذلك، إلَيَّ مَصيرُكم يومَ القيامةِ فأُخبِرُكم بما كُنتُم تَعمَلونَ مِن خيرٍ وشَرٍّ. والَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ لَنُدخِلنَّهم في جُملةِ الصَّالحينَ.

تَفسيرُ الآيتَينِ:

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى ثوابَ مَن حَقَّق التَّكاليفَ؛ أُصولَها وفُروعَها؛ تحريضًا للمُكَلَّفِ على الطَّاعةِ- ذكَرَ المانِعَ، ومَنَعَه مِن أن يختارَ اتِّباعَه، فقال: الإنسانُ إنِ انقاد لأحدٍ ينبغي أن ينقادَ لأبوَيه، ومع هذا لو أمَرَاهُ بالمعصيةِ لا يجوزُ اتِّباعُهما، فضلًا عن غيرِهما، فلا يمنَعَنَّ أحَدَكم شَيءٌ مِن طاعةِ الله، ولا يَتبَعَنَّ أحَدٌ مَن يأمُرُ بمعصيةِ اللهِ [78] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/31). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه أنَّه لا بُدَّ مِن الفِتنةِ، وحذَّرَ مَن كَفَر، وبشَّرَ مَن صَبَر؛ قال عاطِفًا على وَلَقَدْ فَتَنَّا مُشيرًا إلى تَعظيمِ حُرمةِ الوالِدِ؛ حيثُ جعَلَها في سياقِ تَعظيمِ الخالِقِ، وإلى أنَّها أعظَمُ فِتنةٍ [79] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/395). :
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: (حلَفَتْ أمُّ سَعدٍ ألَّا تُكَلِّمَه أبدًا حتَّى يَكفُرَ بدينِه، ولا تأكُلَ ولا تَشرَبَ. قالتْ: زعَمْتَ أنَّ اللهَ وصَّاك بوالِدَيك، وأنا أمُّك، وأنا آمُرُك بهذا! قال: مَكثَتْ ثلاثًا حتَّى غُشِيَ عليها مِنَ الجَهدِ، فقام ابنٌ لها يُقالُ له: عُمارةُ، فسَقاها، فجعَلَت تدعو على سَعدٍ، فأنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ في القُرآنِ هذه الآيةَ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [80] رواه مسلم (1748). قال النيسابوري: (اتَّفق المفسِّرون على أنَّ هذه الآيةَ نزلت في سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ وفي أمِّه حَمْنةَ بنتِ أبي سُفيانَ). ((تفسير النيسابوري)) (5/425). .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا.
أي: وأمَرْنا الإنسانَ أمرًا مؤكَّدًا وعَهِدْنا إليه أن يُحسِنَ إلى والِدَيه قَولًا وفِعلًا، وأن يُحافِظَ على ذلك [81] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/362)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 829)، ((تفسير ابن كثير)) (6/264)، ((تفسير القاسمي)) (7/547)، ((تفسير السعدي)) (ص: 627)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 33، 34). .
كما قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36] .
وقال سُبحانَه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23، 24].
وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا.
أي: وإنْ بذَلَ والِداك -أيُّها المُسلِمُ- جُهدَهما لِتَجعَلَ لي شَريكًا لا تَعلَمُ حُجَّةً على ألوهيَّتِه، فلا تُطِعْهما في ذلك [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/363)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 829)، ((تفسير ابن كثير)) (6/265)، ((تفسير القاسمي)) (7/547)، ((تفسير السعدي)) (ص: 627)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/213، 214). .
كما قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 15].
عن عليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا طاعةَ في مَعصيةٍ، إنَّما الطَّاعةُ في المَعروفِ)) [83] رواه البخاري (7145، 7257)، ومسلم (1840). .
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: إلَيَّ مَصيرُكم يومَ القيامةِ، فأُخبِرُكم بجَميعِ أعمالِكم: ظاهِرِها وخَفيِّها، خَيرِها وشَرِّها؛ وأُجازيكم عليها، ومِن ذلك إحسانُكم إلى والِدِيكم، وصَبرُكم وثباتُكم على دينِكم [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/363)، ((تفسير ابن كثير)) (6/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 627)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/215). .
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9).
أي: والَّذين آمَنوا بما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ بإخلاصٍ لله ومُتابعةٍ لِشَرعِه: لَنُدخِلَنَّهم [85] قيل: المرادُ: لَنُدخِلَنَّهم مُدخَلَ الصَّالحينَ، وهو الجنَّةُ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والقرطبي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/363)، ((تفسير القرطبي)) (13/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 627). وقيل: المعنى: في زُمْرتِهم وجُملتِهم، يُحشَرونَ معهم يومَ القيامةِ. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: الواحديُّ، والسمعاني، والرَّسْعَنيُّ، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 829)، ((تفسير السمعاني)) (4/169)، ((تفسير الرسعني)) (5/592)، ((تفسير ابن كثير)) (6/265)، ((تفسير الشوكاني)) (4/224)، ((تفسير الألوسي)) (10/345). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3037). قال الواحدي: (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي: في زُمرتِهم وجملتِهم، ومعناه: لَنَحشُرَنَّهم معهم). ((الوجيز)) (ص: 829). في جُملةِ الصَّالحينَ [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/363)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 829)، ((تفسير القرطبي)) (13/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 627). قيل: المرادُ بالصَّالحينَ هنا: الأنبياءُ والأولياءُ. وممَّن قال بذلك: الواحديُّ، والبَغَويُّ، والعُلَيميُّ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (17/497)، ((تفسير البغوي)) (3/551)، ((تفسير العليمي)) (5/232). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3037). وقيل: المرادُ بهم: الأنبياءُ فقط. وممَّن قال بذلك: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 40، 41). .
كما قال تعالى عن نبيِّه إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة: 130] .
وقال سُبحانه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] .
وقال يوسفُ عليه السَّلامُ فيما حكاه اللهُ عنه: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] .
وقال سُلَيمانُ عليه السَّلامُ فيما حكاه اللهُ عنه: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] .
وقال سُبحانَه عن الأنبياءِ: وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنبياء: 86] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 27 - 30] .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا يَحُثُّ الإنسانَ على بِرِّ الوالِدَينِ والإحسانِ إليهما بالقَولِ والعَمَلِ، وأن يحافِظَ على ذلك، ولا يَعُقَّهما ويُسيءَ إليهما في قَولِه وعَمَلِه [87] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 627). .
2- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ مَنْ آمَنَ باللهِ وعَمِلَ صالِحًا، فإنَّ اللهَ وعَدَه أن يُدخِلَه الجنَّةَ في جُملةِ عبادِه الصَّالحينَ؛ مِنَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالحينَ، كلٌّ على حسَبِ درَجتِه ومَرتبتِه عندَ اللهِ؛ فالإيمانُ الصَّحيحُ والعمَلُ الصَّالحُ عُنوانٌ على سعادةِ صاحِبِه، وأنَّه مِن أهلِ الرَّحمنِ والصَّالحينَ مِن عبادِ اللهِ تعالى [88] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 627). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا فلا طاعةَ لِمَخلوقٍ -وإنْ عَظُمَ- في مَعصيةِ الخالِقِ، وهذا مُوجِبٌ لئلَّا يقَعَ مِن أحدٍ شِركٌ أصلًا؛ فإنَّه لا رَيْبَ أصلًا في أنَّه لا شُبهةَ تقومُ على أنَّ غَيرَه تعالى يَستحِقُّ الإلهيَّةَ، فكيف بدَليلٍ يُوجِبُ عِلمًا؟! والمقصودُ مِن سياقِ الكلامِ إظهارُ النَّصَفةِ، والتَّنبيهُ على النَّصيحةِ؛ لِيَكونَ أدعَى إلى القَبولِ [89] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/396). .
2- قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قوله: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ موافَقةٌ للواقعِ؛ فلا مفهومَ له [90] يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 521). ، فهو بيانٌ للواقعِ أنَّ كلَّ شِرْكٍ باللهِ فإنَّه لا عِلْمَ به عندَ الإنسانِ؛ قال اللهُ تعالى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [الأعراف: 33] ، ومعلومٌ أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى ما جَعَل شِركًا فيه سُلطانٌ؛ فكلُّ الشِّركِ ليس فيه سلطانٌ، بل إنَّ الشركَ قد قام السُّلطانُ والعِلْمُ الصَّحيحُ على أنَّه باطلٌ، فصار قولُه: لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ معناه: أنَّه موافِقٌ للواقِعِ، فيكونُ كالتَّعليلِ لتَحريمِ الشِّركِ، كأنَّه يقولُ: على أنْ تشركَ بي والحالُ أنَّ الشِّركَ ليس لك به عِلْمٌ؛ فإنَّ الشِّركَ قطعًا لا يمكنُ أنْ يقومَ الدَّليلُ على وجودِه، بل إنَّ الدَّليلَ الصَّحيحَ على انتفائِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا شَريكَ له سُبحانَه [91] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 35). .
3- قولُه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: بإلهيَّتِه، عبَّرَ عن نفْيِها بنَفْيِ العِلْمِ بها؛ للإيذانِ بأنَّ ما لا يُعلَمُ صِحَّتُه لا يجوزُ اتِّباعُه وإنْ لم يُعلَمْ بطلانُه، فكيف بما عُلِمَ بُطلانُه [92] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/442)، ((تفسير البيضاوي)) (4/189)، ((تفسير أبي السعود)) (7/31)، ((تفسير القاسمي)) (7/547)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/214). ؟!
4- قال الله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ، مِن لَطيفِ مُناسبةِ هذا الظَّرفِ في هذا المَقامِ: أنَّ المؤمنَ لَمَّا أُمِرَ بعِصيانِ والدَيْه إذا أمَراهُ بالشِّركِ، كان ذلك ممَّا يُثِيرُ بيْنَه وبيْنَ أبوَيْه جَفاءً وتَفرِقةً، فجعَلَ اللهُ جزاءً عن وَحشةِ تلك التَّفرِقةِ أُنْسًا بجَعْلِه في عِدادِ الصَّالحينَ يأنَسُ بهم [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/215). .

بلاغةُ الآيتَينِ:

1- قولُه تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بيَّنَ اللهُ بهذه الآيةِ ما على المُسلمِ في مُعامَلةِ أنْسِبائِه مِن المُشركين، وخصَّ بالذِّكرِ منها نسَبَ الوالِدَينِ؛ لأنَّه أقرَبُ نسَبٍ؛ فيَكونُ ما هو دونَه أَوْلى بالحُكْمِ الَّذي يُشْرَعُ له [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/212). .
- والمقصودُ مِن الآيةِ هو قولُه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ... إلى آخرِه، وإنَّما افْتُتِحَت بـ (وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)؛ لأنَّه كالمُقدِّمةِ للمقصودِ؛ ليَعلَمَ أنَّ الوِصايةَ بالإحسانِ إلى الوالِدَينِ لا تَقتَضي طاعتَهما في السُّوءِ ونحْوِه، ولِقَصْدِ تَقريرِ حُكْمِ الإحسانِ للوالدينِ في كلِّ حالٍ إلَّا في حالِ الإشراكِ؛ حتَّى لا يَلتبِسَ على المُسلمينَ وجْهُ الجمْعِ بيْنَ الأمرِ بالإحسانِ للوالدينِ وبيْن الأمرِ بعِصيانِهما إذا أمَرَا بالشِّركِ؛ لإبطالِ قَولِ مَن يقولُ: أليس مِن دِينِ محمَّدٍ البِرُّ بالوالدينِ؟! ونحوِه [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/213). .
- وفي قَولِه: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث ذَكرَه في (الأحقافِ) إِحْسَانًا [الأحقاف: 15] ، وحَذَفَه في (لُقمانَ)؛ لأنَّ الوصيَّةَ هنا وفي (الأحقافِ) جاءت في سِياقِ الإجمالِ، وفي (لُقمانَ) جاءت مُفصَّلةً؛ لِمَا تقدَّمَها مِن تَفصيلِ كلامِ لُقمانَ لابْنِه، ولأنَّ قولَه بعْدَها: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14] قائمٌ مَقامَه؛ فحسُنَ حذْفُه [96] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 435). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا أنَّه قال هنا: لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، وقال في (لُقمانَ): عَلى أَنْ تُشْرِكَ [لقمان: 15] ؛ مُوافقةً هنا لفظًا لِلَفْظِ اللَّامِ في قَولِه: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ [العنكبوت: 6] ، وحمْلًا للمعنَى بطَريقِ التَّضمينِ في (لُقمانَ)؛ إذِ التَّقديرُ: وإنْ حَمَلاكَ على أنْ تُشرِكَ بي... [97] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 435). .
- وجُملةُ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لزِيادةِ تَحقيقِ ما أشارتْ إليه مُقدِّمةُ الآيةِ مِن قولِه: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا؛ لأنَّ بقيَّةَ الآيةِ لَمَّا آذَنَتْ بفَظاعةِ أمْرِ الشِّركِ، وحذَّرتْ مِن طاعةِ المرْءِ والدَيْه فيه؛ كان ذلك ممَّا يُثِير سؤالًا في نُفوسِ الأبناءِ: أنَّهم هل يُعامِلون الوالدينِ بالإساءةِ لأجْلِ إشْراكِهما؟ فأُنْبِئوا أنَّ عِقابَهما على الشِّركِ مُفَوَّضٌ إلى اللهِ تعالى؛ فهو الَّذي يُجازي المحسنينَ والمُسيئينَ [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/214، 215). .
- قولُه: فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الإنباءُ: الإخبارُ، وهو مُستعمَلٌ كِنايةً عن عِلْمِه تعالى بما يَعمَلونه مِن ظاهرِ الأعمالِ وخَفِيِّها، أي: ما يُخْفُونه عن المسلمينَ وما يُكِنُّونه في قُلوبِهم، وذلك أيضًا كِنايةٌ عن الجزاءِ عليه مِن خَيرٍ أو شرٍّ؛ ففي قَولِه: فَأُنَبِّئُكُمْ كِنايتانِ: أُولاهما إيماءٌ، وثانيتُهما تلويحٌ، أي: فأُجازِيكم ثوابًا على عِصيانِهما فيما يأْمُرانِ، وأُجازِيهما عذابًا على إشراكِهما [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/215). .
2- قولُه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ كرَّر تعالى ما رتَّبَ للمؤمنينَ مِن دُخولِهم في الصَّالحينَ؛ لِيُحرِّكَ النُّفوسَ إلى نَيْلِ مَراتبِهم [100] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/343). . وهذه الآيةُ تَصريحٌ ببعضِ ما أفادَتْه الكِنايةُ الَّتي في قَولِه: فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؛ اهتِمامًا بجانبِ جزاءِ المؤمنينَ. وقد أُشِيرَ إلى شرَفِ هذا الجزاءِ بأنَّه جزاءُ الصَّالحينَ الكاملينَ، كقولِه: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/215). [النساء: 69] .