موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيتان (15-16)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ

غريب الكلمات:

كُرْهًا: أي: مَشَقَّةً وتَعَبًا، وأصلُ (كره): يدُلُّ على خِلافِ الرِّضا والمحَبَّةِ [225] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 82)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 395)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/172)، ((البسيط)) للواحدي (20/176)، (المفردات)) للراغب (ص: 707)، ((تفسير ابن عطية)) (5/97). .
وَفِصَالُهُ: أي: فِطامُه، وأصلُ (فصل): يدُلُّ على تمييزِ الشَّيءِ مِن الشَّيءِ، وإبانتِه عنه؛ لانفِصالِ المولودِ عن الاغتِذاءِ بثَدْيِ أمِّه إلى غيرِه مِن الأقواتِ، ومنه سُمِّيَ الفَصِيلُ -ولَدُ النَّاقةِ- فَصِيلًا؛ لأنَّه مَفصُولٌ عن أمِّه [226] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 344)، ((تفسير ابن جرير)) (18/551)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/505)، ((البسيط)) للواحدي (4/254). .
بَلَغَ أَشُدَّهُ: أي: بلَغَ غايةَ شَبابِه وشِدَّتِه وقُوَّتِه، والأَشُدُّ قيل: هو جمعُ شَدٍّ، وقيل: جمعُ شِدَّةٍ، وقيل: هو جمْعٌ لا واحدَ له، وأصلُ (بلغ): يدُلُّ على الوُصولِ إلى شَيءٍ، وأصلُ (شدد): يدُلُّ على قُوَّةٍ في شَيءٍ [227] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 215، 277)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/301) و(3/179)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 995)، ((تفسير الزمخشري)) (2/367)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 163). .
أَوْزِعْنِي: أي: ألهِمْني، يُقالُ: أوزَعْتُه بكذا، أي: أغرَيْتُه به، وهو مُوزَعٌ بكذا، ومُولَعٌ بكذا، وأصلُ (أوزع): الدَّلالةُ على إزالةِ الوَزْعِ، أي: الانكِفافِ عن عَمَلٍ ما؛ فالهمزةُ فيه للإزالةِ [228] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 323، 407)، ((تفسير ابن جرير)) (18/29)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 72)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 274)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/33). .
ذُرِّيَّتِي: الذُرِّيَّةُ: الأولادُ وأولادُ الأولادِ، فهي اسمٌ يَجمعُ نَسلَ الإنسانِ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى، قيل: أصلُها مِن (ذرَأ)، أي: خلَق، وحُذِفت الهمزةُ منها، وقيل: أصلُها مِن (الذَّرِّ)، بمعنَى التَّفريقِ [229] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 230)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/352)، ((المفردات)) للراغب (ص: 327)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/157)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 92). .

مشكل الإعراب:

1- قَولُه تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا
في نَصبِ إِحْسَانًا وُجوهٌ مِن الإعرابِ:
أحَدُها: أنَّه مَصدَرٌ مَنصوبٌ بفِعلٍ مُقَدَّرٍ، أي: وصَّيْناه أن يُحسِنَ إليهما إحسانًا.
الثَّاني: أنَّه مَفعولٌ به ثانٍ، على تضمينِ (وَصَّيْنا) معنى (ألزَمْنا).
الثَّالِثُ: أنَّه مَنصوبٌ على أنَّه مَفعولٌ لأجْلِه، أي: وصَّيْناه بهما إحسانًا مِنَّا إليهما.
الرَّابعُ: أنَّه مَنصوبٌ على المصدريَّةِ؛ لأنَّ معنى (وَصَّيْنَا): (أَحْسَنَّا)، وعلى الوَجهَينِ الثَّالثِ والرَّابعِ فالمفعولُ الثَّاني هو بِوَالِدَيْهِ.
الخامِسُ: أنَّه حالٌ، على تقديرِ حَذفِ مُضافٍ، أي: ووصَّيْنا الإنسانَ بوالِدَيه ذا إحسانٍ [230] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/442)، ((البسيط)) للواحدي (20/175)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/667). .
2- قَولُه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ
قَولُه تعالى: وَعْدَ الصِّدْقِ مَصدَرٌ مُؤكِّدٌ لِمَضمونِ الجُملةِ السَّابقةِ، فهو مَفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ محذوفٍ، تقديرُه: (وَعَدَ)؛ لأنَّ قَولَه: نَتَقَبَّلُ وَنَتَجاوَزُ وَعدٌ مِن اللهِ لهم بالتَّقَبُّلِ والتَّجاوُزِ، فوعْدُ الصِّدْقِ توكيدٌ لذلك، كأنَّه قال: وَعَدَهم اللهُ بذلك وَعدًا صِدقًا، وهو مِنْ إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه، أي: الوَعدَ الصِّدقَ [231] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/53)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/443)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/670). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ الله تعالى بالإحسانِ إلى الوالدينِ، ويُبيِّنُ ما يَترتَّبُ عليه مِن ثوابٍ، فيقولُ: ووصَّيْنا الإنسانَ أن يُحسِنَ إلى والِدَيه إحسانًا؛ حمَلَتْه أُمُّه كارِهةً، ووضعَتْه كارِهةً؛ لِما تُعانيه في أثناءِ حَمْلِها ووَضْعِها مِن المَشاقِّ والآلامِ والمتاعبِ، ومُدَّةُ حَملِ الجَنينِ مع مُدَّةِ فِطامِه مِن الرَّضاعِ ثلاثونَ شَهرًا. حتَّى إذا بلغَ الوَلَدُ شِدَّةَ قُوَّتِه وكَمالَ عَقلِه، وبلَغ أربعينَ سَنةً؛ قال: رَبِّ ألهِمْني ووفِّقْني لِأن أشكُرَ نِعمَتَك الَّتي أنعَمْتَ بها علَيَّ وعلى والِدَيَّ، وأنْ أعمَلَ عَملًا صالِحًا تَقْبَلُه مِنِّي، وأصلِحْ لي ذُرِّيَّتي، واهْدِهم للإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، إنِّي تُبتُ إليك وإنِّي مِن المُسلِمينَ.
أولئك يَتقَبَّلُ اللهُ عنهم أحسَنَ ما عَمِلوه في الدُّنيا، ويَصفَحُ عن سَيِّئاتِ أعمالِهم، وهم في أهلِ الجنَّةِ، وَعَدهم اللهُ بذلك وَعْدَا صِدْقًا لا يَتخلَّفُ.

تفسير الآيتين:

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الله تعالى في الآيةِ السابقةِ: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؛ قالَ: وَوَصَّيْنَا؛ إذْ كانَ بِرُّ الوالدَيْنِ ثانِيًا أفْضلَ الأعمالِ [232] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/439). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى في الآيةِ الأُولى التَّوحيدَ له، وإخلاصَ العِبادةِ، والاستِقامةَ إليه؛ عَطَف بالوَصيَّةِ بالوالِدَينِ، كما هو مَقرونٌ في غيرِ ما آيةٍ مِن القُرآنِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/279). .
وأيضًا بَيَّنَ هنا اختِلافَ حالِ الإنسانِ مع أبَوَيه؛ فقد يُطيعُهما وقد يُخالِفُهما، أي: فلا يَبعُدُ مِثلُ هذا في حَقِّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقَومِه، حتَّى يستجيبَ له البَعضُ ويَكفُرَ البَعضُ؛ فهذا وجهُ اتِّصالِ الكلامِ بَعْضِه ببَعضٍ [234] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/192). .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا.
أي: وأَمَرْنا الإنسانَ وعَهِدْنا إليه عَهدًا أن يُحسِنَ إلى والِدَيه ويَبَرَّهما [235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/136)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/442)، ((تفسير ابن كثير)) (7/279)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781). قال ابنُ عطيَّة: (أي: هكذا مَضَت شرائعي وكُتُبي لأنبيائي؛ فهي وَصيَّةٌ مِن اللهِ في عبادِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/96). .
كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت: 8] .
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا.
أي: حمَلَتْه أُمُّه في بَطنِها فقاسَت في ذلك مَشَقَّةً شَديدةً جعَلَتْها كارِهةً لأحوالِ ذلك الحَملِ؛ مِنَ الثِّقلِ، والغَثَيانِ، والضَّعفِ، وغَيرِ ذلك [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/137)، ((تفسير ابن كثير)) (7/280)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/29)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/222، 223). .
كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14] .
وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا.
أي: وتَضَعُ مَولودَها بآلامٍ شَديدةٍ ومَشَقَّةٍ عَظيمةٍ تَجعَلُها كارِهةً لِوَضعِه [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/137)، ((تفسير ابن كثير)) (7/280)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/29)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/223). .
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا.
أي: ومُدَّةُ حَملِ الجَنينِ في بَطنِ أمِّه مع مُدَّةِ فِطامِه مِن الرَّضاعِ تَبلُغُ ثلاثينَ شَهرًا [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/138)، ((تفسير القرطبي)) (16/194)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/30). قال السمعاني: (معناه: أنَّ أقَلَّ مُدَّةِ الحَملِ سِتَّةُ أشهُرٍ، ومُدَّةَ الفِصالِ سَنتانِ؛ فذلك ثلاثون شَهرًا). ((تفسير السمعاني)) (5/154). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/280)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/223، 224). .
حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ.
أي: حتَّى إذا بلغَ الوَلَدُ شِدَّةَ قُوَّتِه وكَمالَ عَقلِه، وذلك في سِنِّ الشَّبابِ [239] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/302)، ((تفسير ابن كثير)) (7/280)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781). وفي معنى بُلوغِ الأشُدِّ أقوالٌ: قيل: المرادُ: الاحتلامُ. وممَّن اختاره: ابنُ أبي زَمَنين. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/226). وقيل: المرادُ: بلوغُ ثمانيَ عَشْرةَ سنةً. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مُقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/20). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ جُبَيرٍ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/276). وقيل: المرادُ: بلوغُ سِنِّ الثَّالثةِ والثَّلاثينَ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي، والواحدي، ونَسَبه الرَّازيُّ إلى جمهورِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/139)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/442)، ((تفسير السمرقندي)) (3/288)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 995)، ((تفسير الرازي)) (28/16). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/107). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/139). وقيل: المرادُ: بلوغُ سِتٍّ وثلاثينَ. وممَّن اختار هذا القولَ: ابنُ عطيَّة، والثعالبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/97)، ((تفسير الثعالبي)) (5/216). وقال الزمخشري: (بُلوغُ الأشُدِّ: أن يَكتَهِلَ ويَستوفيَ السِّنَّ الَّتي تَستحكِمُ فيها قُوَّتُه وعَقلُه وتَمييزُه، وذلك إذا أنافَ على الثَّلاثينَ وناطح الأربَعينَ). ((تفسير الزمخشري)) (4/302). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/33). وقيل: هو ما بيْنَ ثماني عَشْرةَ سنةً إلى أربعين سنةً. وممَّن اختاره: الثعلبيُّ، والبغويُّ، والخازنُ. ((تفسير الثعلبي)) (9/12)، ((تفسير البغوي)) (4/195)، ((تفسير الخازن )) (4/130). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/276، 277). وقال ابن القيِّم: (وقد أحكَمَ الأزهريُّ [تفسيرَ] اللَّفظةِ، فقال: بُلوغُ الأَشُدِّ يكونُ مِن وَقتِ بُلوغِ الإنسانِ مَبلَغَ الرِّجالِ الى أربعينَ سَنةً، قال: فبُلوغُ الأشُدِّ مَحصورُ الأوَّلِ، مَحصورُ النِّهايةِ، غيرُ مَحصورِ ما بيْنَ ذلك، فبُلوغُ الأشُدِّ مَرتَبةٌ بيْنَ البُلوغِ وبينَ الأربَعينَ). ((تحفة المودود)) (ص: 300). ويُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (11/182- 183). وقال الجَصَّاصُ: (جائزٌ أن يكونَ المرادُ ببُلوغِ الأشُدِّ قبْلَ أربعينَ سَنةً وقبْلَ الاستِواءِ، وإذا كان كذلك فالأشُدُّ ليس له مِقدارٌ مَعلومٌ في العادةِ لا يزيدُ عليه ولا يَنقُصُ منه، وقد يختَلِفُ أحوالُ النَّاسِ فيه؛ فيبلغُ بَعضُهم الأشُدَّ في مدَّةٍ لا يَبلُغُه غيرُه في مِثلِها؛ لأنَّه إن كان بُلوغُ الأشُدِّ هو اجتِماعَ الرَّأيِ واللُّبِّ بعدَ الحُلُمِ، فذلك مختَلِفٌ في العادةِ، وإن كان بُلوغُه اجتماعَ القُوى وكمالَ الجِسمِ فهو مختلِفٌ أيضًا، وكلُّ ما كان حُكمُه مَبنيًّا على العاداتِ فغيرُ مُمكِنٍ القَطعُ به على وَقتٍ لا يَتجاوَزُه ولا يَقصُرُ عنه، إلَّا بتوقيفٍ أو إجماعٍ). ((أحكام القرآن)) (3/263). .
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
أي: وبلَغ أربعينَ سَنةً، فكَمَل حِينَها عَقلُه وقُوَّتُه، وتكامَلَت حُجَّةُ اللهِ عليه [240] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/140)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/226)، ((تفسير ابن جزي)) (2/276)، ((تفسير ابن كثير)) (7/280). قال البِقاعي: (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فاجتَمَع أشُدُّه، وتمَّ حَزمُه وجِدُّه، وزالت عنه شِرَّةُ الشَّبابِ وطَيشُ الصِّبا ورُعونةُ الجَهلِ؛ ولذلك كان هذا السِّنُّ وقتَ بَعثةِ الأنبياءِ، وهو يُشعِرُ بأنَّ أوقاتَ الصِّبا أخَفُّ في المؤاخَذةِ مِمَّا بَعْدَها، وكذا ما بيْنَ أوَّلِ الأشُدِّ والأربَعينَ). ((نظم الدرر)) (18/148). .
قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ.
أي: قال: رَبِّ ألهِمْني ووفِّقْني لِأن أشكُرَ ما أنعَمْتَ به علَيَّ، وعلى أبي وأُمِّي [241] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/140)، ((تفسير القرطبي)) (16/194)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 57)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/33). .
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ.
أي: وألهِمْني ووَفِّقْني لِأنْ أعمَلَ عَملًا صالِحًا يُرضيك عنِّي، وتَقْبَلُه مِنِّي [242] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/141)، ((تفسير ابن كثير)) (7/281)، ((تفسير الألوسي)) (13/176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781). .
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي.
أي: وأصلِحْ لي نَسْلي وعَقِبي بأنْ تَهديَهم للإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وتُصلِحَ أحوالَهم [243] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/141)، ((تفسير ابن عطية)) (5/98)، ((تفسير ابن كثير)) (7/281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/33، 34). قال ابن جرير: (قوله: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي يقولُ: وأصلِحْ لي أموري في ذُرِّيَّتي الَّذين وُهِبْتُهم، بأنْ تَجعَلَهم هُداةً للإيمانِ بك، واتِّباعِ مَرْضاتِك، والعملِ بطاعتِك. فوصَفَه جلَّ ثناؤُه بالبِرِّ بالآباءِ والأمَّهاتِ، والبَنِينَ والبناتِ). ((تفسير ابن جرير)) (21/141). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ثلاثُ دَعَواتٍ مُستَجاباتٌ لا شَكَّ فيهنَّ: دعوةُ الوالِدِ، ودَعوةُ المُسافِرِ، ودَعوةُ المظلومِ)) [244] أخرجه أبو داودَ (1536) واللَّفظُ له، والترمذيُّ (3448)، وابنُ ماجه (3862)، وأحمد (7510). حسَّنه الترمذيُّ، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1536)، وصَحَّحه ابن حِبَّان في ((الصحيح)) (2699)، والقرطبيُّ في ((التفسير)) (16/194)، والنوويُّ في ((الإيضاح)) (62)، وقوَّى إسنادَه الذهبيُّ في ((الكبائر)) (184)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (13/252)، وحَسَّن الحديثَ لغيرِه شُعَيبٌ الأرناؤوط في تخريجِ ((سنن أبي داود)) (1536). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا مات الإنسانُ انقَطَع عنه عَمَلُه إلَّا مِن ثلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولَدٍ صالحٍ يَدعو له )) [245] رواه مسلم (1631). .
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ.
أي: إنِّي تُبتُ إليك مِن ذُنوبي السَّابِقةِ، ورَجعتُ إلى طاعتِك [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/141)، ((تفسير الشوكاني)) (5/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781). .
وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أي: وإنِّي مِن المُستَسلِمينَ لك بالتَّوحيدِ، المُنقادينَ لحُكمِك، الخاضِعينَ لك بالطَّاعةِ في أمْرِك ونَهْيِك [247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/141)، ((تفسير القرطبي)) (16/195)، ((تفسير الشوكاني)) (5/22). قال السمعاني: (اختَلَف المُفَسِّرون فيمَنْ نزَلَت هذه الآيةُ؟ فقال الكَلْبيُّ، ومُقاتِلٌ، والضَّحَّاكُ: إنَّها نزلتْ في أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عنه. وقال الحَسَنُ البَصريُّ: إنَّها عامَّةٌ في جميعِ المؤمِنينَ. ومعنَى الآيةِ: هو الإرشادُ إلى شُكرِ اللهِ ودُعاءِ الوالِدَينِ). ((تفسير السمعاني)) (5/154). وقال الرَّسْعَني: (قال جُمهورُ المُفَسِّرينَ: لَمَّا بلغ أبو بكرٍ أربعينَ سَنةً دعا اللهَ تعالى بما ذكَرَه في هذه الآيةِ، فأجابه اللهُ تعالى؛ فأسلَمَ وأسلَمَ والِداه وأولادُه: ذكورُهم وإناثُهم، ولم يَتَّفِقْ ذلك لأحَدٍ غَيرِه مِنَ الصَّحابةِ، وقال الضَّحَّاكُ والسُّدِّيُّ: نزلتْ في سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ). ((تفسير الرسعني)) (7/217). وممَّن اختار أنَّ الآيةَ نزلت في أبي بكرٍ وأنَّه المرادُ بها: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والرازي، والرسعني، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/20)، ((الوسيط)) للواحدي (4/107)، ((تفسير الرازي)) (28/18، 19)، ((تفسير الرسعني)) (7/217)، ((تفسير الخازن)) (4/130)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 668)، ((تفسير العليمي)) (6/289). وممَّن اختار أنَّ الآيةَ عامَّةٌ: الزمخشريُّ، وابنُ عطيَّة، وأبو حيَّان، وهو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ كثيرٍ، والشوكانيِّ، والقاسمي، وابنِ عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/302)، ((تفسير ابن عطية)) (5/98)، ((تفسير أبي حيان)) (9/441)، ((تفسير ابن كثير)) (7/283)، ((تفسير الشوكاني)) (5/22)، ((تفسير القاسمي)) (8/445)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/33). .
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16).
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا.
أي: أولئك يَتقَبَّلُ اللهُ عنهم أحسَنَ الَّذي عَمِلوه في الدُّنيا؛ فيُثيبُهم عليه [248] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/142)، ((الوسيط)) للواحدي (4/108)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/35). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا: الأعمالُ الصَّالحةُ الَّتي عَمِلوها في الدُّنيا، وأنَّ الأحسَنَ هنا بمعنى الحَسَنِ: الواحديُّ، والبغوي، وابنُ الجوزي، والرَّسْعَني، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/182)، ((تفسير البغوي)) (4/196)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/108)، ((تفسير الرسعني)) (7/218)، ((تفسير الخازن)) (4/131)، ((تفسير الشوكاني)) (5/23). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: الطَّاعاتُ وأعمالُهم الحَسَنةُ الصَّالحةُ؛ لأنَّها أحسَنُ ما عَمِلوا؛ لأنَّهم يَعمَلونَ المُباحاتِ وغيرَها، فاسمُ التَّفضيلِ على معناه: البيضاويُّ، وأبو السعود، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/114)، ((تفسير أبي السعود)) (8/83)، ((تفسير السعدي)) (ص: 569). قال ابنُ عاشور: (أي: الإحسانُ بالوالِدَينِ والدُّعاءُ لهما وللذُرِّيَّةِ: مِن أفضَلِ الأعمالِ؛ فهو مِن أحسَنِ ما عَمِلوا، وقد تَقبَّلَ منهم كلَّ ما هو أحسَنُ ما عَمِلوا). ((تفسير ابن عاشور)) (26/35). .
وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ.
أي: ويَصفَحُ الله عن سَيِّئاتِ أعمالِهم؛ فلا يُعاقِبُهم عليها [249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/142)، ((تفسير القرطبي)) (16/196)، ((تفسير الشوكاني)) (5/23). .
فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ.
أي: وهم في عِدادِ أهلِ الجنَّةِ، الَّذين يُفعَلُ بهم مِثلُ ذلك [250] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/142)، ((الوسيط)) للواحدي (4/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/35). .
وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.
أي: وَعَد اللهُ أهلَ الإيمانِ أن يَتقَبَّلَ مِن مُحسِنِهم ويَتجاوَزَ عن مُسيئِهم وَعْدَ الصِّدْقِ والحقِّ الَّذي لا يُخلَفُ، فهو موفٍ لهم به ولا شكَّ [251] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/143)، ((الوسيط)) للواحدي (4/108)، ((تفسير القرطبي)) (16/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781). قال القرطبي: (وَعْدَ الصِّدْقِ وهو مِن بابِ إضافةِ الشَّيءِ إلى نَفْسِه؛ لأنَّ الصِّدقَ هو ذلك الوَعدُ الَّذي وَعَدَه اللهُ، وهو كقَولِه تعالى: حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: 95]، وهذا عندَ الكوفيِّينَ، فأمَّا عندَ البَصريِّينَ فتَقديرُه: وَعْدَ الكَلامِ الصِّدقِ، أو الكِتابِ الصِّدقِ، فحُذِف المَوصوفُ). ((تفسير القرطبي)) (16/196). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا هذا مِن لُطفِه تعالى بعِبادِه وشُكرِه للوالِدَينِ: أنْ وصَّى الأولادَ وعَهِدَ إليهم أن يُحسِنوا إلى والِدَيهم بالقَولِ اللَّطيفِ، والكَلامِ اللَّيِّنِ، وبَذْلِ المالِ والنَّفَقةِ، وغيرِ ذلك مِن وُجوهِ الإحسانِ [252] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 781). . وبِرُّ الوالدينِ واجبٌ بهذه الآيةِ وغيرِها، وعقوقُهما كبيرةٌ [253] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/96). .
2- قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، قَولُه جَلَّ وعلا: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يدُلُّ على أنَّ الإنسانَ كالمُحتاجِ إلى مُراعاةِ الوالِدَينِ له إلى قَريبٍ مِن هذه المُدَّةِ؛ وذلك لأنَّ العَقلَ كالنَّاقِصِ، فلا بُدَّ له مِن رعايةِ الأبوَينِ على رعايةِ المصالحِ، ودَفعِ الآفاتِ [254] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/18). .
3- قَولُ الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ فيه تنبيهٌ على أنَّ نِعَمَ الوالِدَينِ على الوَلَدِ بعدَ دُخولِه في الوُجودِ تمتَدُّ إلى هذه المُدَّةِ الطَّويلةِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ نِعَمَ الوالِدَينِ كأنَّه يَخرُجُ عن وُسعِ الإنسانِ مُكافأتُهما إلَّا بالدُّعاءِ والذِّكرِ الجَميلِ [255] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/18). !
4- قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ أمَرَ الله بالإحسانِ إلى الوالِدَيْن في المُشاهَدةِ والغَيبةِ، وبجَميعِ وَسائلِ الإحسانِ الَّذي غايَتُه حُصولُ النَّفْعِ لهما، وأنَّ اللهَ لَمَّا أمَرَ بالدُّعاءِ للأَبوَينِ وَعَدَ بإجابتِه على لِسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِقَولِه: ((إذا مات الإنسانُ انقَطَع عنه عَمَلُه إلَّا مِن ثلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولَدٍ صالحٍ يَدعو له )) [256] رواه مسلم (1631). ، وما شَكَرَ الولَدُ ربَّه على النِّعمةِ الَّتي أنْعَمَها اللهُ على والِدَيْه إلَّا مِن بابِ نِيابَتِه عنْهما في هذا الشُّكرِ، وهو مِن جُملةِ العمَلِ الَّذي يُؤدِّيه الولَدُ عن والِدَيْه [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/32). .
5- قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ هذا فيه إرشادٌ لِمَن بلَغَ الأربعينَ أن يُجَدِّدَ التَّوبةَ والإنابةَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَعزِمَ عليها [258] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/281). .
6- قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّه ينبغي لِمَن بلغَ عُمُرُه أربعينَ سَنةً أن يَستكثِرَ مِن هذه الدَّعَواتِ [259] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/22). .
7- قَولُ الله تعالى: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي استِطرادٌ في أثناءِ الوِصايةِ بالدُّعاءِ للوالِدَينِ بألَّا يَغفُلَ الإنسانُ عن التَّفَكُّرِ في مُستَقبَلِه، بأن يَصرِفَ عِنايتَه إلى ذُرِّيَّتِه كما صرَفَها إلى أبَوَيه؛ لِيَكونَ له مِن إحسانِ ذُرِّيَّتِه إليه مِثلُ ما كان منه لأبَوَيه، وإصلاحُ الذُّرِّيَّةِ يَشملُ إلهامَهم الدُّعاءَ إلى الوالِدِ [260] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/33). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا يدُلُّ على أنَّ حَقَّ الأُمِّ أعظَمُ؛ لأنَّه قال أوَّلًا: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا، فذَكَرهما معًا، ثمَّ خَصَّ الأُمَّ بالذِّكرِ، فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا، وذلك يدُلُّ على أنَّ حَقَّها أعظَمُ، وأنَّ وُصولَ المشاقِّ إليها بسبَبِ الوَلَدِ أكثَرُ [261] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/15). ، وأنَّ حَقَّها آكَدُ مِن حَقِّ الأبِ؛ لأنَّها حمَلَتْه بمَشقَّةٍ، ووضَعَتْه بمَشقَّةٍ، وأرضَعَتْه هذه المُدَّةَ بتَعَبٍ ونَصَبٍ، ولم يُشارِكْها الأبُ في شَيءٍ مِن ذلك [262] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/22). .
2- قَولُ الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ فيه لطيفةٌ: ذكَرَ تعالى الأُمَّ في ثلاثِ مَراتِبَ؛ في قَولِه: بِوَالِدَيْهِ وَحَمْلُهُ، وفي إرضاعِه المُعَبَّرِ عنه بالفِصالِ، وذكَرَ الوالِدَ في واحدةٍ؛ في قَولِه: بِوَالِدَيْهِ؛ فناسَبَ ما قال الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن جَعلِ ثلاثةِ أرباعِ البِرِّ للأُمِّ، والرُّبُعِ للأَبِ، عندَما جاء رجُلٌ إليه، فقال: ((يا رسولَ الله، مَنْ أَبَرُّ؟ قال: أُمَّكَ، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: أُمَّكَ، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: أُمَّكَ، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: أباكَ)) [263] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/440). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (5/97). والحديث أخرجه أبو داودَ (5139)، والترمذيُّ (1897)، وأحمد (20028) مِن حديثِ مُعاويةَ ابنِ حَيْدةَ رضيَ الله عنه. ولفظُ أبي داودَ: ((قلت: يا رسولَ الله، مَنْ أبَرُّ؟ قال: أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك، ثمَّ أباك، ثمَّ الأقربَ فالأقربَ)). حسَّنه الترمذي، وابنُ عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/1217)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5139): (حسَنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه لغيرِه شعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((سنن أبي داود)) (5139). وأخرجه البخاري (5971)، ومسلمٌ (2548) من حديث أبي هريرةَ رضيَ الله عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((جاء رجُلٌ إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فقال: يا رسولَ الله، مَنْ أحَقُّ بحُسْنِ صَحابتي؟ قال: أمُّك. قال: ثمَّ مَنْ؟ قال: أمُّك. قال: ثمَّ مَن؟ قال: أمُّك. قال: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ أبوك)). .
3- قَولُ الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا يدُلُّ على أنَّ أقَلَّ مُدَّةِ الحَملِ سِتَّةُ أشهُرٍ؛ لأنَّه لَمَّا كان مجموعُ مُدَّةِ الحَملِ والرَّضاعِ ثلاثينَ شَهرًا، وكان أكثَرُ الرَّضاعِ أربعةً وعِشرينَ شهرًا؛ لِقَولِه تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة: 233] ، فإذا أسقَطْتَ الحَولَينِ الكامِلَينِ -وهي أربعةٌ وعِشرونَ شَهرًا- مِنَ الثَّلاثينَ؛ بَقِيَ أقَلُّ مُدَّةِ الحَملِ: سِتَّةُ أشهُرٍ [264] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/15). قال ابن كثير: (وقد استَدَلَّ عليٌّ رَضِيَ الله عنه بهذه الآيةِ مع الَّتي في لُقمانَ: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان: 14] ، وقَولِه: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة: 233] : على أنَّ أقَلَّ مُدَّةِ الحَملِ سِتَّةُ أشهُرٍ، وهو استِنباطٌ قَويٌّ صَحيحٌ، ووافَقَه عليه عثمانُ وجماعةٌ مِن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم). ((تفسير ابن كثير)) (7/280). وهذا النَّوعُ مِن الاستِدلالِ يرجِعُ عندَ الأُصوليِّينَ إلى دَلالةِ الإشارةِ -وهي مِن أنواعِ دَلالةِ المنطوقِ-، وهي دَلالةُ اللَّفظِ على معنًى ليس مقصودًا باللَّفظِ في الأصلِ، ولكنَّه لازِمٌ للمَقصودِ، فكأنَّه مقصودٌ بالتَّبَعِ لا بالأصلِ. يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 263، 264)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 283)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/444) و(7/223، 224). .
4- قَولُ الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا رُبَّما أشعَرَ بأنَّ أقَلَّ مُدَّةِ الرَّضاعِ سَنةٌ وتِسعةُ أشهُرٍ؛ لأنَّ أغلَبَ الحَملِ تِسعةُ أشهُرٍ [265] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/146). .
5- قَولُ الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا مِن بَديعِ معنى الآيةِ: جَمعُ مُدَّةِ الحَملِ إلى الفِصالِ في ثلاثينَ شَهرًا؛ لِتُطابِقَ مُختَلِفَ مُدَدِ الحَملِ؛ إذ قد يكونُ الحَملُ سِتَّةَ أشهُرٍ، وسَبعةَ أشهُرٍ، وثمانيةَ أشهُرٍ، وتِسعةً وهو الغالِبُ، قِيل: كانوا إذا كان حمْلُ المرأْةِ تِسعةَ أشْهُرٍ -وهو الغالِبُ- أرْضَعَتِ المولودَ أحَدًا وعشْرينَ شَهْرًا، وإذا كان الحمْلُ ثَمانيةَ أشهُرٍ أرْضَعَت اثْنَينِ وعِشرينَ شَهْرًا، وإذا كان الحمْلُ سَبعةَ أشْهُرٍ أرْضَعَتْ ثلاثةً وعِشرينَ شَهْرًا، وإذا كان الحمْلُ سِتَّةَ أشْهُرٍ أرْضَعَت أربعةً وعِشرينَ شَهْرًا، وذلك أقْصى أمَدِ الإرضاعِ، فعوَّضُوا عن نَقْصِ كلِّ شَهرٍ مِن مُدَّةِ الحمْلِ شَهْرًا زائدًا في الإرضاعِ؛ لأنَّ نُقصانَ مُدَّةِ الحمْلِ يُؤثِّرُ في الطِّفلِ هُزالًا [266] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/30). .
6- مِن بَديعِ الطَّيِّ في هذِه الآيةِ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا: أنَّها صالحةٌ للدَّلالةِ على أنَّ مُدَّةَ الحمْلِ قد تكونُ دُونَ تِسعةِ أشْهُرٍ، ولولا أنَّها تكونُ دُونَ تِسعةِ أشهُرٍ لَحدَّدَتْه بتِسعةِ أشْهُرٍ؛ لأنَّ الغرَضَ إظهارُ حَقِّ الأُمِّ في البِرِّ بما تَحمَّلَتْه مِن مَشقَّةِ الحمْلِ؛ فإنَّ مَشقَّةَ مُدَّةِ الحمْلِ أشَدُّ مِن مَشقَّةِ الإرضاعِ؛ فلولا قصْدُ الإيماءِ إلى هذه الدَّلالةِ لَكان التَّحديدُ بتِسعةِ أشْهُرٍ أجدَرَ بالمَقامِ [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/30). .
7- جميعُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ وأئمَّةِ الدِّينِ لا يَعتَقِدونَ عِصمةَ أحَدٍ مِن الصَّحابةِ ولا القَرابةِ ولا السَّابِقينَ ولا غَيرِهم، بل يجوزُ عِندَهم وُقوعُ الذُّنوبِ منهم، واللهُ تعالى يَغفِرُ لهم بالتَّوبةِ، ويَرفَعُ بها دَرَجاتِهم، ويَغفِرُ لهم بحَسَناتٍ ماحيةٍ، أو بغيرِ ذلك مِنَ الأسبابِ؛ قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وقال تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر: 33 - 35] ، ولكِنَّ الأنبياءَ -رِضوانُ اللهِ تعالى عليهم أجمعينَ- هم الَّذين قال العُلَماءُ: إنَّهم مَعصومونَ مِن الإصرارِ على الذُّنوبِ، فأمَّا الصِّدِّيقونَ والشُّهَداءُ والصَّالحونَ فلَيسُوا بمعصومينَ. وهذا في الذُّنوبِ المُحَقَّقةِ، وأمَّا ما اجتَهَدوا فيه فتارةً يُصيبونَ وتارةً يُخطِئون؛ فإذا اجتَهَدوا فأصابوا فلَهم أجْرانِ، وإذا اجتَهَدوا وأخطَؤوا فلهم أجرٌ على اجتِهادِهم، وخَطؤُهم مغفورٌ لهم. وأهلُ الضَّلالِ يَجعَلونَ الخطَأَ والإثمَ مُتلازِمَينِ: فتارةً يَغلُونَ فيهم ويقولون: إنَّهم مَعصومونَ، وتارةً يَجفُونَ عنهم ويقولونَ: إنَّهم باغونَ بالخَطأِ! وأهلُ العِلمِ والإيمانِ لا يُعَصِّمونَ، ولا يُؤَثِّمونَ [268] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/69). .
8- قَولُ الله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ اعلَمْ أنَّه تعالى حكى عن هذا الدَّاعي أنَّه طَلَب مِنَ اللهِ تعالى ثلاثةَ أشياءَ؛ أحَدُها: أن يُوَفِّقَه اللهُ للشُّكرِ على نِعَمِه. الثَّاني: أن يُوَفِّقَه للإتيانِ بالطَّاعةِ المَرْضيَّةِ عندَ اللهِ. الثَّالِثُ: أن يُصلِحَ له في ذُرِّيَّتِه. وفي ترتيبِ هذه الأشياءِ الثَّلاثةِ على الوَجهِ المذكورِ وَجهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ مَراتِبَ السَّعاداتِ ثلاثٌ: أكمَلُها النَّفْسانيَّةُ، وأوسَطُها البَدَنيَّةُ، وأدوَنُها الخارجيَّةُ. والسَّعاداتُ النَّفْسانيَّةُ هي اشتِغالُ القَلبِ بشُكرِ آلاءِ اللهِ ونَعمائِه، والسَّعاداتُ البَدَنيَّةُ هي اشتِغالُ البَدَنِ بالطَّاعةِ والخِدْمةِ، والسَّعاداتُ الخارجيَّةُ هي سَعادةُ الأهلِ والوَلَدِ؛ فلمَّا كانت المراتِبُ مَحصورةً في هذه الثَّلاثةِ لا جَرَمَ رَتَّبَها اللهُ تعالى على هذا الوَجهِ.
والسَّبَبُ الثَّاني لرِعايةِ هذا التَّرتيبِ: أنَّه تعالى قَدَّم الشُّكرَ على العَمَلِ؛ لأنَّ الشُّكرَ مِن أعمالِ القُلوبِ، والعَمَلَ مِن أعمالِ الجوارِحِ، وعَمَلَ القَلبِ أشرَفُ مِن عَمَلِ الجارِحةِ، وأيضًا أنَّه قَدَّم طَلَبَ التَّوفيقِ على الشُّكرِ، وطَلَبَ التَّوفيقِ على الطَّاعةِ على طَلَبِ أن يُصلِحَ له ذُرِّيَّتَه؛ وذلك لأنَّ المَطلوبَينِ الأوَّلَينِ اشتِغالٌ بالتَّعظيمِ لأمرِ اللهِ، والمطلوبَ الثَّالِثَ اشتِغالٌ بالشَّفَقةِ على خَلْقِ اللهِ، ومَعلومٌ أنَّ التَّعظيمَ لأمرِ اللهِ يَجِبُ تَقديمُه على الشَّفَقةِ على خَلْقِ اللهِ [269] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/19). .
9- قَولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ فيه سُؤالٌ: هَبْ أنَّه يَشكُرُ اللهَ على ما أنعَمَ به عليه، فكيف يَشكُرُه على النِّعَمِ الَّتي أنعَمَ بها على والِدَيه، وإنَّما يجِبُ على الرَّجُلِ أن يَشكُرَ رَبَّه على ما يَصِلُ إليه مِنَ النِّعَمِ؟
الجوابُ: أنَّ كُلَّ نِعمةٍ وصَلَتْ مِنَ اللهِ تعالى إلى والِدَيه فقد وَصَل منها أثَرٌ إليه، فالنِّعمةُ عليهما نعمةٌ عليه؛ فلذلك وصَّاه اللهُ تعالى أن يَشكُرَ رَبَّه على الأمْرَينِ [270] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/302)، ((تفسير الرازي)) (28/20). ويُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (1/316-323). .
ثمَّ إنَّ هذا مِن تمامِ بِرِّ الوالِدَينِ؛ كأنَّ هذا الولَدَ خاف أن يكونَ والِداه قَصَّرا في شُكرِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، فسألَ اللهَ أن يُلهِمَه الشُّكرَ على ما أنعَمَ به عليه وعليهما؛ لِيَقومَ بما وَجَب عليهما مِن الشُّكرِ إن كانا قَصَّرا [271] الفائدةُ للوزيرِ ابنِ هُبَيْرةَ، نقَلها عنه ابنُ الجوزي في ((المقتبس))، كما في ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/147). .
10- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ردٌّ على القَدَريَّةِ والمُعتَزِلةِ فيما أخبَرَ عنه مِن إِيزاعِ الشُّكرِ والتَّوفيقِ للعَمَلِ الصَّالحِ، ولو كان مُستطيعًا بنَفْسِه لَكان دعاؤُه مُحَالًا، ثم أثْنى عليه ربُّه، وأضاف العملَ -الَّذي هو أعانَه عليه- إليه، فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فالعَمَلُ حَسَنُه وسَيِّئُه مُضافٌ إلى عامِلِه وإنْ كان مُعانًا على الحَسَنِ، مَقْضِيًّا عليه بالسَّيِّئِ، ولو كانتِ الاستطاعةُ مُستغنيةً بنَفْسِها ما عَمِلَ أحَدٌ عَمَلًا سَيِّئًا أبدًا [272] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/146). !
11- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا التَّقَبُّلُ: ترتُّبُ آثارِ العَمَلِ، مِن ثوابٍ على العَمَلِ، واستِجابةٍ للدُّعاءِ، وفي هذا إيماءٌ إلى أنَّ هذا الدُّعاءَ مَرجوُّ الإجابةِ؛ لأنَّ اللهَ تولَّى تَلقينَه [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/35). .
12- إنْ قيلَ: لِمَ قال تعالى: أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، واللهُ يَتقَبَّلُ الأحسَنَ وما دونَه؟
فالجوابُ مِن وُجوهٍ؛ منها:
الأوَّلُ: المرادُ بالأحسَنِ: الحَسَنُ، كقولِهم: النَّاقِصُ والأشَجُّ أعْدَلا بني مَرْوانَ، أي: عادِلَا بني مَرْوانَ.
الثَّاني: أنَّ الحَسَنَ مِنَ الأعمالِ هو المباحُ الَّذي لا يَتعَلَّقُ به ثوابٌ ولا عِقابٌ، والأحسَنَ ما يُغايِرُ ذلك، وهو كُلُّ ما كان مَندوبًا أو واجِبًا [274] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/21). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
- الِفصالُ: الفِطامُ، وذُكِرَ الفِصالُ؛ لأنَّه انتهاءُ مُدَّةِ الرَّضاعِ؛ فذُكِرَ مَبدأُ مُدَّةِ الحمْلِ بقَولِه: وَحَمْلُهُ، وانتِهاءُ الرَّضاعِ بقَولِه: وَفِصَالُهُ. ولو قِيل: (وحمْلُه وفِطامُه ثلاثونَ شَهرًا) لم يكُنْ نَصًّا في الرَّضاعِ التَّامِّ المُنْتهي بالفِصالِ، والمعنى: وحمْلُه وفِصالُه بيْنَهما ثَلاثونَ شَهْرًا [275] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/302)، ((تفسير البيضاوي)) (5/113)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/287)، ((تفسير أبي حيان)) (9/440)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 82، 83)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/30). .
- قولُه: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً (حتَّى) ابتدائيَّةٌ، ومعناها معنَى فاءِ التَّفريعِ على الكلامِ المُتقدِّمِ، وإذ كانت (حتَّى) لا يُفارِقُها معنَى الغايةِ، كانت مُؤْذِنةً هنا بأنَّ الإنسانَ تَدرَّجَ في أطْوارِه مِن وَقتِ فِصالِه إلى أنْ بلَغَ أشُدَّه، أي: هو مُوصًى بِوالِدَيْه حُسْنًا في الأطوارِ المُوالِيةِ لِفِصالِه، أي: يُوصيه وَلِيُّه في أطْوارِ طُفولتِه، ثمَّ عليه مُراعاةُ وَصيَّةِ اللهِ في وَقتِ تَكليفِه. ووُقوعُ (إذا) بعْدَ (حتَّى)؛ لِيُرتَّبَ عليها تَوقيتُ ما بعْدَ الغايةِ مِن الخبَرِ، أي: كانت الغايةُ وَقتَ بُلوغِه الأشُدَّ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/31). .
- وفي الكلامِ حَذْفٌ تَكونُ (حتَّى) غايةً له، تَقديرُه: فعاشَ بعْدَ ذلك، أو استَمرَّت حَياتُه [277] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/440). .
- ولَمَّا كان (إذا) ظَرْفًا لِزَمنٍ مُستقبَلٍ كان الفِعلُ الماضي بعْدَها مُنقلِبًا إلى الاستِقبالِ، وإنَّما صِيغَ بصِيغةِ الماضي؛ تَشْبيهًا لِلْمؤكَّدِ تَحصيلُه بالواقِعِ، والمعنى: حتَّى يَبلُغَ أشُدَّه، أي: يَستمِرُّ على الإحسانِ إلى والِدَيْه إلى أنْ يَبلُغَ أشُدَّه، فإذا بَلَغَه قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، أي: طلَبَ العَونَ مِن اللهِ تعالى على زِيادةِ الإحسانِ إليهما؛ بأنْ يُلهِمَه الشُّكرَ على نِعَمِه عليه وعلى والِدَيْه، ومِن جُملةِ النِّعمِ عليه أنْ ألْهَمَه الإحسانَ لِوالِدَيْه، ومِن جُملةِ نِعَمِه على والِدَيْه أنْ سخَّرَ لهما هذا الولَدَ لِيُحسِنَ إليهما؛ فهاتانِ النِّعمتانِ أوَّلُ ما يَتبادَرُ عن عُمومِ نِعمةِ اللهِ عليه وعلى والِدَيْه؛ لأنَّ المَقامَ لِلحديثِ عنهما، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ الفِعلَ المُؤقَّتَ بِبُلوغِ الأشُدِّ -وهو فِعلُ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي- مِن جُملةِ ما وُصِّيَ به الإنسانُ، أي: أنْ يُحسِنَ إلى والِدَيْه في وَقتِ بُلوغِه الأشُدَّ؛ فالمعنَى: ووَصَّيْنا الإنسانَ حُسنًا بوالدَيهِ حتَّى في زَمنِ بُلوغِه الأشُدَّ، أي: ألَّا يَفتُرَ عن الإحسانِ إليهما بكُلِّ وجهٍ حتَّى بالدُّعاءِ لهما [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/31، 32). .
وإنَّما خُصَّ زَمانُ بُلوغِ الإنسانِ الأشُدَّ؛ لأنَّه زَمَنٌ يَكثُرُ فيه الكَلَفُ بالسَّعْيِ للرِّزقِ؛ إذ يكونُ له فيه زَوجةٌ وأبناءٌ، وتَكثُرُ تَكاليفُ المرأةِ، فيَكونُ لها فيه زَوجٌ وبَيتٌ وأبناءٌ، فيَكونانِ مَظِنَّةَ أنْ تَشغَلَهما التَّكاليفُ عن تَعهُّدِ والِدَيْهما والإحسانِ إليهما؛ فنُبِّها بألَّا يَفتُرَا عن الإحسانِ إلى الوالدينِ [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/32). .
- الأشُدُّ: قيل: وَقْتُه ما بعْدَ الثَّلاثينَ سَنةً، وتَمامُه عِندَ الأربعينَ سَنةً؛ ولذلك عُطِفَ على بَلَغَ أَشُدَّهُ قَولُه: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أي: بلَغَ الأشُدَّ ووَصَلَ إلى أكْمَلِه، وليس قَولُه: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً تأْكيدًا لِقَولِه: بَلَغَ أَشُدَّهُ؛ لأنَّ إعادةَ فِعلِ (بلغ) تُبعِدُ احتِمالَ التَّأْكيدِ، وحرْفُ العطْفِ أيضًا يُبعِدُ ذلك الاحتِمالَ [280] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/33). .
- ومعنى قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أنَّه دَعا ربَّه بذلك، ومعناهُ: أنَّه مأْمورٌ بالدُّعاءِ إليهما؛ بأنَّه لا يَشغَلُه الدُّعاءُ لِنَفْسِه عن الدُّعاءِ لهما، وبأنَّه يُحسِنُ إليهما بظَهْرِ الغَيبِ منهما حِينَ مُناجاتِه ربَّه؛ فلا جَرَمَ أنَّ إحْسانَه إليهما في المُواجَهةِ حاصِلٌ بفَحْوى الخِطابِ [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/32). وفَحْوى الخِطابِ -ويُسَمَّى تنبيهَ الخِطابِ، ومفهومَ الموافَقةِ-: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطَريقِ الأَولى، وهو نَوعانِ: الأوَّلُ: تَنبيهٌ بالأقَلِّ على الأكثَرِ، كقَولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ؛ فإنَّه نَبَّه بالنَّهيِ عن قَولِ أُفٍّ على النَّهيِ عن الشَّتمِ والضَّربِ وغيرِ ذلك. الثَّاني: تنبيهٌ بالأكثَرِ على الأقَلِّ، كقَولِه تعالى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] . يُنظر: ((تقريب الوصول إلى علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 163). .
- قولُه: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ التَّنكيرُ في قَولِه: صَالِحًا تَرْضَاهُ؛ لِلتَّفخيمِ والتَّكثيرِ، أو لأنَّه أرادَ نوعًا مِن الجِنسِ يَستجلِبُ رِضا اللهِ عزَّ وجلَّ [282] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/302)، ((تفسير البيضاوي)) (5/114)، ((تفسير أبي السعود)) (8/83). . وقيل: في تنكيرِ صَالِحًا إشارةٌ إلى العَجزِ عن بُلوغِ الغايةِ؛ فإنَّه لن يَقدُرَ اللهَ حَقَّ قَدْرِه أحَدٌ [283] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/149). .
- قولُه: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي في إدْماجِ [284] الإدماجُ: هو أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). تَلقينِ الدُّعاءِ بإصْلاحِ ذُرِّيَّتِه، مع أنَّ سِياقَ الكلامِ في الإحسانِ إلى الوالدَينِ: إيماءٌ إلى أنَّ المرْءَ يَلْقى مِن إحسانِ أبْنائِه إليه مِثلَ ما لَقِيَ أبواهُ مِن إحْسانِه إليهما، ولأنَّ دَعْوةَ الأبِ لِابْنِه مَرْجوَّةُ الإجابةِ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/33). .
- واللَّامُ في وَأَصْلِحْ لِي لَامُ العِلَّةِ، أي: أصْلِحْ في ذُرِّيَّتي لِأجْلي ومَنْفعَتي، ونُكتةُ زِيادةِ هذا في الدُّعاءِ: أنَّه بعْدَ أنْ أشارَ إلى نِعَمِ اللهِ عليه وعلى والِدَيْه، تَعرَّضَ إلى نَفَحاتِ اللهِ، فسَأَلَه إصلاحَ ذُرِّيَّتِه، وعَرَّضَ بأنَّ إصْلاحَهم لِفائدتِه، وهذا تَمهيدٌ لِبِساطِ الإجابةِ؛ كأنَّه يقولُ: كما ابْتدَأْتَني بنِعمتِك، وابْتَدَأْتَ والِديَّ بنِعمتِك، ومَتَّعْتَهما بتَوفيقي إلى بِرِّهما؛ كَمِّل إنْعامَك بإصلاحِ ذُرِّيَّتي؛ فإنَّ إصْلاحَهم لي. وهذه تَرْقيَّاتٌ بَديعةٌ في دَرَجاتِ القُرْبِ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/34). .
- وكان الظَّاهرُ أنْ يُقالَ: (أصلِحْ لي ذُرِّيَّتي)؛ لأنَّ الإصلاحَ مُتعَدٍّ، كما في قَولِه تعالى: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء: 90] ، ولكنْ قال هنا: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي فعُدِّيَ بـ (في)؛ لِتَضمُّنِه مَعنى اللُّطفِ، أي: الْطُفْ بي في ذُرِّيَّتي، أو نُزِّلَ مَنزِلةَ اللَّازمِ ثُمَّ عُدِّيَ بـ (في)؛ لِيُفِيدَ سَرَيانَ الصَّلاحِ فيهم، وكَوْنَهم كالظَّرْفِ له؛ لِتَمكُّنِه فيهم [287] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/289)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/34)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/177). .
- وجُملةُ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ كالتَّعليلِ لِلْمَطلوبِ بالدُّعاءِ تَعليلَ تَوسُّلٍ بصِلَةِ الإيمانِ، والإقرارِ بالنِّعمةِ والعُبوديَّةِ، وحَرْفُ (إنَّ) لِلْاهتمامِ بالخبَرِ، وقدْ أغْنى غَناءَ الفاءِ [288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/34). .
2- قولُه تعالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ
- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ... جُملةٌ مُستأْنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ما قبْلَها مِن الوصْفِ والحثِّ يُحدِثُ تَرقُّبَ السَّامعِ لِمَعرفةِ فائدةِ ذلك؛ فكان قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ إلى آخِرِه جَوابًا لِتَرقُّبِه [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/35). .
- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا أُولَئِكَ إشارةٌ إلى الإنسانِ، والجمْعُ؛ لأنَّ المُرادَ به الجنسُ المُتَّصِفُ بالوَصْفِ المَحكِيِّ عنْه [290] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/83)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/34، 35). .
- وأيضًا في اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ: تَنبيهٌ على أنَّهم أحْرِياءُ بما يَرِدُ مِن الإخبارِ عنهم بما بعْدَ الإشارةِ؛ مِن أجْلِ الأوصافِ المذْكورةِ قبْلَ اسمِ الإشارةِ [291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/27، 35). .
وكذلك ما في اسمِ الإشارةِ مِن مَعنى البُعدِ؛ للإشعارِ بعُلُوِّ رُتْبتِه وبُعْدِ مَنزلتِه، أي: أولئكَ المَنْعوتونَ بما ذُكِرَ مِن النُّعوتِ الجليلةِ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا مِن الطَّاعاتِ [292] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/83). .
- وعُمومُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا يُكسِبُ الجُملةَ فائدةَ التَّذييلِ [293] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/35). .
- وعُدِّيَ فِعلُ نَتَقَبَّلُ بحَرْفِ (عن)، وحقُّه أنْ يُعدَّى بحَرْفِ (مِن)؛ تَغْليبًا لِجانِبِ المَدْعوِّ لهم، وهمُ الوالِدانِ والذُّرِّيَّةُ؛ لأنَّ دُعاءَ الولَدِ والوالِدِ لِأولئك بمَنزِلةِ النِّيابةِ عنْهم في عِبادةِ الدُّعاءِ، وإذا كان العمَلُ بالنِّيابةِ مُتقبَّلًا، عُلِمَ أنَّ عَمَلَ المرْءِ لِنَفْسِه مُتقبَّلٌ أيضًا؛ ففي الكلامِ اختِصارٌ، كأنَّه قِيل: أولئك يُتقبَّلُ منْهم، ويُتقبَّلُ عن والِدَيهم وذُرِّيَّتِهم أحسَنُ ما عَمِلوا [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/35). .
- وقولُه: فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ في مَوضعِ الحالِ مِن اسمِ الإشارةِ، أي: كائنينَ في أصحابِ الجنَّةِ حِينَ يُتقبَّلُ أحسَنُ ما عَمِلوا ويُتجاوَزُ عن سَيِّئاتِهم؛ لأنَّ أصْحابَ الجنَّةِ مُتقبَّلٌ أحسَنُ أعْمالِهم، ويُتجاوَزُ عن سَيِّئاتِهم، وذُكِرَ هذا للتَّنويهِ بهم بأنَّهم مِن الفريقِ المُشرَّفينَ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/35). .
- وإضافةُ وَعْدَ إلى الصِّدْقِ في قولِه: وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ إضافةٌ على مَعْنى (مِن)، أي: وَعْدٌ مِن الصِّدقِ؛ إذ لا يَتخلَّفُ، والَّذي كانوا يُوعَدون صِفةُ وَعْدِ الصِّدْقِ، أي: ذلك هو الَّذي كانوا يُوعَدونَه في الدُّنيا بالقُرآنِ في الآياتِ الحاثَّةِ على بِرِّ الوالدَينِ، وعلى الشُّكرِ، وعلى إصلاحِ الذُّرِّيَّةِ [296] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/36). .